أرسطو
برتراند راسل؛ حكمة الغرب؛ الجزء الأول.
https://www.hindawi.org/books/79152038/
أرسطو هو ثالثُ ثلاثة من المفكرين العظام عاشوا في أثينا،
وقدَّموا تعاليمهم فيها، فقد كان على الأرجح أولَ الفلاسفة المحترفين، وعلى يد
أرسطو نجد الفترة الكلاسيكية في الفلسفة قد اجتازت خطَّ الذروة، أما من الناحية
السياسية، فقد أخذَت أثينا تصبح أقلَّ أهمية، بعد أن وضع الإسكندر المقدوني، الذي
كان في صباه تلميذًا لأرسطو أسَّس إمبراطورية بدأ العالم الهلينستي يزدهر في ظلها،
ولكنا سنُفصِّل الكلام في هذا الموضوع فيما بعد.
كان أرسطو، على خلافِ سقراط وأفلاطون،
غريبًا في أثينا؛ إذ إنه وُلِد في إسطاغيرا Stagira في إقليم
تراقية حوالي عام ٣٨٤ق.م..
وكان أبوه طبيبَ البلاط لملوك مقدونية،
وعندما بلغ أرسطو الثامنة عشرة من عمره أُوفِدَ إلى أثينا ليتلقَّى العلم على
أفلاطون في الأكاديمية. وقد ظل عضوًا في الأكاديمية حتى وفاةِ أفلاطون في عام
٣٤٨ / ٧ق.م، أي إنه قضى فيها ما يُقارِب عشرين عامًا، ولقد كان رئيس الأكاديمية
الجديد سبيوسبيوس Speusippus متعاطفًا بشدة مع الاتجاه الرِّياضي في الفلسفة الأفلاطونية، وهو
الجانب الذي كان أرسطو أقلَّ فَهمًا له من كافة الجوانب الأخرى، وأشد كراهية له
أيضًا، لذلك غادر أثينا وظل طوال الاثنَيْ عشر عامًا التاليةِ يعمل في أماكنَ
مختلفة، ثم قَبِل أرسطو دعوةَ وجَّهها إليه هرمياس Hermeias زميله
السابق في الدراسة الذي أصبح حاكمًا على ميسيا Mysia على ساحل آسيا
الصغرى، وهناك انضم إلى مجموعة من دارسي الأكاديمية، وتزوج من ابنة أخي مضيفه،
وبعد ثلاث سنوات سافر إلى ميتليني Mytilene في جزيرة لسبوس.
وكما قلنا من قبل، فإن كتاب أرسطو عن تصنيف
الحيوان ينتمي إلى فترة دراسته في الأكاديمية، وخلال إقامته في إقليم بحر إيجة، لا
بد أن يكون قد أجرى أبحاثه في علم الأحياء المائية، وهو ميدان أسهم فيه بنصيبٍ لم
يتمَّ تجاوزه إلا في القرن التاسع عشر. وفي عام ٣٤٣ق.م. استُدعِي إلى بلاط فيليب
الثاني في مقدونيا؛ ليكون مُعلِّمَ الإسكندر بن فيليب. وظل أرسطو يقوم بعمله هذا
طوال ثلاث سنوات، غير أننا لا نعرف تفاصيل هذه الفترة من مصادرَ موثوقٍ بها. وربما
كان هذا أمرًا مؤسفًا، إذ إن المرء لا بد أن يُلِحَّ عليه التساؤل عن مدى السيطرة
التي استطاع الفيلسوف الحكيم أن يُمارِسَها على الأمير المدلَّل. ومع ذلك يبدو من
المعقول القول إنه لم يكن هناك الكثيرُ مما يشترك فيه الاثنان؛ فقد كانت آراء
أرسطو السياسية مبنيَّة على دولة المدينة اليونانية التي كانت على وشك الزوال. أما
الإمبراطوريات المركزية كتلك التي شادها الملك الأعظم «الإسكندر» فكانت خليقة بأن
تبدوَ له، كما تبدو لجميع اليونانيِّين، بدعةً دخيلة. فقد كان لدى اليونانيين في
هذه المسألة، كما في غيرها من المسائل الثقافية، اعتزازٌ محمود بتفوُّقهم، غير أن العصر
كان يسير نحو التغير، وكانت دولة المدينة في أفول، والإمبراطورية الهلينستية في
صعود. أما إعجاب الإسكندر بأثينا بسبب ثقافتها فأمر لا يُنكِره أحد، غير أن هذا
شيء كان يشاركه فيه الجميع، ولم يكن أرسطو هو سببَه.
ومنذ عام ٣٤٠ق.م. حتى وفاة الملك فيليب في
عام ٣٣٥ق.م، عاش أرسطو في موطنه الأصلي مرة أخرى، ثم عمل في أثينا منذ ذلك التاريخ
حتى وفاة الإسكندر في عام ٣٢٣ق.م. وفي هذه الفترة أسس مدرسة خاصة به، هي اللوقيوم Lyceum التي سُمِّيَت باسم معبد قريب منها هو معبد أبولولوكيوس، أي قاتل
الذئب. في هذه المدرسة كان أرسطو يُحاضِر تلاميذه، ماشيًا بين القاعات والحدائق،
ومتحدثًا خلال سيره، ومن هذه العادة اكتسب التدريسُ في اللوقيوم اسمه المعروف هو:
الفلسفة المشائية peripatetic.
ومن الطريف أن نُلاحِظ أن الكلمة الإنجليزية «حديث أو خطاب discourse» تعني حرفيًّا الجريَ هنا وهناك. ولم يُصبِح مقابلها اللاتيني
مُستخدَمًا بمعناه الحاليِّ، وهو معنى البرهان المرتكِز على العقل، إلا في العصور
الوسطى، ومن الجائز أنها اكتسبت هذا المعنى من استخدامها في صدد الفلسفة المشائية،
وإن كان هذا أمرًا يُثير الكثير من الجدل.
وبعد موت الإسكندر، هبَّ الأثينيون ثائرين
على الحُكم المقدوني، وكان من الطبيعي أن تتجه الشكوك إلى أرسطو على أساس أنه
مُوالٍ للمقدونيين، كما اتُّهِم بالخروج عن العقيدة، وكما أثبتَت حالة سقراط من
قبل، فإن مثل هذه الإجراءات القانونية يمكن أن تُسفِر أحيانًا عن نتائجَ لا تسرُّ.
غير أن أرسطو لم يكن مثل سقراط، وقرَّر أن يتجنَّب غضب الوطنيين، حتى لا يرتكب
الأثينيون جريمة أخرى ضد الفلسفة، فترك إدارة اللوقيوم لثيوفراسطس Theophrastus، ورحل إلى خالكيس Vhalcis، حيث مات سنة ٣٢٢ق.م.
إن معظم ما نعرفه من مؤلفات أرسطو ينتمي
إلى الفترة الأثينية الثانية، وليس كل هذه المؤلفات كتبًا بالمعنى الصحيح، فمن
المرجَّح أن بعض هذه المؤلفات مبنيٌّ على مذكَّرات دُوِّنت أثناء قيامه بالتدريس.
وهكذا يبدو أن أرسطو كان أولَ مُؤلِّف لكتب مدرسية، بل إن بعض هذه المؤلفات تبدو
تدويناتٍ قام بها الطلاب أنفسُهم، وترتَّب على ذلك أن جاء أسلوب أرسطو مُمِلًّا
يفتقر إلى الشاعرية، رغم أن مِن المعروف أنه كتب محاورات على طريقة أفلاطون، لم
يبقَ منها شيء، وإن كانت بقية مؤلفات أرسطو تشهد بأنه لم يكن شخصية أدبية على
مستوى أفلاطون، فبينما كتب أفلاطون روائعُ درامية، أنتج أرسطو كتبًا مدرسية جافة.
وبينما كان قلم أفلاطون يتدفق بمحاورات حية نابضة، كان أرسطو يُنتِج أبحاثًا
منهجية.
ولكي نفهم أرسطو ينبغي أن نذكر أنه أول
ناقد لأفلاطون، ومع ذلك لا يمكن القول إن نقد أرسطو كان يرتكز في كل الأحوال على
معرفة صحيحة. وعادة يكون من المأمون أن نثق بأرسطو عندما يسرد آراء أفلاطون، أما
عندما ينتقل إلى تفسير معناها فإنه لا يعود موثوقًا منه، وبالطبع يمكننا أن نفترض
أن أرسطو قد عرَف الرياضيات السائدة في عصره، وهو أمر يبدو أن عضويته في
الأكاديمية تُؤكِّده، ولكن من المؤكد أيضًا أنه لم يكن ميَّالًا إلى الفلسفة
الرياضية لأفلاطون، بل إنه لم يفهمها أبدًا في الواقع. وينطبق هذا الحكم نفسُه على
تعليقات أرسطو على الفلاسفة السابقين لسقراط، فحين يُقدِّم سردًا مباشرًا لآرائهم
نستطيع أن نعتمد على ما يكتب، أما التفسيرات فلا بد أن تُؤخَذ كلُّها بحذر.
وعلى حين أن أرسطو كان عالمًا مرموقًا للأحياء،
حتى لو تسامحنا مع بعض الأخطاء التي تبدو غريبة إلى حدٍّ ما، فإن آراءه في
الفيزياء والفلك كانت مضطربة إلى حدٍّ ميئوسٍ منه، والواقع أن أفلاطون الذي جمع
بين تراث المدرستَين، الملطية والفيثاغورية، كان في هذه الناحية أفضلَ منه بكثير،
وكذلك كان العلماء الهلينستيون المتأخرون مثل أرسطارخوس Aristarchus وإراتوسثنيس Eratosthenes، وربما كان أشهر إسهام
قدَّمه أرسطو إلى الفكر المنهجي هو مؤلفاته في المنطق. صحيحٌ أن الكثير من هذه
المؤلفات كان مستمَدًّا من أفلاطون، ولكن النظريات المنطقية كانت عند أفلاطون
مبعثَرة بين موادَّ أخرى كثيرة، على حين أنها أصبحت عند أرسطو مُركَّزة ومعروضة
بصورة ظلَّت تُعلَّم بها دون تغيير تقريبًا حتى الوقت الحاضر.
ولقد كان تأثير أرسطو من الناحية التاريخية
معوقًا، ويرجع ذلك أساسًا إلى الجمود الأعمى والذليل لدى الكثير من أتباعه، ولكن
هذا شيء لا يمكننا بالطبع أن نُلقي فيه اللوم على أرسطو نفسه. ومع ذلك يظل من
الصحيح أن الإحياء العلمي في عصر النهضة كان يُمثِّل انشقاقًا على أرسطو وعودة إلى
أفلاطون. والواقع أن أرسطو ظل في نظرته العامة ابنًا للعصر الكلاسيكي، على الرغم
من أن أثينا كانت قد بدأت في التدهور قبل أن يُولَد، ولم يفهم أرسطو أبدًا مغزى
التغيرات السياسية التي حدَثَت خلال حياته، والتي كان فيها العصر الكلاسيكي قد بلغ
نهايته منذ أمدٍ طويل.
ليس من السهل أن نُناقش ميتافيزيقا أرسطو؛
وذلك لأسباب من بينها أنها مُبعثَرة بين عددٍ كبيرٍ من مؤلفاته، ومن بينها أنه
يفتقر إلى الالتزام الواضح القاطع، وينبغي أن نُلاحظ منذ البداية أن ما نُسمِّيه
الآن بالميتافيزيقا لم يكن يحمل ذلك الاسم في عصر أرسطو؛ فالميتافيزيقا حرفيًّا
تعني ببساطة «ما بعد الفيزيقا»، وقد اكتسب الكتاب هذا العنوان؛ لأن ناشرًا قديمًا
وضعه بعد كتاب الفيزيقا (الطبيعة) عند ترتيبه لمؤلفات أرسطو. ولقد كان الأجدر به
أن يضعه قبل كتاب الطبيعة؛ لأن هذا موضعه المعقول،١٢ وقد أطلق أرسطو عليها
اسم الفلسفة الأولى، أي البحث في الشروط العامة الأولى للمعرفة، غير أن اسم
الميتافيزيقا هو الذي قُدِّر له أن يَشيع.
ويمكننا أن ننظر إلى أعمال أرسطو في هذا
الميدان على أنها محاولة للاستعاضة عن نظرية المثل السقراطية بنظرية جديدة خاصة
به. والنقد الأساسي الذي يُوجِّهه أرسطو هو حجة «الرجل الثالث» مُطبَّقة على فكرة
المشاركة. وليس في ذلك إلا ترديدٌ للنقد الذي سبق أن عرضه أفلاطون في محاورة
«بارمنيدس». أما البديل الذي اقترحه أرسطو فهو نظرية المادة والصورة، فلنتأمل
مثلًا المادة الخام التي تُستخدَم في صناعة عمود في مبنًى، تلك هي «المادة»، أما
الصورة فهي أشبه بالتصميم الذي يضعه المعماري للعمود.
والفكرتان معًا هما، بمعنًى معين، تجريدان،
من حيث إن الشيء الفعلي يجمع بين الاثنَين معًا. ويقول أرسطو إن الصورة عندما
تُطبَع على المادة، هي التي تجعل هذه الأخيرة على ما هي عليه، فالصورة تُضفي على
المادة خصائصها، وتُحولها بالفعل إلى شيء أو جوهر. ومن المهم ألا نَخلِط بين
المادة والجوهر إذا شئنا أن نفهم أرسطو فَهمًا صحيحًا؛ فكلمة الجوهر تعني في أصلها
اليوناني الشيء الموجود في الأساس، وهو شيء ثابت حامل للصفات، والواقع أن ميلنا
الطبيعي إلى التفكير من خلال شكل من أشكال النظرية الذرية هو الذي يجعلنا نتَّجه
إلى التوحيد بين الجوهر والمادة.
ذلك لأن الذرات، بالمعنى المطلوب هنا هي
كيانات جوهرية وظيفتها حمل الصفات وتفسير التغيُّر، وهذا ما أشرنا إليه من قبل عند
حديثنا عن الذريِّين.
وفي نظرية أرسطو يتبيَّن أن الصورة أهم في
نهاية الأمر من المادة؛ ذلك لأن الصورة هي الخلاقة، على حين أن المادة التي هي
بالطبع لازمة أيضًا، مجرد أساس خام، والصورة جوهرية بالمعنى الحرفي؛ إذ يتبيَّن
مما قيل الآن أن الصور كيانات ثابتة أزلية تكمن من وراء تغير العالم الحقيقي. وعلى
ذلك فإن الصور بهذا المعنى لا تختلف كثيرًا عن المثل أو الصور عند سقراط؛ فالقول
إن الصور جوهرية يعني أنها توجد مستقلة عن الأشياء الجزئية. أما كيف توجد هذه
الجواهر فذلك ما لم يشرحه أرسطو بوضوح أبدًا. وعلى أية حال يبدو أنه لم يُحاول أن
يعزوَ إليها عالمًا متميزًا خاصًّا بها. ومن الجدير بالملاحظة أن أرسطو يعتقد أن
الصور عنده مختلفة كلَّ الاختلاف عن الكليات. والواقع أن نقد نظرية المثل يرتبط
بالفعل بمسألة لغوية بحت؛ ففي اللغة العادية ألفاظ تدل على الأشياء وألفاظ تدل على
ما تكونه هذه الأشياء؛ الأولى أسماء، والثانية صفات، والكلمة الإنجليزية النحوية
المعبِّرة عن الأسماء هي substantives (وتعني الجوهريات) وهي لفظ يرجع إلى العصور الهلينستية، ويثبت مدى
قوة التأثير الذي كان للنظريات الأرسطية على النحويين. وعلى ذلك فالأسماء ألفاظ
جوهرية، على حين أن الصفات ألفاظ كيفية.
ولكن من الخطأ أن نستدل من ذلك على أن من
الضروري أن تكون هناك كليات موجودة على نحوٍ مستقل، تكون الصفات أسماءً لها. وهكذا
كان رأي أرسطو في الكليات أقربَ إلى الطابع العضوي، وهو أمر متوقع من عالم بيولوجي
مثله؛ فالكليات تتدخل على نحوٍ ما في إنتاج الأشياء، ولكنها لا توجد في عالم غامض
خاص بها. وعلى الرغم من أن أرسطو لم يكن يقصد من نظريته في المادة والصورة أن
تَحُل محلَّ الكليات، فلا شك أن لها صلةً وثيقة بهذه المشكلة، وهي كما رأينا لا
تنجح تمامًا في التحرُّر من نظرية المثل. كما أن من المهم أن نتذكر أيضًا أن نظرية
أرسطو تسمح لنا تمامًا بأن نتحدث عن جواهر لا مادية، ومن أمثلة ذلك النفس، التي هي
جوهر؛ لأنها هي التي تُضفي على الجسم صورته، ولكنها ليست مادية.
وترتبط بمشكلة الكليات مشكلةُ تفسير
التغير، وهي مشكلة قديمة العهد؛ فالبعض يجد هذا التفسير عسيرًا إلى حدٍّ لا يرى
معه مَفرًّا من إنكاره، كما فعل بارمنيدس، وغير هؤلاء يقولون بنوعٍ من المذهب
الإيلي المعدل، ويلجَئون إلى تفسيرات ذرية، على حين أن غير هؤلاء وأولئك يلجَئون
إلى شكل من أشكال نظرية الكليات، وقد تحدثنا عن هذا كله من قبل. أما عند أرسطو
فنجد نظرية القوة والفعل (أو الإمكان والتحقق)، وهي أقرب إلى نظرية الكليات منها
إلى النظرية الذرية.
عند مناقشة نظرية القوة أو الإمكان potentiality ينبغي أن نحرص على استبعاد شكل سطحي من أشكالها؛ فهناك طريقة في
الكلام تُستخدَم فيها كلمة «بالقوة» للتعبير عن نوع من الحكمة الخاملة بعد وقوع
الحادث ذاته، فإذا بدأت زجاجة زيت في الاحتراق فقد نقول إن هذا راجع إلى أنها كانت
قابلة للاحتراق بالقوة حتى في الأصل. غير أن هذا ليس تفسيرًا على الإطلاق، والواقع
أن أسبابًا كهذه هي التي دعت بعض المدارس الفلسفية إلى القول باستحالة الإتيان
بشيء له جدواه حول هذا الموضوع. ولقد كان أنتيسثنس Antisthenes الميغاري
واحدًا من هؤلاء، كما سنرى فيما بعد. فأصحاب هذا الرأي يذهبون إلى أن الشيء قد
يكون على نحو ما وقد لا يكون، وكل ما عدا ذلك هراء، ولكن من الواضح أننا نُطلِق
بالفعل أحكامًا مثل «الزيت قابل للاشتعال»، وهي أحكام لها معناها بلا جدال.
وهنا يأتي تحليل أرسطو ليقدم الإجابة الصحيحة،
فحين نقول إن الشيء يتصف بالصفة س بالقوة، نعني أنه سيصبح كذلك بالفعل إذا توافرت
شروط معينة؛ فالقول إن الزيت قابل للاشتعال معناه الاعتراف بأنه، إذا توافرت
مجموعة من الشروط يمكن تحديدها، سيشتعل الزيت، أي إنه إذا كانت الحرارة هي
المطلوبة، وأشعلت عود ثقاب وقربته من سطح الزيت، فإنك ستُوقِد فيه النار.
وبالطبع فإن الشروط المطلوبة لا بد أن تكون
من النوع القابل للحدوث أو للتحقيق. وبهذا المعنى يكون المتحقق أو الموجود بالفعل
سابقًا منطقيًّا للممكن، أو لما يوجد بالقوة. وهكذا يمكن الآن تقديم تفسير للتغيير
على أساس القول بجوهر يحمل بالقوة مجموعة من الصفات التي تتحقق فيه واحدة تلو
الأخرى. وأيًّا كانت عيوب مثل هذا التفسير من الناحية العملية، فإنه على الأقل ليس
سطحيًّا أو منعدم القيمة من حيث المبدأ، إذا تذكرنا التحليل الأرسطي للإمكان أو
الوجود بالقوة. ولا شك أن هذا الفهم يُذكِّرنا بسقراط وأفلاطون أكثر مما يذكرنا
بالذريين، على أن رأي أرسطو قد تأثر جزئيًّا باهتماماته العلمية بعلم الأحياء، حيث
يكون لفكرة الإمكان فائدة خاصة، على أن العرض الذي قدمناه ها هنا ناقص في ناحية
واحدة هامة؛ فهو لا يذكر كيف أو لماذا تحدث التغيرات، وهذه مسألة كانت لدى أرسطو
عنها إجابة مفصلة جدًّا، سوف نبحثها عندما تصل إلى نظريته في السببية. أما نظرياته
في نشأة الكون ورأيه في أن الله هو العلة الأولى أو المحرك الذي لا يتحرك، فسوف
نتركها بدورها إلى وقتٍ لا حق، ولكن ينبغي أن نتذكر أن أرسطو كان ينظر إلى مذهبه
في الإلهيات على أنه جزء مما نُسمِّيه اليوم بالميتافيزيقا.
ولنعد الآن إلى أعمال أرسطو في المنطق، فقد
ذكرنا من قبل أن في السمات المميزة للعلم والفلسفة اليونانيَّين وجودَ فكرة
البرهان فيهما. فعلى حين أن فلَكيِّي الشرق كانوا يكتفون بتسجيل أرصادهم، فإن مُفكِّري
اليونان حاولوا تعليها. وتنطوي عملية إثبات قضية ما على إقامة حجج أو براهين
منطقية، وبطبيعة الحال فقد كان ذاك يحدث قبل أرسطو بوقتٍ طويل، ولكن لم يُحاول أحد
فيما نعلم أن يُقدِّم وصفًا عامًّا مفصَّلًا للشكل الذي تتخذه البراهين. وفي هذا
الصدد تُقدِّم إلينا أعمال أرسطو عرضًا شاملًا بدا له، كما بدا للفيلسوف الألماني
«كانت» كاملًا. ولكن ليس من المهم أن نُشير إلى أنه كان في هذه الناحية مخطئًا إلى
حدٍّ مؤسف؛ إذ إن الخطورة الكبرى هي أنه أدرك إمكان تقديم عرض عام للمنطق الصوري.
وربما كان من المفيد أن نُؤكِّد من البدء
أنه لا يوجد شيء اسمه المنطق غير الصوري؛ فالمقصود هنا هو الصورة العامة للبراهين،
وهي دراسة تنتمي إلى ميدان المنطق.
ويرتكز المنطق الأرسطي على عدد من
المسلَّمات المرتبطة بمذهبه الميتافيزيقي؛ أُولاها أنه يُسلِّم بلا مناقشة بأن
جميع القضايا تتخذ شكل الموضوع والمحمول. والواقع أن كثيرًا من قضايا الحديث
المعتاد تتخذ هذا الشكل، كما أن هذا كان مصدرًا من مصادر ميتافيزيقا الجوهر
والعرَض. وبالطبع فإن صورة الموضوع والمحمول قد أُشيرَ إليها في محاورة «تيتاتوس»
لأفلاطون، والأرجح أن أرسطو قد استمدها منها أولًا. وفي هذا السياق تنشأ مشكلة
الكليات؛ إذ تقسم القضايا تبعًا لكونها تتحدث عن كليات أو عن أفراد، ففي الحالة
الأولى يمكن أن تشتمل على مجال الكليِّ كلِّه، كما في قولنا: «كل الناس فانون»،
التي تُسمَّى قضية كلية، أو قد تُغطِّي القضية جزءًا من الكلي فقط، كقولنا: «بعض
الناس حكماء»، وتُسمَّى هذه قضية جزئية. أما حالة القضية الشخصية فتُمثِّلها قضية
مثل «سقراط إنسان»، وعندما نصل إلى الجمع بين القضايا في برهان ينبغي أن تُعامَل
القضية الشخصية معاملةَ القضية الكلية. وتكون القضايا موجبة أو سالبة إذا كان شيءٌ
ما يثبت أو ينفني عن الموضوع.
وعلى أساس هذا التصنيف يُمكننا الآن أن
نبحث ما يحدث في حالة البرهان، فنحن في البرهان نبدأ من قضيةٍ واحدة أو أكثر،
نُسمِّيها بالمقدمات، ونستنبط قضايا أخرى تَلزم عن هذه المقدِّمات أو تكون نتائجَ
لها. والنموذج الأساسي لكل برهان، في رأي أرسطو، هو ما نُسميه بالقياس، فالقياس
برهان يشتمل على مُقدمتَين لكلٍّ منهما موضوع ومحمول، وبينهما حد واحد مشترك. هذا
الحد الأوسط يختفي في النتيجة، ونستطيع أن نضرب للقياس المثل الآتي: كل البشر
عقلاء، والأطفال الرُّضع بشر، إذن فالأطفال الرضع عقلاء. في هذه الحالة تلزم
النتيجة من المقدمات، فيكون البرهان صحيحًا. أما صحة المقدمات أو بطلانها، فتلك
بالطبع مسألة أخرى. بل إن من الممكن استخلاصَ نتائج صحيحة من مقدمات باطلة، ولكن
المهم في الأمر أنه إذا كانت المقدمات صادقة، فإن أية نتيجة تُستخلَص منها بطريقةٍ
صحيحة تكون صادقة؛ لذلك فإن من المهم أن نكتشف أيُّ البراهين القياسية صحيح
وأيُّها فاسد. وقد قدم أرسطو عرضًا منهجيًّا للأقيسة الصحيحة، فقسم البراهين أولًا
حسب شكلها، الذي يتوقَّف على ترتيب الحدود. وقد اعترف أرسطو بأشكال ثلاثة مختلفة،
وتوصل جالينوس الطبيب (حوالي ١٢٠–٢٥٠ ميلادية) إلى شكل رابع. وفي كل شكل توجد
براهينُ صحيحة وأخرى فاسدة. وقد اخترع الرياضي السويسري أويلر Euler الذي عاش في القرن الثامنَ عشر، طريقة بارعة لاختيار البراهين
القياسية، فقد مثَّل النطاق الذي يمتد إليه الحدُّ في القياس بدائرة، فأصبح من
السهل إدراكُ ما إذا كان البرهان صحيحًا أم لا.
فمن الواضح مثلًا أن المثال الذي ضربناه من
قبل صحيح؛ فهو قياس من الشكل الأول أطلَق عليه مُدرِّسو العصور الوسطى اسمًا
فنيًّا هو «باربارا Barbara».
وبالمثل فإن المثل الآتيَ قياس صحيح من الشكل الأول؛ لا حيوانَ
ثدييًّا يستطيع الطيران، وكل الخنازير حيوانات ثديية، إذن لا خنزير يستطيع
الطيران، وهذا الضرب يُسمَّى «كيلارنت Celarent»، ولنلاحظ في هذا المثل الخاص أن النتيجة صحيحة برغم أن إحدى
المقدمات باطلة؛ لأن الخفافيش ثديية ومع ذلك تستطيع الطيران.
وقد ترتَّب على سلطة أرسطو التي سيطرت على
العصور اللاحقة أنْ ظل القياس يُعَد النوعَ الوحيد من البرهان الذي يعترف به
المناطقة قرابة ألفَي عام. غير أن أرسطو ذاته كان قد تنبه إلى بعض الانتقادات التي
وُجِّهَت إليه في النهاية. ففي حالة برهان مثل: كل الناس فانون، وسقراط إنسان، إذن
سقراط فانٍ، قيل إن معرفة المقدمة الأولى تعني ضِمنًا معرفة النتيجة، بحيث ينطوي
البرهان على مُصادرةٍ على المطلوب. غير أن هذا الاعتراض مبنيٌّ على سوء فَهمٍ
للطريقة التي نتوصل بها إلى قضية مثل: كل أ هي ب، فليس من الضروري بل ليس من
المألوف أن ننظر إلى كل أ على حدة، ونرى إن كانت ب. بل إننا على العكس نكتفي في
كثيرٍ من الأحيان بتأمُّل مثل واحد لكي نُدرِك الارتباط المطلوب. ويظهر ذلك بوضوح
في حالة الهندسة؛ فمجموع زوايا كل مثلث يساوي قائمتَين، ولكن لا يوجد عالم هندسة
جدير بهذا الاسم على استعداد لتفحص كل المثلثات حتى يُرضِي ضميره قبل أن يُغامر
بإطلاق حكم عام كهذا.
هذا باختصار، هو لب نظرية القياس، وقد عالج
أرسطو أيضًا أنواعًا من القياس تتألف من قضايا الجهة، أي القضايا التي تشتمل على
ألفاظ مثل «ربما» و«يجب» بدلًا من «يكون» وسوف تبرز أهمية منطق الجهة هذا مرةً
أخرى في ميدان المنطق الرمزي المعاصر.
وعلى أية حال فإن نظرية القياس تبدو الآن
في ضوء التطورات الأقرب عهدًا أقلَّ أهمية إلى حدٍّ ما مما كان يُعتقَد. وفيما
يتعلق بالعلم، فإن عملية القياس تترك المقدمات دون إثبات، مما يُؤدِّي إلى إثارة
مشكلة نقطة البداية، ويرى أرسطو أن العلم ينبغي أن يبدأ بقضايا لا تحتاج إلى إثبات،
يُسمِّيها «بديهيات axioms»، وهذه القضايا لا يتعين أن تكون شائعة في التجربة، بشرط أن تكون
مفهومة بوضوح بمجرد أن تُفسَّر. وربما كان من المفيد أن نشير إلى أن هذا يتعلق
بعرض هيكل للوقائع العلمية، ولا يتعلق بعملية البحث والإثبات العلمي ذاتها؛ ذلك
لأن ترتيب العرض يُخفي دائمًا ترتيب الاكتشاف؛ ففي السعي الفعلي وراء الكشف يوجد
قدر كبير من الاضطراب وعدم الدقة، يتم التخلص منه بمجرد أن تُحَل المشكلة.
والأمر الذي يبدو أنه كان في ذهن أرسطو حين
تحدث عن البديهيات، هو الهندسة التي كانت في عصره قد بدأت تتخذ شكلًا منهجيًّا؛
فأرسطو لا تفصله إلا عقود قليلة عن إقليدس، على أنه لم يظهر في ذلك الحين أيُّ علم
آخر كان قد بلَغ المرحلة التي تُتيح عرضه بالطريقة التي عُرِضَت بها الهندسة.
ويلزم عن ذلك أن العلوم يمكن أن تُرتَّب تصاعديًّا على نحوٍ ما. وهنا تأتي
الرياضيَّات أولًا، ويَليها الفلَك؛ لأنه يحتاج إلى الاستعانة بالرياضيات من أجل
تقديم أسباب للحركات التي يرصدها. وفي هذا الصدد يَستبق أرسطو أعمالًا لاحِقة، ولا
سيما تصنيف العلوم عند الفيلسوف الوضعي الفرنسي أوجست كونت Auguste Conte.
لقد كانت دراسة اللغة عند أرسطو مبحثًا
فلسفيًّا هامًّا. وكان أفلاطون قد بدأ البحث في هذا الميدان في مُحاوَرتَي
«تيتاتوس» و«السفسطائي»، بل إن من المفاهيم الرئيسية في الفلسفة اليونانية مفهومَ
«اللوجوس Logos»، وهو لفظ نُصادفه لأول مرة في هذا السياق عند فيثاغورس وهرقليطس،
ولهذا اللفظ معانٍ متعدِّدة، منها:
الكلمة، المقدار، الصيغة، البرهان،
التحليل. ولا بد لنا من أن نتذكر هذه المعانيَ المتعددة إذا ما أردنا أن نستوعب
روح الفلسفة اليونانية. وواضحٌ أن لفظ «المنطق Logos» مشتق من هذا الأصل؛
لأن المنطق هو علم «اللوجوس».
غير أن للمنطق مركزًا فريدًا على نحوٍ ما؛
فهو لا يُماثل بالضبط ما نُطلِق عليه عادةً اسم العلوم، ولقد ميَّز أرسطو بين
ثلاثة أنواع من العلوم تبعًا للهدف الرئيسي الذي يُحقِّقه كل نوع منها؛ فالعلوم
النظرية تُزوِّدنا بالمعرفة بالمعنى الذي تكون فيه المعرفة مضادَّة للظن، وأوضحُ
مثال لها هو الرياضة، وإن كان أرسطو يُدرِج ضمنها الفيزياء والميتافيزيقا. وهو
يفهم الفيزياء بمعنًى لا يُعادِل بالضبط المعنى الذي نفهمه اليوم؛ فهي أقربُ إلى
أن تكون دراسة عامة للمكان والزمان والسببية، وهي دراسة يندرج جزءٌ منها تحت باب
الميتافيزيقا، أو حتى المنطق ذاته مفهومًا بمعنًى أوسع.
وتلى ذلك العلوم العملية كالأخلاق التي
تستهدف تنظيم سلوك الإنسان في المجتمع، وأخيرًا العلوم الإنتاجية، التي تهدف إلى
توجيهنا نحو إنتاج موضوعات مفيدة أو ممارسة الفنون، على أن المنطق لا يدخل على ما
يبدو ضمن إطار أيٍّ من هذه العلوم؛ لذلك لم يكن علمًا بالمعنى المعتاد، وإنما هو
طريقة عامة للتعامل مع الأشياء تُعَد أمرًا لا غناء عنه للعلم؛ فهو يُزوِّدنا
بمعاييرَ للتمييز والبرهان، ويمكن أن يُعَد أداةً نستعين بها في البحث العلمي.
وهذا هو معنى الكلمة اليونانية «أورجانون»، التي استخدمها أرسطو حين كان يتحدث عن
المنطق، أما لفظ المنطق ذاته فقد وضعه الرواقيون فيما بعد. وأما عن دراسة صورة
البرهان، فقد أطلق عليها أرسطو اسم التحليلات analyties التي
تعني حرفيًّا «تحرير»، أما الشيء الذي نُحرِّره لكي نفحصه فهو تركيب البرهان.
وعلى الرغم من أن المنطق له علاقة
بالألفاظ، فإنه عند أرسطو لا يختص بالألفاظ وحدها؛ ذلك لأن معظم الألفاظ علامات
اعتباطية تدل على أشياء غير لفظية. فالمنطق إذن مختلف عن النحو، وإن كان من الممكن
أن يُؤثِّر المنطقُ في علم النحو كذلك فإن المنطق مختلف عن الميتافيزيقا؛ لأنه لا
يتعلق بالوجود بقدر ما يتعلق بطريقة معرفتنا له، وهنا يكون لرفض أرسطو لنظرية
المثل أهميةٌ خاصة؛ إذ إن مَن يعتنق هذه النظرية قد ينظر إلى المنطق بالمعنى الضيق
الذي نبحثه على أنه هو ذاته الميتافيزيقا، أما أرسطو فيراهما مُتميزَين. وقد
استعان في محاولته حل مشكلة الكليات بما يُمكِننا أن نُسمِّيَه بالتصورات، التي تتميز
عن المثل بأنها لا توجد في عالمٍ خاص بها.
وأخيرًا، فإن المنطق مختلف عن علم النفس.
وتكشف لنا الرياضيات عن هذا الفارق بوضوح؛ فالترتيب الاستنباطي لكتاب إقليدس في
الهندسة شيء، والمسارات الذهنية المتعرجة التي ينطوي عليها التفكير الرياضي
المؤدِّي إلى كشف هذه المعرفة شيء آخرُ مختلف كلَّ الاختلاف. أي إن البناء المنطقي
للعلم وسيكولوجية البحث العلمي شيئان متميزان ومنفصلان وكذلك الحال في علم الجمال؛
حيث لا تكون لمزايا أي عمل فني علاقةٌ بالأحوال النفسية التي تحكَّمَت في إنتاجه.
ولا بد لأي بحث في المنطق أن يقوم، على
سبيل التقديم، بدراسة بناء اللغة وما يمكن أن يُقال فيها. وفي مؤلفات أرسطو
المنطقية (الأورجانون) تتم هذه الدراسة في كتاب بعنوان «المقولات»، وهنا أيضًا نجد
البداية عند أفلاطون، كما رأينا عند مناقشة محاورة «السفسطائي»، غير أن مناقشة
أرسطو للموضوع أقربُ كثيرًا إلى الواقع، وأكثر اهتمامًا بحقائق اللغة، فهو يُميِّز
بين عشَرة أصناف مختلفة يمكن الاهتداء إليها في الحديث؛ هذه الأصناف هي: الجوهر،
والكيف، والكم، والإضافة (العلاقة)، والمكان، والزمان، والوضع، والملك، والفعل،
والانفعال.
الأول هو الجوهر، أي ما تتحدث عنه أية
عبارة. أما المقولات الأخرى فتشمل مختلف أنواع العبارات التي يمكن أن تُقال عن
الجوهر، وهكذا فإننا إذا تحدثنا عن سقراط فقد نقول إن لديه صفةً (أو كيفية) معينة،
مثل كونه فيلسوفًا. كما أن له حجمًا معينًا، وهذا يعني تطبيق مقولة الكم، وله
علاقات معينة بالأشياء الأخرى، كما أنه يحل في مكان وله موقع في الزمان، ويتفاعل
مع ما يحيط به بأن يقوم بأفعال وتحل عليه أفعال أخرى، وسوف نرى فيما بعد أن هناك
صيغًا أخرى أحدثَ عهدًا لنظرية المقولات، وإن كانت هذه في معظم الحالات قد اصطبغت
بصبغة ميتافيزيقية تختلف عن الدراسة اللغوية التي قام بها أرسطو، ويصدق هذا بوجهٍ
خاص على كانت وهيجل.
وبطبيعة الحال فإن المقولات تجريدات، وهي
تُجيب عن أهم الأسئلة التي يمكن أن تُطرَح عن أي شيء. وقد نظر أرسطو إلى المقولات
على أنها ما تعنيه الألفاظ بذاتها، ومعاني الألفاظ موضوعات للمعرفة بمعنًى يختلف
عن دلالة الأحكام، ففي الحالة الأولى يكون لدينا إدراك مباشر، كما يقول أرسطو وعلم
اللغويات الحديث يُعبِّر عن ذلك أحيانًا بقوله إن «لدينا تصورًا» لشيءٍ ما، أما
نوع المعرفة التي نكتسبها في حالة الحكم الصائب فأمرها يختلف كل الاختلاف.
فهنا تتجمَّع التصورات لكي تدل على حالةٍ
معينة.
إن منطق أرسطو هو أول محاولة لعرض الصورة
العامة للُّغة والبرهان بطريقةٍ منهجية. وقد كان أفلاطون هو المصدرَ الذي استوحى
منه جانبًا كبيرًا من هذا المنطق، غير أن هذا لا ينقص من قدره في شيء؛ فعند
أفلاطون تُثار المسائل المنطقية هنا وهناك في مختلِف أجزاء المحاورات، وقد تُطرَح
مسألة معينة، ثم يُصرَف النظر عنها حسَبما تُمليه الظروف في اللحظة نفسها. أما
أرسطو فقد أنجز بالنسبة إلى المنطق ما سيُنجزه إقليدس بالنسبة إلى الهندسة بعده
بوقتٍ قصير. وقد ظل لواء السيادة منعقدًا لمنطق أرسطو حتى القرن التاسع عشر. وأصبح
المنطق، شأنه شأن الكثير مما أنتجه أرسطو، يُعلَّم بطريقةٍ متحجرةٍ على أيدي أناس
انبهروا بسُلطة أرسطو إلى حدٍّ لم يَعودوا معه يَجرءون على مناقشة أية فكرة من
أفكاره. غير أن من السمات المميزة لمعظم فلاسفة العصر الحديث في فترة إحياء العلوم
أنهم كانوا ساخطين أشدَّ السخط على أتباع أرسطو من المدرسيِّين، فأدى ذلك إلى ردِّ
فعل ضدَّ أي شيء يرتبط باسم أرسطو، وهو أمر يُؤسَف له؛ إذ إننا نستطيع أن نتعلم من
أرسطو أشياءَ كثيرة قيمة.
غير أن منطق أرسطو كان مشوبًا بنقصٍ خطيرٍ
في ناحيةٍ هامة؛ هي أنه لم يَهتمَّ بالبراهين التي تنطوي على علاقة، والتي لها
أهمية خاصة في الرياضيات. فلنتأمل مثلًا بسيطًا كقولنا: «أ» أكبر من «ب»، و«ب»
أكبر من «ج»، إذن «أ» أكبر من «ج». هنا يكون الشيء الأساسي هو الطابع المتعدي
(القابل للانتقال) للعلامة «أكبر من» ولا شك أن المرء يستطيع أن يحشر هذا البرهان،
بشيءٍ من البراعة، في قالب القياس، ولكن هذا يبدو مستحيلًا في الحالات الأكثير
تعقيدًا، وحتى في هذه الحالة يختفي الطابع العلائقي للبرهان.
ولننتقل الآن إلى بعض المشكلات العامة التي
تندرج تحت باب الفلسفة الطبيعية، وهو الموضوع الذي يُناقش أساسًا في كتاب يحمل هذا
الاسم، ولنذكر أن الكلمة اليونانية «الفيزياء» تعني الطبيعة.
وحين ألَّف أرسطو كتابه هذا كان هناك مِن
قبله عددٌ كبير من الفلاسفة السابقين الذين كتبوا مؤلَّفات بعنوان: «في الطبيعة»،
وعلى هذا النحو كتَب كلُّ فيلسوف، منذ أيام طاليس، كان يعتقد أنه قد اكتشف أخيرًا
الأسرار الحقيقية لعمل الطبيعة. أما المعنى الحاليُّ لكلمة الفيزياء فيدل على شيءٍ
أكثر تحديدًا، وإن كانت هذه المسائل العامة تظل تتدخل فيها. وقد ظلت الفيزياء حتى
عهدٍ ليس بالبعيد تُسمَّى بالفلسفة الطبيعية، وهو تعبير ما زال يُستخدَم في جامعات
اسكتلندة، ولكن من الواجب ألا نَخلط بين هذا التعبير وبين فلسفة الطبيعة عند
المثاليِّين الألمان، التي هي نوع من الانحراف الميتافيزيقي في الفيزياء، ولكن هذه
على أية حال مسألة سنَعرِض تفاصيلها فيما بعد.
ومن أهم الموضوعات في هذا الصدد نظرية
أرسطو في السببية، التي ترتبط بنظريته في المادة والصورة؛ فالسببية لها جانب مادي
وجانب صوري، والجانب الثاني ينقسم ثلاثة أقسام؛ أولها: هو الجانب الصوري بالمعنى
الدقيق، الذي يمكن أن نُسمِّيَه بالتشكيل أو التصميم. والثاني هو الفاعل الذي
يُحدِث التغيير بالفعل، مثلما يُؤدِّي الضغط على الزناد إلى إطلاق البندقية. أما
الثالث: فهو الهدف أو الغاية التي يسعى التغيير إلى تحقيقها. هذه الجوانب الثلاثة
تُسمَّى بالأسباب، أو العلل الصورية والفاعلة، والغائية، على التوالي.
ولنضرب لذلك مثلًا يُوضِّح المعنى المقصود؛
فلنتصوَّر حجرًا معلقًا على حافَةِ درجة من درجات سُلَّم، يُدفَع به فوق الحافة،
ويوشك على السقوط، في هذه الحالة يكون السبب المادي هو مادة الحجر ذاته، ويكون
السبب الصوري هو الشكل العام للسُّلم وموقع الحجر فيه، أما السبب الفاعل فهو ما
يقوم بدفع الحجر. وأخيرًا فإن السبب الغائي هو رغبة الحجر في البحث عن أدنى مستوًى
ممكن، أي قوة الجاذبية.
ولسنا في حاجةٍ إلى أن نقول الكثير عن
السببَين المادي والصوري. فنحن لم نعد نتحدث عنهما بوصفهما أسبابًا أو عللًا،
وإنما هما شرطان ضروريان في موقف سببي، بمعنى أنه لا بد من وجودهما لكي يحدث أيُّ
شيء على الإطلاق. أما العلة الفاعلة والعلة الغائية فهما تستحقان شيئًا من
التعليق؛ فالعلة الفاعلة هي ما يُطلَق عليه في المصطلح الحديث اسم العلة أو السبب
فحَسْب، فالحجر يسقط من سلم؛ لأن شيئًا ما أو شخصًا ما قد دفَعه، وهذا هو النوع
الوحيد من السببية المعترَف به في العلم الفيزيائي؛ فالاتجاه العام في العلم
يُحاول إيجاد تفسيرات على أساس العلل الفاعلة. أما فكرة العلة الغائية فلا يُعترَف
بها اليوم في الفيزياء، وإن كان المصطلح الفيزيائي يحوي آثارًا من فكرة الغائية،
فهناك تعبيرات مثل الجذب والتنافر، والبحث عن المركز، وما شابهها، هي بقايا للمفاهيم
الغائية، وهي تُذكِّرنا بأن نظرية أرسطو في السببية ظلت لا تُناقَش حتى ما يقرب من
ثلاثمائة وخمسين عامًا من عصرنا الحالي. والمشكلة التي تنطوي عليها العلة الغائية
تُشبِه إلى حدٍّ بعيد ذلك الخطرَ الذي نتعرض له حين نستخدم فكرة الإمكان أو الوجود
بالقوة، كما أوضحنا من قبل. فأقول إن الحجر قد سقط؛ لأن لديه ميلًا إلى السقوط
يعني في الواقع عدم تقديم أي تفسير على الإطلاق، ولكننا نُلاحظ في هذه الحالة
أيضًا أن هناك مناسباتٍ معينةً يُحقِّق فيها استخدام المصطلح الغائي أهدافًا
معقولة؛ ففي ميدان الأخلاق مثلًا لن يكون من الخطأ أن نُشير إلى هدفِ ما على أنه
سبب لسلوك أو فعل من نوع معين. وهذا يصدق على ميدان الفاعلية الإنسانية بوجهٍ عام.
فتوقُّع أحداث مستقبلية في الوقت الحاضر يمكن أن يكون دافعًا لأفعالنا، كما يصدق
هذا على الحيوانات أيضًا، بل إن هناك حالاتٍ قد يشعر المرء فيها بالميل إلى
استخدام هذه الطريقة في الكلام في حالة النباتات بدورها. فمن الواضح إذن أن
الغائية ليست تعبيرًا باطلًا حين يكون موضوعنا متعلقًا بمشكلاتٍ بيولوجية أو
اجتماعية.
ولقد كانت اهتمامات أرسطو بالبيولوجيا هي
التي أوحت إليه بفكرة العلل الغائية. وفي هذا الصدد يتضح أن الغائية والإمكان أو
الوجود بالقوة يسيران جنبًا إلى جنب. فعالم البيولوجيا يتساءل كيف تؤدي البذرة إلى
ظهور نبات أو حيوان مكتمل النمو. ولو استخدم لغة أرسطو لقال إن البذرة تحتوي
بالقوة على الشجرة، وإن ما يجعلها شجرة هو ميلٌ لديها إلى أن تُحقِّق ذاتها، هذه
الطريقة في الكلام هي بالطبع نموذج للاستخدام السيئ لهاتَين الفكرتَين، ويمكن
القول بوجهٍ عام إنه كلما تطور العلم، حلت محلَّ التفسيرات الغائية تعليلات تستخدم
الأسباب الفاعلة. وحتى علم النفس ذاته يسير في هذا الاتجاه، فالتحليل النفسي أيًّا
كانت مزاياه أو عيوبه، يحاول تفسير السلوك عن طريق ما حدث من قبل، بدلًا من تفسيره
عن طريق ما يمكن أن يحدث فيما بعد.
إن المصدر النهائي الذي تستمد منه النظرة
الغائية قوتها هو ذلك النظام الذي تَكشف عنه مظاهر البيئة الطبيعية المحيطة بنا؛
ذلك لأن الضرورة السببية التي ترتبط بالسببية الفاعلة، تبدو قوة عمياء لا يُقدِّم
إلينا مسارها تفسيرًا لهذا النظام. أما الغائية فتبدو وكأنها قد اكتسبت قدرةً على
التنبُّؤ، وهنا أيضًا قد يؤدي الإلهام بالمجال البيولوجي إلى تفضيل وجهة النظر
الغائية، ولكن أرسطو على أية حال يعترف بتأثير الضرورة والغائية معًا. ومن الواضح
أن معرفة الطبيعة لا يمكن أن تزدهر لو سارت في هذا الطريق. غير أن علم الفيزياء
بوجهٍ خاص قد عانى من نكسة خطيرة لم تتم إزالة آثارها إلا حين حدثت على يد جاليليو
عودةٌ، في ميدان المنهج، إلى أفلاطون؛ ذلك لأن فكرة الغائية لا تجد لها عند
الرياضي مكانًا كذلك الذي تجده عند عالم البيولوجيا، وليس لنا أن ندهش حين نجد
أفلاطون متحررًا منها،١٣ والخطأ الأساسي في
الغائية هو أنها لاهوتية أو تشبيهيَّة بالإنسان. فالبشر هم الذين توجد لديهم
أهداف، ويسعون إلى تحقيق غايات، وعلى ذلك ففي الميدان البشري يكون للغائية معنًى
بالفعل، ولكن العصيَّ والأحجار لا تستهدف غايات، ولا جدوى من محاولة الحديث عنها
كما لو كانت لها غاياتٍ كهذه.
وبطبيعة الحال، فإننا نستطيع أن نستخدم
مفهوم الميل أو الاتجاه tendency بعد اتخاذ الاحتياطات اللازمة، كما حدث في حالة مفهوم الإمكان أو
الوجود بالقوة.
إن القول بأن لدى الحجر ميلًا إلى السقوط
يعني أنه سيسقط إذا توافرت شروط معينة، ولكن هذا لم يكن ما تصوره أرسطو.
فالغائية عنده ترتبط بالهدف، وهو يستدل على
ذلك من وجود النظام الذي يدل في رأيه على وجود تدبير مقصود، ومن الواضح أن دراسة
العلم الفيزيائي لا يمكن أن تزدهر في ظل مثل هذه المبادئ؛ ذلك لأننا إذا أشبعنا
حبَّ الاستطلاع لدى الباحث بتفسيرات وهمية، فعندئذٍ لن تظهر التفسيرات الحقيقية
للظواهر الطبيعية. ولقد أساء أرسطو للعلم إساءةً بالغة في ميدان الفلَك بالذات؛
فقد أدت به نظرية الغائية التي كانت تنسب لكل شيء مكانه الخاص إلى التمييز بين
عالم ما تحت القمر وعالم ما فوق القمر، بحيث كان يرى أن العالَمَين تحكمهما مبادئُ
مختلفة. مثلُ هذا التأمُّل المسرِف في الخيال يبدو لنا جنونًا محضًا إذا ما قارَنَّاه
بعلم الفلك المتقدم في الأكاديمية. غير أن الضرر الحقيقي قد أتى من جانب أولئك
الذين لم يَرضَوا أن يتعاملوا مع أرسطو بطريقةٍ نقدية، وقبلوا كل ما قال به بدلًا
من أن يرفضوا ما كان غيرَ مقبول لديه، مما أدى إلى النَّيل من سُمعته بوجه عام.
وهناك موضوع عام آخر تُناقِشه الفلسفة
الطبيعية، هو المكان والزمان والحركة. وقد تحدثنا عن المفهوم الأخير في صدد الكلام
عن التغير، ولكن يجدر بنا أن نُلاحِظ طريقة أرسطو في معالجة الموضوع؛ فعلى حين أن
الإيليين قد وجدوا صعوبات يستحيل التغلب عليها عندما حاولوا إيجاد تفسير للحركة، نرى
أرسطو يُعالِج المسألة من طرفها الآخر؛ فالحركة تحدث بالفعل، ولا بد أن تكون هذه
هي نقطة بدايتنا. وبناءً على تسليمنا بذلك تصبح المشكلة هي كيفية تعليلها. ونستطيع
أن نقول في هذا الصدد مستخدمين تعبيرًا حديثًا إن أرسطو اتخذ الموقف التجريبي في
مقابل الموقف العقلي عند الإيليين. ولهذه النقطة أهميتها، وخاصةً لأن هناك
اعتقادًا خاطئًا يشيع القول به، وهو أن ثمة شيئًا غير سليم، ولا يمكن الاعتماد
عليه في الموقف التجريبي. ففي حالة الحركة مثلًا يدافع أرسطو عن الرأي القائل بأن
هناك اتصالًا، وهذا موقف معقول إلى أبعد حد يُتيح له أن يمضي بعد ذلك إلى التساؤل
عما ينطوي عليه هذا الاتصال، مع الاعتراف باستحالة التوصل إلى المتصل عن طريق
المنفصل. وهذه النقطة الأخيرة كثيرًا ما يُغفِلها الرياضيون الذين كانوا يأمُلون
منه أيام فيثاغورس في تشييد عالم رياضي من لا شيء. فعلى حين أن من الممكن بناءَ
نظرية تحليلية في الاتصال على أساس منطقي بحت، فإن تطبيقها على الهندسة يتوقف على
التسليم مقدمًا بالاتصال.
لقد كان نوع الحركة الذي بحثناه من قبل هو
التغير الكيفي، ولكنَّ هناك نوعَين آخَرَين للحركة، هما التغيير الكمي والتغير في
المكان. وهذه هي الفئات الثلاثة الوحيدة التي يمكن أن تندرج تحتها الحركة، فليس من
الممكن وفقًا لنظرية أرسطو إرجاعُ كل تغير إلى حركة الجزئيات، كما فعل الذريون؛ إذ
إن من المستحيل إرجاعَ مقولة أو فئة إلى الأخرى، وهنا أيضًا نجد رأي أرسطو يميل
إلى ناحية المذهب التجريبي، أما الذريون الذين كانوا — كما رأينا — ورثة التراث
الإيلي، فكانوا يُفكِّرون على أساس مبدأ الرد، الذي يتميز به الفلاسفة العقليون.
أما نظرية أرسطو في الزمان والمكان فتشترك
مع الآراء الحديثة في جوانب كثيرة؛ فأرسطو يستدل على وجود المحل أو الموقع من
حقيقة أن الموضوعات المختلفة يمكنها أن تشغل نفس المكان في أزمنةٍ مختلفة. وعلى
ذلك فمن الواجب التمييز بين المكان وبين ما يوجد في المكان، ولكي نُحدِّد موقع
شيءٍ ما يمكننا أن نبدأ بتحديد منطقة يكون فيها، ثم نزيد هذه المنطقة تحديدًا
بالتدريج، حتى نصل إلى محله الخاص. وهذه الطريقة في التفكير هي التي أدت بأرسطو
إلى تعريف محل جسمٍ ما بأنه حدوده، ولكن هذا يبدو ظاهريًّا كما لو كان نتيجة هزيلة
يتم الوصول إليها بعد مناقشة مشكلة تبدو عويصة حقًّا. غير أن تحليل هذا النوع من
المشكلات يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى بلوغ نتيجة تدهشنا بساطتها وواقعيتها، وفضلًا
عن ذلك فإن هذه الحلول مهما بدت مائعة، تنطوي دائمًا على نتائج هامة؛ ففي الحالة
الراهنة نستنتج أن مِن المعقول بالنسبة إلى أي موضوع أن نسأل: أين هو، ولكن لا
معنى للسؤال: أين العالم؟ ذلك لأن الأشياء كلها موجودة في المكان، أما الكون فلا،
فالكون ليس مُتضمَّنًا في أي شيء، وهو في الواقع ليس شيئًا بالمعنى الذي تكون به
الكراسي والطاولات أشياء. وهكذا نستطيع بكل ثقة أن نقول لأي شخص يود السفر إلى
الأطراف النهائية للعالم إنه يبحث عن شيءٍ يستحيل الاهتداء إليه.
ولكن ينبغي القول إن أرسطو في تحليله للمحل
أو الموضع لا يُقدِّم نظرية في المكان بالمعنى الذي يقصده الرياضيون أو
الفيزيائيون، بل إن ما يقوم به أقربُ إلى التحليل اللغوي، ومع ذلك فإن هناك صلةً
بين الأمرَين، فإذا استطعنا تحليل معنى المواضع أو المحلات، فإن هذا سيساعدنا بغير
شك على تحسين فهمنا للقضايا المتعلقة بالمكان.
وقد ذهب أرسطو على عكس الذريين، إلى أنه لا
وجود للفراغ، وهو يُقدِّم عددًا من الحجج لإثبات هذا الرأي، وكلها حجج باطلة.
وأطرف هذه الحجج هو «برهان الخلف reduction ad absurdum»، الذي يبدأ من أن سرعة
الأجسام في وسطٍ ما تتفاوت حسَب كثافة الوسط ووزن الجسم، ومن هذا يستنتج أولًا أن
الأجسام لا بد أن تتحرك في الفراغ بسرعة لا نهائية، وهو أمر ممتنع؛ لأن كل حركة
تحتاج إلى وقتٍ ما. وفضلًا عن ذلك فإن الجسم الأثقل لا بد أن يتحرَّك أسرعَ من
الجسم الأخف، ولكن هذا لا يتعين أن يحدث في الفراغ، وعلى أساس هاتَين الحُجتَين
يُعلن أن الفراغ مستحيل، ولكن النتائج لا تلزم في الواقع عن المقدمات.
فقولنا إن الجسم يتحرك على نحو أسرع في
الوسط الأقلِّ كثافة لا يلزم عنه أن يتحرك الجسم بسرعة لا نهائية في الفراغ. أما
عن النقطة الأخرى فإن الملاحظة تُثبِت أن الجسم الخفيف يسقط في المكان المفرغ بنفس
السرعة التي يسقط بها الجسم الثقيل. على أن أخطاء أرسطو بشأن الفراغ لم تُكتشَف
إلا بعد عصره بحوالي ألفَيْ عام، ومع هذا كله فإن الإنصاف يقتضينا أن نقول إن
العلماء لم يكونوا مرتاحين لفكرة الفراغ، حتى في العصر الحديث؛ ولذا ملَئوه بمادةٍ
من نوعٍ خاص كالكثير، أو في الفترة الأخيرة بتوزيعات للطاقة.
أما مناقشة أرسطو للزمان فتشبه تحليله
للمكان إلى أبعد حد؛ فالأحداث تقع في تعاقبات زمنية مثلما توجد الأشياء في سلسلةٍ
من الأمكنة. وكما أن لكل شيءٍ مكانَه الخاص، فإن لكل حادثٍ أيضًا زمانَه الخاص.
وفيما يتعلق بالاتصال يُميز أرسطو ثلاث طرق يمكن أن تُرتَّب بها الأشياء؛ فهي إما
أن تكون متعاقبة، بحيث يأتي أحدُها بعد الآخر دون أي حد متوسط في السلسلة التي
نبحثها، وإما أن تكون الأشياء متصلة، كما يحدث حين تتجاور الحدود المتعاقبة،
وأخيرًا يكون الترتيب متصلًا إذا كانت الأطراف المتوالية تشترك في حدودٍ واحدة،
وإذا كان شيئان متصلَين أحدهما بالآخر فإنهما يكونان متلاصقَين، ولكن العكس ليس
صحيحًا، وبالمثل فإن الشيئَين المتلاصقَين متعاقبان أيضًا، ولكن ليس العكس.
وبعد تأكيد هذه الأمور الأولية، نرى أن
الكم المتصل لا يمكن أن يتألَّف من عناصر غير قابلة للقسمة، ومن الواضح أن غير
القابل للقسمة لا يمكن أن تكون له حدود، وإلا لأمكن تقسيمه بعد ذلك.
أما إذا لم يكن للأشياء غير القابلة للقسم
حجم، فلا معنى لوصفها بأنها متعاقبة أو متجاورة أو متصلة، فمثلًا توجد بين أية
نقطتَين في مستقيم نقطٌ أخرى، وبالمثل توجد بين أية لحظتَين في امتداد زمني لحظات
أخرى. وهكذا فإن المكان والزمان متصلان وقابلان للقسمة إلى ما لا نهاية، وفي هذا
الصدد ينتقل أرسطو إلى تفسير مفارقات زينون. والحل الذي يُقدِّمه صحيحٌ بالفعل،
ولكن تغيب عنه النقطة الرئيسية في حجج زينون. فكما رأينا من قبل لم يُحاوِل زينون
أن يُقدِّم نظرية إيجابية خاصة به، وإنما أخذ على عاتقه أن يُثبِت وجود شوائب في
نظرية الوحدات التي قال بها الفيثاغوريون. ولو ترَكْنا جانبًا تحريفاتِه الإيليةَ
لكان من الممكن جدًّا أن يتفق مع أرسطو.
أما تفاصيل النظريات العلمية عند أرسطو،
فلا ينبغي أن تَشغَلنا ها هنا؛ فعلى الرغم من أنه قام ببعض الأعمال الجيدة، ولا
سيما في البيولوجيا، فإن سِجلَّه يتعرض للتشويه بفعل آراء مسرفة ما كان ليقبلها
أيُّ فيلسوف من السابقين لسقراط.
لقد رأينا من قبل أن من الممكن ومن المشروع
البحثَ عن العلل الغائية في ميدان الأخلاق؛ لأن هذا هو الميدان الذي تستمد منه
الغائية في المحل الأول؛ ذلك لأن الخير عند أرسطو هو ما تسعى إليه الأشياء جميعًا،
ولما كان يرفض نظرية المثل فلن نجده عنده بالطبع مثالًا للخير. ويشير أرسطو إلى أن
لكلمة «الخير» استخداماتٍ عديدةً متباينة لا يمكن الجمع بينها في فئةٍ واحدة، ومع
ذلك فإن الخير في كافة مظاهره مُستمَد آخرَ الأمر من خيرية الله. وعلى ذلك فإن
اختلافه وبُعده عن نظرية المثل ليس بالقدر الذي يبدو عليه للوهلة الأولى، والواقع
أننا نُصادف هذا النوع من التأرجح في كافة جوانب فلسفة أرسطو؛ فهو من جهة ينفصل عن
الأكاديمية، ومن جهةٍ أخرى يبدو راجعًا إليها. وفي بعض الحالات التي نتحدث عنها
الآن يكون من الممكن التمييزُ بين الجانبَين وبحثُ الجانب الأول بحثًا مستقلًّا.
والواقع أن التحليل الذي يُقدِّمه لاستخدامات لفظ «الخير» يُزوِّدنا ببعض
التمييزات القيِّمة التي قد يُغفِلها المرء أحيانًا، وهذه مسألة هامة، ولكنها لا
توصلنا إلى الكثير، وإن كان بعض المحللين اللغويين المحْدَثين قد يقولون إنه لا
يتبقى شيء ينبغي عمله بعد هذه النقطة، ولكنهم ربما كانوا في ذلك مُتعجِّلين، إذ
إنهم لا يعملون حسابًا لذلك الانتشارِ الشعبي الواسع الذي تحظى به بعض ضروب اللغو.
وعلى أية حال فإن الحقيقة ليست مسألةَ قرار يُؤخَذ بالأغلبية.
أما عن الموقع الميتافيزيقي لفكرة الله،
فإن هذه في نظر أرسطو مسألةٌ لا شخصية تمامًا؛ فالله هو المحرك غير المتحرك الذي
يعطي للعالم الدفعة المحرِّكة الأولى. وبعد أن يقوم بهذا العمل، لا يعود لديه
اهتمام إيجابي بالعالم، وهو قطعًا لا يُراقِب انفعال البشر. إن إلهه إلهٌ فلسفي لا
لون له، وما هو إلا ملحق من ملاحق نظريته في السببية.
ولكي نُلِم بجوهر النظرية الأخلاقية عند
أرسطو ينبغي أن نقول شيئًا عن نظرية النفس عنده؛ فهو يستعير من أفلاطون التقسيم
الثلاثي للنفس، فيتحدث عن النفس العادية أو النامية، وعن النفس الحاسة، والنفس
العاقلة، وأولى هذه النفوس تنتمي إلى جميع الكائنات الحية؛ لأن لديها كلِّها
تمثيلًا غذائيًّا. أما الحساسية فتنتمي إلى الحيوانات والبشر، لا إلى النبات، على
حين أن العقل وقفٌ على الجنس البشري. ولا تظهر الأخلاق إلا على المستوى العاقل؛
فالنباتات تتغذَّى وتنمو فحسب، والحيوانات تكتفي بأن تعيش كالحيوانات، والنفس التي
تُضفي على الجسم وحدةً هي صورةٌ لمادتها، وهي لا تظل باقية بعد الموت بمعنًى شخصي،
وإن كان العقل بما هو كذلك خالد.
وتنشأ المشكلة الأخلاقية عندما نسأل عن
غاية الحياة البشرية، وهنا يرى أرسطو أن الغاية هي سعادة النفس العاقلة، وهذه
بدورها تعني عنده حياة عقلية نشطة تزينها الفضيلة، ويُمارسها المرء بلا انقطاع،
وهكذا فإن الفضيلة تبعًا لنظرية أرسطو هي وسيلة لغاية. أما هذه الغاية فإنها
بالطبع لا تتحقق بنفس المقدار لكل شخص، غير أنها مع ذلك هي أسمى هدف يُمكن أن
يَبلغه الإنسان؛ فحياة التأمل النظري هي الأفضل تمامًا كما كانت عند سقراط.
ومن المهم أن نُدرِك أن هذا لا يعني
بالنسبة إلى اليوناني الذي كان يعيش في عمر أرسطو اعتزال الحياة والانصراف عن
شئونها.
فالحياة الأخلاقية تتطلب أولًا نشاطًا
وفاعلية، وإن كانت هذه ينبغي أن تكون نزيهة، وهكذا فإن حياة التأمل النظري ليست هي
السببَ الذي أدى إلى التخلي عن المنهج التجريبي، على الرغم من أن أرسطو يُؤكِّد
أهمية التأمل النظري لحقيقة أُدرِكَت من قبل، أكثر مما يؤكد أهمية الكشف الجديد.
ويؤدي هذا إلى صعوبةٍ لم ينتبه إليها أرسطو؛ إذ إن المرء لكي يكون لديه شيء يختبره
أو يُقدِّره، لا بد أن يقوم بجهدٍ عقلي أولي؛ فمَن الذي يحدد إن كان قد أنفق من
هذا الجهد قدرًا كافيًا؟ الواقع أن البحث العلمي لا يمكن أن يُحدَّد على هذا
النحو، وثانيًا فإن المواطن الصالح لا بد أن يُؤدِّي واجباته الإجماعية، ويقوم
بخدماتٍ متعددةٍ في السلم والحرب. أما تصور الفلسفة في برج عاجي، فيرجع إلى
الرواقيين، الذين كان انصرافهم عن عالم الحس هو الذي أدى إلى ذبول الحركة العلمية.
وفيما يتعلق بالفضائل الأخلاقية، أو فضائل
الشخصية، يُقدِّم أرسطو نظرية الفضيلة بوصفها وسطًا؛ ففي كل حالةٍ يمكن أن يكون
هناك إفراط أو تفريط، وكلاهما لا يُشكِّل أساسًا للسلوك القويم، وإنما تَكمُن
الفضيلة في موقعٍ ما بين هذَين الطرَفَين. مثال ذلك أن الشجاعة الحقة ليست هي العدوانيةَ
المتهورة، ولا الانسحابَ الهيَّاب.
وقد كانت نظرية الوسط مستوحاة من نظرية
التناغم التي ترجع إلى فيثاغورس وهرقليطس. وينتقل أرسطو إلى تقديم صورة للإنسان
الذي يملك كل الفضائل، أي الإنسان ذي النفس الكبيرة. وهذه الصورة تعطينا فكرة
معقولة عن الأشياء التي كان يشيع الإعجاب بها في سلوك المواطنين في ذلك العصر.
ونتيجةُ هذه الصورة باختصار تَفرض نفسَها علينا فرضًا، وإن كان غياب التواضع
الكاذب منها أمرًا يدعو إلى الارتياح؛ فعلى المرء ألا يُبالِغ في تقدير قيمته،
ولكن عليه أيضًا ألا يحط من قدر نفسه، ولكن الإنسان الكريم النفس لا بد أن يكون في
النهاية نوعًا نادرًا بحق؛ لأن معظم الناس لا تتوافر لهم أبدًا فرصُ ممارسة كل هذه
الفضائل. ويركز أرسطو جهده كما فعل سقراط وأفلاطون على الصفوة الأخلاقية.
على أن نظرية الوسط لا تنجح كل النجاح،
فكيف نعرف الصدق مثلًا؟ إننا نعترف بأنه فضيلة، ولكنا لا نستطيع القول إنه يحتل
موقعًا وسطًا بين الكذب السافر والكذب المحدود، وإن كان المرء قد يعتقد أن هذا
الرأي ليس مكروهًا في بعض الأوساط. وعلى أية حال فإن مثل هذه التعريفات لا تنطبق
على الفضائل العقلية.
أما عن الخير والشر الذي يمارسه البشر، فإن
أرسطو يعتقد أن العقل البشري إرادي، إلا حيث يكون هناك قهر أو جهل، وعلى عكس ما
كان يقول به سقراط، اعترف أرسطو بأن المرء قد يقترف الشر عامدًا، وقد قام إلى جانب
هذا بتحليلٍ لمعنى الاختيار، وهي مشكلة لم يكن من الممكن بالطبع أن تنشأ في إطار
النظرية القائلة إنه لا أحد يرتكب الخطأ مختارًا.
وقد دافع أرسطو في نظريته عن العدالة، عن
مبدأ العدالة التوزيعية الذي نراه ساريًا في تعريف سقراط للعدالة في محاورة
«الجمهورية». فالعدالة تتحقق عندما يتلقى كل فرد النصيب الذي يستحقه، ولكن الصعوبة
الكامنة في هذا الرأي هي أنه لا يُقدِّم أساسًا لتحديد ما يستحقه كل شخص. فماذا
ينبغي أن تكون المعايير في هذه الحالة؟ إن سقراط يؤكد معيارًا واحدًا على الأقل،
وهو معيار يبدو موضوعيًّا بدرجةٍ معقولة، وأعني به معيار التعليم. وهذا رأي واسع
الانتشار بيننا اليوم، على أنه لم يكن كذلك في العصور الوُسطى، على أن من الضروري
كما هو واضح أن تُحَل مشكلة تحديد ما يستحقه المرء إذا ما شئنا تطبيق نظرية
العدالة هذه. وأخيرًا لا بد أن نقول كلمة عن آراء أرسطو في الصداقة.
فلكي يعيش المرء حياةً خيِّرة ينبغي أن
يكون له أصدقاء يُشاورهم ويرتكن إليهم في وقت الشدة. وفي رأي أرسطو أن الصداقة
امتداد لحرص المرء على ذاته، يسير في اتجاه الآخرين؛ فمن مصلحتك الخاصة أن تحب
لأخيك ما تحب لنفسك. وهنا أيضًا نجد الأخلاق الأرسطية مشوبة بطابَع التعالي
والتركيز حول الذات.
وحين ننتقل إلى بحث النظرية السياسية عند
أرسطو، نجد أمرَين يستلفتان انتباهنا بقوة منذ البداية؛ أولهما: أن البرهان في
مجال السياسية غائيٌّ بالضرورة، وقد كان أرسطو على وعيٍ تام بذلك.
وثانيهما: أن هناك شِبهَ تركيزٍ كامل على
دولة المدينة وحدها، ولنلاحظ بالنسبة إلى هذا الأمر الثاني أن أرسطو لم ينتبه إلى
أن أيام دولة المدينة اليونانية كانت قد بدأت تزول حتى خلال حياته هو ذاته؛ إذ
كانت مقدونيا قد امتلكت زمام القيادة في اليونان، وانتقلت تحت زعامة الإسكندر إلى
تشييد إمبراطورية كبرى. ومع ذلك لم يُبدِ أرسطو إلمامًا بالمشكلات السياسية
لتنظيمٍ كهذا. صحيحٌ أن هناك بضعَ إشارات باهتة إلى الملك الأعظم (ملك الفرس)،
وإلى مصر وبابل، غير أن هذه الاستطراداتِ الثانويةَ المتعلقة ببلادٍ خارجية لم يكن
لها من وظيفة سوى زيادة إبراز التضاد بينها وبين اليونان.
وظلت دولة المدينة في نظر أرسطو هي التي
تمثل الحياة السياسية في أعلى صورها، أما ما يحدث في الخارج فهو ضرب من البربرية
مهما اختلفَت أشكاله.
ومنذ البداية يستخدم أرسطو المنظور الغائي
الذي تحدثنا عنه في موضعٍ سابق؛ فالتجمعات تتكوَّن لكي تسعى نحو غاية معينة، ولما
كانت الدولةُ هي أعظمَ هذه التجمعات وأشملها، فلا بد أن تكون الغاية التي تسعى
إليها هي الأعظم. وهذه الغاية هي بالطبع الحياة الخيرة كما عرَضها مذهبه في
الأخلاق، وهي تتحقق من خلال مجتمع له حجم معين، وأعني به دولة المدينة، التي تتكون
عن طريق ضم جماعات أصغر ترتكز بدورها على الجماعة المنزلية أو الأسرة. ومن طبيعة
الإنسان أن يحيا بوصفه حيوانًا سياسيًّا؛ لأنه يصبو إلى الحياة الخيرة. فلا يوجد
إنسان من الفانين العاديين قادر على الاكتفاء بذاته إلى حدِّ أن يعيش وحيدًا.
وينتقل أرسطو إلى مناقشة مشكلة الرق، فيقول
إننا نجد في كافة مظاهر الطبية ازدواجيةً بين الأعلى والأدنى، ويتمثل ذلك في النفس
والجسم، والإنسان والحيوان. وفي مثل هذه الظروف يكون الأفضل للطرفَين أن يكون هناك
حاكمٌ ومحكوم، فاليونانيون أعلى بطبيعتهم من البرابرة؛١٤ ومِن ثَم فإن من
الطبيعي أن يكون الأجانب عبيدًا، ولكن هذا لا ينطبق على اليونانيين. ونستطيع أن
نجد في ذلك اعترافًا على نحوٍ ما بأن الرِّقَّ لا يمكن تبريرُه في نهاية الأمر؛
ذلك لأن كل قبيلة من البرابرة ستنظر إلى نفسها بغير شك على أنها أسمى، وتعالج
المسألة من وجهة نظرها الخاصة. والواقع أن هذا هو ما كان يقوم به بالفعل أشباهُ
البرابرة المقدونيون.
وعندما تحدث أرسطو عن مشكلة الثروة ووسائل
اكتسابها، قام بتمييز أصبح له تأثيرٌ كبير خلال العصور الوسطى؛ فالشيء تكون له
قيمتان؛ إحداهما: قيمته الخاصة، أو قيمته عند الاستعمال كما يحدث عندما يلبس المرء
زوجًا من الأحذية. أما الثانية: فهي قيمته في التبادل، وهي تؤدي إلى نوعٍ من
القيمة غير الطبيعية، كما يحدث عند مبادلة زوج الأحذية، لا بسلعةٍ أخرى من أجل
الاستعمال الخاصِّ المباشر، بل بمبلغٍ من المال. وللمال مزايا معيَّنة، من حيث إنه
يُمثِّل شكلًا مركزًا من أشكال القيمة يمكن حمله بطريقةٍ أسهل، ولكن له عيوبه التي
تتمثل في أنه يكتسب نوعًا من القيمة المستقلة الخاصة به، وأسوأ مثل لذلك عندما
يُقرض المال بفائدة، على أن قدرًا كبيرًا من اعتراضات أرسطو يرجع على الأرجح إلى
التحامل الاقتصادي والإجماعي؛ إذ كان يرى أنه لا يليق بالسيد المهذب أن يعكف على
جمع المال على حساب رعاية الحياة الفاضلة، ولكنه نسي أن السعي وراء هذه الأهداف
مستحيل بغير بعض الموارد المالية. أما عن الإقراض فإن اعتراضه عليه مبني على نظرة
ضيقة إلى وظيفة رأس المال. فلا جدال في أن الرجل الحر إذا أصابه الفقر فقد يصبح
عبدًا إذا ما استعان بأحد المرابين في وقتٍ تكون فيه ثروته الخاصة سائرة نحو
الهبوط، وهذا أمر يحق لنا أن نعترض عليه بقوة، غير أن هناك استخداماتٍ أخرى
بنَّاءةً لرأس المال من أجل تمويل المشروعات التجارية، ولكن من الجائز أن أرسطو لم
يشعر بالرضا عن هذا النوع من الإقراض؛ لأن التجارة الواسعة النطاق، وخاصة مع
الأجانب كانت تُعَد ضرورة مؤسفة.
فإذا انتقلنا الآن إلى مناقشة الدولة
المثلى، وجدنا أن أوصافها عند أرسطو أكثرُ مرونة وأقلُّ إحكامًا من ذلك التخطيط
الدقيق الذي نجده في «الجمهورية»، ويُؤكِّد أرسطو بوجهٍ خاص أهمية وحدة الأسرة،
وهو يرى أن تكوين عاطفة حقيقة يُحتِّم تضييق النطاق الذي تُمارَس عليه هذه
العاطفة؛ ولذا فإن الطفل لا بد له لكي يتلقى العناية السليمة من أن يعيش في ظل
رعاية والِدَيه، أما المسئولية الجماعية الخالصة في هذا الميدان فتؤدي إلى
الإهمال. ومن جهةٍ أخرى فإن المدينة المثلى كما رسمَتْها «الجمهورية» موحَّدة
الاتجاه أكثر مما ينبغي. وهي تغفل حقيقة هامة، هي أن الدولة تجمع — في حدودٍ معينة
— بين مصالح متباينة. ولنلاحظ في هذا الصدد أن المرء لو اعترف بتعدد المصالح لما
وجد حاجة إلى «الأكاذيب الملكية»، وفيما يتعلق بملكية الأرض يوصي أرسطو بأن تكون
ملكيةً خاصة، ولكن نواتج الأرض ينبغي أن تتمتع بها الجماعة كلها، ومعنى ذلك أنه
يدعو إلى شكل مستنير من أشكال الملكية الخاصة، يستخدم فيها المالك ثروته من أجل
صالح الجماعة، والشيء الذي يُولِّد هذا الشعور بالمسئولية (اتجاه المجتمع) هو
التعليم.
ولقد أخذ أرسطو بوجهة نظرٍ ضيقة إلى حدٍّ
ما في نظرته إلى المواطنة؛ فهو يريد أن يقصر لقب المواطن على أولئك الذين لهم حقُّ
الاقتراع، ويكون لهم في الوقت ذاته دور مباشر وفعال في عملية حكم الدولة. وهذا
يؤدي إلى استبعاد جماهير الزُّراع والصُّناع الغفيرة، الذين يحكم عليهم بأنهم لا
يصلحون لممارسة المهام السياسية. أما إمكان الاشتراك لا الحكم عن طريق التمثيل
النيابي فلم يكن يخطر ببال أحد في ذلك الحين.
وقد اقتفى أرسطو إلى حدٍّ بعيد أثر التخطيط
الذي وضعه أفلاطون في محاورة «السفسطائي» بالنسبة إلى مسألة أنواع الدساتير المختلفة.
غير أنه يُبرز أهمية الثروة في مقابل
العدد؛ فليس من المهم أن تحكم القلة أو الكثرة، وإنما المهم هو مدى السلطة
الاقتصادية التي يملكها من يحكمون. أما عن عدالة حقوق المطالبين بالسلطة، فإن
أرسطو يعترف بأن الجميع يُطالبون بالسلطة لأنفسهم، مُستنِدين إلى مبدأ واحد
للعدالة في كل حالة؛ هو المبدأ القائل إن الناس المتساوين ينبغي أن يكون لهم نصيب
متساوٍ، أما غير المتساوين فلا، ولكن الصعوبة تكمن في تقدير معنى المساواة
واللامساواة؛ ذلك لأن من يتفوقون في ميدان معين كثيرًا ما يتصورون أنفسهم متفوقين
في كل شيء. والوسيلة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي في النهاية الاعتراف بالمبدأ
الأخلاقي، فالمساواة ينبغي أن يُحكَم عليها على أساس معيار الخير، والخير هو الذي
ينبغي أن تكون له السلطة.
وبعد عرض طويل لأنواع الدساتير المختلفة،
يصل أرسطو إلى نتيجةٍ هي أن أفضل دستور على وجه العموم هو ذلك الذي لا تكون فيه
الثروة مُفرِطة، ولا تكون شحيحة؛ فالدولة التي تغلب فيها الطبقة الوسطى هي الأفضل
والأكثر استقرارًا، ثم ينتقل إلى مناقشة أسباب الثورة ووسائل مكافحتها. فالسبب
الأساسي هو العدوان على مبدأ العدالة؛ لأن تساويَ الناس أو عدمَ تساويهم في جوانبَ
معينة، لا يعني أنهم كذلك في كافة الجوانب. وأخيرًا يُقدِّم عرضًا للدولة المثلى؛
فسُكَّان هذه الدولة ينبغي أن يكون لهم الحجم المناسب، والمهارات المناسبة، ويجب
أن يكون في استطاعة العين البشرية أن تُحيط بحدودها من فوق قمة جبل، ولا بد أن
يكون مواطنوها من الإغريق؛ لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يجمعون بين حيوية الشعوب
الشمالية وذكاء الشعوب الشرقية.
وأخيرًا ينبغي أن نُشير إلى كتابٍ كان له،
برغم ضآلة حجمه، تأثيرٌ هائل على تاريخ النقد الفني، ولا سيما في ميدان الأدب
المسرحي، ذلك هو كتاب «الشعر» لأرسطو، وهو الكتاب الذي خصَّصه كلَّه لمناقشة
التراجيديا والشعر الملحمي. وينبغي أن يُلاحَظ أن لفظ «الشعر» ذاته poetics يعني حرفيًّا في أصله اليوناني، عمليةَ صُنع الأشياء. ولذلك كان من
الممكن بوجهٍ عام استخدامُه للتعبير عن أي نشاط إنتاجي، ولكن هذا الاستخدام يقتصر
في سياقنا هذا على الإنتاج الفني، فالشاعر بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة اليوم هو
صانعُ الأبيات.
إن كل فن في رأي أرسطو يعتمد على المحاكاة،
وهو يُقدِّم تصنيفًا للفنون يبدأ بتمييز التصوير والنحت عن الباقين، تاركًا
الموسيقى والرقص والشعر بمعناه الحديث بوصفها فئة واحدة.
وتتميز الأنواع المختلفة للشعر تبعًا
لمختلف الطرق التي تحدث بها المحاكاة، غير أنه لا يشرح لنا أبدًا المقصود
بالمحاكاة. وبطبيعة الحال فإن الفكرة مألوفة في ضوء نظرية المثل التي يمكن فيها أن
يُقال عن الجزئيات إنها تُحاكي الكليات. ويبدو أن المحاكاة عند أرسطو تنطوي على
استخدام وسائل مُصطنَعة من أجل إثارة مشاعر مشابهة للمشاعر الحقيقية، ويظهر لنا أن
المناقشة بأسرها تدور وفي ذهن أرسطو فكرة الفن الدرامي، ما دام هذا هو الميدانَ
الذي يُطبق فيه مبدأ المحاكاة طريقة طبيعية تمامًا. ويزداد ذلك وضوحًا حين ينتقل
أرسطو إلى الحديث عن محاكاة الفعل البشري؛ فسلوك الناس يمكن أن يُصوَّر على أنحاءٍ
ثلاثة؛ فقد نُصوِّرهم على ما هم عليه بالضبط، أو قد نستهدف محاكاة شيء أعلى من
مقاييس السلوك العادية، أو شيء أدنى منها. وعلى هذا النحو يمكننا أن نميز بين
المأساة (التراجيديا) والملهاة (الكوميديا). ففي المأساة يُصوَّر البشر بطريقةٍ
أعظم مما هم عليه في الحياة، وإن لم تكن بعيدة عنا إلى الحد الذي يَحول بينا وبين
إبداء اهتمام متعاطف بأحوالهم. أما الملهاة فتُصوِّر الناس بطريقةٍ أسوأ مما هم
عليه؛ لأنها تؤكد الجانب المضحك في الحياة. فالعنصر الهزلي في شخصية الإنسان يُعَد
نقصًا، وإن لم يكن نقصًا ضارًّا بوجهٍ خاص. ولنلاحظ هنا نوعًا من المزج بين القيم
الفنية والقيم الأخلاقية، وهو ميل يرجع أصله إلى محاورة «الجمهورية» حيث يرتبط
التقدير الفنيُّ بالمعايير الاجتماعية والأخلاقية ارتباطًا وثيقًا.
فالشرُّ البحت لا يُمكِن أن تكون له قيمة
جمالية، وهي نظرة قاصرة لا تعترف بكل المقاييس الأدبية الحديثة.
ويميز أرسطو بعد ذلك بين الشعر الذي يروي
قصة، والشعر الذي يعرض حدثًا، وهذا يؤدي إلى التمييز بين الملحمة والدراما.
فأصل الفن الدرامي يرجع إلى فنون الإلقاء
المرتبطة بالطقوس الدينية. ومن الواضح أن المأساة اليونانية قد بدأت من أناشيدَ
معينة كانت تُلقى في الطقوس الأوروبية، بل إن من التفسيرات الممكنة للَّفظ ذاته
أنه يُشير إلى أغنية للماعز، وهو الحيوان الذي كان رمزًا من رموز أورفيوس، والكلمة
اليونانية التي تدل على الماعز هي tragos، كما أن تكملتها في كلمة
«تراجيديا» وهي ode تعني أنشودة، ولقد كان للطقوس التراجيدية في أقدم صورها منشدٌ يروي
أشعارًا، وجمهورٌ يرد عليه، كما يحدث في الشعائر الدينية في أيامنا هذه إلى حدٍّ
بعيد. ومن هذا الشكل تطورت فكرة الممثل الأول والجوقة (الكورس)، كما يُبيِّن أرسطو.
أما الملهاة فقد نشأت عن الأعياد الديونيزية الصاخبة، كما يدل اسمها، الذي يعني
أنشودة صاخبة.
وعلى حين أن الشعر الغنائي يستخدم وزنًا
واحدًا طوال الوقت، فإن المأساة تستخدم أوزانًا مختلفة في الأجزاء المختلفة، ولكن
الأهم من ذلك أن إطار المشاهد في المأساة محدود. ولا يُقدِّم إلينا أرسطو نظرية
واضحة المعالم عن وحدة المكان والزمان والحدث، بل إن ما يُقدِّمه أقرب إلى أن يكون
حدودًا عملية كامنة في نوعَي التأليف، فلا بد أن تُؤدَّى المسرحية في جلسةٍ واحدة،
وفي مكانٍ محصور، على حين أن الملحمة يُمكن أن تكون طويلة إلى غير حد، وتستخدم
الخيال مسرحًا لها. ويُعرِّف أرسطو المأساة بأنها محاكاة الفعل البشري، وينبغي أن
تكون فاضلة، مكتملة، ذات أبعاد معقولة، وأن تُثير في المشاهد شُعورَين متعاطفَين
بالرهبة والشفقة، بحيث تتطهَّر نفسه بمثل هذه المشاعر.
وفيما يتعلق بالاكتمال يؤكد أرسطو أن
المأساة يجب أن تكون لها بداية ووسط ونهاية. وقد يبدو لأول وهلة أن هذه العبارة لا
تُضيف إلى معلوماتنا الكثير، غير أن المقصود منها شيء معقول تمامًا؛ فلا بد أن
تكون للمأساة نقطةُ بداية معقولة، وأن تتطور بطريقةٍ منسَّقة، وتكون لها نتيجة
حاسمة، أي إنها لا بد أن تكون مكتملة بمعنى أنها مكتفية بذاتها. وللحجم أهميته؛
لأن الذهن يتراخى إذا كانت المسرحية أطول مما ينبغي، أما إذا كان قِصَرها
مُفرِطًا، فإنها لا تثبت في الذهن.
والعلة الغائية للمأساة هي تنقية الروح عن
طريق تطهير الانفعالات، وهذا هو معنى الكلمة اليونانية catharsis (التطهير). فعن طريق تجربة
الانفعالَين البديلَين؛ انفعالَيِ الرهبة والشفقة، تُزيح النفس عن ذاتها هذا
الحمل، وعلى ذلك فإن للمأساة هدفًا علاجيًّا، وهنا نجد المصطلح المستخدم
مُستمَدًّا من الطب. أما الجانب الذي كانت فيه آراء أرسطو تتسم بالأصالة فهو اقتراح
العلاج عن طريق جرعة بسيطة من الداء ذاته، وهو نوع من التحصين العلاجي النفسي،
وبالطبع فلا بد أن يُسلِّم المرء في هذا الوصف لغاية المأساة بأن الرهبة والشفقة
يتملَّكانِنا جميعًا، وهو أمر صحيح على الأرجح.
وينتقل أرسطو إلى النظر في الجوانب
المختلفة للعمل التراجيدي.
وأهم هذه الجوانب هو عُقْدة المسرحية، التي
لولاها لما وُجِدت المسرحية أصلًا، وبقدر ما تُحقِّق الشخصيات ذاتها من خلال هذه
العقدة، فإنها تُعَد تابعة لها، وتصبح الشخصية الموجودة بالقوة متحققة بالفعل في
العقدة. أما الحدث فهناك نوعان من الأحداث لهما أهمية خاصة؛ أولهما: التحول
المفاجئ في المصير، وثانيهما: اكتشاف طرف غير متوقع يُؤثِّر في عُقدة المسرحية.
هذه الأحداث ينبغي أن تطرأ على شخص لا يتميز بفضائلَ أرفع مما ينبغي، ويكون
انهياره ناتجًا لا عن رذيلة، وإنما عن سوء تقديره الذي ينزل به من مكانته العليا،
ويجعله منبوذًا. ولهذا النوع من المواقف أمثلةٌ كثيرة في المسرح اليوناني.
ويشترط أرسطو بالنسبة إلى مسألة معالجة
الشخصية أن تكون قبل كل شيء مطابقةً لنمطٍ معين، فلا بد أن تُظهِر الشخصيات في
صورة مشابهة لما يحدث في الحياة الفعلية، كما هي الحال في عقدة المسرحية، وهذا هو
المعنى الذي ينبغي أن تُفهَم به تلك العبارة التي أدلى بها أرسطو في موضعٍ آخر،
والقائلة إن الشعر يتعامل مع مواقف كلية، على حين أن التاريخ يصف الجزئي؛ ففي
المأساة نتعرف على السمات العامة للحياة البشرية اليت تُضفي على العمل طابعًا
موحدًا، ومن المهم أن نُلاحِظ أن أرسطو لا يُقيم وزنًا كبيرًا لما قد نُطلِق عليه
اسم جانب الإخراج المسرحي، على الرغم من أنه قد تحدَّث عنه، ومعنى ذلك أن اهتمامه
يكاد ينحصر كله في القيمة الأدبية للعمل. ومن الجائز أنه نظر إلى التراجيديا على
أنها تصلح للقراءة بقدر ما تصلح للتمثيل على المسرح.
وعلى أية حال، فإن كتاب «الشعر» لا يُقدِّم
إلينا نظرية شاملة في الفن والجمال، وإنما يَعرِض بوضوح عددًا من المعايير التي
كان لها تأثير ضخم على النقد الأدبي منذ ذلك الحين، وأهم ما فيه هو امتناعه عن
الحديث عن مشاعر الكاتب ومقاصده، وتركيزه على الأعمال ذاتها، وهو أمر يُحمَد له.
لقد رأينا أن ظهور الفلسفة اليونانية قد
اقترن بظهور العلم العقلي؛ ذلك لأن من طبيعة المشاكل الفلسفية أن تظهر عند الحدود
القصوى للبحث العلمي. وهذا يَصدُق بوجهٍ خاص على الرياضيات؛ فمنذ وقت فيثاغورس لعب
الحساب والهندسة دورًا أساسيًّا في الفلسفة اليونانية. وهناك أسباب متعددة تجعل
للرياضيات أهمية خاصة في هذا الصدد؛ أولها: أن المشكلة الرياضية بسيطة واضحة
المعالم، وهذا لا يعني أن حلها سهل دائمًا، بل إنها لا يتعيَّن أن تكون بسيطة بهذا
المعنى. غير أن المشاكل العادية في الرياضيات بسيطة إذا ما قُورِنَت بمشاكل علم
وظائف الأعضاء مثلًا، ثانيًا: فإن الرياضيات تتميز بأن لديها طريقةً مستقرة للسير
في البرهان، وبالطبع فلا بد أن يكون شخص ما قد اهتدى إلى هذه الطريقة في البدء.
والواقع أن عمومية البرهان والإثبات هي اختراع يوناني على وجه التحديد، وفي الرياضة
تظهر وظيفة البرهان بوضوح يفوق ما نجده في معظم العلوم الأخرى، حتى على الرغم من
كل ما دار من مناقشات وما حدث من سوء فَهمٍ حول حقيقة ما يحدث في البرهان الرياضي،
وثالثًا: فإن نتائج أي برهان رياضي، بمجرد أن تُفهَم على النحو الصحيح، لا تقبل أي
شك. وبطبيعة الحال فإن هذا يصدق أيضًا على أي برهان سليم تكون مقدماته مقبولة،
ولكن الشيء المميز للرياضيات هو أن قَبولك للمُقدِّمات جزء لا يتجزأ من عملية
البرهان ذاتها، على حين أننا في الميادين الأخرى نقارن دائمًا بين النتائج
والوقائع؛ خوفًا من أن تكون إحدى المقدمات باطلة. فلا توجد في الرياضيات وقائعُ
خارجها تحتاج إلى مقارنة، ونظرًا إلى سمة اليقين هذه، فقد اعترف الفلاسفة في جميع
العصور بأن الرياضيات تُزوِّدنا بمعرفة من نوعٍ أرفعَ وأوثق مما يمكن اكتسابه في
أي ميدانٍ آخر. وقال الكثيرون إن الرياضيات هي المعرفة، بينما أنكروا هذا الوصف
على أي مصدر آخر للمعلومات، ونستطيع أن نقول مستخدمين لغة محاورة «الجمهورية»: إن
الرياضيَّات تنتمي إلى عالم الصور، ومن ثَم فهي تُزوِّدنا بمعرفة، على حين أن
الميادين الأخرى تختص بالجزئيات التي لا نملك عنها — على أحسن الفروض — إلا ظنًّا.
والواقع أن نظرية المثل يرجع أصلها إلى الرياضيات الفيثاغورية، وقد توسع فيها
سقراط بحيث جعلها نظرية عامة للكليات، على حين أنها انكمشت عند أفلاطون مرة أخرى
إلى ميدان العلم الرياضي.
وقرب نهاية القرن الرابع انتقل مركز النشاط
في الرياضيات إلى الإسكندرية، وكان الإسكندر الأكبر قد أسس هذه المدينة في عام
٣٢٢ق.م، وأصبحت بسرعة من أهم المراكز التِّجارية في البحر المتوسط، ونظرًا إلى
أنها تقف على بوابة أقاليم الشرق، فإنها تُشكِّل نقطة اتصال بين الغرب وبين
المؤثرات الثقافية الآتية من بابل وبلاد الفرس. وبعد فترةٍ قصيرة انتشرت فيها
طائفة يهودية كبيرة، واكتسبت الطابع الهيني (اليوناني) بسرعة. وقد أسس الباحثون
اليونانيون مدرسة ومكتبة اكتسبتا شهرة كبيرة في جميع أرجاء العالم القديم، ولم تكن
تداني مكتبة الإسكندرية أية مجموعة أخرى من الكتب، ولكن من سوء الحظ أن هذا المصدر
الفريد للعلم القديم والفلسفة القديمة قد التهمته النيران عندما استولت جحافل
يوليوس قيصر على المدينة في عام ٤٧ق.م، وبذلك ضاعت إلى الأبد موادُّ عظيمة الأهمية
عن كبار الكُتَّاب في العصر الكلاسيكي، ولا شك أن هناك أشياءَ أخرى أقلَّ أهمية
بكثير قد احترقت، وربما كان هذا الخاطر يُقدِّم بعض العزاء عندما نسمع عن تدمير
مكتبات.
كان أشهر رياضيِّي الإسكندرية هو إقليدس،
الذي كان يُلقي تعاليمه حوالي عام ٣٠٠ق.م، وما زال كتابه «الأركان أو العناصر Elements» واحدًا من أعظم ما تركه لنا العلم اليوناني؛ فهو يجمع في هذا الكتاب
بطريقةٍ استنباطية كلَّ المعارف الهندسية التي عُرِفت في عصره، وهكذا فإن الكثير
مما يضمه كتاب إقليدس لم يكن من ابتكاره هو، غير أننا ندين له بالعرض المنهجي
للموضوع، ولقد ظل هذا الكتاب طوال العصور نموذجًا حاول أن يحتذيَه الكثيرون.
فعندما عرض اسبينوزا كتابه «الأخلاق» طريقة
هندسية، كان إقليدس هو النموذجَ الذي حاكاه، ومثل هذا يُقال عن «مبادئ» نيوتن.
كان من المشكلات التي عالجها الفيثاغوريون
المتأخرون — كما رأينا — تكوينُ الأعداد الصماء بوصفها قيمًا محددة لتتابعات
الجذور المتصلة، ومع ذلك لم يَصُغ أحد أية نظرية حسابية كاملة عن هذه المشكلة،
وترتب على ذلك استحالةُ تقديم عرض للنسب على أساس حسابي؛ إذ إنه ظل من المستحيل
إعطاءُ العدد الأصم، أي العدد الذي لا يمكن قياسه اسمًا رقميًّا. أما في حالة
الأطوال فإن الأمر يختلف، بل إن الصعوبة قد كُشِفت لأول مرة في محاولة إعطاء رقم
لوتَرِ مثلث متساوي الساقَين قائم الزاوية طول ضلعه وحدة واحدة؛ لذلك ظهرت نظرية
متكاملة عن النسب في الهندسة، ويبدو أن مخترعها كان يودكسوس Eudoxus، الذي كان معاصرًا
لأفلاطون، أما الصورة التي وصلت إلينا هذه النظرية بها فنجدها عند إقليدس، حيث
عُرِضَت المسألة كلها بقدرٍ من الوضوح والدقة يدعو إلى الإعجاب، ثم حدثَت عودة
أخيرة إلى الحساب مع اختراع الهندسة التحليلية بعد ذلك بألفَيْ عام. والواقع أن
ديكارت عندما افترض أن الهندسة يمكن أن تُعالَج بالجبر، كان يُتابع نفس المثل
الأعلى العلمي الذي استهدفه الديالكتيك عند سقراط، وحين هدم ديكارت الفروض الخاصة بالهندسة،
وجد مبادئَ أعم يبني الهندسة عليها.
وهذا بعينه هو الهدف الذي سعى إليه
رياضيُّو الأكاديمية، أما مدى نجاحهم في بلوغه فهو أمر لن نعرفه أبدًا.
إن كتاب «الأركان» لإقليدس هو رياضة بحتة
بالمعنى الحديث، ولقد تابع رياضيو الإسكندرية أبحاثهم؛ لأنهم كانوا مهتمين بتلك
المشكلات، وكانوا في ذلك سائرين على درب تراث الأكاديمية، ولا تظهر هذه السمة في
أية حالة بنفس القدر من الوضوح الذي تظهر به عند إقليدس؛ إذ لا نجد لديه أبسطَ
تلميح إلى أن الهندسة يمكن أن تكون مفيدة عمليًّا، وفضلًا عن ذلك فإن إتقان علم
كهذا يقتضي مِرانًا ودأبًا طويلًا. وهكذا فعندما طلب ملك مصر إلى إقليدس أن
يُعلِّمه الهندسة في دروسٍ قليلةٍ سهلة، كان الرد المشهور الذي أجاب به هو أنه لا
يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات.
غير أن من الخطأ الاعتقادَ بأن الرياضيات
لم تكن لها فائدة عملية، ومن الخطأ كذلك الاعتقادُ بأن المشاكل الرياضية لا تنشأ
في أحيانٍ كثيرة من مشاكل عمَلية، ولكن التنقيب عن أصل نظريةٍ معينة شيء،
ومعالجتها في ذاتها شيء آخر. فهذان اهتمامان لا يميز بينهما الناس — في كثيرٍ من
الأحيان — بما فيه الكافية. فلا معنى لإلقاء اللوم على إقليدس؛ لأنه لم يُبدِ اهتمامًا
كافيًا بالظروف الاجتماعية للكشف الرياضي؛ إذ إن هذا شيء لم يكن له ببساطة اهتمامٌ
به، فحين تُقدَّم إليه كمية معينة من المعرفة الرياضية أيًّا كانت الطريقة التي
ظهرت بها هذه المعلومات، فإنه يمضي في طريق معالجتها، ويضعها في ترتيب استنباطي
دقيق. وهذا نوع من الممارسة العلمية لا تتوقف صحته على وضع المجتمع، أو على أي
شيءٍ آخر، بل إن هذه الملاحظات تنطبق على الفلسفة ذاتها. صحيحٌ بالطبع أن أوضاع
العصر تُوجِّه أنظار الناس إلى مشكلاتٍ معينةٍ في الوقت الراهن بدلًا من أن
تُوجِّههم إليها في وقتٍ سابقٍ أو لاحق، غير أن هذا لا يُؤثِّر بأي حالٍ في قيمة
النظريات التي تُوضَع لمواجهة هذه المشكلات.
وهناك اختراع آخرُ يُنسَب إلى يودكسوس Eudoxus، هو ما يُسمَّى بطريقة
الاستنفاد أو الاستغراق، وهي طريقة تُستخدَم في حساب المساحات التي تَحُدها أقواس
أو منحنيات، والهدف هنا هو استنفاد المكان المتاح عن طريق ملئه بأشكالٍ أبسط
يُمكِن معرفة مساحاتها بسهولة، وهذا بالضبط من حيث المبدأُ هو ما يحدث في حالة
حساب التكامل، الذي كانت طريقة الاستنفاد في الواقع مُمهِّدة له.
ولقد كان أشهر رياضي استخدم طريقة الحساب
هذه هو أرشميدس، الذي لم يكن عظيمًا في ميدان الرياضيات فحسب، بل كان أيضًا
مهندسًا فذًّا، وعالمًا بارزًا في الفيزياء. وقد عاش في سراقوزة، وذكر المؤرخ
بلوتارك أن مهارته الفنية ساعدته أكثر من مرة في حماية المدينة من أن تجتاحها جيوش
الأعداء. وفي النهاية غزا الرومان صقلية بأكملها، ومعها سراقوزة، وسقطت المدينة في
عام ٢١٢، وقُتِل أرشميدس خلال عملية التدمير التي أعقبَت احتلالها.
وتقول الأسطورة إن جنديًّا رومانيًّا طعنه
فأرداه قتيلًا، في الوقت الذي كان يعكف فيه على حل مشكلةٍ هندسيةٍ رسمها على
الرمال في حديقته.
وقد استخدم أرشميدس طريقة الاستنفاد من أجل
تربيع القطع الناقص والدائرة؛ فبالنسبة إلى القطع الناقص، يمكن الوصول إلى صيغةٍ
عدديةٍ دقيقةٍ عن طريق رسمِ عددٍ مُتعاقب إلى ما لا نهاية من المثلثات الأصغر
فالأصغر. أما في حالة الدائرة، فإن الإجابة تتوقف على العدد الذي يُمثِّل النسبة
التقريبية ط، وهو نسبة المحيط إلى القُطر، ولما كان هذا عددًا أصم، فإن طريقة
الاستنفاد يمكن استخدامها للوصول إلى مقادير تقريبية لهذه النسبة، وهكذا نضع
أشكالًا منتظمة داخلية وخارجية متعددة الأضلاع يزداد عدد أضلاعها بالتدريج، بحيث
تقترب أكثر فأكثر من المحيط. وتظل الأشكال الداخلية المتعددة الأضلاع التي نضعها
أقل في محيطها دائمًا من الدائرة، بينما تظل الأشكال الخارجية دائمًا أكثر، غير أن
الفرق يتضاءل بالتدريج مع ازدياد الأضلاع في العدد.
أما الرياضي العظيم الآخر في القرن الثالث
فكان أبولونيوس Apollonius السكندري، الذي اخترع نظرية القطاعات المخروطية، وهنا أيضًا نجد
مثالًا آخر للتخلي عن الفروض الخاصة؛ إذ إن كل الأشكال المنحنية التي تُرسَم بين
خطَّين مستقيمَين تبدو في ظل هذه النظرية على أنها حالات خاصة لشيءٍ واحد؛ هو
القطع المخروطي.
أما بالنسبة إلى الميادين الأخرى، فإن أعظم
نجاح أحرزه اليونانيون كان على الأرجح في ميدان الفلك. وقد تحدثنا من قبل عن بعض
هذه الإنجازات عند مناقشتنا لفلاسفة متعددين، على أن أعظم وأعجب إنجاز تحقق في هذه
الفترة هو كشف نظرية مركزية الشمس؛ إذ يبدو أن أرسطارخوس الساموسي، وهو مُعاصر
لإقليدس وأبولونيوس، كان أول مَن عرض هذا الرأي عرضًا كاملًا مفصَّلًا، وإن كان من
الجائز أنه كان معترفًا به في الأكاديمية قرب نهاية القرن الرابع. وعلى أية حال
فإن شهادة أرشميدس الموثوق بها تقول إن أرسطارخوس كان يعتنق هذه النظرية بالفعل،
كما نجد إشاراتٍ إليها عند بلوتارك، وجوهر هذه النظرية هو القول إن الأرض والكواكب
تدور حول الشمس التي تظل ثابتة هي والنجوم، وإن الأرض تدور حول محورها مع سيرها في
مدارها، وكان هراكليدس Heraclides، وهو أكاديمي ينتمي إلى القرن الرابع، قد عرَف أن الأرض تدور حول
محورها مرة في اليوم، على حين أن بيضاويةَ المدار كانت كشفًا ينتمي إلى القرن
الخامس، وعلى ذلك فلم تكن نظرية أرسطارخوس ابتكارًا خالصًا، ومع ذلك فقد كانت هناك
خصومة، بل عداوة تجاه هذا الخروج الجريء عن النظرة السائدة لدى الإنسان العادي في
ذلك الحين، ولا بد أن نعترف بأن خصومها كانوا يشتملون حتى على بعض الفلاسفة؛ وذلك
على الأرجح لأسبابٍ أخلاقية في المحل الأول؛ ذلك لأن إزاحة الأرض عن مركز العالم
لا بد أن تُؤدِّيَ إلى هدم المعايير الأخلاقية. وقد ذهب الفيلسوف كليانثس CleaNthes إلى حدِّ مُطالَبة اليونانيين بإدانة أرسطارخوس بتهمة الضلال، وهكذا
فإن الآراء غير المألوفة عن الشمس والقمر والنجوم تكون لها في بعض الأحيان نفسُ
خطورة الآراء الرافضة في السياسة. ويبدو أن أرسطارخوس أصبح بعد هذه الأزمة يُعبِّر
عن آرائه بقدر أكبر من التحفظ، وقد أدى الرأي القائل بأن الأرض تتحرك إلى إثارة
المشاعر الدينية في مناسبةٍ أخرى مشهورة، عندما اعتنق جاليليو نظرية كبرنيكوس.
وينبغي أن نلاحظ أن كبرنيكوس قد اقتصر على إحياء أو إعادة اكتشاف نظرية الفلكي
اليوناني الذي عاش في ساموس. وهناك ملاحظة هامشية تحمل اسم أرسطارخوس في أحد
مخطوطات كبرنيكوس، تشهد على هذه الحقيقة على نحوٍ قاطع. أما عن قياس الحجم
والأبعاد النسبية في داخل النظام الشمسي، فإن النتائج لم تصل كلها إلى نفس القدر
من النجاح؛ فأفضل تقدير للمسافة بين الأرض والشمس كان يبلغ حوالي نصف المسافة
الحقيقية. أما بُعد القمر فقد تم حسابه بقدرٍ معقول من الدقة، وتم التوصل إلى قُطر
الأرض في حدود ١٦ في المائة من الرقم الصحيح، وقد تحقق هذا الإنجاز على يد
إراتوسثنيس Eratosthenes الذي كان أمينًا لمكتبة الإسكندرية، وكان مُلاحِظًا عِلميًّا بارعًا،
فلكي يقيس محيط الأرض، اختار نقطتَين للملاحظة تقعان تقريبًا على خط طول واحد،
وكانت إحدى النقطتَين هي «سيني Syene»
على مدار السرطان، الذي تكون الشمس عنده في قمتها وقت الظهيرة، وقد
لاحظ ذلك عن طريق انعكاس الشمس في بئرٍ عميقة، وعلى مبعدة أربعمائة ميل إلى الشمال
في الإسكندرية، كان كل ما يلزم هو تحديد زاوية الشمس، وهو أمر يسهل القيام به عن
طريق قياسِ أقصر ظلٍّ لأحد الأبراج. ومن هذه المعلومة يمكن بسهولة الاستدلالُ على
محيط الأرض وقُطرها.
على أن الكثير من هذه المعلومات قد نُسِي
بسرعة؛ وذلك أساسًا لأنها كانت تتعارض مع المعتقدات الدينية في ذلك الحين. ومن
المفهوم بوضوح أن الفلاسفة أنفُسَهم قد أسهموا في ارتكاب هذا الخطأ؛ إذ إن علم
الفلَك الجديد كان يُهدِّد بالقضاء على نظرية الأخلاقية التي قالت بها الحركة
الرواقية. وقد تدفع هذه الحقيقة المراقب المحايد إلى أن يعلن أن الرواقية مذهب
سيئ، ومن ثَم ينبغي التخلي عنه، غير أن هذه النصيحة مثالية، ومن المؤكد أن أولئك
الذين تُدان آراؤهم على هذا النحو لن يتَخلَّوا عن موقعهم بلا قتال، والواقع أن من
أندر النعم أن يكون المرء قادرًا على أن يعتنق رأيًا معينًا باقتناع وتجرُّد في
الوقت ذاته. وهذا ما يُحاول الفلاسفة العلماء أكثرَ من غيرهم من البشر أن
يُدرِّبوا أنفسهم عليه، وإن كانوا في النهاية لا ينجحون فيخ أكثرَ مما ينجح الإنسان
العادي. على أن الرياضيات مِن أفضل الوسائل التي تُساعد على دعم هذا الاتجاه، ومن
هنا لم يكن من قبيل الصدفة أنْ كان عددٌ كبير من الفلاسفة رياضيِّين في الآنِ
نفسِه.
وأخيرًا، فربما كان من واجبنا أن نُؤكِّد
أن الرياضيات بالإضافة إلى ما تتميز به من بساطة مشكلاتها ووضوح تركيبها، تُفسِح
المجال لخلق الجمال، والواقع أن اليونانيين كانوا يملكون حاسة استطيقية (جمالية)
شديدة الرهافة، إذا جاز لنا أن نستخدم بالنسبة إليهم تعبيرًا لم يُعرَف إلا في
وقتٍ متأخر؛ فقد صيغ لفظ «الاستطيقا» لأول مرة في القرن الثامن عشر، على يد
الفيلسوف الألماني باومجارتن Baumgarten، وعلى أية حال فإن الرأي الذي أعرب عنه الشاعرُ كيتس Keats حين قال إن الحقيقة هي الجمال، هو رأي مُستلهَم من الروح اليونانية.
وينطبق هذا أيضًا على بناء البرهان الرياضي، فالمفاهيم التي نستخدمها في هذا
الميدان، كالأحكام والإيجاز، هي مفاهيمُ ذات طابع جمالي.
١ بين أثينا وإسبرطة (المترجم).
٢ التعبير الذي يستخدمه رَسل هنا هو Un-Athenien Activities تعبير مُوازٍ لذلك الذي كانت تستخدمه لجنة ماكارثي الأمريكية المشهورة
في أوائل الخمسينيَّات، والذي مارست به اضطهادًا بشعًا على أهل الفكر والثقافة في
أمريكا، وهو Un-American
Activities ولا شك أن التوازيَ في التعبير مقصود؛ لكي
يبين تشابه الحالتَين (المترجم).
٣ انظر التعليق على هذا الموضوع في تصدير المترجم.
٤ هو أشهر أنواع التعريف في المنطق التقليدي، وبه يتم تعريف الشيء
(السرير مثلًا) عن طريق الإشارة إلى الجنس الذي ينتمي إليه (قطعة أثاث) وصفة
أساسية «تفصله» عن بقية الأشياء التي تنتمي معه إلى هذا الجنس (تستخدم في النوم)،
فيكون التعريف هو: السرير قطعة أثاث تستخدم في النوم (المترجم).
٥ المتعارَف عليه أن هدف هذه المحاورة هو تعريف القُوى، ولكن المؤلف
اختار أن يُعبِّر عنها بلفظ «القداسة» (المترجم).
٦ الكلمة المعبِّرة عن «الفصل» في الإنجليزية هي Difference وتعني الاختلاف، أي إن التعبير يعني حرفيًّا: الإنسان حيوان يتميز
بشيءٍ مختلف.
٧ يشير المؤلف ضِمنيًّا إلى أن الجنون والحمق الذي يَغلِب على تصرفات
الإنسان يجعل تعريفه بأنه حيوان عاقل خطأً ساذجًا (المترجم).
٨ ومن جهةٍ أخرى، فإن المؤلف نفسه لا يُدرِك أن هذا الموقف يتعارض مع
وصفه لسقراط، قبل قليل، بأنه كان تجريبيًّا في نظريته الاجتماعية، يقول بإمكان
تغير القوانين، فقد كان سقراط وأفلاطون من أقوى أنصار ارتكاز القانون على الطبيعة،
أي على عنصر ثابت، لا على العُرف، أي العنصر المتغير، وكان ذلك من أهم أسباب
خصومتهما مع السوفسطائيِّين. وحقيقة الأمر أن الخلاف بين سقراط وأوطيفرون هو خلاف
بين نوعَين مختلفَين من القيم الثابتة، وليس بين فكرة الثبات وفكرة التغير في
العقيدة والقانون والأخلاق (المترجم).
٩ في الإنجليزية: Saving
appearances، ومعناها هنا يختلف عن
المعنى المألوف في اللغة العربية لهذا التعبير، الذي يُقصَد به الاحتفاظ بمظهرٍ
خارجي معين أمام الناس. فالمقصود بالمظاهر هنا أقرب إلى «الظواهر» بالمعنى العلمي
لهذه الكلمة، والمحافظة عليها تعني تقديم تفسير كافٍ لها. وسوف يستخدم رَسل هذا
التعبير مرارًا على صفحات هذا الكتاب، وذلك بنفس المعنى الذي أوضحناه في هذا الهامش
(المترجم).
١٠ تتضح الفكرة إذا تذكرنا أن أسقلبيوس كان إله الطب والشفاء عند
اليونانيين، ومن ثم فإن تقديم التضحية له واجب ما دامت روحه سوف تشفى بالموت، ولكن
هذا يثير سؤالًا آخر: ما مدى خروج سقراط عن العقيدة الشائعة إذا كان يُمارس طقوسها
حتى اللحظة الأخيرة على هذا النحو؟ ألا يستدعي هذا إعادة تفسير لتهمة الخروج عن
الدين الموجَّهة إليه؟ (المترجم)
١١ يلاحظ في هذا الجزء كله أن اللغة الإنجليزية تستخدم ألفاظ Being Not-Being كتعبير عن الوجود واللاوجود، ثم تستخدمها بمعنى «يكون كذا» ولا يكون
كذا، وكلها في تلك اللغة ألفاظ واحدة، بينما في العربية يختلف لفظ «الوجود» عن لفظ
«يكون»، وقد يكون فعل الوجود هنا مُضمَرًا في معظم التعبيرات، ومن هنا تأتي صعوبة
ترجمة هذه العبارات التي هي بسيطة في لغتها الأصلية، واستحالة إيجاد مقابل دقيق
لها في اللغة العربية، يحتفظ في الوقت ذاته بالتركيب السليم للعبارة العربية
(المترجم).
١٢ يدافع رَسل هنا عن وجهة نظر الفلسفات المنطقية والرياضية واللغوية،
التي تجعل من الميتافيزيقا تحليلًا للألفاظ أو الأفكار «يسبق» البحث الفعلي في
الطبيعة ويُمهِّد له، على حين أن هناك وجهةَ نظر أخرى تعبر عنها فلسفات الوجود
بوجهٍ عام، نرى الميتافيزيقا «لاحقة» للبحث في الطبيعة؛ لأنها تبحث في أعم شروط
الوجود، التي لا تُستخلَص إلا بعد استقصاء القوانين الجزئية في معرفة الطبيعة.
والأرجح في نظرنا أن أرسطو كان من الفئة الثانية (المترجم).
١٣ يستطيع المرء أن يختلف بقوة مع رأي رَسل هذا؛ إذ إن المكانة الأساسية
التي كان يحتلها «مثال الخير» عند أفلاطون — وهو أعلى المثُل وغايتها جميعًا،
وبالتالي أعلى الموجودات. وسبب وجودها — تُؤكِّد أن الغائية كانت متغلغلة في نسيج
الفكر الأفلاطوني، حتى لو لم تكن قد ظهرت كمصطلح صريح، فالمذهب الذي يتخذ من فكرة
أخلاقية كالخير دِعامةً للكون بأسره، هو أقوى تعبير عن كُمون الغائية في العالم.
بل إن المذهب الغائيَّ لم يظهر في معظم الحالات، إلا من أجل تأكيد وجود صبغة
أخلاقية لمسار الكون، وزيادة تقريب هذا المسار من القيم والأهداف الإنسانية، ونفي
صفة الضرورة عنه (المترجم).
١٤ كان اليونانيون يُطلِقون اسم البرابرة على الأجانب جميعًا، أي على مَن
ليسوا من اليونانيين، بغض النظر عن اعتبارات المستوى الحضاري أو الثقافي أو اللون أو
العرق (المترجم).