الثلاثاء، 11 أبريل 2017

بين التجريبية والتعقلية، محاولة تأصيل؛ محمد الحجيري.




بين التجريبية والتعقلية، محاولة تأصيل..

من المعروف لأي مهتم بتاريخ الفكر التقابل بين التيار التجريبي والتيار التعقلي في الفلسفة.
ومن نافل القول التنويه بأن هذا لا يعني بأن التيار التجريبي غير عقلاني. ففيلسوف كديفيد هيوم الذي يعد من أعمدة الفلسفة التجريبية في العصر الحديث، حتى في نقضه لقانون السببية كان في منتهى العقلانية. وبالتالي لا يمكن اتهام الفلسفة التجريبية بالبعد عن العقلانية.
كل ما في الأمر بأن المدرسة التجريبية تعتبر بأن العقل يولد صفحةً بيضاء، وبأن كل معارفنا متأتّيةٌ من التجربة، بما في ذلك قوانين العقل.. لذلك يقول جون لوك بأن الأطفال هم كالعجينة التي يمكن لنا أن نشكلها كيفما نشاء..
أما المدرسة التعقلية، والتي يعتبر ديكارت من أبرز ممثليها في الفلسفة الحديثة، فتعتبر بأن العقل لا يولد صفحةً بيضاء، بل لديه منذ البداية أفكارٌ فطرية.. وعلى الأقل لديه قوانين الفكر التي تولد معه، مثل قانون الهوية والسببية وعدم التناقض .. وهذا ما يرفضه هيوم بشدّة.
لذلك فما يميّز المدرسة التعقلية عن التجريبية، هو قول الأولى بالأفكار الفطرية في العقل، وهو ما ترفضه المدرسة الثانية. ولذلك أيضاً فلربما كان من الأنسب البحث عن تسمية مختلفة للمدرسة التعقّلية، مثل مدرسة الأفكار الفطرية أو غير ذلك.. وهذه الأفكار الفطرية هي سبب قول ديكارت بأن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
لكن البحث عن تأصيل هذه الاتجاهات في الفلسفة سيقودنا إلى جذورها أو بذورها الأولى في تاريخ الفلسفة اليونانية، وبالتحديد سيقودنا إلى أفلاطون وأرسطو.
إن ما وصلنا عن سقراط من أخبار تقول بأنه كان يعمل على توليد الأفكار من خلال الحوار. وهو في حواراته لم يكن يحاول معرفة الحالات العينيّة، بل كان يبحث عن الماهيات الثابتة. فكان يتدرج مع محاوريه في البحث عن الجمال، من الفتاة الجميلة أو الزهرة الجميلة أو غير ذلك من الأمثلة الحسّية، سعياً نحو فكرة الجمال أو ماهيّة الجمال التي تجعل كل هذه الحالات وغيرها جميلة.
وكذلك في بحثه عن الشجاعة كماهيّة وعن ماهية الخير والكرَم وغير ذلك.
نقطة أخرى يجب التوقف عندها لدى سقراط، ألا وهي قوله بأنه لم يكن يعلّم أحداً، فهو لا يعرف، أو هو يعرف، لكن كما يعرف الآخرون.. هو كان يحاورهم ليحفّزهم على التفكير والتوصل إلى الحقائق بأنفسهم.. وحتى الحقائق الرياضية يمكن أن يتوصل إليها الجميع بأنفسهم من خلال التفكير ودون الحاجة إلى أحد. وبالتالي فالمعرفة كامنة داخل كلٍّ منا.. وهذا أصل القول بالأفكار الفطريّة.
بعد سقراط، جاء تلميذُه أفلاطون، وذهب في هذه الاستنتاجات إلى مدياتها القصوى: لقد أوضح أفلاطون فكرته من خلال أسطورة نهر النسيان. لقد كانت النفوس تعيش في عالم المثُل أو في عالم الآلهة، وقد كانت تعرف كل شيء، ثم شربت من نهر النسيان ونسيت ما كانت تعرفه. وحين حلّت في الجسد، فإن المدارك التي تتعرف عليها تذكرها بما كانت تعرفه في عالم المثل من قبل.
عالم المادة المتغيرة هو عالم الوهم عند أفلاطون. هذا الحصان الأبيض وهذه الطاولة البيضاء وهذا الطائر الأبيض، هم كذلك لأنهم يشاركون البياض الثابت الموجود في عالم المثل، وهو الذي سمح لهذه الأشياء أن تكون كذلك. وهذه الأشياء متغيرة بينما مثال أو فكرة البياض ثابتة لا تتغير.
حتى هذا الحصان هو كذلك لأنه يشبه مثال الحصان أو فكرة الحصان الثابتة في عالم المثل. وما كان ليكون حصاناً، إلا لوجود عناصر الشَّبَه مع مثال الحصان.. وقس على ذلك عن هذا الفعل الخيّر أو هذا الشيء الجميل أو غير ذلك.
وفي الخلاصة، فإن أفلاطون يعتبر بأسبقية وجود عالم الأفكار الثابتة في عالم المثل على وجود الحالات الفردية المادية الفانية والمتغيرة.
وبذلك يكون أفلاطون ممثلاً للعقلانية المتطرفة من خلال قوله بأن للأفكار وجوداً مستقلاً سابقاً على الوجود العيني للأشياء أولاً، وبسبب قوله بكل المعرفة بشكل فطري، وما وظيفة العالم المادي إلا للتذكير بما كنا نعرفه.. بينما العقلانية المعتدلة تقول ببعض الأفكار الفطرية أو بالوجود الفطري لقوانين العقل كما سبق القول، وليس لكل المعارف.. وهو ما قال به ديكارت: العقل أعدل الأشياء قسمةً بين الناس.
في المقابل، كان أرسطو محباً لأستاذه أفلاطون، لكنه كان محباً للحقيقة أكثر.. على ما كان يقول.
وهو قد وجد أستاذه مجانباً للصواب حين قال بأسبقية وجود الفكر، أو المعارف الفطرية.
فلا وجود لـ "الأحمر" قبل وجود هذه الأشياء الحمراء. رأينا أولاً الطاولة الحمراء والزهرة الحمراء والنار الحمراء.. ثم أطلقنا على هذه الصفة المشتركة تسمية "الحمراء".
إذاً، لقد جاء عالم الأفكار كنوعٍ من التجريد لعالم التجربة الحسّية. فالتجربة الحسّية هي الأولى إذاً. وقد شاهدنا الحصان الأبيض ثم الحصان الأسود والرمادي.. ثم بعد ذلك جاءت كلمة الحصان كاستخلاص لما هو مشترك بين هذه الأحصنة. فكرة الحصان لم تسبق وجود الحصان، بل ما هي إلا كلمة لتجعل اللغة ممكنة وكذلك تبادل الأفكار..
وبذلك يكون أرسطو مرجعاً للمدرسة التجريبية.
التجريبية إذاً ليست غير عقلانية كما سبق القول. فأرسطو هو من وضع علم المنطق وقواعد عمل العقل حتى لا يزل نحو الخطأ في الاستنتاج. ونقاشه لأفكار أستاذه أفلاطون كان في قمة العقلانية.
كل ما في الأمر أن أفلاطون كان يقول بالمعرفة الفطرية السابقة للتجربة الحسّية، بينما كان أرسطو يعتبر أن الحس هو بداية المعرفة.
لكن السؤال هو: هل كان أرسطو ينكر وجود أفكارٍ فطريّة، أو على الأقل، هل كان ينكر وجوداً فطرياً لقوانين العقل تكون سابقة على التجربة؟
في الحقيقة لا أعرف إن كان أرسطو قد تطرق لذلك أم لا.. (ويمكن لمن يعرف موقف أرسطو من ذلك أن يفيدنا برأيه في الموضوع).
في كل الأحوال، من الواضح أن أرسطو كان معارضاً تطرف أفلاطون في عقلانيته القائمة على الأفكارالفطرية السابقة على التجربة، ليعطي الأولوية للتجربة الحسّية.
لكن ما يمكن تسجيله في هذا السياق هو اتجاه التيار العقلاني بشكل عام نحو الاعتدال، من خلال الاكتفاء بالقول بوجود بعض الأفكار، الفطريّة، وبالتحديد قوانين العقل.. وإن كان فيلسوف مثل هيغل قد عاد ليقول بوجود عقل كوني يقود أحداث العالم نحو مزيد من العقلنة والحرّية.. لكن العقل هنا قد يفهم على أنه نوع من قوانين الكون (أو سنّة الكون) التي لن تبقي إلا على ما هو منطقي وملائم وأكثر إنسانية..
بينما ذهب الاتجاه التجريبي نحو التطرّف.
فالعقل يولد صفحة بيضاء تماماً. وديفيد هيوم يعتبر أن قانون السببية التي كانت تعتبر من قوانين العقل الفطرية: فنحن بالفطرة نعتبر بأن لكل ظاهرة سبباً.. وهذا ما يدفعنا للوصول إلى البحث عن السبب الأول. (وهذا ما حصل مع أرسطو سابقاً في بحثه عن سلسلة الأسباب التي أوصلته إلى السبب الأول أيضاً). بينما هيوم يعتبر أن ذلك ما هو إلا عادة فكرية ناتجة عن التجربة الحسية ذاتها، فإطراد الظواهر هو الذي جعلنا نتوقع أن لكل حادثة سبباً..
وتوضيحاً لما ذهب إليه هيوم، يمكن لنا أن نتصور التجربة التالية كتجربة افتراضية..
لو أن كائناً عاقلاً وُجِد فجأةً في هذا العالم، وكانت التجارب الأولى التي اختبرها هي التالية: في التجربة الأولى ترك جسماً من يده فبقي في مكانه.
وفي المرة الثانية سقط عامودياً على الأرض دون أن يحدث صوتاً.
وفي المرة الثالثة وقع بشكل منحرف وعند وصوله إلى الأرض أحدث صوتاً ما.
وفي الرابعة صدر الصوت دون أن يقع الجسم على الأرض، ودون حدوث أي أمرٍ آخر.
وفي الخامسة والسادسة والسابعة.. كل مرة يحدث أمر مختلف عن المرات السابقة..
هل كنا سنسأل عن "السبب" حين نسمع صوتاً في المرة الثامنة؟؟
بحسب تحليل هيوم للأمر لما كنا نسأل عن ذلك.
فالسببية وكل قوانين العقل ما هي إلا عادات فكرية وتوقعات بسبب تكرار الأحداث سابقاً بشكل متتالٍ.. وبالتالي لا يمكن البرهان على ضرورتها (أي حصولها بشكل حتمي).
وهذا النقد المتماسك لهيوم هو ما جعل كانط يستفيق من سباته الوثوقي بعد حوالي نصف قرن ويقدم لنا كتابه في نقد العقل المحض..
وعوْدٌ على بدء. ليست العقلانية وحدها العقلانية، إنها الاتجاه الفلسفي القائل بأفكار فطرية تسبق التجربة.
وليست التجريبية غير عقلانية، إنها الاتجاه الفلسفي الذي يقول بأن العقل يولد صفحةً بيضاء.
تعود المدرسة الأولى في أصولها إلى سقراط وأفلاطون. ثم اتجهت في تاريخها من التطرف نحو الاعتدال.
وتعود المدرسة الثانية  (التجريبية) في أصولها إلى أرسطو. ثم اتجهت في تاريخها اتجاهاً أكثر جذريّةً.
مع ملاحظةٍ أخيرة بأن كل العلوم (باستثناء الرياضيات) تقوم على فرضية إطراد الظواهر والاستقراء وهو ما لا يمكن البرهان عليه: هو توقع أو ترجيح واحتمال.. لكنه لا يمكن الاستغناء عنه.

محمد الحجيري
11/4/2017


ليست هناك تعليقات: