الخميس، 25 مايو 2017

في مناهج علم الاجتماع.



نقد المنهج التفسيري الحتمي عند دوركايم:
ـ إن العلوم الانسانية في سعيها المتواصل إلى التحرر من قيود الإرث الفلسفي التأملي ظلت على الرغم من ذلك عاجزةً عن استيفاء شرط ما يسمى بالموضوعية والحتمية والقدرة على التنبؤ، ويمكن إرجاع ذلك  لأسبابٍ مبدئيةٍ تتصل بطبيعة الظواهر الانسانية المبحوثة ذاتِها، لأن الظاهرة الانسانية ظاهرةٌ مركبة أو معقدة إن صح القول، حيث إن الظواهر والأفعال الانسانية هي ظواهر واعية إرادية لا تتكرر ولا تخضع للإطراد أو التكرار، وهذا شرطٌ من شروط التحقق من صحة النظرية العلمية.
ثانياً، إن تعقد الظاهرة الاجتماعية وتداخل العوامل العديدة المؤثرة فيها يجعل من الصعب كيف يؤثر كل عامل بمفرده على تلك الظاهرة، وكيف يتأثر هذا العامل  ببقية العوامل: النفسية والدينية والثقافية والاقتصادية وغيرها.
يقول أحد المفكرين بأن المؤرخين الذين يختلفون في تحديد الأسباب التي أدت إلى الواقع الحالي، كيف لهم أن يتنبأوا بما سيحدث في المستقبل؟ بمعنى أن تعقيد الأسباب التي تؤدي إلى الظاهرة الاجتماعية تجعل من شبه المستحيل تحديد أهمية كل عامل من هذه العوامل أو الأسباب.
ثالثاً، إن مجرد معرفة ما ستؤول إليه الظاهرة الاجتماعية، قد يكون سبباً في تغيير مسارها: على سبيل المثال، إذا كان  ماركس يقول بأن التفاوت الطبقي بين العمال وأصحاب رأس المال الممسكين بالسلطة سيؤدي إلى ثورة العمال والاستيلاء على السلطة بأنفسهم، فإن مجرد معرفة هذه النتيجة قد تدفع بالنظام الرأسمالي إلى تغيير سلوكه وتفادي هذه النتيجة التي كانت تعتبر حتميةً.
مثال آخر للتوضيح، إذا استطاع علماء الاقتصاد التوقع بانخفاض أسعار الذهب لأسبوع ثم ارتفاعه في الأسبوع التالي. ألا تؤدي هذه المعرفة ذاتها إلى تبدل في سلوك المواطنين بما يغير في النتيجة التي كان قد تم التنبؤ بها؟؟
المنهج التأويلي التفهمي.
 وهذا ما أدى إلى انتقاد استعمال المنهج التفسيري في علوم الإنسان لأنه لا يلائم خصوصية الظاهرة الواعية الحرة المتغيرة...
علوم الروح وعلوم المادة:
 نجد هذا النقد بشكل جليّ في تصور الفيلسوف الألماني فلهلم ديلتاي الذي يقيم تمييزاً بين علوم الطبيعة من جهة، وما يسميه علوم الروح من جهة أخرى: فالأولى موضوعها الطبيعة الخارجية المعزولة عن الذات، والثانية موضوعها الذات الإنسانية الواعية الحية. واختلاف الموضوع يفرض اختلاف المنهج. لذلك يقول دلتاي: "إننا نفسر الطبيعة، ونفهم الإنسان". أي إن منهج التفسير إذا كان مناسباً لدراسة الظاهرة الطبيعية، فهو ليس مناسباً لدراسة الظاهرة الإنسانية التي ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل.
يقوم المنهج التفهمي-التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل والتي تتحدد بالقيم التي توجهه. ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في نفس الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها. وهو في ذلك يخالف ما ذهب إليه دوركايم باستبعاد العامل الذاتي ومحاولة دراسة الظواهر الاجتماعية كأشياء..
ماكس فيبر:
يُعتَبر ماكس فيبر من أكبر العلماء الألمان الذين أسهموا في إنشاء علم الاجتماع من خلال دراسته للأفعال والسلوكات الإنسانية بشكل يختلف عن دراسة الظواهر الطبيعية، وهنا يأخذ فيبر بعين الاعتبار موقع الذات العارفة في دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها ظواهر غائية ومحدودة بهدف مقصود وبحوافز ممكنة وتقبل أن تكون موضوع تأويل تفهمي. وماكس فيبر في هذه السوسيولوجيا التفهمية يفترض أنه بإمكاننا أن نجد في ذواتنا دوافعَ كلِ فردٍ إنسانيّ، وبالتالي فمهمّة السوسيولوجيا هي الفهم بواسطة تأويل الفعل الاجتماعي لتتمكن بعد ذلك من تفسير وتفهم المعنى الذي يعطيه الإنسان لسلوكه.
إن موقف الفهم الذاتي التأويلي الذي يقر به ماكس فيبر، يعتبر أن الظاهرة الانسانية ظاهرةٌ جدُّ معقدة وبالتالي فتطبيق المنهج التجريبي إزاء هذه الظاهرة صعب المنال.
وإذا كانت الظاهرة الفيزيائية تعتمد في دراستها على التفسير والتنبؤ فإن الفعل الإنساني عكس ذلك، يخضع للتأويل والفهم الذي يساعدنا على فهم مقاصد ودلالات وغايات الفعل الإنساني التي تحددها الذات..
إن الظاهرة الاجتماعية تختلف عن الظاهرة الطبيعية التي تتميّز بالثبات وبالوجود الخارجي المستقل عن الإنسان، فالظاهرة الاجتماعية ظاهرةٌ معقدة يتداخل أكثرُ من عامل في تحديدها، كما أنها ظاهرةٌ واعيةٌ يتدخّل فيها عنصر الوعي البشري ويؤثر فيها، وهذا ما يراه أيضاً كارل بوبر ويعتبره سبباً إضافياً يحُول دون الحتمية والقدرة على التنبؤ الذي تدعيه العلموية والمنهج التفسيري.

الفعل الاجتماعي:
وفقاً لمنظور فيبر وتعريفه للفعل الاجتماعي، لا بدّ من فهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين، المستوى الأول أن نفهم الفعل الاجتماعي على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم، أما المستوى الثاني فهو أن نفهم هذا الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي.
 ولكي نفهم الظاهرة الاجتماعية لا يمكن استبعاد النظر إلى دوافعِ الفرد ونواياهُ واهتماماتِه والمعاني الذاتية التي يعطيها لأفعاله والتي تكمن خلف سلوكه، أي أنه لابد من فهم معنى الفعل أو السلوك على المستوى الفردي ومن وجهة نظر الفرد نفسه صاحب هذا السلوك وبنفس الطريقة لابد من النظر إلى النوايا والدوافع والأسباب والاهتمامات التي تكمن وراء سلوك الجماعة التي يعتبر الفرد عضواً فيها. أي أنه لابد من فهم الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة. إذاً لابد لنا من أخذ هذين المستويين في الاعتبار عند دراستنا وتحليلنا لفهم وتفسير الفعل الاجتماعي الإنساني للفرد سواءٌ من خلال مواجهته للظواهر الاجتماعية بنفسه أو من خلال مشاركته للجماعات الاجتماعية التي ينتمي إليها.
إن الفعل لا يصبح اجتماعيا إلا إذا ارتبط المعنى الذاتي الذي يعطيه الفرد للفعل بسلوك الأفراد الآخرين. وهنا تركز نظرية الفعل الاجتماعي على الأسلوب الذي يتفاعل به الأفراد فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى وعلى الدور الذي يلعبه الفعل الاجتماعي في تكوين البنى الاجتماعية.
تسعى النظرية التفهمية مع ماكس فيبر إلى فهم الظاهرة المجتمعية باستخلاص دلالات أفعال الأفراد ، واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. والدليل على ذلك كتابه عن الراسمالية حيث بيّن بأن الأخلاق الكالفينية البروتستانتية هي التي ساهمت في نشأة الرأسمالية، والدليل على ذلك، الأفعال السلوكية: كحب العمل، وحسن التدبير، والادخار، والاهتمام بتراكم الثروات، والابتعاد عن الزهد والتقشف والانطواء السلبي الذي نجده في الديانة الكاثوليكية.

توليفة: الموقف التوفيقي:
يقول الفيلسوف البلجيكي جان لادريير (Jean Ladrière) باستحالة دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية علمية؛ لأن هذه الدراسة تغفل الجوانب الذاتية، ولا تعنى بدراسة المقاصد والقيم والغايات التي ترتبط بتصرفات الفاعلين وسلوكياتهم داخل المجتمع. ومن ثم، يكون التركيز - هنا- على التفسير في ضوء الحتمية أو الجبرية الاجتماعية، وتهميش دور الفهم في رصد دلالات الفعل الإنساني.
وفي المقابل إذا اعتمدنا التوجه الثاني (المنهج التفهمي) في دراسة السلوك الإنساني، يكون الموقف الذاتي سبباً لفقدان الموضوعية التي تسعى كل دراسة علمية إلى تحقيقها.
 ومن هنا، يصعب على الباحث السوسيولوجي أن يكتفي بمنهج واحد ويستغني عن الآخر. وبالتالي، يستحيل تطبيق التجريب العلمي على الظاهرة الإنسانية. لذا، لابد من البحث عن بديل جديد أو علمية أخرى تتجاوز نطاق العلمية التجريبية، كأن تكون علمية مرنة تتلاءم مع مرونة العلوم الإنسانية. وبالتالي فإن جان لادريير يدعو إلى تدشين صورة مغايرة وبديلة للعلمية، والسعي نحو إيجاد أداة أصيلة جديدة لمقاربة العلوم الإنسانية بصفة عامة، والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة.
 لكن لايمكن تبني هذا الطرح حتى يتم استكشاف هذا العلم البديل، والتحقق من هذه العلمية المغايرة، وتبيان خطواتها النظرية والتطبيقية، وإلا سنكون عدميين. ويعني هذا أنه لابد من التوفيق بين المنهجين: التفسيري والتفهمي لدراسة الظواهر الاجتماعية حتى يتحقق لنا بديل علمي إنساني جديد.



ليست هناك تعليقات: