الجمعة، 28 ديسمبر 2018

حوار في موضوعات ميتافيزيقية. (م.ح)





مشاركة في حوار. (ديسمبر 2016)

على صفحة أحد الأصدقاء، وتعليقاً على منشور حول الموضوع الإيماني، حصل نقاش تضمن الكثير من التعليقات والآراء المتباينة، اتخذ بعضها الطابع السجالي.
شاركت بالتعليق الوارد أدناه، وأنشره على صفحتي للحفظ وكنوعٍ ربما من نرجسية الذاكرة، مع الإشارة بأن أحد المشاركين في النقاش قد قام بتفنيد بعض ما جاء في هذا التعليق، ولا أدري هل هو محق في كل ما قاله أم في البعض منه فقط..
.. أظن بأن الكثير من الموضوعات والمفاهيم (الإيمانية) قد تم التوصل إليها نتيجة الحاجة النفسية لذلك. والوعي البشري القلق، افترض حلولاً تجلب له السكينة، ثم حاول بعقله إثبات حقيقتها:
فانوجاد الإنسان في مواجهة حتمية الموت، جعله يفترض حياةً بعد الموت. (وللتوضيح، أنا لا أنفي وجود حياةٍ بعد الموت، ولا أؤكد ذلك، وربما لم يكن ذلك من أولوياتي في البحث. فأنا أعيش كما يجب أن أعيش، أو أحاول ذلك، ككائن أخلاقي لا يحق له الإضرار باحد.. وبعد ذلك ليكن ما يكون: وجود حياة ثانية أم عدم وجودها..).
والتعرض للظلم، جعلنا نفترض عدالةً بعد الموت. (وأيضاً أنا لا أنفي ولا أؤكد).
وكل ما نعجز عن تحقيقه نفترض نيله في حياة ثانية.
وبدايةً، هذا الإنسان العاقل، ربما كان الوحيد الذي طرح سؤالاً عن أصل الكون ومن أين جاء؟
افتراض وجود خالق لهذا الكون يريح، معرفياً، وكونه يمكن أن يكون تفسيراً لكل الافتراضات السابقة.
لكن السؤال العقلي، بعيداً عن الإيمان المسبق، هل هناك خالق؟
طبعاً هناك احتمالان: إما أن يكون هناك خالق. وإما ألا يكون هناك خالق.
وأظن أن كلاً من الاحتمالين، سيواجه تحديات منطقية ومترتبات لا يمكن للعقل الإجابة عنها. أو هو يستطيع الدفاع عنها بحجج متساوية، وهذا ما قال به كانط في كتابه "نقد العقل المحض" والذي يعتبر فيه بأن العقل ليس الأداة الصالحة للبحث في هذه المسائل.
أما في حال وجود علة أولى في هذا الكون، فأظن بأن الإجابة الأكثر تماسكاً حتى اليوم هي الإجابة التي قدّمها أرسطو. والعلة الأولى عند أرسطو هي علة غير خالقة: فلا شيء من لا شيء. ثم لأن الخلق من عدم تفترض تغيراً في العلة الأولى، على الأقل تغير الإرادة. فلا تعود علة أولى، ثم يجب أن يكون الكامل غير متغير ولا تتغير معرفته بتغير العالم الذي يسوده التحول الدائم.
السؤال هو: لماذا طرح الإنسان هذا السؤال؟ أظن لأن ذلك يشكل حاجة نفسية له. وبدايةً هي حاجة معرفية مرتبطة بطبيعة الإنسان المتسائل.
أما الإجابة المستوحاة من باسكال المعتمدة على قانون الاحتمالات، فلا أظن أن لها علاقة بالإيمان الحقيقي. أن أؤمن لأن ليس في ذلك خسارة، أو لأن الخسارة ستكون أقل من الخسارة في حال ثبت العكس: أي أن الخسارة في حالة الإيمان بوجود خالق، ثم تبيّن عدم صحة هذا الاعتقاد، ستكون أقل من الخسارة في حالة عدم الإيمان بوجود خالق ثم التبيّن بأن الخالق موجود.
أولاً، أظن أن هذا إيمانٌ متهافت.
ثانياً، حتى لو كان شخص غير مؤمنٍ، ثم تبيّن وجود خالق. فلِمَ تكون هناك مشكلة؟؟
هذا يذكّرني بتساؤلٍ لأمين معلوف يقول فيه: ألله الذي خلقني ضعيفاً، هل سيحاسبني على ضعفي في يومٍ من الأيام؟؟
ولنفترض بوجود إله، ولم أتمكن بعقلي من التوصل إلى ذلك. فهل سيحاسبني الله على محدودية قدرتي العقلية التي عجزت عن التوصل إلى ذلك؟
في كل الأحوال، أظن بأن الإنسان الإنسان، لن يتغير سلوكه مهما كانت الاحتمالات. (إلا في موضوع الطقوس والعبادات، والتي أعتبرها غير أساسية في هذا السياق).
الإيمان يجلب الراحة. وهذا جيد.
والإيمان قد يكون المصدر الأساسي للأخلاق عند الكثيرين. وهذا أيضاً جيد. ونجد أفلاطون يدعو إلى إقناع الناس بوجود خالق وحساب بعد الموت كنوع من التربية الأخلاقية لعموم الناس.
لكن هذا لا يوازي أيّ أهمية على مستوى الأدلة.
هذه ستبقى أحجية على مستوى العقل. وأظن أن استخدام العقل في هذا المضمار، هو نوع من الآلية الدفاعية عن إيمان سبق توصل العقل إليه. وقد يسميه البعض بالعقل التبريري وليس العقل المكتشف.
أرى أن هذا الكوكب يتسع للجميع. ولكل وجهة نظره التي يرى العالم من خلالها. ما يجمع الناس هو اشتراكهم في الإنسانية. ومن طبيعة الأمور أن يختلف الناس في قناعاتهم. لكن المرض كل المرض، هو محاولة إلغاء الآخرين. حتى لو كنت متأكداً من فكرتي، فهذا لا يبرر لي إلغاء "المخطئين".
.
تعليق للصديق (الدكتور..):
 تحية وبعد
نقاشك جميل كنقاش هل تدري لماذا
لأنك انطلقت من البداية يعني من نقطة انك لاتعرف وانتهيت الى نقطة انك لاتعرف
اعتقد ان اَي إنسان عقله نظيف من المواقف المسبقة سيصل الى نتيجةمشابهة لما وصلت اليه
إذن أين هي الحاجة النفسية 
أنا أظن ان المسألة لها مستويان 
المستوى الفلسفي أو النخبوي وهذا من المحتمل وعلى الأرجح ان يكون احترافياً نفعياً
والمستوى العام الخاضع الذي يتلقى الإيمان جاهزاً على طريقة دين المرء ما علمه ابوه علماً أن "ابوه" قد يكون السلطان من اَي نوع 
يقول الحديث "إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق " إذن الأخلاق كانت قبل الأديان لانها حاجة اجتماعية أولاً اما الإيمان فمهمايكن يبقى موضوعاًذاتياًلا داعي لإعلانه فضلاً عن التبجح به.
.
محمد الحجيري: 
صباح الخير دكتور ..، وتسعدني مشاركتك في النقاش.
أنا أتفق معك تماماً بأن الأخلاق سابقة على الدين..
ما قصدته بالحاجة النفسية عند الإنسان له مستويان: مستوى معرفي، فالإنسان بفطرته يمتلك الفضول المعرفي، ويعتبر أن لكل ظاهرة سبباً، البعض يعتبر بأن اعتبار الإنسان بأن لكل ظاهرةٍ سبباً فطريّ ويخلق مع الإنسان (ديكارت)، والبعض الآخر يعتبره نوعاً من العادة الذهنية بسبب إطراد الحوادث. وفي كلتا الحالتين، الأكيد أن الإنسان يفسر ظواهر الطبيعة على هذا النحو.
قد يكون السبب داخل الطبيعة نفسها، أو قد يكون مفارقاً.. لكن دائماً نعتبر بأن لكل ظاهرة سبباً.
وهذا ما يجعل الإنسان يسأل: من أين جاء الكون؟
ونحن نلاحظ هذا الفضول المعرفي والبحث عن الأسباب لدى الأطفال، فالطفل يسأل أهله عن أصل كل الأشياء، وحين يعجز الأهل عن الإجابة أو التفسير، يقولون: خلقها الله. وحين يسأل: ومن خلق الله؟ يقولون له: اسكت! حرام.
أجوبة الأهل بالطبع مكتسبة ومرتبطة بثقافة البيئة. لكن سؤال الطفل هو ما يهمنا في الموضوع.
الحاجة النفسية في بعدها المعرفي قصدت بها هذا الأمر تحديداً: التساؤل.
والإنسان كان ينسب الظواهر إلى أسبابها الطبيعية التي يعرفها، وحين يعجز، كان يلجأ إلى أسباب مفارقة: الآلهة التي كانت تملأ ثغراته المعرفية الطبيعية لتفسير الظواهر.
من هنا كان اللجوء إلى ما بعد الطبيعة يحل له مشكلة معرفية.
مع سيادة طريقة التفسير العلمية مع أوغست كونت: البحث عن أسباب الظاهرة الطبيعية داخل الطبيعة ذاتها، تقلص دور القوى المفارقة، وإن لم يغب كليةً، وأنا أظن أنه حتى التفسيرات العلمية تلجأ إلى نوع من التفسير الميتافيزيقي أحياناً كثيرة، وهذا أمر بحاجة إلى بحث متخصص: مثل افتراض قانون السببية نفسه الذي لا نستطيع أن نبرهن عليه.
وفي كل الأحوال فما زال بين ظهرانينا غالبية تفسر كل ما لا تجد له تفسيراً طبيعياً من خلال تفسيرات ميتافيزيقية، وإن كان البعض يشعر بالاستغناء عن ذلك، لكن بالقول: لا أعرف. (وهذا رأيي. وإن كان البعض يبالغ في علمويته ويعتبر بأن العلم قادر على تفسير كل الظواهر).
أما الحاجة النفسية في بعدها التعويضي (إذا صح القول)، فأظنه مرتبط بأحلام الإنسان وطموحاته، ثم اكتشافه العجز عن تحقيق ذلك.
فالإنسان الذي اكتشف أن الموت حقيقة أكيدة (وهذا ما تعالجه الأدبيات القديمة، ومنها ملحمة غلغامش)، افترض حياة بعد الموت. وكذلك افترض عدالةً بعد الموت، وافترض كل ما نعرفه من صور تصف حياة الجنة.
وهذه الأمور كانت منتشرة في كل الحضارات، ليس لأنها مقنعة (مثل عبادة مظاهر الطبيعة)، لكن لأنها كانت تعويضاً عن شعور الإنسان بالنقص.
وأظن أننا ما زلنا حتى عصرنا، الغالبية ما زالت تشعر بذلك، وقلة هم الذين يبحثون عن أجوبتهم الخاصة، ويتخلون عن الأجوبة الجاهزة التي تشكل ثقافة الجماعة.
آسف لهذه الإطالة، وأظن أننا نلتقي ربما على أغلبية الأفكار إن لم يكن كلها. لكن يبقى التوسع مفيداً لإشراك الأصدقاء في الاطلاع على الآراء والمشاركة في النقاش.
وأخيراً لك مني كل التحيات والاحترام.

مشاركة في حوار..(2)
زميلنا العزيز ..:
معك حق في القول بأن تعليقي لم يكن مناقشةً للمنشور (...) . وذلك يعود ربما لموقف خاص بي حول فهمي للحوار، هو أقرب إلى التعارف منه إلى الإقناع أو الاقتناع: أطلع على الرأي الآخر وأبدي رأياً.
وأنا أبديت رأياً، هو ليس لي، لكني أتبناه: وهو موقف كانط القائل بأن العقل ليس الأداة الصالحة للبحث في الميتافيزيقا.
ولو اعتبرتُ الحجة (في المنشور) قاطعةً، لكان لا معنى لرأيي المذكور. لكن ما أقدره لدى صديقنا هو احترامه لحق الاختلاف، وهذا ما لا نجده كثيراً عند أصحاب المعتقدات، أكانت دينية أم سياسية أم أخلاقية..
ولو كان لي أن أبدي رأياً سريعاً في الموضوع، لقلت بأن الحديث عن الحاجة في العبارات الواردة في المنشور لا تحمل نفس المعنى. (ملاحظة: ورد في المنشور مدار النقاش بأن الحاجة إلى الطعام والشراب تثبت وجودَهما، وكذلك الحاجة إلى العبادة تثبت وجود المعبود..)
فالحاجة إلى الطعام والشراب هي حاجة بيولوجية، تعني أن استمرار الحياة ما كان ممكناً لولاهما. يعني أنهما ضروريان للحياة ولا يُستغنى عنهما.
أما الحاجة إلى المعبود أو إلى العبادة، فلها معنى آخر. واستمرار الوجود غير مقترن بذلك. هي "حاجة" نفسية ومعرفية. وبظني أن ذلك ناشئ من طبيعة الإنسان المتسائلة، والعارفة التي رأت الكون فتساءلت: من أين جاء؟ واكتشفت الموت والعجز عن تحقيق العدل فافترضت حياةً وعدالةً بعد الموت. وهذا "الافتراض"، لا أقول عنه بأنه صحيح أو خاطئ، وإن كان لديّ ترجيح ما، لكن أقول بأن العقل لا يستطيع إدراكه.
وتاريخ العبادات يرجح أن ذلك كان يتم بسبب هذه الحاجة النفسية: فمن كان يعبد مظاهر الطبيعة كان يحسب اعتقاداته صحيحة، بينما لا أحد يرى ذلك الآن. الحقيقة هي أن من طبيعة الوعي البشري أن يطرح هذه الأسئلة. لكن حقيقة الأجوبة تختلف باختلاف المعتقدين.
(
إضافة: أظن بأن القول بأن الحاجة إلى الطعام يثبت وجود الطعام، ناتج عن قياس أرسطي مضمر مفاده: لا حياة بغير وجود الطعام، والحياة موجودة، إذاً الطعام موجود. لكن هذا لا ينطبق على القضية الأخيرة. فلا نستطيع القول بأنه لا حياة بغير وجود عبادة.. مفهوم الحاجة يختلف بين القضيتين الأولى والثانية.. وهذا كان له تسمية محددة في منطق أرسطو)
أما في ما يتعلق بأرسطو، فبظني أن جوابه هو الرأي الأكثر تماسكاً من الناحية المنطقية، وهو قوله بقِدم العالم. لأن القول بحدوث العالم يطرح إشكاليات كثيرة تعرفها ويعرفها كل من له إلمام بتاريخ علم الكلام: هل الخالق يتغير حين يخلق العالم وحين يعلم الجزئيات والتغيرات فيه..؟ نظرية أرسطو كانت بمنأى عن هذه الصعوبات المنطقية واحتمال الوقوع في التناقض.
لكن هل نظرية أرسطو هي حقيقة علمية؟ بالتأكيد لا.
أصل الكون سيبقى لغزاً أمام العقل البشري. فلا هو يستغني عن طرح سؤال العلّة: من أين جاء الكون؟ ربما بسبب من عادة ذهنية كما يرى هيوم، لأنه يرى بأن كل ما يحدث ينتج عن مسببٍ سابق له..
وهو إذا افترض علّة مسببة كان أمام مشكلتين: ما علّة هذه العلّة؟ وهي ما أجاب عنها أرسطو بأنه لا يمكننا الاستمرار في الأسباب إلى ما لانهاية.. ولا أجد مبرراً مقنعاً لهذه الإجابة إلا التخلص من المأزق.
وثانياً ما هي العلة التي جعلت العلة الأولى تتبدل وتخلق العالم بعد أن لم يكن؟
في كل الأحوال، أظن بأن تاريخ الإجابات عن هذه الأسئلة هي تاريخ اهتمام الإنسان بهذه المشكلة، وتطورها مرتبط بتطور معارفه. لكن السؤال هو: لماذا يطرح الإنسان هذه الأسئلة، ويقبل عنها بعض الإجابات التي نجدها اليوم لا تستحق عناء التفنيد؟ ربما هو شعوره الملازم بالحاجة إلى ذلك، وتطورت إجاباتُه بتطور قدرته عبر العصور في الإجابة على تلك التساؤلات.
إنه الوعي الشقي الذي يخلق التفاؤل لأنه بحاجة إليه. والذي يفترض الإجابات لأنه بحاجة إلى "الحقيقة". وهذه الإجابات تعبر عن مكوّن أساسي من إنسانية الإنسان، إن لم يكن من حيث بلوغُ الحقيقة، فمن حيث انهمامُه بهذه الموضوعات.
وهي أجوبة راقية، حتى ولو كانت وهميّة، بشرط ألا تكون مدخلاً لاضطهاد الآخرين، أو سوق الناس إلى الجنة بالعصا.
أن تقتنع أنك على صواب، وبأنك وحدك الحاصل على الخلاص، فلا ضير في ذلك، شرط ألا يؤدي بك ذلك إلى ادعاء تكليف إلهي بمحاسبة الناس الآن وهنا، أو ربط حقوق المواطنين بناء على ما يعتقدون، وهو ما تجاوزه العالم الغربي (الكافر) منذ قرون، بينما ما زالت الأمور في مجتمعاتنا ودولنا على ما نعلمه جميعاً.
ما أقدّره عند الشيخ (..) ، ليس أين نختلف وأين نتفق، بل أننا نتفق على أنه يحق لنا الاختلاف.



ليست هناك تعليقات: