الفيمياء
الوصفية والمجاوزة*
الدكتور جمال نعيم.
يعود هوسرل، في تأسيسه
للفيمياء المجاوزة، الى ديكارت، ولا سيما الى تأملات ديكارت في الفلسفة الأولى. لذا،
سمّى مجموع محاضراته الست التي ألقاها في السوربون، تأملات ديكارتية. وهو لا يمانع
من اعتبار الفيمياء المجاوزة بمثابة ديكارتية جديدة. لكن علينا الانتباه الى ما
يستبقيه هوسرل من فلسفة ديكارت، فهو يكاد يرفض المضمون النظري الديكارتي برمته،
ذلك المضمون الذي لا ينسجم، في نظر هوسرل، مع المنطلقات التي انطلق منها ديكارت. فهذا الأخير، وبعدما اكتشف حقل الذاتية في الفلسفة من
خلال الكوجيتو، من خلال الأنا أفكر، عاد وخان هذا المنطلق باستعانته بالضمانة
الالهية من أجل اثبات وجود العالم الخارجي، أي من أجل اثبات موضوعية
المعرفة، أي من أجل تأسيس العلم تأسيسًا يستند الى أساسات مطلقة لا تتزعزع ولا
يرقى اليها الشك.
من المعروف أن ديكارت اصطنع
منهج الشك في الفلسفة، وقد اعتبره شكًّا منهجيًّا، أي مؤقَّتًا، ريثما يصل الى
اليقين، أي ريثما يصل الى النقطة اليقينية الصلبة التي لا يمكن الشك فيها، والتي
من خلالها وعليها يمكن اعادة بناء الكل من جديد.
وقد وجد ديكارت أن ما لا يرقى
اليه الشك، هو كونه يشك، فهو مهما شك، وحتى لو شك في كل شيء من التجربة الحسية الى
نتائج العلوم وبديهيات الرياضيات، فإنه ليس بإمكانه أن يشك في أنه يشك حتى لو كان
كل ما يشك فيه غير موجود. وهكذا قال ديكارت بالكوجيتو، أي بالأنا أفكر مع ما يتضمن
هذا الأنا من أفعال تفكيرية.
ان صيغة الكوجيتو هي : أنا أفكر،
اذًا أنا أكون .وصيغته
الكاملة هي: أنا أشك، أنا أفكر، اذًا، أنا أكون، أنا أكون شيئًا يُفكر. هذا
الكوجيتو يستند الى مسلمات أو مفترضات قبلية، من قبيل ان الشك يعني التفكير وان
التفكير يعني الكون، والجميع يعرفون ذلك ولديهم القدرة على التفكير..الخ.
لكن ما الهدف الذي يسعى اليه
ديكارت؟ يحاول ديكارت اصلاح الفلسفة اصلاحًا جذريًّا، ومن وراء اصلاحها يرمي الى
اصلاح العلوم، فهو ينظر الى الفلسفة بوصفها علمًا كليًّا، يحتوي تحت عباءته كافة
العلوم.
وكلُّنا يتذكر تشبيه شجرة
الفلسفة عنده، حيث تشكل الميتافيزيقا جذور هذه الشجرة بينما تشكل الفيزيقا جذعها، وتشكل
بقية فروع المعرفة أغصان الشجرة، هذه الفروع المعرفية التي يمكن حصرها في ثلاثة
اختصاصات، أي الطب والميكانيكا والأخلاق.
اذًا، يريد ديكارت أن يعيد
الاعتبار الى الفلسفة من خلال النظر اليها بوصفها علمًا كليّا يتمتع بأساس مطلق
يقيني قاطع، لا يرقى إليه الشك حتى لو بالغ المرء في شكوكه.
ويمثّل ديكارت
تلك الشخصية القلقة، أي الأبله أو الأحمق، الذي لا يقتنع بعلوم زمانه وعمومياته،
فيحاول أن يصل الى اليقين، لكن ليس انطلاقًا ممّا يجده في هذه العلوم ولا انطلاقًا
ممّا هو متفق عليه في مجتمعه، ولا انطلاقًا ممّا تقوله الكتب السماوية ولا ممّا
تمدنا به التجربة الحسيّة، بل انطلاقًا ممّا يجده في داخله من نور فطري، أي من نور
طبيعي. وقد اكتشف الكوجيتو بوصفه ما يتمتع بالبداهة،
أي بالوضوح والتميُّز. لكن هل هناك في داخلي، في جوانيتي، شيء آخر يتمتع بالبداهة،
أي ما يتمتع بالوضوح والتميّز؟ أجل هناك فكرة أخرى تتمتع بالبداهة المطلقة، وهي
فكرة الله، الاله الكامل، مطلق الكمال، الذي لا يعتريه أي نقص. ومن البديهي أن
الوجود هو صفة من صفات الكمال. ومن البديهي أيضًا، أن الانسان، ذلك الكائن الناقص
لا يستطيع أن يكون سبب هذه الفكرة لأنه عرضة للنقص. إذاً، لا بد لهذا الاله الكامل الذي لا يخدع، أن يكون موجودًا، لأن من
صفات كماله المطلق أن يكون موجودًا. وبذلك يكون ديكارت قد أثبت وجود الله. ووجود هذا الأخير يقودنا الى اثبات وجود
الأشياء، أي إلى إثبات وجود العالم الخارجي من حيث كون الله لا يخدع.
قلنا إن ديكارت اكتشف حقل
الذاتية في الفلسفة. ويُمكن لنا تلخيص المشكلة الفلسفية الديكارتية بالسؤال التالي:
كيف يمكن لما هو ذاتي أن يقوِّم ما هو مرضوعي؟ أي كيف يمكن للذاتي أن يقوّم
الموضوعي؟ وبصيغة ثانية: كيف يمكن للمحايث أن يُطاول المفارق؟
هذه المشكلة الديكارتية
تابعها كنط من خلال طرحه للمشكلة الرئيسة في فلسفته: كيف يمكن للأحكام التأليفية
قبليًّا أن تكون؟ ومن ثم عاد اليها هوسرل ووجد في الفلسفة الديكارتية شيئًا ما
يتمتع بقيمة أبدية، أي يبقى خالدًا رغم مرور الزمان. لقد رفض هوسرل كل مضمون
المذهب الديكارتي لكنه حافظ على الهيكل، وحافظ على روحه المنهجية، وحافظ على
الدوافع الفكرية الديكارتية.
اذًا، لإثبات وجود العالم الخارجي، احتاج ديكارت الى ضمانة
ميتافيزيقية، أي احتاج الى الله. وهذا ما أصبح مرفوضًا بعده، لذا بإمكاننا أن نثبت
موضوعية العلوم من دون افتراض وجود الله. فالله كمرجعية بقي في الفلسفة
الديكارتية، لكنّ كنط أمات الله في العقل النظري وتركه كمسلمة للعقل العملي، أي
تركه كمسلمة لتأسيس الأخلاق.
ومن ثم جاء هوسرل ليتابع ما
بدأه ديكارت ومن بعده كنط ويرفض تلك الضمانة الالهية. لقد حاول، كما حاول من قبل ديكارت، تأسيس العلوم وإصلاح الفلسفة والنظر
اليها بوصفها ذلك العلم الكلي الذي تنتمي اليه بشكل أو بآخر كل العلوم. ونظر إلى
الفلسفة بوصفها علمًا صارمًا، بوصفها علمًا دقيقًا، يتمتع بأساس قاطع لا يرقى إليه
الشك، حتى لو كان كل شيء من حوله غير موجود.
تتلمذ هوسرل على يد أستاذه
برنتانو الذي كان يقول بالقصدية، بالوعي القصدي، بالوعي التوجُّهي، أي إن الوعي هو
دائمًا وعي بشيء ما، بمطلب ما، بغرض ما. ومن خلال
قصدية الوعي أسس ما يمكن أن نسميه بالفيمياء الوصفية التي تقوم على ثلاثة أفاهيم،
هي القصدية والحدس المقولي والقبلية.
أ-القصدية
القصدية ركن أساسي من أركان الفيمياء.
والقصد يعني التوجُّه إلى، فقصد الشيء أو عنْيُه هو التوجُّه إليه. هذا ما كان
يقوله برنتانو الذي كان متمرّسًا بفلسفة المدرسيّين، وما أخذه هوسرل عنه.
كل فعل معيش يتوجه الى شيء ما، الى مطلبٍ ما، الى غرضٍ ما، الى مقصدٍ ما. وهكذا يكون الادراك ادراكًا لشيء ما، والتذكر تذكرًا لشيء ما، والتوقع توقعًا لشيء ما، والحكم حكمًا بشيء ما، والحب حبًّا لشيء ما، ...الخ. وعلينا الانتباه الى أن ما يتوجه اليه الوعي ليس بالضرورة شيئًا ماديا، فأنا أدرك عند الآخرين الحب والكره، والشغف والنفور، والفهم والطلمسة..الخ. وحتى الهلوسة هي، في النهاية، هلوسة بشيء ما، وان كان شيئًا متوهَّمًا.
كل فعل معيش يتوجه الى شيء ما، الى مطلبٍ ما، الى غرضٍ ما، الى مقصدٍ ما. وهكذا يكون الادراك ادراكًا لشيء ما، والتذكر تذكرًا لشيء ما، والتوقع توقعًا لشيء ما، والحكم حكمًا بشيء ما، والحب حبًّا لشيء ما، ...الخ. وعلينا الانتباه الى أن ما يتوجه اليه الوعي ليس بالضرورة شيئًا ماديا، فأنا أدرك عند الآخرين الحب والكره، والشغف والنفور، والفهم والطلمسة..الخ. وحتى الهلوسة هي، في النهاية، هلوسة بشيء ما، وان كان شيئًا متوهَّمًا.
إن التأمل في فعل الادراك، إذاً،
يبيِّن الطابع القصدي له، أي كونه توجهًا الى شيء ما، بصفته طابعًا مبيَّتًا أو
ثاويًا في بنية فعل الادراك هذا. وان كون الادراك ادراكًا لشيء ما، أي توجهًا الى
شيء ما، لا يعني أنه يتوجه الى شيء يُلحق به من الخارج. فالقصدية، كما يتبناها هوسرل، تُلغي الكلام على داخل وخارج،
على محايثة ومفارقة، أي على محايثة الوعي ومفارقة الموضوع، وتختفي بذلك مسألة
العبور من الذات الى الموضوع. وهكذا، فان الكشف الوصفي عن بنية فعل
الوعي، عن بنية فعل الادراك، حتى لو كانت هذه البنية ما تزال صعيدًا بنيويًّا
فارغًا، يكشف أن فعل الوعي هو دائمًا فعلٌ يتوجه الى شيء ما، يعني أو يقصد شيئًا
معيّنًا. لذا يتبدّى بوضوح تلازم الفعل وشيئه المَعْنِيّ، تلازم الفعل وغرضه،
تلازم الفعل وما يطلبه، تلازم الفعل وما يتوجه اليه.
ان الجديد في قصدية هوسرل هو
اعتباره لشيء فعل الوعي، لغرضه، لمطلبه، مبيَّتًا أو ثاويًا أو قائمًا في بنية هذا
الفعل بالذات، بحيث تبرز، من خلال ذلك، الوحدة العضوية التي تشدّ الفعل ماهويًّا
الى شيئه، الى فينمانه. فكأن شيء فعل الوعي هو من انتاج هذا الفعل وابداعه، فلا
يكون فعل الوعي، فعل الادراك، من دون شيئه، ولا يكون الشيء، أو يبقى من دون فعله. لذا يرى هوسرل أن القصد ليس علاقة عادية بين مستقليْن، ولا
القصدية علاقة الذات بالموضوع. ان القصدية لا تعني أي علاقة مطلقًا، بل تعني
طابَعًا ماهويًّا، أي ما يعود الى ماهيته بالذات، أي ما يعود الى طبيعته بالذات،
يُميِّز بنية الوعي وكينونته بعيدًا عن تعلقه بالموضوعات.
وفي هذا المجال يقول موسى
وهبه في تقديمه لترجمته لكتاب المباحث المنطقية لهوسرل، عن القصدي
والمجاوز، ما يلي:" ومع التأمل في معنى القصدي المستفاد من برنتانو سرعان ما
يتبين أنه، بالأحرى، المجاوز الذي كان أدخله كنط، وأن الفيمياء نفسها ليست مجرد
فيمياء وصفية (بالاستفادة من برنتانو نفسه) بل هي بالأحرى فيمياء مجاوزة، ومثالية
مجاوزة أخيرًا، بالاذن من كنط وبالتميُّز منه:
فالمجاوز عند كنط يُطلق على علاقة المعرفة بموضوع المعرفة
قبليًّا، أي قبل وبمعزل عن حضوره في التجربة. فالذهن العارف مجاوز، أو قل انه
يُجاوز بنا الى موضوع المعرفة أي يطلبه ويشكله تبعًا لبنية الذهن الذاتية؛ ويُمكن
ايضاح ذلك بمثال من النحو العربي: حين أقول ضرب زيدٌ.. ينتظر السامع تتمة العبارة
لأن فعل ضرب يتجاوز الفاعل ويجاوز بنا الى طلب مفعول به، فهو فعلٌ مجاوز أو فعل
متعدٍّ كما تقول النحاة، وهذا التعدي قائم في معنى الفعل نفسه أي قبليًّا، قبل أن
نعرف على من أو على ماذا سيقع الفعل. وهكذا يمكن أن نفهم كيف يكون الوعي مجاوزا أو
وعيًا بشيء ما، بمطلبٍ ما."
ب- الحدس المقولي
ان الحدس، في نظر هوسرل، هو
ادراك مباشر، أي من دون توسط، للشيء، لغرض التفكير، لمطلب التفكير، من حيث هو
ذاته، حاضر للوعي. والحدس عند هوسرل ليس مجرد حدس حسي كما نجده عند كنط. وهكذا
يتكلم هوسرل على نوع آخر من الحدس، يسميه حدسًا مقوليا. وهذا الحدس المقولي هو شرط
ضروري لحصول الحدس الحسي على قيمته المعرفية. ان قول هوسرل بحدس مقولي وعدم
اكتفائه بالكلام على المقولات عمومًا لا يعكس فقط فرقًا جذريا بينه وبين كنط
بالنسبة الى أفهوم الحدس، بل أيضا بالنسبة الى أفهوم المقولة والمقولي. فالمقولة
ليست مجرد شكل ادراكي، ليست مجرد قالب ادراكي، خالٍ من أي مضمون، بل هي ذات طابع
مضموني أساسًا. ان المقولة ليست مجرد شكل أو قالب أو صورة تسبغها القوة المدركة
على مادة تبقى في ذاتها في منأى عن الادراك. ان المقولة هي حدس لمضامين معنوية هي
من صلب موضوعية موضوع الادراك. اذ ذاك فان الطابع الحسي الذي يتميز به موضوع
الادراك لا يمكن فهمه، ولا حتى ادراكه، في معزل عن المضامين المعنوية التي، تدخل،
ماهويا، في قوامه الموضوعي، أو في قوام موضوعيته.
ان موضوع الادراك ليس، مثلا،
هذه الطاولة أمامي الا بقدر ما تكون هذه الطاولة موضوع حكم أو قضية. فنحن لا ندرك
الطاولة ولا تكون موضوعًا للادراك الا بقدر تعينها المعنوي أنها كذا وكذا، أي
بصفتها أنِّيّة حكمية. وهكذا يفقد الحدس طابعه الحسي المحض ليتسع لاحتواء مضامين
معنوية الى جانب طابعه الحسي المحض. وهذا من شأنه أن يوسع الحدس ليصبح قادرًا على
احتواء أشكال معنوية كما أن يوسع المقولة ليصبح بإمكانها احتواء مضامين حسية.
اذًا، هناك ادراك
"أنَّوي"(أي ينطوي على حكم على الشيء أنه كذا وكذا) موسَّع جديد، يختلف
عمَّا نعرفه من ادراك حسِّي بمفهومه الانطباعي كما نجده عند كنط وكما ورثه من
الأمبيريين. هذا الادراك الأنّوي الموسع هو ادراك لتعيّنات معنوية تعود الى
الموضوع بصفتها من صلب مقوِّمات موضوعية الموضوع. فالموضوع بصفته أنِّية الحكم،
بصفته أنّيّة حكميّة يختلف عن الموضوع الحسي، اذ يحتوي على مقوِّمات معنوية لا
يمكن التحقق منها من خلال الحدس الحسي المحض. فأيُّ حسٍّ من شأنه التحقق مثلا من
معاني كلمات كواحد، أل التعريف، واو العطف، أو الفصل، اذا و ف الشرطيتين، هكذا،
كل، لا النافية، شيء، لا شيء وغيرها ممَّا يعتبره هوسرل أشكالًا مقوليَّة، أو
كالكينونة والنسبة والتموضع أو التموقع والقيام بمهمّة أو تمثيل شيء وغيرها مما
يعتبره هوسرل مقولات.
بناءً على ما سبق، يشدد هوسرل
على ضرورة التأكيد على فعل ادراكيّ معنوي، تكون مهمته أن يكون متحقَّق هذه
المعاني، أن يكون ميدان تحقق هذه المعاني التي هي كلُّها من صلب الموضوع بصفته
أنّيّة حكمية. وهكذا، فإن هذا الادراك المتحقَّق هو فعل أو أفعول حدس مموضِع
تتقوَّم فيه موضوعات ادراكية تفوق الموضوعات الحسية صرفًا، التي يقدمها لنا الحدس
الحسي المحض، أي تفوقها من حيث قيمتها المعرفية.
من هنا، ليس بوسع انطباعات
حسية منعزلة تنشأ في الوعي نتيجة تأثره بأشياء خارجيّة، أن تُشكِّل مرتكزًا من
شأنه تأسيس الادراك والصدق. ونجد أنه من العبث الكلام على مقولات مجردة من كل تجربة. فكنط نفسه ما
كان ليستطيع أن يتكلم على مقولاته لو لم يتوصل اليها، على نحو شكليّ محض، من خلال
الأشكال الحكمية التقليدية. هو، اذًا، استقرأها من التجربة الفعلية.
ما نود قوله باختصار، هو أنه
لا يُوجد أي ادراك حسي منعزل عن سياق الحياة الفعلية، كما لا يوجد أي ادراك حسي
محض. وان ما ندعوه ادراكًا حسيًّا هو دائمًا تداخل موحَّد وأحيانًا مؤسس من حدوس
حسية ومقولية. وهكذا بإمكاننا أن نتكلم على ادراك حسي-مقولي مؤسَّس وموحَّد ولا
يوجد في معزلٍ عن الحكم وباستقلال عنه؛ ذلك لأنه ادراكٌ للأنيَّات الحكمية .
أفهوم القبلية
تكلمنا على الادراك بصفته
تداخلاً حسيّا مقوليّا موحَّدًا، موضوعُه أنّيّة حكميّة. هذا الادراك
الحسي-المقولي قد يكون بسيطًا وقد يأتي مؤلَّفًا أو مركَّبًا. ان كل ادراك، إن كل
فعلٍ ادراكي، مهما جاء بسيطًا، فإنه يأتي ادراكًا لكليِّة الشيء رغم جوانبيّته، أي
رغم كونه ادراكًا لجانبٍ معيَّن من جوانب الموضوع. فأنا عندما أدور حول هذه الطاولة أمامي، فإنني ألتقط منها، أدرك منها
جوانب مختلفة، تختلف باختلاف موقعي منها. لكنني في كل لقطة، في كل ادراك من
ادراكاتي لها، انما أدركها كطاولة ، أي أدركها بشكل كلي، بوصفها الطاولة الواحدة
نفسها. إذاً،
كل ادراك لجانب من جوانب الطاولة هو ادراك لكونها طاولةً، أي إدراك لطاوليّة
الطاولة، إدراك لكرسوية الكرسي، إدراك لأنثوية المرأة، إدراك لحائطية الحائط. وهذا
يعني أن ادراكي لها كطاولة ليس نتيجة أو حصيلة تأليفية لفعلٍ تجريدي، أقوم به بعد
انتهائي من الدوران حولها وعلى أساس ادراكاتي المتعددة لها.
ان ادراكي لكرسوية الكرسي أو
لطاولية الطاولة أو لعسكرية العسكريّ، هو ادراك بسيط لا مركَّب. لكن هناك ادراك
آخر تركيبي أو تأليفي، وذلك عندما أدرك انتظام أشياء واقعة في نظام معيَّن، كما هو
حال ادراكي لانتظام صف من العسكر، فإن ادراكي لهذا الصف هو ادراك تأليفي أو
تركيبي، مؤسَّس في ادراكات بسيطة.
اننا، منذ البداية، نرى أو
ندرك صفًّا من العسكر، أي اننا ندرك، منذ البداية، عمومية هذا الصف من العسكر. هذا
الادراك العام هو ادراك مؤسَّس في ادراكات بسيطة، يلتقط أو يدرك كل واحد منها
جانبًا من أحد العساكر على أنه جانبٌ لعسكري تام. وهكذا فإن ادراكي لعموميّة صف
العسكر لا يُؤسَّس على ادراكاتي المتنوعة لكل عسكريٍّ بمفرده. ان هذا الادراك
العام لهو ادراك أوليّ أحصل عليه كما بضربة واحدة.
ان ادراكي لعمومية صف
العساكر، لشمولية هذا الصف، ليس ادراكًا متأخرًا، أساسُه الانطلاق التجريدي من
ادراكات بسيطة مبعثرة. ان صف العساكر لهو موضوع عام لهذا الادراك اذ لا يمكن رده
الى معطيات الادراك الحسية. انه، إذاً، ادراك مقوليٌّ. هذا الادراك التركيبي أو التأليفي هو أحد الأنحاء الممكنة للحدس
المقوليّ المؤسَّس، كما قلنا، في حدس حسي.
والأمْثلة أو الممْثلة هي
النحو الآخر للحدس المقولي. انها، بدورها، ادراك أولي لموضوع عام. فعسكرية
العسكري(الممثلة) وعمومية صف العسكر(التركيب) هما ادراكان أوليّان، ولا نتوصل
اليهما على نحو منطقي أو تجريدي. وهما فعلان أو أفعولان مؤسَّسان في شيء معطى من
قبلُ في ادراك حسي. انهما يشتركان في كون كليهما فعلًا أو أفعولًا حدسيًّا هو فعل
ادراك لموضوع من نوع جديد، أي موضوع يتسم بطابع معنوي عام، موضوع يختلف عن موضوع
الادراك الحسي البسيط المؤسِّس لهذه الافعال الحدسية العليا. وهكذا يصل هوسرل الى
الاستنتاج التالي، وهو أن صدق الحكم لا يتوقف على حصر أنظارنا في المعطيات الحسية
لموضوع الادراك، بل علينا التنبُّه الى المقوِّمات المعنوية الأخرى. من هنا،
يتبدَّى لنا موضوع الادراك كبنية ذات طبقات متعددة، أدناها حسي وأعلاها مقولي
معنوي. وهكذا فإن موضوعية موضوع الادراك تحتوي في صلبها على ما كان يُحسب من قبلُ
مجرد اضافات وتلوينات ذاتية. ان توسيع الموضوعية، على ما مر معنا للتو، لهو
المفتاح الرئيس لإمكان تأسيس علمية العلم، تلك المسألة، أي مسألة تأسيس العلوم،
التي انشغل بها هوسرل وورثها من ديكارت وكنط.
بناء على ما سبق، نقول ان ما
هو قبلي في المعرفة هو ما يتسم بطابع أولي بحيث لا يتقدم عليه شيءٌ آخر. وقد رآه
ديكارت في الأنا أفكر وأفعاله التفكيرية المختلفة، ورآه الأمبيريون في الانطباعات
الحسية العارية، أما كنط فحاول الجمع بين الاثنين، فاعتبر أن هناك انطباعات حسيّة
خام ومشوَّشة من جهة وأشكالا ذاتية (مكان، زمان ومقولات) من جهة أخرى. وهذه
الأخيرة هي التي تُضفي على الانطباعات الحسية المتفرقة والمشوّشة نوعًا من النظام
القبلي.
لكنَّ أول ما يجده الوصف
الفيميائي ليس انطباعات حسية متفرقة ولا أشكالًا ذاتية صرفًا، بل أنِّيَّات حكميّة
تنطوي على معانٍ عامة هي من صلب موضوع الادراك أو من صلب كون الشيء موضوعًا
للادراك، كما هو حال التركيب والأمثلة، وهذا ما يشكل بالتالي القبلي في المعرفة أو
ما هو قبليّ فيها. إذاً، ان القبليّ هو المعاني العامة التي تنطوي على أنّيّات
الأحكام بصفتها ما يُعرف الخاص من خلالها (كما في التركيب أو التأليف) من جهة، أو
بصفتها ماهيات عامة (كما في المَمْثلة) من جهة أخرى. ان ما هو قبليّ في المعرفة
ليس ما ذهب اليه ديكارت ولا هيوم ولا كنط، بل هو المعنى المقولي العام الذي هو،
كما في شكلي التركيب والممثلة، من صلب موضوع الادراك، وبالتالي من صلب حدسيَّته. اذ
ذاك فهذا قبلي مضمونيّ، أي ذو مضمون وليس مجرد شكل عقلي أو ذهني يسبغه الوعي على
مضمون غريب عنه.
الى هنا نكون قد انتهينا من
الفيمياء الوصفية ومن أركانها الأساسية، أعني القصدية والحدس المقولي والقبلية
الموضوعية. لقد قامت هذه الفيمياء بوصف بنية فعل
الوعي وبيَّنت تعلقه القصدي بموضوعه من حيث هو دائمًا وعيٌ بشيء ما، هو توجُّه الى
شيء ما.
لكن لماذا لم يكتفِ هوسرل
بالفيمياء الوصفية واضطر الى ابداع ما سمَّاه الفيمياء المجاوزة؟ ألم تكن الفيمياء
الوصفية كافية لتأسيس العلم والوصول الى موضوعية المعرفة، أي إثبات موضوعية موضوع
الادراك من دون افتراض فروض ميتافيزيقية؟
يميل هوسرل الى أن الفيمياء
الوصفية بقيت تدور حول الوعي الأمبيري، وذلك بغية اظهار إمكان العلم. إن انشغالها
بإظهار موضوعية المعرفة قد دفع بها الى حافة الانزلاق نحو الوضْعَنيّة أو الوَضْعيّة
أو الوضعانيّة أو المذهب الوضعي بما ينطوي عليه هذا المذهب أو هذه النزعة الوضعية
من مخاطر السَّكْلَجِيّة أو النفسانية أو المذهب النفساني. لذا، تحتم على هوسيرل
التعالي على الأنا الأمبيري أو تجاوزه وتجاوز تجربته الطبيعية التي انحصرت،
انطلاقًا من موقفها الطبيعي وطابعها الأمبيري العام، في موْضَعة الأشياء
"العالمية"، أي موضعة أشياء العالم. ان هذا الاهتمام "العالمي"،
أي هذا الاهتمام بأشياء العالم، الذي يميّز الأنا الأمبيري، قد أبقى فاعلية هذا
الأنا أو نشاطيته خارج منظوراته الممكنة. فالمطلوب هو الانتقال من "الموقف
الطبيعي" الى الموقف التأملي أو "الموقف المجاوِز". إن مسيرة
الفيمياء التي كانت تجول من منطلق طبيعي وعلى نحو وصفي بين موضوعات العالم أو
أشيائه قد ارتدّت الآن الى ذاتها لتجعل من ذاتها بالذات، فعلًا وفاعليّة، موضوعًا
لها، بل لترد فعل المَوْضَعَة ذاته الى أساساته الذاتية المجاوزة. ان الموضوعية في
المعرفة لا تُبرَّر شرعيتها الا من خلال ردِّها أو إرجاعها الى فاعليّة الأنا
المجاوز.
في الموقف
الطبيعي نعالج أو نتطرق الى موضوعات التجربة على نحوٍ مباشر. أما في الموقف
التأملي، فاننا نتجه الى موضوعات لا تتصف بهذا الطابع الطبيعي العالمي. ان موضوعات
التأمل الجديد هو أفعال. هنا فعل التأمل أو أفعول التأمل يتخذ أفعالًا موضوعات له.
بذلك لا تعود الطاولة كموضوع لفعل الادراك، ما يشغلني، بل هو فعل ادراك الطاولة
ذاته كموضوع قصدي لفعل تأملي جديد هو ما بات يشغلني. وهذا التحول في الموضوع هو ما
سوف يؤدي الى الكشف عن فاعلية الأنا المجاوز.
المطلوب الآن هو الكشف عن
فاعلية أو نشاطية الأنا المجاوز. فأنا أتأمّل ، في الفيمياء المجاوزة، فعل ادراك
الطاولة بحيث لا تعود هذه الطاولة تتبدّى لي كموضوع مقصود أو معنْوَن أو مَعْنيّ أو
متوجَّه اليه لفعل ادراكي، بل كمجرَّد مقوِّم معنويّ من مقوِّمات فعل ادراكها الذي
أصبح الآن هو نفسه وبكليَّته موضوعًا لتأملي. وهكذا فإن وجود الطاولة لم يعد أمرًا
يهمُّني. من هنا فإن من شأن فعل التأمل الجديد أن "يُعلِّق" وجود هذه
الطاولة و"يضعه بين هلالين"، فلا يتبدَّى له هذا الوجود الا بصفته
معنيًّا أو متوجَّهًا اليه في فعل الادراك. هنا تبرز أهمية التعليق والوضع بين
هلالين التي تميَّزت بها الفيمياء: فيتم تحويل النظر عن وجود الموضوع أو
إنّيَّتِه، والتركيز بالتالي على مختلف أنحاء عنْي الموضوع وكينونته، أي على
أنّيَّاتِه المحضة. هذه العودة الى نطاق الفعل المحض والأنِّيَّات المحضة
يُسمِّيها هوسرل ردًّا أو إرجاعًا. عندئذٍ يتبدّى لي الوعي بوصفه بنية فعلية،
بوصفه بنية أفعال، بوصفه بنية تقوم على أفعال، أي بوصفه فاعلية بنيوية، ولنقل
بوصفه محايثة محضة.
علينا، اذًا، أن نتعالى أو
نتجاوز، من خلال عملية الرد أو الارجاع، واقع أشياء العالم لكي يتسنى لنا الكشف عن
بنية الوعي المحضة، لكن ليس على طريقة كنط حيث تتبدّى لنا هذه البنية بوصفها
تُمثِّل قوى الوعي في وظيفتها الموضوعية بما لها من طابع قبليّ خالٍ، في فاعليته
أو نشاطيته، من انفعالية التأثُّر بمعطيات حسيَّة خارجيَّة. فهوسرل يريد ابراز
بنية الوعي العميقة في معزل عن التضايف أو الترابط بين الذات والموضوع، وهو، اذ
ذاك، لا يفهم الذات المجاوزة من خلال تضايُفِها لموضوعاتها، بل يحاول أن يقدم لنا
فهمًا للذات يعكس لنا بنية فاعليتها المحضة في خلوص تام من الموضوع. لذا، ان
الرَّدَّ أو الارجاع الفيميائي سيحاول، في مرحلة لاحقة، أن ينقضَّ على الموضوع
ذاته بما له وفيه من إنِّيَّة وأنِّيَّات مختلفة. عندئذٍ، نصل الى ما هو أساسي في الفيمياء المجاوزة، حين تبرز الأنا
المحض المطلق من تحت ركام الموضوعات على مختلف أنواعها. وحده هذا الأنا المطلق ما
من شأنه أن يقدِّم لنا تأسيسًا نهائيًّا لكل موضوعية، وبالتالي، لكل معرفة موضوعية
وعلم موضوعيّ.
ان التأمل في فعل الادراك،
مثلًا، يعنْوِن الفعل الادراكي ذاته، أي يجعله معنيًّا في فعل التأمل الجديد بحيث
يتبدَّى له هذا الفعل، من جديد، كذي طابع قصديّ، أي كإدراك لـِــ "شيء
ما" أو غرضٍ ما. من خلال فعل التأمل هذا تتبدَّى لنا
ادراكية الادراك وشيئية الشيء على حدٍ سواء. فشيئية الشيء (الطاولة مثلا)، تتبدَّى من
خلال أنّيَّاته المختلفه بوصفه ممتدًّا أو ماديًّا أو ثقيلًا أو متلوِّنًا على
سبيل المثال، بل حتى اذا تذكرنا الأمثلة أو الممْثلة كما مرَّ معنا في الفيمياء
الوصفية، أقول اذا تذكرناها كحدسٍ مقوليّ ، كاللون ذاته أو الطاوليَّة ذاتها، أي "كنوعٍ مثالي". وبالمقابل تتبدَّى
ادراكية الادراك بصفته، ماهويًّا، ادراكاً لشيء يتسم بطوابع امتدادية ومادية
وغيرها. بل ان التأمل في ادراكية الادراك يظهر لنا أن الادراك من شأنه أن يتراوح بين
الاشارة الى "هذا هناك" وبين تبيان ماهيَّة هذا الشيء
وأنّيَّاته المختلفة، بما فيها من تداخل بين طوابعه الحسيّة ومعانٍ قبليّة عامة،
أي الادراك بما هو حدس حسيٍّ مقوليّ متداخل.
فاعلية الوعي هذه ما تزال،
رغم ذلك، تحتوي على مقوِّمات "عالمية"، أي لها علاقة بأشياء العالم. ألم
نذكر الطابع الحسي كمقوِّم من مقوِّمات الموضوع؟ ألم نذكر الحدس الحسي كمقوِّم من
مقوِّمات الادراك؟ ألم يتبيَّن معنا أن الادراك يتميَّز بطابع منظوري يرهنه بموقع
الوقْفَة بحيث يترتب على ذلك، وبغية تحقيق الادراك المتكامل، التنقُّل من موقع الى
موقع والدوران حول الموضوع؟ فكل هذه طوابع عالميَّة في الادراك هي من صلب ادراكيته.
لكن الرد أو الارجاع الذي نحن بصدده الآن يتطلب
تنقية الوعي من كل هذه العناصر العالمية، أي المتعلقة بأشياء العالم، وذلك حتى
تبرز لنا بنيته المحضة أو الخالصة.
وهكذا نصل الى
مرحلة الرد الأيدوسي أو الرد الماهوي. ان
إمكانيّات الوعي أو الادراك في المرحلة السابقة بقيت، رغم كل شيء، معفَّرةً أي
ملطخةً، كما رأينا، بمقومات عالمية، كما أنها بقيت ترتبط بتيّار وعي معيَّن، يرتبط
بدوره، بموقع زمكانيّ معيّن. كل هذا يعيق ابراز بنية فاعلية الوعي. فاذا كنا نريد
ادراك الوعي أو أي فعل من أفعاله بما فيها فعل الادراك نفسه، فعلينا أن ندركه من
حيث ماهيته العامة وليس من خلال تمظهراته أو تجليَّاته الافرادية لهذه الماهية.
هنا يحاول هوسرل أمْثَلة أو ممْثَلة فعل الادراك ذاته بغية الوصول الى ماهيته أو
أيدوسه. لذا يعمل على حجب كل ما هو فردي وافرادي في تجربة الادراك ذاته، أي حجب كل
ما هو عالميّ وعَرَضيّ، حتى يبرز لنا الادراك لا كهذا الادراك أو ذاك، ولا كادراكي
أو ادراكك، بل كالادراك ذاته بصفته نوعًا مثاليًّا أو أمثُليًّا أو بالأحرى ماهيّة
أيدوسيّة. بذلك يتنقى الادراك من مجرياته الزمكانية ويتنقَّى من تعينه في الــ"هنا"
و"الآن". عندئذٍ، يتبدى لنا الوعي، من حيث فاعليته البنيوية، كالذاتية
المجاوزة.
لكن هل تنقَّى الوعي وتصفَّى
نهائيًّا من خلال هذا الرد أو الارجاع المتمرحل، أو ذي المراحل المتعددة؟ أم أن
الذاتية المجاوزة المحضة ما تزال، رغم خلوصها المحقَّق، رغم نقائها المحقَّق،
تعاني من عدم نقائها أو خلوصها نهائيًّا من كل أشكال المفارقة؟
وحتى نجيب عن هذا السؤال،
علينا أن نلقي نظرة مجدَّدة على ما يُعرف بتياريَّة الوعي أو سيلانه. فهوسرل يركز
أساسًا على وحدة الوعي التي يجب أن لا تُفهم كوحدة جامدة كما لحجرٍ مقتطع من صخر.
ان الوعي، في نظره، تيَّارٌ حيٌّ، كما أنَّ وحدته هي وحدة حيَّة جارية. وليست هذه
الوحدة وحدة هوِّيَّة ثابتة يتدفق الوعي الجاري فوقها وحولها. انها، بالأحرى، وحدة
الجريان.
في هذا الجريان "تتماعى"، أي
تجري معًا وبانصهار، عناصر مختلفة ويجري بعضها مع بعض. من هذه العناصر ما هو
وصليّ، اذ ينتمي بعضه الى بعض في وحدة متسقة. أما البعض الآخر فهو فصليّ، اذ ينزلق
مع التيار على نحوٍ عَرَضي فلا يندرج في وحدته الا من خلال واقع "التماعي"
في الجريان.
والهدف من التمييز بين ما هو فصلي وما هو وصلي هو ابراز بنية الوعي الفاعلية أو فاعلية الوعي البنيوية، علمًا أن هذا هو هدف الفيمياء المجاوزة أولًا وأخيرًا.
والهدف من التمييز بين ما هو فصلي وما هو وصلي هو ابراز بنية الوعي الفاعلية أو فاعلية الوعي البنيوية، علمًا أن هذا هو هدف الفيمياء المجاوزة أولًا وأخيرًا.
ان البنية الماهوية العامة المستخرجة من خلال التنويع الأيدوسي ومعاينة ماهية الوعي في فاعليته الذاتية، ما تزال رغم عموميتها وأيدوسيتها، مجرَّد طبقة معنوية في بناء الوعي الفردي بشخصٍ معيَّن والمتمعْين، بالتالي، في حدود زمكانية، أي في الهنا والآن. إن الأيْدسة ومعاينة الماهية في الشيء أو الماهية العامة للشي هي من صلب أنِّيته التي لا يجوز فصلها عن إنّيته ووجوده المتمعيِن في الزمان والمكان.
بناء على ما سبق، نرى أن هذه الأمور تخرج
عن اطار فاعلية الوعي وتشكل مضامين عالميّة من شأنها الانتقاص من نقائها وتعاليها.
وبذلك فان عملية التعليق والرد لا يمكن أن تكون قد انتهت بعد.
وهنا يستحق السؤال عمَّا يبقى بعد تعليق كل انفعال معيش في تيار الوعي وكل مضمون عالمي "غريب" في الافعال الواعية. هل يبقى هناك لب لا يمكن رده الى شيء آخر؟ هل يبقى هناك جوهرة تلمع بذاتها وتؤسس كل شيء؟
وهنا يستحق السؤال عمَّا يبقى بعد تعليق كل انفعال معيش في تيار الوعي وكل مضمون عالمي "غريب" في الافعال الواعية. هل يبقى هناك لب لا يمكن رده الى شيء آخر؟ هل يبقى هناك جوهرة تلمع بذاتها وتؤسس كل شيء؟
ان هوسرل يعتقد أن الرد أو الارجاع
المجاوز قد حقق أخيرًا غايته ووصل الى منتهاه: أي الكشف عن الأنا المحض المطلق،
الخالص من كل انفعال والخالي من كل مضمون عالمي والذي هو لهذا السبب عينه مطلق. انه فاعل الفعل ومبدأ الفاعلية في بنية الذات
المجاوزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق