السبت، 16 فبراير 2019

مشرق/ مغرب؛ صفحات من كتاب عيسى الحجيري عن الجابري.


مشرق/ مغرب

صفحات من كتاب عيسى الحجيري عن محمد عابد الجابري بعنوان "العقل المستقيل والقطيعة المعرفية"


إن "تاريخ الفلسفة في المجتمع العربي الإسلامي هو تاريخ لحظتين في وعي هذا المجتمع:
اللحظة الأولى: والتي أساسُها الإيبستيمولوجي هو الميتافيزيقا الفيضية، ومحرّكها الإيديولوجي هو إدماج الدين في الفلسفة، ما أدى إلى طغيان نزعةٍ روحانية مثالية وحالمة عليها ففشلت لذلك في تحقيق حلمها على أرض الواقع.
واللحظة الثانية: تأسست إيبستيمولوجياً على نقدية ابن حزم وابن تومرت، وأيديولوجياً على الصراع السياسي بين دولة الخلافة الواحدة التي أدمجت الدين في الدنيا والدنيا في الدين [في بغداد]، وبين دولة المغرب والأندلس التي كان وجودها في ذاته تأكيداً لإمكانية التعددية في "الدنيا" وفي إطار وحدة الدين. هذا هو جوهر القطيعة عند الجابري والتي سنتتبع تفاصيلها وتبريراتها وتجلياتها في سياق البحث. (ص 190)

يورد الكاتب [أي الجابري] الواقعة التاريخية التالية للمؤثرات الحرّانية في فكر المشرق:
بانتشار الأفلاطونية الجديدة في المشرق وفي المغرب ظهرت صيغتان لها:
1ـ صيغة مشرقية (حرّانية ـ فارسية) انتشرت في سوريا والعراق وشمال إيران إلى خراسان، وهذه الصيغة كناية عن التقليد اليوناني المشرقي، الذي يشكل قنطرة أولى لاتصال المسلمين بالعلوم اليونانية، ولعب الدور لأساسي فيه التراجمة والأسات1ة القادمون من فارس إلى بغداد.
2ـ صيغة مغربية ـ اسكندرانية ـ مسيحية انتشرت في روما والإسكندرية وما تفرع منهما من مدارس ومن بينها المدرسة السريانية؛ وكان انشغالها بالتوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقيدة المسيحية، وبين أفلوطين وأرسطو.
وهكذا فالفلسفة الدينية الحرّانية شكلت عبّارة قراءة الفلاسفة المسلمين في المشرق لقراءة الفلسفة اليونانية من خلالها، خصوصاً أرسطو. (ص 199)
"لقد عمل فلاسفة المشرق على إدماج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين، طلباً للوحدة الفكرية التي يراد منها أن تصنع وحدة المجتمع والدولة".
أما في المغرب والأندلس حيث لم تكن هذه المشكلة مطروحةً بالشكل والحدّة نفسيهما، "فسيعمل فلاسفته وابن رشد منهم بخاصة، على الفصل بين الدين والفلسفة إنقاذاً للدين والفلسفة سواءٌ بسواء." (200)

[يشير الباحث في فصل سابق إلى توظيف الفلسفة في الصراع الخفي بين الفرق الإسلامية، فوظفت الدولة العباسية الفلسفة في محاربة الغنّوص، ثم تالياً وظف الغنوص أنفسُهم الفلسفةَ في خدمة مشروعهم (ابن سينا نموذجاً)].

لقد حمل الفكر النظري في الأندلس والمغرب سمات مممشروع ثقافي متميّز داخل الثقافة العربية الإسلامية (الجابري؛ التراث والحداثة)؛ وجاء تميّزه هذا كافتراق عن مشروعين آخرين متنفسَين ومتصارعين طبعاً بصراعهما وتفاعلهما الفكري ـ النظري في المشرق، وهما المشروع العباسي، والمشروع الشيعي الفاطمي ـ الإسماعيلي.
أ ـ فالمشروع الفاطمي هو امتداد وتتويج للفكر الشيعي، ونظامه المعرفي يقوم على "العرفان" (الغنوص)، وتندرج فيه ومعه كل التيارات العرفانية (متصوفة ـ فلاسفة باطنيون وإشراقيون).
ب ـ أما مشروع الدولة العباسية فهو ينطلق من عصر التدوين، وهو جمع وإعادة بناء الموروث الثقافي اللغوي والديني المتحدر من الجاهلية وصدر الإسلام، وأساسه المعرفي ألإيبستيمولوجي "البيان". واتخذ الصراع بين هذين المشروعين مظهراً له، النزاع بين النصيّين (أهل الظاهر) والعارفين (أهل الباطن) ووظّف كل فريق ما يناسبه من علوم الأوائل، فاستعان أهل البيان بالمنطق الأرسطي، وبعض علوم اليونان والفلسفة الأرسطية (البرهانية).
بينما وظّف أهل العرفان كا ما انحدر إلى الإلسلام من التيارات القديمة، وبالأخص الفلسفة الدينية الهرمسية، وعلى هذا تأسست البنية المعرفية التحتية في المشرق.
أما في الأندلس والمغرب المنفصلين عن الدولة العباسية منذ قيامها، ولمّا لم تستطع الدولة الفاطمية السيطرة عليهما، فقد اتخذ التطور الفكري مساراً آخر بفعل عدة عوامل:
1ـ غياب الموروث القديم فيهما، إذ لم يحصل انبعاث حقيقي لبنية المعتقدات القديمة السابقة على الإسلام.
2ـ استقلال الأندلس والمغرب عن الخلافة العباسية، ودخولهما معها، كما مع الفاطميين في صراع سياسي ـ أيديولوجي ومنافسة ثقافية واسعة.
3ـ هيمنة الفقهاء وسلطتهم المسيطرة على مجاليّ العلم والتعليم، حيث شكلوا بذلك "مصفاة" أو سداً في وجه التيارات العقائدية والكلامية والفلسفية القادمة من المشرق. وما منعوه تحت اسم "الفلسفة" هو في حقيقته الأساس العلمي لأيديولوجيا الخصم، هي الفلسفة الفيضية ومحمولاتها الهرمسية.
4ـ بفعل الحاجة السياسية والإيديولوجية بدأ يتبلور مشروعٌ ثقافي أندلسي، قادر على أن يقدم نفسه بديلاً تاريخياً للمشروع العباسي والفاطمي، وكان كل ذلك من حظ الفلسفة والفكر في الأندلس، إذ إن مجيء الفلسفة سيكون في وقته بعد رفع الحصار عنها، أي "بعد أن تمكّن الناس من الرياضيات والفلك والطب والمنطق"، وهي الفنون التي كانت تؤسس التفكير الفلسفي عند اليونان، لا بل العلوم التي تمهد للفلسفة "الحقيقية"، فلسفة أرسطو "المعلم الأول".
وهكذا فإن ظهور الفلسفة في الأندلس والمغرب جاء في سياق يختلف تماماً عن السياق الذي ظهرت فيه في المشرق. إذ في المشرق جرى اللجوء أولاً إلى الفلسفة الدينية الهرمسية من قِبل الشيعة، ثم إلى إلهيات أرسطو (الصحيحة والمنحولة) من قبل العباسيين، وكل ذلك من أجل إحكام الهيمنة الثقافية بين العباسيين والشيعة أو لحل المشكلات "الكلامية"، وهو ما لم يكن يمر عبر دراسة الرياضيات والطبيعيات بل يقفز مباشرةً إلى الإلهيات.
فسارت الأمور في المغرب سيراً طبيعياً، وظهرت الفلسفة بعد أن انكبّ الناس على دراسة الرياضيات والفلك والمنطق مدة قرن كامل، وبعيداً عن الإشكالية الكلامية المركزية في الفكر النظري في المشرق، إشكالية التوفيق بين العقل والنقل، الدين والفلسفة. (203)
وهذا ما مكّن دارسي الفلسفة في الأندلس من التحرّر من القيود الثقافية التي عانتها الفلسفة في المشرق منذ ظهورها فيه والتي لازمتها طوال حياتها هناك حتى أصبحت مندمجةً فيها وعنصراً أساسياً من بنيتها. وهذه القيود هي العوائق الإيبستيمولوجية التي أورثها إياها علم الكلام من طرف، والأساس الغنوصي للأفلاطونية المحدثة المشرقية من طرفٍ آخر. (التراث والحداثة؛ ص 187)
وهذا التحرر للفكر الأندلسي هو الذي جعل العلم يعود كما كان مع أرسطو، الأساس الذي تبني عليه الفلسفة صرحها.
وهذا ما يفسر ـ حسب الكاتب ـ تعامل ابن رشد مع أرسطو الحقيقي، وليصبح معه الشارح الأكبر له.
ثورة ثقافية في المغرب:
فهناك دشّن ابن تومرت (ت 524 هـ) "الثورة الثقافية"، وواصلها خلفاؤه من بعده، وهناك بدأت الفلسفة العربية عملية استعادة الوعي بذاتها وبدورها الطليعي الريادي.
وما إعراض ابن باجة ((ت 533 هـ ـ 1138م) عن الفلسفة المشرقية السينوية، وتخطيه عروض ابن سينا في "الشفاء" عن العلوم الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، ورجوعه إلى "الأصول" في مؤلفات أفلاطون وأرسطو، سوى إعادة تأسيس للفلسفة في الفكر والثقافة العربية؛ "لقد فشلت الفلسفة في تحقيق حلمها في المشرق، وعليها الآن أن تبدأ من "الصفر" في المغرب. (نحن والتراث؛ ص 40)
لقد عاش ابن باجة في عصرٍ استفحل نفوذ الفقهاء والمتزمتين في المغرب والأندلس فعاشت العناصر "العاقلة" والفاضلة في عزلة وقلق، وعلى عكس ابن سينا فقد نظر ابن باجة إلى مشروع الفاراببي وحلمه بالمدينة الفاضلة بعين "الواقعية" التي أملتها أوضاع مجتمعه عليه، "فعاش حلم الماضي ـ حلم الفارابي ـ كحلم للمستقبل، ولكن بصورة أكثر كمالاً". فالسعادة الحقيقية عند ابن باجة هي بلوغ أقصى درجات العقل النظري ـ العقل المستفاد ـ تلك الرتبة في العقل التي يصبح بها مستقلاً بنفسه، غير محتاج إلى مادةٍ أو محسوسات في ممارسة فعالياته وتشييد صروحه، ولا تحصل بتلك المشاهدات الصوفية المزعومة التي كرّس الاعتقاد بها كل من ابن سينا والغزالي، لقد استعاد ابن باجة حلم الفارابي ولكن بروح نقدية ما جعله أقلَّ إغراقاً في الحلم.
ويأتي ابن طفيل (1110ـ 1185م) ليكشف "عن أسرار الحكمة المشرقية" التي ذكرها الشيخ الرئيس الإمام ابن سينا، والروح النقدية الواقعية نفسها، فيربط تلك "الحكمة" بأصلها المشرقي الحرّاني من خلال قصة "حيّ بن يقظان"؛ ويظهر فشل المدرسة الفلسفية المشرقية في تحقيق مشروعها في إنشاء فلسفة يندمج الدين فيها، ويقرر واقعاً يفرض نفسه وهو أن لكل من الدين والفلسفة طريقه الخاص، وإن كانا يلتقيان عند الهدف.
ج ـ مقال جديد في المنهج مع ابن رشد:
وهنا في المغرب والأندلس حيث فُرِض منذ البداية واقع جديد مغاير في بعض نواحيه لما واجهته دولة الخلافة بالمشرق، وحيث سلطة الفقهاء قوية بما فيه الكفاية، وقوى المواجهة الحاملة لواء العقل ما زالت في بدايات تكونها، لم يكن من المرغوب فيه تكرار تجربة المشرق الفلسفية، ولم يكن ممكناً سوى إعادة بناء العلاقة بين الدين والفلسفة على غير المقولة المشرقية "ما في الدين مثالاتٌ لما في الفلسفة" (نحن والتراث)، ولا سبيل لإدماج أحدهما في الآخر؛ فإعادة بناء العلاقة ستتم على قاعدة "الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة"، فكل منهما حق "والحق لا يضادّ الحقَّ بل يوافقه ويشهد له".
1ـ وهذا هو المقال الجديد في المنهج الذي أسّس ابن رشد خطابه الفلسفي الأصيل عليه.
فإن فلاسفة المشرق قد أقاموا خطابهم الفلسفي على "قياس الغائب بالشاهد" فقاسوا صفات الأول "الله" على صفات الإنسان، ونظروا إلى "عالم الغيب" بعين "عالم الشهادة"، قاصدين من وراء ذلك "صرف الشريعة إلى الحكمة"، وهنا مكمن الخطأ ـ حسب ناقد العقل ـ إذ لا يمكن إنابة الدين عن الفلسفة ولا إرجاع الفلسفة إلى الدين فلكل منهما مقدماته وأصوله، وجلّ ما يمكن القيام به هو تطوير كلٍ منهما من داخله لكي يصبح العقل حاضراً في الدين والفلسفة متفهمة للدين فيتجهان نحو الحقيقة الواحدة، نحو المطلق، ويلتقيان فيه ويندمجان في اللانهاية. (نحن والتراث)
فنقطة بداية فلسفة ابن رشد هي تحرير الفلسفة (فلسفة أرسطو باعتبارها أكمل فلسفة) من كل ما لحق بها من شروحات وتأويلات خاطئة ومنحرفة وإعادتها إلى الأصول: قراءة أرسطو بأرسطو. (نحن والتراث)
وذلك ما يجب عمله مع الشريعة بنبذ أقاويل المتكلمين والرجوع إلى الأصول، وإعادة بناء القول الديني من داخله على أساس أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ويجب أن يُقرأ القرآن بالقرآن، وهو التأويل الصحيح والسليم.
2ـ ابن رشد تحرر معرفياً من هيمنة الجهاز الإيبستيمولوجي لمدرسة حرّان المكرّس في المشرق، ومن الأفلاطونية الجديدة عموماً.
3ـ تحرر ابن رشد من الأيديولوجيا المشرقية التي صاغت حلم "المدينة الفاضلة" الفارابية و"الحكمة المشرقية" السينوية، واتجه إلى معالجةٍ عقلانية واقعية للعلاقة بين الدين والفلسفة تحفظ لكل منهما كيانه واستقلاله.
4ـ شكل فكر ابن رشد امتداداً لخطاب واقعي نقدي ميّز الفكر العربي الإسلامي في المغرب والأندلس على عهد الموحّدين، وهو شكّل مظهراً من مظاهر الصراع السياسي بين الخلافة العباسية والفاطمية من جهة، والمغرب والأندلس الخارج عن تلك الخلافة منذ قيام دولة العباسيين من جهةٍ أخرى.
5ـ شكلت الواقعية الرشدية استكمالاً لتيار متحرك من أعلامه ابن باجة وابن طفيل، وهو تيار ذو نزعةٍ ترمي إلى "ردّ بضاعة المشرق إلى المشرق" في الفقه مع ابن حزم الظاهري، وفي النحو مع ابن مضاء القرطبي، وفي التوحيد (علم الكلام) مع ابن تومرت، وفي الفلسفة مع أبي الوليد ابن رشد. (نحن والتراث)
إن الفلسفة العربية بدأت بدايةً جديدة في المغرب والأندلس مع ابن باجة بالذات، بدايةً رفعناها من جديد ومع ابن باجة هذه المرّة إلى مستوى "القطيعة الإيبستيمولوجية"، انطلاقاً من أن الفلسفة العربية الإسلامية في المشرق كانت لاهوتية الإيبيستيميه والاتجاه بسبب استغراقها في إشكالية التوفيق بين الدين والفلسفة، في حين أن الفلسفة العربية في المغرب والأندلس كانت، ومع ابن باجة بخاصّة، علمية الإيبيستيميه، علمانية الاتجاه، بفعل تحررها من تلك الإشكالية. (208)


ليست هناك تعليقات: