راهنية أفكار كارل ماركس
________________________________________
لم تكن أفكار ماركس أبداً أكثر راهنية مما هي عليه اليوم. يتضح هذا
في التعطش الكبير للنظرية الماركسية الذي نشهده في الوقت الحاضر. في هذه المقالة
يناقش آلان وودز الأفكار الرئيسية لكارل ماركس وأهميتها لتفسير الأزمة التي نمر
منها اليوم.
آلان
وودز
الجمعة: 21 يونيو2013
عن صفحة التواصل اليساري
لقد مرت 130 عاما منذ وفاة كارل ماركس. لكن لماذا نحتفل برجل توفي
سنة 1883؟ في بداية سنوات الستينات [من القرن العشرين] أعلن هارولد ويلسون، رئيس
الوزراء العمالي آنذاك، أنه يجب علينا ألا نبحث عن حلول في مقبرة هاي جيت. من
يستطيع أن يختلف معه حول ذلك؟ ففي المقبرة المذكورة أعلاه لا يمكن للمرء أن يجد
سوى العظام البالية والغبار ونصب حجري قبيح.
لكننا عندما نتكلم عن أهمية كارل ماركس اليوم لا نكون بصدد الحديث
عن المقابر، بل عن الأفكار: الأفكار التي صمدت أمام اختبار التاريخ وخرجت الآن
منتصرة، وهو ما يجد حتى بعض أعداء الماركسية أنفسهم مجبرين على الاعتراف به على
مضض. لقد أظهر الانهيار الاقتصادي عام 2008 من الذي عفا عليه الزمن، وبالتأكيد لم
يكن كارل ماركس.
لعقود من الزمن لم يتعب الاقتصاديون أبدا من تكرار القول بأن
توقعات ماركس بخصوص الانكماش الاقتصادي قد عفا عليها الزمن تماما. كان من المفترض
أن تكون أفكارا للقرن التاسع عشر، واعتبر أولئك الذين دافعوا عنها مجرد دغمائيين
لا أمل يرجى منهم. لكن تأكد الآن أن أفكار المدافعين عن الرأسمالية هي التي يجب أن
ترمى في مزبلة التاريخ، في حين تأكدت أفكار ماركس بشكل باهر.
لم يمر وقت طويل منذ أن أعلن غوردن براون بكل ثقة: "نهاية
دورة الازدهار والكساد". لكنه اضطر بعد انهيار عام 2008 إلى ابتلاع كلماته.
تدل أزمة اليوروعلى أن البرجوازية ليست لديها أية فكرة عن كيفية حل مشاكل اليونان
واسبانيا وايطاليا، مما يهدد بدوره مستقبل العملة الأوروبية المشتركة، بل وحتى
الاتحاد الأوروبي نفسه. يمكن أن يكون هذا بسهولة حافزا لحدوث انهيار جديد على
الصعيد العالمي، وهو ما سوف يكون أعمق من أزمة 2008.
حتى بعض الاقتصاديين البرجوازيين صاروا مجبرين على الاعتراف بما
أصبح واضحا على نحو متزايد: أن الرأسمالية تحمل في طياتها بذور فنائها؛ وأنها نظام
فوضوي وعبثي يتميز بالأزمات الدورية التي ترمي بالناس إلى البطالة وتتسبب في
الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
كان من المفترض ألا تحدث الأزمة الحالية. وقد كان معظم الاقتصاديين
البرجوازيين، حتى وقت قريب، يعتقدون أن السوق قادر، إذا ما ترك لنفسه، على حل جميع
المشاكل، وتحقيق توازن سحري بين العرض والطلب ("فرضية كفاءة السوق")
بحيث لا يمكن أبدا أن يكون هناك تكرار لما حدث عام 1929 والكساد العظيم.
تم إرسال توقع ماركس بحتمية أزمة فائض الإنتاج إلى مزبلة التاريخ.
وكان ينظر إلى أولئك الذين استمروا يدافعون عن فكرة ماركس بأن النظام الرأسمالي
يحبل بتناقضات مستعصية وأنه يحتوي في ذاته بذور فنائه، باعتبارهم مجرد مخرِّفيـن.
ألم يثبت سقوط الاتحاد السوفياتي في النهاية فشل الشيوعية؟ ألم ينته التاريخ أخيرا
مع انتصار الرأسمالية باعتبارها النظام الاجتماعي والاقتصادي الوحيد الممكن؟
لكن وفي غضون 20 عاما (وهي ليست فترة طويلة في تاريخ المجتمع
البشري) دارت عجلة التاريخ 180 درجة. الآن صار نقاد ماركس والماركسية السابقون
ينشدون أغنية مختلفة جدا. ففجأة صارت النظريات الاقتصادية لكارل ماركس تؤخذ على
محمل الجد فعلا. وصار عدد متزايد من الاقتصاديين ينقبون في صفحات مؤلفات ماركس على
أمل أن يجدوا تفسيرا لما حصل.
شكوك
في شهر يوليوز 2009، وبعد حدوث الركود الاقتصادي عقدت صحيفة
الايكونوميست ندوة في لندن لمناقشة مسألة: ما هي مشكلة الاقتصاد؟ يكشف ذلك أن عددا
متزايدا من الاقتصاديين لم يعد يثق في صلاحية النظريات السائدة. وقد أدلى
الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، باعتراف مدهش حيث قال: «خلال
الثلاثين سنة الماضية كان تطور نظرية الاقتصاد الكلي (macroeconomic) عديم
الفائدة بشكل عجيب في أحسن الأحوال ، أو أنه كان، في أسوأ الأحوال، ضارا بشكل
مباشر». يشكل هذا الحكم رثاء مناسبا لنظريات الاقتصاد البرجوازي.
الآن وبعد أن تسببت الأحداث في خلخلة أفكار بعض المفكرين
البرجوازيين على الأقل، صرنا نرى الكثير من المقالات التي تعترف على مضض بأن ماركس
كان على حق في آخر المطاف. وحتى صحيفة الفاتيكان الرسمية،
لوسيرفاتوري رومانو، نشرت مقالا في عام 2009 يشيد بتشخيص ماركس لعدم المساواة في
الدخل، مما يشكل نقطة جيدة لصالح الرجل الذي كان قد أعلن أن الدين أفيون الشعوب. صار كتاب رأس المال الآن من أكثر الكتب مبيعا في ألمانيا. وقد تم
نشره في اليابان بنسخة مصورة.
كتب جورج ماجنوس، وهو محلل اقتصادي بارز في بنك UBS، مقالا تحت عنوان مثير: "أعطوا كارل
ماركس فرصة لإنقاذ الاقتصاد العالمي". بنك UBS الذي
يتخذ من سويسرا مقرا له مؤسسة مالية رائدة، لديه مكاتب في أكثر من 50 دولة ويمتلك
أصولا بأكثر من تريليوني (2 تريليون) دولار. إلا أن ماغنوس كتب في مقال له في صحفة
بلومبرغ فيو أن "الاقتصاد العالمي اليوم يحمل أوجه تشابه كثيرة مع ما تنبأ به
ماركس".
في مقالته يبدأ من خلال وصف واضعي السياسات الذين "يكافحون من
أجل فهم موجة الذعر المالي والاحتجاجات وغيرها من المشاكل التي يعاني منها العالم"،
وينصحهم بأنهم سيحسنون صنعا لو قاموا بدراسة أعمال "اقتصادي توفي منذ زمن
بعيد، هو كارل ماركس".
«لنتأمل على سبيل المثال تنبؤ ماركس حول كيف أن الصراع الكامن بين
الرأسمال والعمل سيعبر عن نفسه. وكما كتب في رأس المال، فإن سعي الشركات لتحقيق
الأرباح والإنتاجية سوف يؤدي بها بطبيعة الحال إلى تقليص متواصل لحاجتها إلى
العمال، مما سيخلق "جيشا صناعيا احتياطيا" من الفقراء والعاطلين عن
العمل: "تراكم الثروة في قطب هو، بالتالي، في الوقت نفسه، تراكم للبؤس في
القطب النقيض".»
ويتابع قائلا:
«إن العملية التي وصفها [ماركس] تظهر في جميع أنحاء العالم المتقدم،
ولا سيما في الجهود التي تبذلها الشركات الأميركية لخفض التكاليف وتجنب توظيف أيدٍ
عاملة، والتي عززت أرباح الشركات الأمريكية وحصتها من إجمالي الناتج الاقتصادي إلى
أعلى مستوى لها خلال أكثر من ستة عقود، في حين أن نسبة البطالة تقف عند 9,1% وبقيت
الأجور الحقيقية راكدة.
«إن عدم المساواة في الدخل بالولايات المتحدة قد وصل، إلى حد ما،
إلى أعلى مستوى له منذ عشرينيات القرن العشرين. قبل عام 2008 تم حجب التفاوت في
الدخل بسبب عوامل مثل تسهيل عملية الاقتراض، مما سمح للأسر الفقيرة بالتمتع بأسلوب
حياة أكثر ثراء. لكن المشكلة الآن قد عادت إلى الواجهة».
نشرت صحيفة وول ستريت جورنال مقابلة مع الاقتصادي الشهير الدكتور
نورييل روبيني، المعروف بين زملاءه الاقتصادين بلقب "الدكتور شؤم"، بسبب
توقعه حدوث الأزمة المالية لعام 2008. هناك شريط فيديو لهذه المقابلة الاستثنائية،
والتي تستحق أن تدرس بعناية لأنها تظهر طريقة تفكير منظري الرأسمالية بعيدي النظر.
يؤكد روبيني أن سلسلة الاقتراض مكسورة، وأن الرأسمالية قد دخلت في
حلقة مفرغة حيث فائض الانتاج وانخفاض الطلب على السلع الاستهلاكية، وارتفاع
مستويات الديون تولد انعدام الثقة بين المستثمرين، والتي من شأنها أن تنعكس بدورها
على شكل أزمة حادة في البورصة، وانخفاض أسعار الأصول وانهيار الاقتصاد الحقيقي.
مثله مثل كل الاقتصاديين الآخرين لا يمتلك روبيني أي حل حقيقي
للأزمة الحالية، باستثناء الدعوة إلى المزيد من ضخ النقود من طرف البنوك المركزية
لتفادي حدوث انهيار آخر. لكنه اعترف صراحة بأن السياسة النقدية وحدها لن تكون
كافية، وأن الشركات والحكومات لا تساعد على ذلك. وقال إن أوروبا والولايات المتحدة
تطبقان برامج التقشف في محاولة لإصلاح اقتصاداتها الغارقة في الديون، في حين أنه
ينبغي عليهما تقديم مزيد من الحوافز النقدية. استنتاجاته لا يمكن أن تكون أكثر
تشاؤما، حيث قال: "إن كارل ماركس على حق، فالرأسمالية يمكن، عند نقطة معينة،
أن تدمر نفسها". وأضاف: "كنا نعتقد أن الأسواق تبلي جيدا. لكنها ليست
كذلك". (التشديد من عندي، آ. و)
ما يزال شبح الماركسية يطارد البرجوازية بعد مائة وثلاثين سنة على
دفن جثمان ماركس. لكن ما هي الماركسية؟ من المستحيل التعامل بشكل صحيح مع جميع
جوانب الماركسية في مقال واحد. وبالتالي فإننا سنقتصر على تقديم صورة عامة،
وبالتالي غير كاملة، عن الماركسية، على أمل أن يشجع هذا القارئَ على دراسة كتابات
ماركس نفسها. إذ أنه في آخر المطاف لم يشرح أحد أفكار ماركس أفضل من ماركس نفسه.
بصفة عامة، يمكن تقسيم أفكاره إلى ثلاثة
أجزاء متميزة لكنها مترابطة في نفس الآن: أي ما أطلق
عليه لينين اسم المصادر الثلاثة والأجزاء المكونة الثلاثة للماركسية. وهي ما يمكن
إدخاله عموما ضمن العناوين التالية: الاقتصاد الماركسي،
المادية الجدلية، والمادية التاريخية.
كل واحدة من هذه الأجزاء هي في علاقة جدلية مع بعضها البعض، ولا يمكن فهمها بمعزل
عن بعضها البعض. وأفضل نقطة يمكننا أن نبدأ منها هي الوثيقة التأسيسية لحركتنا
والتي كتبت عشية الثورات الأوروبية عام 1848. والتي تشكل واحدة من أعظم الأعمال
وأكثرها تأثيرا في التاريخ.
البيان الشيوعي
الأغلبية الساحقة من الكتب التي كتبت منذ قرن ونصف لم يعد لها
اليوم سوى أهمية تاريخية فقط. لكن الميزة الأكثر إثارة للدهشة للبيان الشيوعي هي
الطريقة التي توقع بها أكثر الظواهر الأساسية التي تشغل اهتمامنا على الصعيد
العالمي في الوقت الحاضر. من العجيب حقا أن تعتقد أن كتابا ألف سنة 1847 يمكنه أن
يقدم صورة لعالم القرن 21 بوضوح وبصدق. في حقيقة الأمر إن البيان الشيوعي هو أصدق
اليوم مما كان عليه عندما ظهر لأول مرة في عام 1848.
دعونا ننظر إلى مثال واحد. في الوقت الذي كان ماركس وإنجلز يكتبان
البيان، كان عالم الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة مجرد صدى لمستقبل بعيد جدا.
لكنهما، على الرغم من ذلك، شرحا كيف أن المشاريع الحرة
والمنافسة من شأنها أن تؤدي حتما إلى تركيز رأس المال واحتكار القوى المنتجة. من المضحك أن نقرأ التصريحات التي أدلى بها المدافعون عن السوق
بشأن خطأ ماركس المزعوم بخصوص هذه المسألة، بينما هي بالضبط في واقع الأمر واحدة
من أبرع توقعاته وأدقها.
خلال الثمانينات كان من المألوف أن نسمع أن كل صغير جميل. ليس هذا
هو المكان المناسب للدخول في نقاش حول الجماليات النسبية للأحجام الصغيرة أو
المتوسطة أو الكبيرة، والتي يحق لكل شخص أن يتبنى رأيه بخصوصها. إلا أن الحقيقة
التي لا جدال فيها على الإطلاق هي أن عملية تركيز رأس المال التي توقع ماركس حدوثها،
قد حدثت وتحدث، وقد وصلت بالفعل خلال السنوات العشر الماضية الى مستويات لم يسبق
لها مثيل.
في الولايات المتحدة، حيث يمكن رؤية العملية بوضوح خاص، شكلت
ثروة 500 شركة 73,5% من كل الناتج الوطني الإجمالي في عام 2010. وإذا أقامت
هذه الشركات الخمسمائة بلدا مستقلا، فإنها ستكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حيث
ستأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. في عام 2011،
حققت هذه الخمسمائة شركة أرباحا قياسية بلغت 824,5 مليار دولار، بمعدل ارتفاع بلغ
16% مقارنة مع عام 2010. وعلى الصعيد العالمي تحقق 2000 أكبر شركة في العالم
إيرادات بـ 32 تريليون دولار، وأرباحا بـ 2,4 تريليون دولار، وتمتلك أصولا تبلغ
قيمتها 138 تريليون دولار، مع ارتفاع أرباح مذهل يساوي 67% بين عامي 2010 و2011.
عندما كتب ماركس وانجلز البيان الشيوعي، لم تكن هناك أدلة تجريبية
على كلامهما. إذ على العكس من ذلك، كانت الرأسمالية آنذاك تستند كليا على الشركات
الصغيرة، والسوق الحرة والمنافسة. أما اليوم فتهيمن على اقتصاد العالم الرأسمالي
بأكمله حفنة من الاحتكارات العملاقة العابرة للحدود الوطنية مثل إكسون ووول مارت.
تمتلك هذه الشركات العملاقة أموالا تتجاوز بكثير الميزانيات الوطنية للعديد من
البلدان. لقد تحققت تنبؤات البيان الشيوعي بشكل كامل وأكثر وضوحا حتى مما كان
ماركس نفسه يتصور.
لا يمكن للمدافعين عن الرأسمالية أن يغفروا لماركس لأنه، في الوقت
الذي كانت الرأسمالية في مرحلة شبابها، كان قادرا على التنبؤ بأسباب انحطاطها
الكامل. لقد عملوا بشدة طيلة عقود على نفي توقعاته حول السيرورة الحتمية لتركز
الرأسمال والقضاء على الشركات الصغيرة من قبل الاحتكارات الكبيرة.
لقد وصلت عملية تمركز وتركيز الرأسمال معدلات لم يكن من الممكن
تخيلها قبل الآن. وقد اكتسب عدد عمليات استيلاء الشركات
الكبرى على بعضها طابع وباء في جميع البلدان الصناعية المتقدمة. في كثير من الحالات ترتبط عمليات الاستيلاء هذه ارتباطا وثيقا
بكل انواع الممارسات الإجرامية، كالتواطؤات وتزوير أسعار الأسهم وغيرها من أنواع
الغش والسرقة والنصب، كما ظهر في فضيحة التلاعب في سعر فائدة قروض ليبور من طرف
بنك باركليز، وغيره من البنوك الكبرى. لا
يعني هذا التزايد في تركيز الرأسمال تزايدا في نمو الإنتاج، بل على العكس تماما.
ففي كل مرة لا يكون القصد من ذلك هو الاستثمار في بناء مصانع جديدة وشراء آلات
جديدة، بل هو إغلاق المصانع والإدارات الموجودة وطرد أعداد كبيرة من العمال من أجل
رفع هامش الربح دون زيادة الإنتاج. ولنأخذ مثالا عن ذلك
لننظر فقط إلى عملية الاندماج الأخيرة بين اثنين من البنوك السويسرية الكبيرة،
والتي تلاها مباشرة فقدان 13.000 وظيفة.
العولمة وانعدام المساواة
دعونا ننتقل إلى التنبؤ الهام الآخر الذي قام به ماركس. لقد أوضح
ماركس منذ عام 1847 أن تطور سوق عالمية سيجعل «من
المستحيل كل ضيق أفق وفردانية قومية. إن كل البلدان، حتى أكبرها وأقواها، هي الآن
تابعة تماما للاقتصاد العالمي ككل، والذي يقرر مصير الشعوب والأمم» (البيان
الشيوعي). إن هذا التوقع النظري الباهر يبين، أفضل من أي شيء آخر، التفوق
الهائل للمنهج الماركسي.
ينظر إلى العولمة عموما باعتبارها ظاهرة جديدة. إلا أن البيان
الشيوعي توقع منذ فترة طويلة ميل الرأسمالية نحو إنشاء سوق عالمية واحدة. إن
الهيمنة الساحقة للسوق العالمية تمثل الآن الحقيقة الأكثر حسما في عصرنا. وقد أثبت
التصاعد الهائل للتقسيم العالمي للعمل منذ الحرب العالمية الثانية صحة تحليل ماركس
بطريقة ملموسة.
لكن على الرغم من ذلك، بذلت جهود مضنية لإثبات أن ماركس كان مخطئا
عندما تحدث عن تركيز الرأسمال، وبالتالي سيرورة الاستقطاب بين الطبقات. إن هذه
المحاولات تتوافق مع حنين البرجوازية لإعادة اكتشاف العصر الذهبي للمنافسة الحرة.
مثلما يحن عجوز يحتضر لأيام شبابه البائدة.
للأسف ليست هناك أدنى فرصة للرأسمالية في أن تستعيد شبابها. فقد
دخلت منذ فترة طويلة مرحلتها النهائية: مرحلة الرأسمالية الاحتكارية. وقد صارت
أيام المشاريع الصغرى، بالرغم من حنين البرجوازية، جزءا من الماضي. ففي جميع
البلدان صارت الشركات الاحتكارية الكبرى، المرتبطة بشكل وثيق بالبنوك والمندمجة
بالدولة البرجوازية، تهيمن على حياة المجتمع. وتواصل سيرورة الاستقطاب بين الطبقات
حركتها دون انقطاع، بل وتميل إلى التسارع .
دعونا نأخذ الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية: تمتلك 400 أغنى
عائلة في الولايات المتحدة ثروة تعادل ما يمتلكه 50% من السكان المتواجدين في قاع
الهرم. ويمتلك أصحاب شركة وول مارت الستة وحدهم
أكثر مما يمتلكه 30% من الأميركيين المتواجدين في قاع الهرم مجتمعين. يمتلك أفقر
50% من الأميركيين فقط 2,5% من ثروة البلاد. بينما رفع أغنى 1% من سكان الولايات
المتحدة حصتهم من الدخل القومي من 17,6% في عام 1978 إلى 37,1% في عام 2011.
خلال السنوات الثلاثين الماضية اتسعت باطراد الفجوة بين مداخيل
الأغنياء ومداخيل الفقراء حتى صارت هوة شاسعة. في الغرب المتقدم يمثل متوسط دخل
أغنى عشرة في المائة من السكان حوالي تسعة أضعاف متوسط دخل أفقر عشرة في المائة
[المقصود غير واضح]. هذا فرق هائل. وتبين الأرقام التي نشرتها منظمة التعاون
والتنمية أن التباين الذي بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قد امتد
الى بلدان مثل الدنمارك وألمانيا والسويد، والتي كانت تقليديا مظاهر عدم المساواة
فيها منخفضة.
لقد صارت ثروات أصحاب الأبناك الفاحشة الآن فضيحة على كل لسان. لكن
هذه الظاهرة لا تقتصر على القطاع المالي. ففي
الكثير من الحالات، يتقاضى مدراء الشركات الكبيرة أجرة تزيد 200 مرة أكثر مما
يتقاضاه عمالها الأقل أجرا. وقد تسبب هذا التفاوت
الهائل بالفعل في استياء متزايد، تحول إلى غضب يمتد إلى الشوارع في جميع البلدان
الواحدة منها تلو الأخرى. وينعكس التوتر المتزايد في تصاعد الإضرابات والإضرابات
العامة والمظاهرات وأعمال الشغب. وينعكس ذلك كذلك في الانتخابات من خلال التصويت
العقابي ضد الحكومات وجميع الأحزاب القائمة، كما رأينا مؤخرا في الانتخابات العامة
الايطالية.
أظهر استطلاع للرأي أجرته مجلة التايمز أن 54% من المستجوبين لديهم
رأي ايجابي عن حركة احتلال الساحات، وأن 79% من المستجوبين يعتقدون أن الفجوة بين
الأغنياء والفقراء قد اتسعت إلى درجة كبيرة جدا، ويرى 71% أنه يجب محاكمة الرؤساء
التنفيذيين للمؤسسات المالية، وقال 68% إن الأغنياء يجب أن يدفعوا المزيد من
الضرائب، وفقط 27% من المستجوبين لديهم رأي ايجابي عن حزب الشاي (مقابل 33% لديهم
رأي سلبي عنه). بطبيعة الحال، من السابق لأوانه الحديث عن ثورة في الولايات
المتحدة الأمريكية، لكن من الواضح أن أزمة الرأسمالية تنتج مزاجا متزايدا من
الانتقادات بين فئات واسعة من السكان. بدأنا نشهد سخطا ضد الرأسمالية ومساءلة لها
لم نكن نشهدها من قبل.
آفة البطالة
في البيان الشيوعي نقرأ: «وبناءً عليه يتضح أن البرجوازية لم يعد
في وسعها أن تبقى الطبقة السائدة في المجتمع، وأن تَفرض على المجتمع شروط وجودها
كقانون أعلى. إنها عاجزة عن السيادة لأنها عاجزة عن تأمين عيش عبدها، في إطار
عبوديته، لأنها مرغمة على تركه ينحط إلى وضع يلزمها بأن تعيله، بدلا من أن يعيلها.
إن المجتمع لم يعد يستطيع أن يحيا تحت سيطرتها».
إن كلمات ماركس وإنجلز المذكورة أعلاه قد أصبحت حقيقة ملموسة. هناك
شعور متزايد بين جميع فئات المجتمع بأن حياتنا محكومة من قبل قوى خارجة عن
سيطرتنا. ويعاني المجتمع من الشعور بالخوف وعدم اليقين. لقد أصبح مزاج انعدام
الأمن معمما عمليا على المجتمع ككل .
إن هذا النوع من البطالة الجماهيرية التي نشهدها الآن أسوأ بكثير
من أي شيء تنبأ به ماركس. كتب ماركس عن الجيش الاحتياطي من العاطلين: أي مجموعة من
العمال الذين يمكن استخدامهم للحفاظ على انخفاض الأجور وبمثابة احتياطي عندما
يتعافى الاقتصاد من الركود. لكن هذا النوع من البطالة الذي نراه الآن ليس هو الجيش
الاحتياطي الذي تحدث عنه ماركس، والذي لعب من وجهة نظر الرأسمالية دورا مفيدا.
ليس هذا هو ذلك النوع من البطالة الدورية التي كان العمال يعرفونها
جيدا في الماضي، والتي ترتفع فقط في حالة الركود لتختفي عندما ينهض الاقتصاد مرة
أخرى. إنها بطالة دائمة وهيكلية وعضوية، ولا تتقلص بشكل ملحوظ حتى عندما يكون هناك
"ازدهار". إنها ثقل هائل يجثم بكلكله على النشاط الإنتاجي، وأحد
الدلائل على أن النظام قد وصل إلى طريق مسدود .
وفقا للأمم المتحدة، كان معدل البطالة العالمية، قبل عقد من اندلاع
أزمة عام 2008، يقارب 120 مليون عاطل. وبحلول عام 2009 رفعت منظمة العمل الدولية
الرقم إلى 198 مليون عاطل، وتوقعت أن يصل إلى 202 مليون في عام 2013. لكن حتى هذه
الأرقام، مثلها مثل جميع الإحصاءات الرسمية عن البطالة، لا تعكس بصدق حقيقة الوضع.
فإذا أضفنا العدد الهائل من الرجال والنساء المضطرين إلى العمل في
"الأعمال" الهامشية، فإن الرقم الحقيقي للبطالة وشبه العمالة في العالم
لن يكون أقل من مليار نسمة.
على الرغم من كل الحديث عن الانتعاش الاقتصادي، فإن النموالاقتصادي
في ألمانيا، أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، قد تباطأ إلى الصفر تقريبا، وكذلك هو
الحال في فرنسا. في اليابان أيضا يوشك الاقتصاد على التوقف. وبصرف النظر تماما عن
البؤس والمعاناة التي تتعرض لها ملايين الأسر، فإن هذا يمثل، من وجهة النظر
الاقتصادية، خسارة هائلة للإنتاج وتبذير على نطاق ضخم. وخلافا لأوهام قيادات
المنظمات العمالية في الماضي، فإن البطالة الجماهيرية قد عادت وانتشرت في جميع
أنحاء العالم مثل سرطان يلتهم أحشاء المجتمع.
للأزمة الرأسمالية أوخم الآثار بين أوساط الشباب. نسبة البطالة بين
الشباب ترتفع في كل مكان. هذا هو السبب وراء الاحتجاجات الطلابية الجماهيرية
وأعمال الشغب التي شهدتها بريطانيا، وحركة الساخطين (Los indignados) في
إسبانيا، وحركة احتلال المدارس في اليونان، وكذلك الثورة في تونس ومصر، حيث يعيش
نحو 75% من الشباب عاطلين عن العمل.
عدد العاطلين عن العمل في أوروبا في تزايد مستمر. يبلغ الرقم في
إسبانيا حوالي 27%، في حين تبلغ معدلات البطالة بين الشباب رقما لا يصدق: 55%،
بينما في اليونان ما لا يقل عن 62% من الشباب - إثنان من بين كل ثلاثة شباب-
عاطلون عن العمل. ويجري التضحية بجيل كامل من الشباب على
مذبح الربح. وقد وجد العديد من الذين بحثوا عن الخلاص في التعليم العالي أن هذا
الطريق مغلق. ففي بريطانيا، حيث كان التعليم العالي مجانيا، صار الشباب لكي يحصلوا
على المهارات التي يحتاجون إليها، مجبرين على اللجوء إلى الاقتراض.
في الطرف الآخر من مراحل العمر، يجد العمال الذين يقتربون من سن
التقاعد أنفسهم مجبرين على العمل لفترة أطول ودفع المزيد من أجل معاشات تقاعدية
أقل، يحكم على الكثير منهم بالفقر في سن الشيخوخة. إن الاحتمال الذي يواجهه اليوم
معظم الناس، صغارا وكبارا على حد سواء، هو حياة مفتقرة إلى الأمان. وقد انفضح كل
نفاق البرجوازية القديم حول الأخلاق والقيم العائلية باعتباره مجرد كلمات جوفاء.
إن وباء البطالة والتشرد والديون الثقيلة وعدم المساواة الاجتماعية الفاحشة التي
حولت جيلا كاملا إلى منبوذين، قد قوضت أركان الأسرة وخلقت كابوسا من الفقر واليأس
والانحطاط.
أزمة فائض الإنتاج
في الأساطير اليونانية كان هناك شخص يدعى بروكروستس (Procrustes) لديه عادة سيئة تتمثل في قطع ساقي ورأس وذراعي ضيوفه لجعلهم في حجم
سريره سيء السمعة. وفي الوقت الحاضر يشبه
النظام الرأسمالي سرير بروكروستس. إن البرجوازية تدمر بشكل منهجي وسائل الإنتاج من
أجل جعلها تنسجم مع الحدود الضيقة للنظام الرأسمالي. هذا التخريب الاقتصادي يشبه
سياسة الأرض المحروقة على نطاق واسع.
يشبه جورج سوروس هذا الواقع بكرة التحطيم المستخدمة في هدم المباني
العالية. لكن ليست وحدها المباني هي التي يتم تدميرها، بل كذلك اقتصادات ودول
بأكملها. شعار الساعة هو التقشف والاقتطاعات وضرب مستويات المعيشة. وفي كل البلدان
تطلق البرجوازية نفس صرخة الحرب: "يجب علينا أن نخفض الإنفاق العام!".
وكل حكومات العالم الرأسمالي، سواء اليمينية منها أو "اليسارية" تطبق في
الواقع نفس السياسة. ليس هذا نتيجة لأهواء السياسيين الفردية، أو الجهل أو سوء
النية (على الرغم من أن هناك الكثير من هذا أيضا)، بل هو التعبير الواضح عن المأزق
التام الذي يجد النظام الرأسمالي نفسه فيه.
هذا تعبير عن حقيقة أن النظام الرأسمالي قد وصل إلى أقصى حدوده
وصار غير قادر على تطوير القوى المنتجة كما كان يفعل في الماضي. وهو مثل ساحر غوته
المبتدئ، قد استدعى قوى لا يمكنه السيطرة عليها. لكن الرأسماليين إذ يعملون على
خفض نفقات الدولة، يتسببون في الوقت نفسه في خفض الطلب وتقليص السوق ككل، تماما في
نفس الوقت الذي يعترف فيه حتى الاقتصاديون البرجوازيون أن هناك مشكلة خطيرة تتمثل
في فائض الإنتاج على الصعيد العالمي. دعونا نأخذ مثالا واحدا فقط وهو قطاع
السيارات. إنه قطاع أساسي لأنه يرتبط بالعديد من القطاعات الأخرى، مثل الصلب
والبلاستيك والكيماويات والالكترونيات.
إن فائض الإنتاج العالمي في صناعة السيارات يقارب 30%. وهذا يعني
أنه في إمكان فورد وجنرال موتورز وفيات ورونو وتويوتا وجميع الشركات الآخرى، أن
تغلق ثلث مصانعها وتسرح ثلث العاملين فيها غدا، ومع ذلك لن تكون قادرة على بيع
جميع المركبات التي تنتجها مقابل ما يعتبرونه معدل ربح مقبول. نفس الوضع يوجد في
العديد من القطاعات الأخرى. ما لم يتم حل مشكلة الفائض هذه، وإلى أن يتم حلها، لن
تكون هناك أية نهاية حقيقية للأزمة الحالية.
يمكن التعبير بسهولة عن مشكلة الرأسماليين: إذا لم تستهلك أوروبا
والولايات المتحدة الأمريكية، لن يكون في إمكان الصين أن تنتج. وإذا لم تنتج الصين
بنفس الوتيرة كما كانت من قبل، فإن بلدانا مثل البرازيل والأرجنتين واستراليا لا
يمكنها أن تستمر في تصدير موادها الخام. والعالم بأسره مترابط بشكل لا انفصام له.
أزمة اليورو ستؤثر على الاقتصاد الأمريكي، والذي هو في حالة هشة للغاية، وما سيحدث
في الولايات المتحدة سيكون له تأثير حاسم على الاقتصاد العالمي بأسره. وبالتالي
فإن العولمة تعبر عن نفسها بكونها أزمة عالمية للرأسمالية .
استلاب
لقد توقع كاتبا البيان الشيوعي، ببصيرة مثيرة للإعجاب، الشروط التي
تعيشها الآن الطبقة العاملة في جميع البلدان.
«ومن جراء استعمال الآلات على نطاق واسع، وتقسيم العمل، فـقـد عمل
البروليتاريين كليا طابع استقلاله الذاتي، وبالتالي فـقـد كل جاذبية بالنسبة إلى
العمال. فالعامل أصبح مجرد ملحق بالآلة، لا يطلب منه سوى الحركة اليدوية الأكثر
بساطة ورتابة وسهولة وامتهانا. ومن تم، فإن ما يكلفه العامل يكاد يقتصر على كلفة
ما يلزمه للعيش، ولمواصلة نسله. وبالتالي فإنّ ثمن العامل شأن ثمن كل سلعة يُساوي
كلفة إنتاجه. إذن، كلما أصبح العمل منفرا، تدنى الأجر. وفضلا عن ذلك، بقدر ما يتسع
استعمال الآلة وتقسيم العمل، تشتد أيضا وطأة العمل، سواء من جرّاء زيادة ساعات
العمل، أومُضاعفة العمل المطلوب إنجازه في وقت معيّن أوتسريع حركة الآلة، الخ».
تحتل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم نفس الموقع الذي كانت
بريطانيا تحتله في زمن ماركس، أي البلد الرأسمالي الأكثر تقدما. وبالتالي يتم
التعبير عن الاتجاهات العامة للرأسمالية هناك بأوضح شكل. على مدى السنوات الثلاثين الماضية، نمت أجور الرؤساء التنفيذيين
للشركات في الولايات المتحدة بـ 725%، في حين ارتفعت أجور العاملين بنسبة 5,7% فقط. ويتقاضى هؤلاء المديرون التنفيذيون الآن ما معدله 244 مرة أكثر
مما يتقاضاه عمالهم. الحد الأدنى الاتحادي للأجور الحالي هو 7,25 دولار للساعة
الواحدة. ووفقا لمركز بحوث السياسات الاقتصادية، فإنه لو كان الحد الأدنى للأجور
قد واكب ارتفاع إنتاجية العمال، لكان قد بلغ 21,72 دولار في عام 2012. وإذا أخذنا
التضخم في الاعتبار نجد أن متوسط أجور العمال الأميركيين الذكور هي اليوم في
الواقع أقل مما كانت عليه في عام 1968. وهكذا فإن الازدهار
الحالي حدث إلى حد كبير على حساب الطبقة العاملة .
بينما يتم إرغام الملايين على العيش البائس بين براثن البطالة
القسرية، يضطر ملايين الأشخاص الآخرين إلى العمل في وظيفتين أو حتى ثلاث وظائف،
وغالبا ما يعملون 60 ساعة أو أكثر في الأسبوع، دون تعويض عن الساعات الإضافية.
85,8% من الذكور و66,5% من الإناث يعملون لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع. ووفقا لمنظمة
العمل الدولية يعمل «الأميركيون 137 ساعة في السنة أكثر من العمال اليابانيين و260
ساعة سنويا أكثر من العمال البريطانيين، و499 ساعة سنويا أكثر من العمال الفرنسيين».
استنادا إلى بيانات المكتب الامريكي لاحصاءات العمل، ارتفع متوسط
إنتاجية العامل الأمريكي بـ 400% منذ عام 1950. هذا يعني، من الناحية النظرية، أنه
لكي يحقق العامل نفس مستوى المعيشة، فعليه أن يعمل فقط ربع متوسط أسبوع العمل في
عام 1950، أو 11 ساعة في الأسبوع. إما هذا وإما أن مستوى المعيشة، من الناحية
النظرية، يجب أن يكون قد ارتفعت بأربع مرات. لكن على العكس من ذلك، فإن مستوى
المعيشة قد انخفض بشكل كبير بالنسبة للغالبية، في حين أن الإجهاد المرتبط بالعمل
والإصابات والمرض في تزايد. وينعكس هذا في انتشار حالات الاكتئاب والانتحار
والطلاق والاعتداء على الأطفال والزوجة، وحالات إطلاق النار وغيرها من الأمراض الاجتماعية
الأخرى.
يوجد نفس الوضع في بريطانيا، حيث تم في ظل حكومة تاتشر تدمير 2,5
مليون وظيفة في الصناعة، ورغم ذلك تم الحفاظ على نفس مستوى الإنتاج في عام 1979.
لقد تحقق هذا ليس من خلال إدخال آلات جديدة، بل من خلال الإفراط في استغلال العمال
البريطانيين. في عام 1995، حذر كينيث كالمان، المدير العام للصحة، من أن
"فقدان العمل قد تسبب في إطلاق العنان لوباء من الأمراض المرتبطة بالإجهاد".
الصراع الطبقي
أوضح ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي أن التاريخ المكتوب شاهد على
أن التطور الاجتماعي يتم من خلال الصراع الطبقي. وفي ظل الرأسمالية تم تبسيط ذلك
إلى حد كبير مع الاستقطاب داخل المجتمع إلى طبقتين متناحرتين كبيرتين: البرجوازية
والبروليتاريا. وقد أدى التطور الهائل في الصناعة والتكنولوجيا خلال القرنين
الماضيين إلى زيادة تركيز القوة الاقتصادية في أيدي قلة قليلة من الناس.
يقول البيان الشيوعي في أحد أشهر عباراته: "إن تاريخ كل مجتمع
موجود حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات". ولفترة طويلة بدا للكثير من الناس أن
هذه الفكرة قد عفى عليها الزمن. فخلال مرحلة طويلة من الازدهار الرأسمالي الذي
أعقب الحرب العالمية الثانية، مع تحقيق التشغيل الكامل في الاقتصاديات الصناعية
المتقدمة، وارتفاع مستويات المعيشة والإصلاحات (هل تتذكرون دولة الرفاه؟)، ظهر
فعلا وكأن الصراع الطبقي قد صار شيئا من الماضي .
تنبأ ماركس بأن تطور الرأسمالية من شأنه أن يؤدي حتما إلى تركيز
رأس المال وتراكم هائل للثروة في جهة، وتراكم مشابه للفقر والبؤس والكدح في الجهة
الأخرى من المجتمع. تعرضت هذه الفكرة، على مدى عقود، للتكذيب من قبل الاقتصاديين
وأساتذة علم الاجتماع البرجوازي بالجامعات، والذين أصروا على أن المجتمع أصبح أكثر
مساواة من أي وقت مضى، وأن الجميع صاروا الآن من الطبقة المتوسطة. إلا أن كل هذه
الأوهام قد تبددت الآن.
وقد اتضح أن الفكرة، التي طالما رددها علماء الاجتماع البرجوازيون،
القائلة بأن الطبقة العاملة لم تعد موجودة، مجرد كلام فارغ. فخلال الفترة الماضية
تعرضت فئات واسعة من الشغيلة، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم في السابق من الطبقة
الوسطى، للتبلتر [تحولوا إلى بروليتاريين - المترجم -]. وقد دخل المدرسون وموظفو
القطاع العام والعاملون في البنوك، الخ، إلى صفوف الطبقة العاملة والحركة
العمالية، حيث صاروا يشكلون إحدى الفئات الأكثر كفاحية.
لقد بينت الوقائع خطأ المزاعم القديمة حول أن الجميع يمكنه أن
يتقدم وأننا جميعا من الطبقة الوسطى. ففي بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما من
البلدان المتقدمة الأخرى كان العكس هو الذي حدث على مدى العشرين أو الثلاثين عاما
الماضية. كان أبناء الطبقة الوسطى يعتقدون أن الحياة تسير في خط تقدم منتظم حيث كل
مرحلة تشكل خطوة أعلى من سابقتها. لكن الحال لم يعد كذلك.
لم يعد الأمن الوظيفي موجودا واختفت حرف ومهن الماضي إلى حد كبير،
وصارت الوظائف مدى الحياة مجرد ذكريات. سلم الترقي الاجتماعي رمي بعيدا ولم يعد
الانتماء إلى الطبقة الوسطى طموحا بالنسبة لمعظم الناس. هناك أقلية ضئيلة فقط ممن
يمكنهم الاعتماد على معاش يحقق لهم العيش بشكل مريح، وقليل ممن لديهم ادخار.
يتزايد باستمرار عدد الناس الذين يعيشون يومهم بدون أي تصور عما قد يحمله المستقبل.
إذا كانت للناس أية ثروة فهي منازلهم، لكن مع الأزمة الاقتصادية
تراجعت أسعار المنازل في العديد من البلدان، ويمكن أن تعاني من الركود لسنوات.
انفضحت الفكرة حول ديمقراطية امتلاك العقارات باعتبارها مجرد سراب. وعوض أن يشكل
امتلاك منزل رصيدا للمساعدة في تمويل تقاعد مريح، أصبح عبئا ثقيلا. يجب أداء الرهن
العقاري، سواء كنت تمتلك عملا أم لا. العديد من الناس محاصرون في أسهم سلبية، مع
ديون ضخمة لا يمكنهم أبدا دفعها. هناك جيل متزايد ممن يمكن وصفهم بعبيد الديون.
هذه إدانة مطلقة للنظام الرأسمالي. ومع ذلك فإن عملية التبلتر هذه
تعني أن الاحتياطي الاجتماعي للردة الرجعية قد انخفض بشكل حاد مع اقتراب قسم كبير
من العمال ذوي الياقات البيضاء من صفوف الطبقة العاملة التقليدية. وفي التحركات
الجماهيرية الأخيرة، وقفت فئات لم يكن من الممكن في الماضي تصور خوضها للإضراب أو
حتى الانضمام إلى نقابة، مثل المدرسين وموظفي القطاع العام، في الخط الأمامي
للصراع الطبقي.
المثالية أو المادية؟
ينطلق الأسلوب المثالي مما يعتقده الناس ويقولونه عن أنفسهم. لكن
ماركس أوضح أن الأفكار لا تسقط من السماء، بل تعكس إلى هذا الحد أو ذاك من الدقة،
الشروط الموضوعية والضغوط الاجتماعية والتناقضات الخارجة عن سيطرة الناس. لكن
التاريخ لا يتطور نتيجة الإرادة الحرة أو الرغبات الواعية "للرجال
العظماء" أو الملوك أو السياسيين أو الفلاسفة. بل على العكس من ذلك، يتوقف
تقدم المجتمع على تطور القوى المنتجة، والذي ليس نتاجا للتخطيط الواعي للناس، بل
يتطور وراء ظهورهم.
لقد وضع ماركس الاشتراكية على أساس نظري صلب لأول مرة في التاريخ.
إن الفهم العلمي للتاريخ لا يمكن أن يقوم على الصور المشوهة للواقع التي تسبح مثل
أشباح باهتة في أذهان الناس، بل على أساس العلاقات الاجتماعية الحقيقية. وهذا يعني
البدء بتوضيح العلاقة بين الأشكال الاجتماعية والسياسية وأسلوب الإنتاج في مرحلة معينة
من التاريخ. هذا هو بالضبط ما يسمى بالطريقة المادية التاريخية في التحليل.
سوف يشعر بعض الناس بالغضب من هذه النظرية التي يبدو أنها تحرم
البشر من دور الفاعلين في العملية التاريخية. مثلما غضبت الكنيسة والفلاسفة
المدافعون عنها من تأكيدات غاليليو بأن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون. وفي وقت
لاحق هاجم نفس هؤلاء الأشخاص داروين بسبب قوله بأن البشر ليسو صنيعة يد الله، بل
نتاج الانتقاء الطبيعي .
في الواقع، لا تنكر الماركسية على الإطلاق أهمية العامل الذاتي في
التاريخ والدور الواعي للبشرية في تطور المجتمع. يصنع الناس التاريخ لكنهم لا
يفعلون ذلك باتفاق كامل مع إرادتهم الحرة ونواياهم الواعية. وبعبارة ماركس: «"التاريخ لا يفعل شيئا"، إنه "لا يمتلك
ثروة هائلة"، و"لا يخوض المعارك". إنهم البشر، البشر الحقيقيون هم
من يفعلون كل ذلك، هم من يملك ويتصارع؛ إن "التاريخ" لا يستعمل البشر
كوسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة، كما لو أنه شخص قائم بذاته؛ إن التاريخ ليس سوى نشاط
البشر الذين يتبعون أهدافهم». ( ماركس وإنجلز، العائلة المقدسة، الفصل السادس).
كل ما تفعله الماركسية هو شرح دور الفرد كعضو في مجتمع معين، حيث
يخضع لقوانين موضوعية معينة، وفي نهاية المطاف كممثل لمصالح طبقة معينة. ليس
للأفكار وجود مستقل ولا تطور تاريخي خاص بها. وقد كتب
ماركس في الإيديولوجيا الألمانية: "ليس الوعي هو الذي يحدد الواقع، بل الواقع
هو الذي يحدد الوعي".
أفكار الناس وممارساتهم مشروطة بالعلاقات الاجتماعية، والتي تطورها
لا يعتمد على الإرادة الشخصية للرجال والنساء، بل يحدث وفقا لقوانين محددة تعكس،
في آخر المطاف، حاجات تطور قوى الإنتاج. إن العلاقات المتبادلة بين هذه العوامل
تشكل شبكة معقدة غالبا ما تصعب رؤيتها. ودراسة هذه العلاقات هي أساس النظرية
الماركسية في التاريخ.
دعونا نذكر مثالا واحدا. في زمن الثورة الإنجليزية، كان أوليفر
كرومويل يعتقد بشدة أنه كان يقاتل من أجل حق كل فرد في أن يعبد الله حسب ضميره.
لكن مسيرة التاريخ أثبتت أن الثورة الكرومويلية كانت مرحلة حاسمة في صعود
البرجوازية الإنجليزية إلى السلطة. ولم تكن المرحلة الملموسة لتطور القوى المنتجة
في القرن 17 في انكلترا تسمح بأية نتيجة أخرى.
خاض قادة الثورة الفرنسية العظمى ما بين 1789 و1793 نضالهم تحت
شعار "الحرية والمساواة والإخاء". كانوا يؤمنون بأنهم يناضلون من أجل
نظام قائم على القوانين الأبدية للعدل والعقل. ومع ذلك، وبغض النظر عن نواياهم
وأفكارهم، كان اليعاقبة يمهدون الطريق لحكم البرجوازية في فرنسا. ومرة أخرى لم يكن
هناك، من وجهة النظر العلمية، أية نتيجة أخرى محتملة في تلك المرحلة من التطور
الاجتماعي.
من وجهة نظر الحركة العمالية كانت مساهمة ماركس العظيمة هي أنه كان
أول من شرح أن الاشتراكية ليست مجرد فكرة جيدة، بل إنها النتيجة الضرورية لتطور
المجتمع. حاول المفكرون الاشتراكيون قبل ماركس،
الاشتراكيون الطوباويون، اكتشاف قوانين وصيغ عامة من شأنها أن ترسي الأساس لانتصار
العقل البشري على ظلم المجتمع الطبقي. كل ما كان ينقص، من وجهة نظرهم، هو اكتشاف
هذه الفكرة لتحل كل المشاكل. هذا منهج مثالي.
على عكس المفكرين الطوباويين، لم يحاول ماركس أبدا اكتشاف قوانين
المجتمع بشكل عام. لقد حلل قانون حركة مجتمع محدد: هو المجتمع الرأسمالي، موضحا
كيف نشأ، وكيف تطور وأيضا كيف سيتوقف بالضرورة عن الوجود في لحظة معينة. لقد أنجز
هذه المهمة الضخمة في المجلدات الثلاثة من كتاب رأس المال .
ماركس وداروين
تشارلز داروين، الذي كان ماديا بالفطرة، شرح تطور الأنواع بكونه
نتيجة لتأثيرات البيئة الطبيعية. وشرح كارل ماركس تطور البشرية بتطور البيئة
"المصطنعة" التي نسميها المجتمع.
يكمن الفرق، من جهة، في الطبيعة الشديدة التعقيد للمجتمع البشري مقارنة مع البساطة
النسبية للطبيعة، وثانيا في التسارع الكبير لوتيرة التغيير في المجتمع بالمقارنة
مع الوتيرة البطيئة للغاية للتطور عن طريق الانتقاء.
على قاعدة من علاقات الانتاج الاجتماعية، أو بعبارة أخرى العلاقات
بين الطبقات الاجتماعية، تنشأ أشكال قانونية وسياسية معقدة مع انعكاساتها
الإيديولوجية والثقافية والدينية المتنوعة. ويطلق أحيانا على هذا الصرح المعقد من
الأشكال والأفكار إسم البنية الفوقية الاجتماعية. وعلى الرغم من أنها تستند دائما
على الأسس الاقتصادية، فإن البنية الفوقية ترتفع فوق القاعدة الاقتصادية وتؤثر
فيها، وأحيانا بطريقة حاسمة. هذه العلاقة الجدلية بين القاعدة والبنية الفوقية
معقدة للغاية ولا تكون دائما واضحة. لكن في آخر المطاف تعود القاعدة الاقتصادية
دائما لتكون العامل الحاسم.
علاقات الملكية هي ببساطة التعبير القانوني عن العلاقات بين
الطبقات. في البداية تساعد هذه العلاقات، جنبا إلى جنب مع تعبيرها القانوني
والسياسي، في تطوير القوى المنتجة. لكن تطور القوى المنتجة يميل إلى التمرد على
القيود التي تمثلها علاقات الملكية القائمة. حيث تصبح هذه الأخيرة عائقا أمام
تطوير الإنتاج. وهذه هي النقطة التي ندخل عندها مرحلة الثورة.
ينظر المثاليون إلى الوعي البشري باعتباره المحرك الرئيسي لجميع
ممارسات الإنسان، وبكونه القوة المحركة للتاريخ. لكن كل التاريخ يثبت عكس ذلك. إن الوعي البشري بشكل عام ليس تقدميا أوثوريا. إنه بطيء في
الاستجابة للظروف ومحافظ بشكل كبير. معظم الناس لا يحبون التغيير، ناهيك عن
التغيير الثوري. هذا الخوف الفطري من التغيير متجذر بشكل عميق في النفسية
الجماعية. إنه جزء من آلية دفاعية تجد جذورها في الماضي البعيد للجنس البشري.
وكقاعدة عامة يمكننا أن نقول إن المجتمع لا يقرر أبدا القيام بخطوة
إلى الأمام إلا إذا اضطر للقيام بذلك تحت ضغط الضرورة القصوى. وطالما كان من
الممكن للبشر أن يتدبروا أمورهم في الحياة على أساس الأفكار القديمة، وتكييفها
بصورة تدريجية مع واقع يتغير ببطء، فإنهم سيواصلون السير على طول نفس المسارات
المجربة. ومثل قوة القصور الذاتي في الميكانيكا، تشكل التقاليد والعادات الروتينية
عبئا ثقيلا جدا على الوعي البشري، وهو ما يعني أن الأفكار تميل دائما للتخلف عن
الأحداث. يتطلب الوضع ضربات مطرقة الأحداث العظيمة للتغلب على هذا الجمود وإجبار
الناس على التشكيك في المجتمع القائم والأفكار والقيم السائدة.
إن ما توضحه الثورة هو حقيقة أن التناقضات الاجتماعية الناجمة عن
الصراع بين التطور الاقتصادي وبين النظام القائم في المجتمع قد أصبحت تناحرية. لا
يمكن حل هذا التناقض المركزي إلا عن طريق الإطاحة الجذرية بالنظام القائم،
والاستعاضة عنه بعلاقات اجتماعية جديدة تجعل القاعدة الاقتصادية في وئام مع البنية
الفوقية.
في خضم الثورة تواجه الأسس الاقتصادية للمجتمع تحولا جذريا. عندها
تخضع البنية الفوقية القانونية والسياسية لعملية تغيير عميقة. وعندما تنضج علاقات
الإنتاج الجديدة الأرقى، بشكل جنيني في رحم المجتمع القديم، تطرح الحاجة الملحة
للانتقال إلى نظام اجتماعي جديد .
المادية التاريخية
تدرس الماركسية العوامل الرئيسية الخفية التي تكمن وراء تطور
المجتمع البشري، منذ المجتمعات القبلية الأولى حتى العصر الحديث. وتسمى الطريقة
التي تتبع بها الماركسية هذا الطريق المتعرج بالمفهوم المادي للتاريخ. تمكننا هذه
الطريقة العلمية من فهم التاريخ، ليس على شكل سلسلة من الحوادث غير المترابطة وغير
المتوقعة، وإنما كجزء من عملية مترابطة ومفهومة بشكل واضح. إنها سلسلة من الأفعال
وردود الأفعال التي تشمل السياسة والاقتصاد وكل مجالات التطور الاجتماعية. إن
اكتشاف العلاقة الجدلية المعقدة بين كل هذه الظواهر هي مهمة المادية التاريخية .
كتب المؤرخ الإنجليزي الكبير ومؤلف كتاب "تدهور وانهيار
الإمبراطورية الرومانية"، إدوارد جيبون، إن التاريخ "أكبر من أن يكون
مجرد سجل لجرائم وحماقات ومصائب البشرية". (جيبون: تدهور وانهيار
الإمبراطورية الرومانية، المجلد 1، ص 69). من حيث الجوهر لم يتقدم التفسير ما بعد
الحداثي للتاريخ خطوة واحدة منذ ذلك الحين. حيث ينظر إلى التاريخ باعتباره سلسلة
من "الحكايات" المنفصلة التي لا توجد بينها أية علاقة عضوية وليس لها أي
معنى منطقي. حيث لا يمكن أن يقال عن نظام اجتماعي واقتصادي إنه أفضل أو أسوأ من أي
نظام آخر، وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك أي حديث عن التقدم أو التراجع.
يبدو التاريخ هنا في جوهره بمثابة سلسلة بدون معنى من الأحداث أو
الصدف العشوائية التي لا يمكن تفسيرها. يبدو وكأنه لا تحكمه أية قوانين يمكننا
فهمها. وبالتالي فإن محاولة فهمه ستكون ممارسة لا طائل من وراءها. ومن بين تنويعات
هذا الموقف تلك الفكرة التي تحظى الآن بشعبية كبيرة في بعض الدوائر الأكاديمية،
والقائلة بأنه لا يوجد ما يمكن أن نعتبره شكلا أعلى أو أدنى من التطور الاجتماعي
والثقافي. يزعمون أنه لا يوجد شيء يمكن أن نعتبره تقدما، والذي يعتبرونه فكرة
قديمة من مخلفات القرن 19، عندما دافع عنه الليبراليون الفيكتوريون والاشتراكيون
الفابيون وكارل ماركس.
إن إنكار التقدم في التاريخ من سمات نفسية البرجوازية في مرحلة
الانحطاط الرأسمالي. إنه انعكاس صادق لحقيقة أن التقدم في ظل الرأسمالية قد وصل
بالفعل إلى أقصى حدوده وصار يهدد بالسير في الاتجاه المعاكس. إن البرجوازية
ومنظريها يرفضون بطبيعة الحال القبول بهذه الحقيقة. وهم، علاوة على ذلك، غير
قادرين بطبيعتهم على الاعتراف بها. سبق للينين ذات مرة أن قال "إن رجلا يقف
على حافة الهاوية هو رجل غير قادر على التفكير بالعقل". لكنهم يدركون بشكل
ملتبس حقيقة الوضع، ويحاولون إيجاد نوع من التبرير لمأزق نظامهم هذا من خلال إنكار
إمكانية التقدم تماما.
لقد تغلغلت الفكرة عميقا في وعيهم إلى درجة أنها نقلت إلى عالم
التطور غير البشري. فحتى المفكر اللامع ستيفن جاي غولد، الذي غيرت نظريته الجدلية
حول "التوازن المتقطع"[1] النظرة إلى التطور، قال إنه من الخطأ الحديث
عن التقدم من أدنى إلى أعلى في التطور، بحيث يجب أن توضع الميكروبات على نفس
المستوى مع البشر. صحيح أن جميع الكائنات الحية مرتبطة فيما بينها ( وقد أثبت
الجينوم البشري هذا بشكل قاطع). ليس البشر خلقا خاصا من
صنع الإله، بل نتيجة للتطور. كما أنه من غير الصحيح اعتبار التطور كنوع من التصميم
المسبق الكبير، الذي كانت الغاية منه خلق كائنات مثلنا (التليولوجيا (الغائية) كلمة يونانية تعني الغاية). لكن عند رفض
فكرة غير صحيحة ليس من الضروري أن نسقط في التطرف المقابل، مما يؤدي إلى أخطاء
جديدة.
ليست المسألة متعلقة بقبول نوع من الخطة المقررة سلفا سواء ما تعلق
بالتدخل الإلهي أو نوع من الغائية، لكن من الواضح أن قوانين التطور الكامنة في
الطبيعة تحدد في الواقع التقدم من أشكال بسيطة من الحياة إلى أشكال أكثر تعقيدا.
أشكال الحياة الأولى تحتوي بالفعل داخلها جنين كل التطورات المستقبلية. من الممكن
شرح تطور العينين والساقين وغيرها من الأعضاء الأخرى دون اللجوء إلى أية خطة مقررة
سلفا. في مرحلة معينة نحصل على تطور الجهاز العصبي المركزي والدماغ. وأخيرا وصلنا
مع الإنسان العاقل إلى الوعي البشري. لقد صارت المادة واعية بنفسها، وهي الثورة
التي لم تكن هناك ثورة أكثر أهمية منها منذ تطور المادة العضوية (الحياة) من
المادة غير العضوية.
لإرضاء نقادنا ينبغي علينا ربما شرح الفكرة من وجهة نظرنا. من دون
شك لو أن الميكروبات كانت قادرة على امتلاك وجهة نظر، لكانت ربما ستعبر عن
اعتراضها. لكننا بشر ويجب علينا بالضرورة أن نرى الأشياء من خلال العين البشرية.
ونحن نؤكد أن التطور يمثل في الواقع تقدم أشكال الحياة البسيطة نحو أشكال أكثر
تعقيدا وتنوعا، أو بعبارة أخرى التقدم من أشكال أدنى للحياة إلى أشكال أعلى. إن
الاعتراض على هذه الصيغة يبدو موقفا عبثيا نوعا ما، موقفا لا علميا. إن هذا القول
لا يحمل في طياته، بطبيعة الحال، أية إهانة للميكروبات، التي رغم كل شيء قد جاءت
قبلنا بوقت طويل، والتي قد تكون هي من سيضحك أخيرا، إذا لم تتم الإطاحة بالنظام
الرأسمالي.
القوة المحركة للتاريخ
في كتابه "نقد الاقتصاد السياسي" يفسر ماركس العلاقة بين
القوى المنتجة وبين "البنية الفوقية" على النحوالتالي:
«إن الناس خلال انتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة
ضرورية ومستقلة عن ارادتهم؛ علاقات انتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم
المادية الانتاجية. إن مجموع علاقات الانتاج هذه تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع
والاساس المادي الملموس الذي يقوم عليه الاساس الفوقي القانوني والسياسي والذي
ترتبط به أشكال الوعي الاجتماعي المحددة، إن نمط الانتاج المادي هو الذي يحدد
ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس
وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما العكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم».
وكما أكد ماركس مرارا فإن المساهمين في صنع التاريخ قد لا يكونون
دائما على بينة من الدوافع التي تحركهم، ويسعون بدلا من ذلك إلى تفسيرها بطريقة أو
بأخرى، لكن تلك الدوافع موجودة ولها أساس في العالم الحقيقي.
وبالضبط مثلما شرح تشارلز داروين بأن الأنواع ليست ثابتة، وأنها
تمتلك ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وتتغير وتتطور، فإن ماركس وإنجلز شرحا بأن أي نظام
اجتماعي معين هو ليس شيئا ثابتا إلى الأبد. الثبات هو وهم كل عصر. فكل نظام
اجتماعي يعتقد أنه يمثل الشكل الوحيد الممكن لحياة بني البشر، وأن مؤسساته ودينه وأخلاقه
هي أحسن ما يمكن أن يوجد.
هذا هو ما كان أكلة لحوم البشر والكهنة المصريون وماري أنطوانيت
والقيصر نيكولاس يعتقدونه بكل ثقة. وهذا هو ما ترغب البرجوازية والمدافعون عنها
اليوم في إظهاره عندما يؤكدون لنا، دون أي أساس علمي، بأن ما يسمى بنظام
"الاقتصاد الحر" هو النظام الوحيد الممكن، بالضبط في الوقت الذي بدأ فيه
يحتضر.
في الوقت الحاضر صارت فكرة "التطور" مقبولة عموما على
الأقل بين الأشخاص المتعلمين. وأفكار داروين، التي كانت
ثورية جدا في عصره، صارت تقبل كأفكار بديهية تقريبا. ومع ذلك فإن التطور يفهم
عموما باعتباره عملية بطيئة وتدريجية دون انقطاع أو اضطرابات عنيفة. وفي السياسة
كثيرا ما يستخدم هذا النوع من الحجج لتبرير النزعة الإصلاحية. لكنها للأسف تقوم
على سوء فهم.
إن الآلية الحقيقية للتطور ما تزال حتى اليوم كتابا مغلقا بالنسبة
للكثير من الناس. وهذا ليس مستغربا بالنظر إلى أن داروين نفسه لم يفهمها. فقط في
العقد الأخير أو نحوه ومع الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات التي قام بها ستيفن
جاي غولد، الذي اكتشف نظرية التوازن المتقطع، حيث ثبت أن التطور ليس سيرورة
تدريجية. فهناك فترات طويلة لا يلاحظ خلالها حدوث تغييرات كبيرة، لكن وفي لحظة
معينة ينكسر خط التطور بانفجار، بثورة بيولوجية حقيقية تتميز بانقراض جماعي لبعض
الأنواع وارتقاء سريع للأنواع أخرى.
إن التشبيه بين المجتمع والطبيعة هو، بطبيعة الحال، تقريبي فقط.
لكن حتى أكثر الدراسات سطحية للتاريخ تدل على أن التفسير التدريجي لا أساس له من
الصحة. فالمجتمع، مثل الطبيعة، يعرف فترات طويلة
من التغير البطيء والتدريجي، لكن حتى هنا أيضا ينقطع الخط بتطورات انفجارية:
الحروب والثورات، حيث تتسارع سيرورة التغير بشكل كبير. في الحقيقة هذه الأحداث هي
التي تشكل القوة المحركة الرئيسية للتطور التاريخي. والسبب الرئيسي للثورة هو
حقيقة أن النظام الاجتماعي والاقتصادي قد وصل إلى حدوده وصار غير قادر على تطوير
القوى المنتجة كما كان من قبل .
نظرة دينامية للتاريخ
إن أولئك الذين ينكرون وجود أية قوانين تحكم تطور المجتمعات
البشرية ينظرون جميعهم إلى التاريخ من وجهة نظر ذاتية وأخلاقية. ومثلهم مثل جيبون
(لكن دون أن يمتلكوا موهبته الاستثنائية) يهزون رؤوسهم أمام المشهد المتواصل للعنف
الذي لا معنى له ووحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان وهلم جرا. وبدلا من النظرة
العلمية للتاريخ نحصل على وجهة نظر كهنوتية. لكن المطلوب ليس المواعظ الأخلاقية بل
النظرة العقلانية. إذ يجب تجاوز الحقائق المعزولة وتفسير الاتجاهات العامة وكيفية
الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر، واكتشاف القوى المحركة الجوهرية التي تحدد هذه
التحولات.
من خلال تطبيق الطريقة المادية الجدلية على التاريخ يتضح على الفور
أن تاريخ البشرية لديه قوانينه الخاصة، وأنه، بالتالي، من الممكن فهمه كسيرورة.
يمكن تفسير صعود وسقوط مختلف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية، من وجهة النظر
العلمية، بقدرتها أو عدم قدرتها على تطوير وسائل الإنتاج، وبالتالي دفع آفاق
الثقافة الإنسانية إلى الأمام وزيادة هيمنة الجنس البشري على الطبيعة.
معظم الناس يعتقدون أن المجتمع دائم الثبات، وأن قيمه الأخلاقية
والدينية والأيديولوجية، إلى جانب ما نسميه "الطبيعة البشرية"، غير
قابلة للتغيير. لكن معرفة ولو بسيطة بالتاريخ تظهر أن هذا غير صحيح. يتجلى التاريخ من خلال صعود وسقوط مختلف النظم الاجتماعية
والاقتصادية. والمجتمعات مثلها مثل الإنسان، تولد وتتطور وتصل إلى حدودها، وتدخل
في مرحلة الانحطاط ومن تم يتم استبدالها أخيرا بتشكيلة اجتماعية جديدة .
تتحدد جدوى نظام اجتماعي واقتصادي معين، في أخر المطاف، بمدى قدرته
على تطوير القوى المنتجة، لأن كل شيء آخر يعتمد على
ذلك. وتدخل العديد من العوامل الأخرى في المعادلة المعقدة: الدين والسياسة
والفلسفة والأخلاق ونفسية مختلف الطبقات والصفات الفردية للقادة. لكن هذه الأشياء
لا تسقط من الغيوم، وسيظهر التحليل الدقيق أنها تتحدد - وإن بطريقة متناقضة وجدلية
- من طرف البيئة التاريخية الواقعية، ومن طرف الميولات والسيرورات المستقلة عن
إرادة الناس.
إن نظرة مجتمع في مرحلة صعود، ويعمل على تطوير وسائل الإنتاج ويدفع
آفاق الثقافة والحضارة إلى الأمام، تختلف جدا عن نفسية مجتمع في حالة من الركود
والانحطاط. إن السياق التاريخي العام يحدد كل شيء. إنه يؤثر على المناخ الأخلاقي
السائد، وموقف الناس تجاه المؤسسات السياسية والدينية القائمة. بل إنه يؤثر حتى
على نوعية القادة السياسيين.
كانت الرأسمالية خلال مرحلة شبابها قادرة على إنجاز مآثر ضخمة. لقد
طورت القوى المنتجة إلى درجة لم يسبق لها مثيل، وكانت بالتالي قادرة على توسيع
حدود الحضارة الإنسانية. شعر الناس أن المجتمع يتقدم، على الرغم من كل الظلم
والاستغلال اللذين ميزا هذا النظام دائما. أدى هذا الشعور إلى تنامي روح التفاؤل
والتقدم التي كانت ميزة الليبرالية القديمة، مع الاقتناع الراسخ بأن اليوم أفضل من
الأمس وأن الغد سوف يكون أفضل من اليوم .
لكن الآن لم يعد الحال كذلك. فقد تم استبدال روح التفاؤل القديمة
والإيمان الأعمى بالتقدم، بشعور عميق بالاستياء من الحاضر والتشاؤم من المستقبل.
هذا الشعور العام بالخوف وانعدام الأمن ليس سوى انعكاس نفسي لحقيقة أن الرأسمالية
لم تعد قادرة على لعب أي دور تقدمي في أي مكان.
خلال القرن 19، كانت الليبرالية، التي تمثل الأيديولوجية الرئيسية
للبرجوازية، تدافع (نظريا) عن التقدم والديمقراطية. لكن الليبرالية الجديدة
بالمعنى الحديث ليست سوى قناع يغطي الوجه القبيح للاستغلال الجشع واستنزاف الكوكب
وتدمير البيئة دون أدنى اهتمام بمصير الأجيال القادمة. إن الهم الوحيد لمجالس
إدارة الشركات الكبرى، التي تعتبر مراكز القرار الحقيقية في الولايات المتحدة
الأمريكية والعالم بأسره، هو الربح ومراكمة الثروات من خلال النهب: نهب الأصول
والفساد وسرقة المال العام من خلال الخصخصة والطفيلية: هذه هي الملامح الرئيسية
للبرجوازية في مرحلة احتضارها.
نهوض المجتمعات وسقوطها
«الانتقال من نظام إلى آخر يتحدد دائما بنمو القوى المنتجة، أي
التقنية وتنظيم العمل. والتغيرات الاجتماعية هي إلى درجة معينة كمية في طبيعتها
ولا تغير أسس المجتمع، أي الأشكال السائدة للملكية. لكن عند بلوغ نقطة لا يمكن
بعدها للقوى المنتجة الناضجة أن تحصر نفسها ضمن حدود الأشكال القديمة للملكية،
يتبع ذلك تغيير جذري في النظام الاجتماعي، وما يصحب ذلك من صدمات.» (ليون تروتسكي،
الماركسية في عصرنا، أبريل 1939 ).
الحجة الشائعة ضد الاشتراكية هي أنه من المستحيل تغيير الطبيعة
البشرية؛ فالناس بطبيعتهم أنانيون وجشعون وهلم جرا. في الواقع ليست هناك طبيعة
بشرية فوق التاريخ. فما نعتبرها طبيعة إنسانية قد شهدت العديد من التغييرات في
مسار تطور الإنسان. إن البشر يغيرون باستمرار الطبيعة بواسطة العمل، وعند قيامهم
بذلك، يغيرون أنفسهم. أما بالنسبة للحجة القائلة بأن الناس بطبعهم أنانيون وجشعون،
فإن وقائع التطور البشري تدحضها.
[..]
كان أقرب أجدادنا، والذين لم يكونوا قد صاروا بعد إنسانا، كائنات صغيرة
الحجم وضعيفة جسديا مقارنة مع غيرها من الحيوانات. لم يكن لديهم أسنان قوية
أومخالب. بنيتهم المستقيمة كانت تعني أنهم لا يستطيعون الجري بسرعة كافية للقبض
على الظباء التي كانوا يرغبون في أكلها، أوللهروب من الأسد الذي يريد أكلهم. وكان
حجم دماغهم يقارب حجم دماغ الشمبانزي. وخلال تجولهم في السافانا في شرق أفريقيا،
كانوا في وضع أسوأ من كل الأنواع الأخرى، ما عدا في جانب أساسي واحد.
شرح إنجلز في مقالته الرائعة "دور العمل في تحول القرد إلى
إنسان" كيف أن الوقوف باستقامة حرر اليدين (اللتان كانتا قد تطورتا في الأصل بالتكيف
لتسلق الأشجار) للقيام بأغراض أخرى. وقد شكل إنتاج الأدوات الحجرية نقلة نوعية،
مما أعطى لأجدادنا ميزة تطورية. لكن الأكثر أهمية من ذلك كان هو الشعور القوي
بالجماعة والإنتاج الجماعي والحياة الاجتماعية، والتي ارتبطت بدورها بشكل وثيق
بتطوير اللغة.
إن الضعف الشديد لأطفال الإنسان مقارنة مع صغار الأنواع الأخرى كان
يعني أنه على أسلافنا، والذين أجبرتهم حياة القنص والالتقاط على الانتقال من مكان
إلى آخر بحثا عن الطعام، تطوير شعور قوي بالتضامن لحماية أبنائهم وبالتالي ضمان
بقاء القبيلة أو العشيرة. يمكننا القول بيقين مطلق إنه بدون هذا الاحساس القوي
بالتعاون والتضامن، كان جنسنا سينقرض قبل أن يولد حتى .
نحن نرى ذلك حتى اليوم. إذا ما كان هناك طفل يغرق في النهر معظم
الناس سيحاولون إنقاذه حتى ولو وضعوا حياتهم في خطر. وقد غرق كثير من الناس أثناء
محاولتهم إنقاذ الآخرين. لا يمكن تفسير هذا بحسابات الأنانية أو علاقات الدم في
مجموعة قبلية صغيرة. إن الناس الذين يتصرفون بهذه الطريقة لا يعرفون هؤلاء الذين
يحاولون إنقاذهم، ولا هم يتوقعون أية مكافأة مقابل ما فعلوه. إن هذا السلوك
الإيثاري عفوي جدا ويأتي من غريزة تضرب بجذورها عميقا في لاوعينا هي غريزة
التضامن. إن الزعم القائل بأن الناس أنانيون بطبيعتهم، والذي هو انعكاس للاغتراب
القبيح واللاإنساني المرتبط بالمجتمع الرأسمالي، هو إهانة للجنس البشري.
طيلة جزء كبير من تاريخ جنسنا البشري عاش الناس في مجتمعات حيث لا
وجود للملكية الخاصة، بالمعنى الحديث للكلمة. لم يكن هناك مال ولا أرباب عمل وعمال
ولا أصحاب الأبناك وأصحاب العقارات ولا دولة ولا دين منظم ولا بوليس ولا سجون. حتى
الأسرة، بالمعنى الذي نفهمه الآن للكلمة، لم تكن موجودة. يجد العديد من الناس
اليوم صعوبة في تصور العالم دون هذه الأشياء، والتي تبدو بديهية جدا. لكن أسلافنا
تمكنوا من تدبير أمورهم جيدا بدونها.
شكل الانتقال من القنص والالتقاط إلى الزراعة المستقرة والرعي أول
ثورة اجتماعية كبيرة، أطلق عليها عالم الآثار (الماركسي) الأسترالي الكبير جوردون
تشايلد إسم الثورة النيوليتيكية. الزراعة تحتاج الماء. لكن بمجرد ما تتجاوز الحد
الأدنى للإنتاج على مستوى الكفاف، تتطلب الري وحفر الآبار وبناء السدود وتوزيع
المياه على نطاق كبير. وهذه مهام مجتمعية.
يحتاج الري واسع النطاق إلى تنظيم على مستوى واسع. إنه يتطلب نشر
أعداد كبيرة من العمال ومستوى عال من التنظيم والانضباط. تطور تقسيم العمل، الذي
كان موجودا بالفعل في شكل جنيني في التقسيم الأولي للعمل بين الجنسين الناتج عن
متطلبات الولادة وتربية الأطفال، إلى مستوى أعلى. العمل الجماعي يحتاج إلى قادة
وملاحظين ومشرفين، وما إلى ذلك، وجيش من المسؤولين للإشراف على الخطة.
التعاون على مثل هذا النطاق الواسع يتطلب التخطيط، وممارسة العلوم
والتقنية. يتجاوز هذا قدرات المجموعات الصغيرة المنظمة في العشائر التي شكلت نواة
المجتمع القديم. أدت الحاجة إلى تنظيم وتعبئة أعداد كبيرة من العمال إلى نشوء
الدولة المركزية، جنبا إلى جنب مع الإدارة المركزية والجيش كما كان الحال في مصر
وبلاد ما بين النهرين.
كان قياس الوقت وتحديد المكاييل عناصر أساسية للإنتاج، وكانت
بدورها قوى إنتاج. لذلك أرجع هيرودوت بدايات الهندسة في مصر إلى ضرورة إعادة قياس
الأرض التي غمرتها المياه على أساس سنوي. وكلمة geometry (هندسة)
في حد ذاتها تعني حرفيا قياس الأرض.
مكنت دراسة السماء والفلك والرياضيات الكهنة المصريين من التنبؤ
بأوقات فيضان النيل، الخ. وهكذا فإن العلم نشأ من الضرورة الاقتصادية. في كتابه
الميتافيزيقيا كتب أرسطو: "يبدأ الإنسان في التفلسف عندما تتوفر له ضروريات
الحياة". (الميتافيزيقيا، I. 2). هذا القول الذي قيل قبل كارل ماركس بـ 2300 سنة يتفق تماما مع
المادية التاريخية.
في قلب هذا الانقسام إلى أغنياء وفقراء، حكام ومحكومين، متعلمين
وجهلة، وُجد الانقسام بين العمل الفكري والعمل اليدوي. رئيس العمال هو عادة معفيّ
من العمل اليدوي الذي صار الآن يعتبر عارا. يتحدث الإنجيل عن "الحطابين
والسقائين"، الجماهير المحرومة من الثقافة التي وضعت تحت عباءة من الغموض
والسحر، وكانت أسرارها محروسة بعناية من طرف فئة الكهنة والكتبة الذين كانوا
يحتكرونها.
نحن نرى هنا بالفعل الخطوط العريضة لمجتمع طبقي، انقسام المجتمع
إلى طبقات: المستغِلين وأشباه المستغِلين. في أي مجتمع حيث تكون الفنون والعلوم
والسلطة حكرا على الأقلية، سوف تستغل تلك الأقلية موقعها لمصالحها الخاصة. هذا هو
السر الأساس للمجتمع الطبقي، وقد بقي كذلك على مدى الاثنى عشر ألف سنة الماضية.
خلال كل هذا الوقت حدثت العديد من التغييرات الأساسية في أشكال
الحياة الاقتصادية والاجتماعية. لكن العلاقات الأساسية بين الحكام والمحكومين،
الأغنياء والفقراء، المستغِلين والمستغَلين بقيت على حالها. وبنفس الطريقة ظلت
الدولة على ما كانت عليه دائما، على الرغم من أن أشكال الحكم شهدت تغييرات كثيرة،
أي ظلت أداة للقمع وتعبيرا عن السيادة الطبقية.
صعود وانهيار المجتمع العبودي في أوروبا أعقبه صعود النظام
الإقطاعي، والذي بدوره استبدل بالرأسمالية. إن صعود البرجوازية، والذي بدأ في
بلدات ومدن إيطاليا وهولندا، وصل مرحلة حاسمة مع الثورات البرجوازية في هولندا
وانكلترا خلال القرنين 16 و17، والثورة الفرنسية العظمى ما بين 1789 و1793. كل هذه
التغييرات رافقتها تحولات عميقة في الثقافة والفن والأدب والدين والفلسفة.
الدولة
إن الدولة هي قوة قمعية خاصة تقف فوق المجتمع وتعزل نفسها عنه على
نحو متزايد. لهذه القوة جذورها في الماضي البعيد. لكن أصول الدولة مع ذلك تختلف
وفقا للظروف. فعند الألمان والهنود الحمر نشأت من فرق الحرب التي تجمعت حول شخص
زعيم الحرب. هذا هو الحال أيضا مع اليونانيين، كما نرى في قصائد ملحمة هوميروس.
في الأصل تمتع زعماء القبائل بالسلطة بفضل شجاعتهم وحكمتهم وصفاتهم
الشخصية الأخرى. أما اليوم فليس لسيادة الطبقة الحاكمة أية علاقة بالصفات الشخصية
للقادة مثلما كان عليه الحال في ظل البربرية. إن هذه السيادة تجد جذورها في
العلاقات الاجتماعية والإنتاجية الموضوعية وقوة المال. صفات الحاكم الفرد قد تكون
جيدة أو سيئة، لكن ذلك ليس مهما.
الأشكال المبكرة للمجتمع الطبقي أظهرت بالفعل الدولة كوحش يلتهم
كميات هائلة من العمل ويقمع الجماهير ويحرمهم من جميع الحقوق. وفي نفس الوقت فإنها
من خلال تطوير تقسيم العمل وتنظيم المجتمع ودفع التعاون إلى مستوى أعلى بكثير من
أي وقت مضى، مكنت من تعبئة كمية كبيرة من قوة العمل وبالتالي رفع إنتاجية العمل
البشري لمستويات غير مسبوقة.
في الأساس كان كل هذا يقوم على عمل جماهير الفلاحين. كانت الدولة
في حاجة إلى عدد كبير من الفلاحين لدفع الضرائب وأعمال السخرة وهما الركيزتان
اللتان قام عليهما المجتمع. كل من يسيطر على نظام الإنتاج هذا يسيطر على السلطة
والدولة. تمتد جذور نشأة الدولة في علاقات الإنتاج وليس في الصفات الشخصية. كانت
سلطة الدولة في مثل هذه المجتمعات مركزية بالضرورة وبيروقراطية. في الأصل كان لها
طابع ديني وكانت مختلطة بقوة طائفة الكهنة. وفي قمتها كان يوجد الملك الاله، وتحت
إمرته جيش من المسؤولين والموظفين والكتبة والمشرفين، الخ. الكتابة نفسها أحيطت بستار من الرهبة باعتبارها فنا غامضا لم يكن
يعرفه سوى عدد قليل من الناس.
وهكذا فمنذ البداية أحيطت أجهزة الدولة بالغموض. وظهرت العلاقات
الاجتماعية الواقعية بشكل مغترب. وما يزال الحال كذلك حتى الآن. في بريطانيا يتم
زرع هذا الغموض عمدا خلال الحفلات ومظاهر الأبهة والتقاليد. وفي الولايات المتحدة
يزرع من قبل وسائل أخرى: تعظيم شخص الرئيس، الذي يجسد سلطة الدولة في ذاته. لكن
رغم كل ذلك فإن كل أشكال الدولة ليست في جوهرها سوى أداة لسيطرة طبقة واحدة على
بقية المجتمع. وحتى في شكلها الأكثر ديمقراطية، ليست سوى ديكتاتورية طبقة واحدة -
الطبقة السائدة - أي تلك الطبقة التي تملك وتسيطر على وسائل الإنتاج .
الدولة الحديثة وحش بيروقراطي يلتهم كميات هائلة من الثروة التي
تنتجها الطبقة العاملة. يتفق الماركسيون مع
اللاسلطويين في أن الدولة أداة وحشية للقمع يجب القضاء عليها. لكن السؤال هو: كيف
يمكن القضاء عليها؟ وعلى يد من؟ وماذا سوف يحل محلها؟ هذا سؤال أساسي لأية ثورة.
في كلمة ألقاها عن اللاسلطوية، خلال الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة الروسية، لخص
تروتسكي جيدا الموقف الماركسي من الدولة قائلا:
«تقول البرجوازية: لا تلمسوا سلطة الدولة، إنها امتياز وراثي مقدس
للطبقات المتعلمة. بينما يقول اللاسلطويون: لا تلمسوها، إنها اختراع جهنمي، جهاز
شيطاني، ليس لديكم حاجة به. تقول البرجوازية: لا تلمسوها، إنها مقدسة. ويقول
اللاسلطويون: لا تلمسوها، إنها شر. لكن كلاهما يقول: لا تلمسوها. إلا أننا نقول:
لا تكتفوا فقط بلمسها، بل خذوها بين أيديكم، واجعلوها تعمل لصالحكم، من أجل إلغاء
الملكية الخاصة وانعتاق الطبقة العاملة». (ليون تروتسكي، How
The Revolution Armed، المجلد 1، 1918، [الطبعة الانجليزية –م-])
تشرح الماركسية أن الدولة تتكون في نهاية المطاف من هيئات من
الرجال المسلحين: الجيش والشرطة والمحاكم والسجون. وضد أفكار اللاسلطويين الخاطئة
أكد ماركس أن العمال بحاجة إلى دولة للتغلب على مقاومة الطبقات المستغِلة. لكن
فكرة ماركس هذه تعرضت للتشويه من قبل كل من البرجوازية واللاسلطويين. تحدث ماركس
عن "ديكتاتورية البروليتاريا"، والذي هو مجرد مصطلح أدق علميا لـ
"السلطة السياسية للطبقة العاملة".
في الوقت الحاضر صارت لكلمة "ديكتاتورية" دلالات لم تكن
معروفة لماركس. ففي عصر شهد جرائم هتلر وستالين المروعة، صارت الكلمة تشير إلى
كوابيس وحش شمولي ومعسكرات الاعتقال والشرطة السرية. لكن مثل هذه الأمور لم تكن
موجودة حتى في الخيال في أيام ماركس. لقد استمد كلمة الدكتاتورية من الجمهورية الرومانية،
حيث كانت تعني وضعا يكون في زمن الحرب، حيث تتم إزاحة القواعد العادية جانبا لفترة
مؤقتة.
الدكتاتور الروماني ("الفرد الذي يحكم")، كان قاضيا
استثنائيا
(magistratus extraordinarius ) بسلطة مطلقة لتنفيذ مهام
خارج السلطة العادية للقاضي. كانت المهمة تسمى في البداية Magister Populi (حاكم
الشعب)، أي حاكم الجيش الوطني. وبعبارة أخرى، كان دورا عسكريا ينطوي دائما تقريبا
على قيادة الجيش في الميدان. بمجرد ما تنتهي فترة تعيينه يتنحى الديكتاتور. إن فكرة دكتاتورية استبدادية مثل تلك التي ظهرت في روسيا تحت
ستالين، حيث تقمع الدولة الطبقة العاملة لمصلحة فئة متميزة من البيروقراطيين، كانت
سترعب ماركس
.
كان تصور كارل ماركس للدكتاتورية مختلفا بشكل تام عن ذلك. لقد
استند ماركس في تصوره لدكتاتورية البروليتاريا على تجربة كومونة باريس عام 1871. هناك، وللمرة الأولى في التاريخ، تمكنت الجماهير الشعبية، بقيادة
العمال، من الإطاحة بالدولة القديمة، وبدأت مهمة تحويل المجتمع. بدون خطة واضحة
المعالم للعمل، ولا قيادة أو منظمة، أبانت الجماهير عن درجة مذهلة من الشجاعة
والمبادرة والإبداع. وعند تلخيصهما لدروس تجربة
كومونة باريس أوضح ماركس وإنجلز أن: «لقد أثبتت الكومونة شيئا واحدا على وجه
الخصوص وهو أن الطبقة العاملة لا تستطيع ببساطة أن تستولي على آلة الدولة الجاهزة
وتسخرها لخدمة أهدافها الخاصة...» (مقدمة لطبعة 1872 الألمانية للبيان الشيوعي).
إن الانتقال إلى الاشتراكية، التي هي شكل أعلى من أشكال المجتمع
يقوم على الديمقراطية الحقيقية والوفرة للجميع، لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق
المشاركة النشطة والواعية للطبقة العاملة في إدارة المجتمع والصناعة والدولة. إنها
ليست شيئا يقدم عن طيب خاطر للعمال من قبل الرأسماليين أو بيروقراطيين طيبي القلب.
في ظل لينين وتروتسكي شيدت الدولة السوفيتية من أجل تسهيل إنخراط
العمال في مهام المراقبة والمحاسبة، لضمان التقدم المتواصل نحو التقليص من
"الوظائف المتميزة" في الدولة. وضعت قيود صارمة على الأجور والسلطات
وامتيازات المسؤولين من أجل منع تشكل فئة متميزة.
الدولة العمالية التي أنشأتها الثورة البلشفية عام 1917 لم تكن
بيروقراطية ولا شمولية. بل على العكس من ذلك، كانت
تلك الدولة، قبل أن تنتزع البيروقراطية الستالينية السلطة من أيدي الجماهير،
الدولة الأكثر ديمقراطية في التاريخ. إن المبادئ الأساسية للسلطة السوفيتية لم
يخترعها ماركس أو لينين. لقد استندا إلى التجربة الملموسة لكومونة باريس، والتي
طورها لينين في وقت لاحق.
كان لينين العدو اللدود للبيروقراطية. لقد أكد دائما أن البروليتاريا
بحاجة فقط إلى دولة "ستبدأ فورا في الاضمحلال ولا يمكنها إلا أن تضمحل".
ليست للدولة العمالية الحقيقية أية علاقة مع الوحش البيروقراطي الذي يوجد اليوم،
فبالأحرى مع ذلك الوحش الذي كان موجودا في روسيا الستالينية. لقد تم تعيين الشروط
الأساسية للديمقراطية العمالية في واحد من أهم أعمال لينين: كتاب الدولة والثورة:
1. انتخابات حرة وديمقراطية مع الحق في عزل جميع المسؤولين.
2. ليس من حق أي مسؤول الحصول على أجر أعلى من أجر عامل مؤهل.
3. لا جيش دائم أو بوليس دائم، بل الشعب المسلح.
4. تدريجيا يتم إنجاز جميع المهام الإدارية بالتناوب من قبل الجميع.
«يجب أن يكون كل طباخ قادرا على أن يكون رئيسا للوزراء، وعندما يصير الجميع
"بيروقراطيا" بالتناوب، لا أحد يمكنه أن يكون بيروقراطيا».
كانت هذه الشروط التي وضعها لينين، ليس من أجل المجتمع الاشتراكي
الناجز ولا من أجل الشيوعية، بل للمرحلة الأولى للدولة العمالية، مرحلة الانتقال
من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
كانت سوفييتات ممثلي العمال والجنود مجالس تتكون ليس من السياسيين
والبيروقراطيين المحترفين، بل من العمال والفلاحين والجنود العاديين. لم تكن قوة
مفصولة تقف فوق المجتمع، بل كانت دولة تقوم على أساس المبادرة المباشرة للشعب من
أسفل. وقوانينها لم تكن مثل القوانين التي تسن من قبل الدولة الرأسمالية. لقد كانت
نوعا من السلطة مختلفة تماما عن تلك الموجودة عموما في الجمهوريات البرجوازية
الديمقراطية البرلمانية، من قبيل تلك التي ما تزال سائدة في البلدان المتقدمة في
أوروبا وأمريكا. كانت تلك الدولة من نفس نوع كومونة باريس عام 1871.
صحيح أنه في ظروف التخلف المروعة والفقر والأمية، لم تكن الطبقة
العاملة الروسية قادرة على الاحتفاظ بالسلطة التي استولت عليها. عانت الثورة من
سيرورة انحطاط بيروقراطي أدى إلى صعود الستالينية. وخلافا لأكاذيب المؤرخين
البرجوازيين، لم تكن الستالينية نتاجا للبلشفية بل ألد عدو لها. علاقة ستالين
بماركس ولينين هي تقريبا مثل علاقة نابليون باليعاقبة أو علاقة البابا بالمسيحيين
الأوائل.
في الواقع لم يكن الاتحاد السوفياتي في بدايته الأولى دولة بالمعنى
العادي للكلمة، بل كان فقط التعبير المنظم للسلطة الثورية للشعب العامل. وباستعمال
عبارة ماركس نقول: كان "شبه دولة"، دولة مصممة بالضبط لكي تضمحل في
نهاية المطاف وتذوب في المجتمع، وتفسح المجال للإدارة الجماعية للمجتمع لصالح الجميع،
دون عنف أو إكراه. هذا، وهذا فقط، هو المفهوم الماركسي الحقيقي للدولة العمالية.
صعود البرجوازية
أشار تروتسكي إلى أن الثورة هي القوة المحركة للتاريخ. وليس من
قبيل الصدفة أن صعود البرجوازية في ايطاليا وهولندا وانجلترا ولاحقا في فرنسا،
رافقه ازدهار غير عادي للثقافة والفن والعلم. في تلك البلدان التي انتصرت فيها
الثورة البرجوازية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، رافق تطور القوى المنتجة
والتكنولوجيا تطور مواز للعلم والفلسفة، والذي قوض الهيمنة الإيديولوجية للكنيسة
إلى الأبد.
وفي المقابل حكم على تلك البلدان التي تمكنت فيها القوى الإقطاعية
الكاثوليكية الرجعية من خنق جنين المجتمع الجديد في المهد بأن تعاني كابوس فترة
طويلة ومؤلمة من الانحطاط والتدهور والتفكك. وتعتبر اسبانيا ربما المثال الأكثر
وضوحا في هذا الصدد.
في عصر صعود الرأسمالية، عندما كانت ما تزال تمثل قوة تقدمية في
التاريخ، كان على منظري البرجوازية الأوائل خوض معركة شرسة ضد معاقل الإيديولوجية
الإقطاعية، بدءا بالكنيسة الكاثوليكية. قبل وقت طويل من الإطاحة بسلطة الملاكين
الاقطاعيين كان على البرجوازية، في شخص ممثليها الأكثر وعيا وثورية، تحطيم
الدفاعات الأيديولوجية للإقطاع، أي الإطار الفلسفي والديني الذي تطور حول الكنيسة،
وذراعها المسلح: محاكم التفتيش.
بدأ صعود الرأسمالية في هولندا ومدن شمال إيطاليا. وقد رافق ذلك
ظهور مواقف جديدة، تعززت تدريجيا وتطورت إلى أخلاق جديدة ومعتقدات دينية جديدة. في
ظل الإقطاع اعتبرت القوة الاقتصادية هي ملكية الأرض. بينما لعب المال دورا ثانويا.
لكن نمو التجارة والتصنيع والملامح الأولى لعلاقات السوق التي رافقتهما جعلت المال
قوة أكبر. فنشأت الأسر المصرفية الكبيرة مثل أسرة فوغر (Fuggers The) وتحدت
سلطة الملوك.
يليه جزء ثان من المقالة البحث