فلسفة سبينوزا –
د. زكي نجيب محمود
ولد سبينوزا في عام 1632م في أمستردام، هولندا، لعائلة برتغالية من أصل يهودي تنتمي إلى طائفة المارنيين. فقد كان والداه يهوديين هاجرا من البرتغال. اضطر كثير من يهودشبه جزيرة أيبريا (إسبانيا والبرتغال) إلى الهجرة لكثير من دول غرب أوروبا هروبًا من اضطهاد السلطات هناك. وفي البداية اضطروا إلى اعتناق المسيحية، أما بعد أن وجدوا مناخًا متسامحًا في هولندا فقد عادوا مرة أخرى إلى اليهودية. كان والده تاجرا ناجحًا في أمستردام، ولكنه متزمت للدين اليهودي وبالإضافة إلى تجارته تولى كثيرًا من المناصب الدينية في المجتمع اليهودي هناك، بل وعددًا من المهام التدريسية المنصبة على تعاليم التلمود.[4]
كانت تربية باروخ اورثودوكسية، ولكن طبيعته الناقدة والمتعطّشة للمعرفة وضعته في صراع مع المجتمع اليهودي. درس العبرية والتلمود في يشيفا (مدرسة يهودية) من 1639حتى 1650م. في آخر دراسته كتب تعليقا على التلمود. وفي صيف 1656 نُبذ سبينوزا من أهله ومن الجالية اليهودية في أمستردام بسبب ادّعائه أن الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية هي عبارة عن استعارات ومجازات غايتها أن تعرّف بطبيعة اللهّ.
(عن ويكيبيديا)
لم يكد سبينوزا يبلغ سن الشباب حتى انكب على الفلسفة يدرسها دراسة
صادفت في نفسه هوى. فأخذ ينهل من مواردها العذبة ويؤثرها على كل شيء وقد طالع في ما
طالع فلسفة برونو
فوقعت منه آراؤه موقع الإعجاب وامتلأ ذهنه بما قاله ذلك الفيلسوف من: أن الوجود في
جوهره وحدة متجانسة وإن تعددت ظواهرها. إذ نشأت جميعها من أصل واحد ثم اتخذت
ألوانا مختلفة لا تغير من جوهر طبيعتها المتجانس. كذلك أعجبه رأي برونو المذكور القائل بأن الروح والمادة شيء واحد
فكل ذرة من ذرات الكون يتحد فيها الجانبان: الروحي والمادي، وعنده أن موضوع الفلسفة هو إدراك تلك الوحدة
التي تربط هذه الأشتات المتضاربة في الظاهر فترى الروح في المادة كما تلمس المادة
في الروح.
ثم قرأ سبينوزا فلسفة ديكارت قراءة درس وتمحيص، فدعاه إلى التفكير
الطويل برأي ديكارت في تقسيم الكون إلى شطرين: شطر مادي متحد في الجوهر على الرغم
مما يبدو في الأجسام المادية من إختلاف وشطر روحي متجانس في جوهره كذلك، وهو عبارة
عن مجموع القوى العقلية الحالّة في مختلف الأجسام وتدير هذه الشطرين وتشرف عليهما
قوة إلهية عليا. . . قرأ سبينوزا ذلك فلم يوافق على شطر الكون واختمرت في نفسه على
الفور فكرة وحدة الوجود التي تقول بأن الكون شطر واحد لا يتجزأ، وهذه الفكرة هي
المحور الذي تدور حوله فلسفة سبينوزا، وها نحن أولاء نتناولها بالشرح والتحليل.
يقول سبينوزا أن في الكون حقيقةً واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون
عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن
أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلاّ بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك
المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع
المحسوس، وهذه الصور والأشكال المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون
الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبداً، بل قد تزول وتفنى،
ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي
لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. ذلك كما تقول أن
للدائرة قانوناً لا يتغير، يخضع لناموسه كلما وجد أو يوجد من الدوائر، وإن كانت
الدوائر نفسها تمحى وتتجدد، الا أن قانونها يظل باقياً لا يعتريه التبدل أو
الفناء. فأجسامنا، وأفكارنا وهذه الأرض التي نعيش عليها، وكل ما يحتوي الكون من
أشياء، كل ذلك صور مختلفة تستخدم لإبراز الحقيقة الكائنة وراءها، والتي لا يمسها
معنى من معاني التغيير والتبديل، إنما القوالب المادية وحدها هي التي تخضع لذلك
التبديل والتغيير.
فالطبعة على هذا الأساس مزدوجة الجوانب، فهي فعالة حيوية منشئة من
ناحية (قارن في فلسفة برجسون) وهي منفعلة متأثرة منشأة من ناحية أخرى، هذا الجانب
المنفعل المتأثر من الطبيعة: هي أجزاؤها المادية، هي هذه الجبال والبحار والمزارع
والرياح وما إلى ذلك من الصور المادية التي لا يحدها الحصر، أما الجانب الفعال
المنشئ فهي تلك القوة الكامنة وراء هذه الصور المادية، وهي التي خلقتها خلقاً وأبدعتها
إبداعاً أو بعبارة أوضح هي الله عز وجل. . . ويقصد سبينوزا بكلمة (الله) ذلك القانون الثابت
الذي لا يجوز عليه التغيير أو الفناء، تلك القوة الفعالة التي تنظم الكون وتباشر
ترتيب ما يطرأ من أحداث على المادة التي تملأ جوانب الكون. ولولا تلك القوانين العامة التي يسير بمقتضاها
العالم، لتداعى الكون بعضه على بعض، مثل ذلك مثل الجسر (الكوبري)، فهو في حد ذاته
كتلة من المادة، ولكنه مشيد على أساس من القوانين الرياضية والميكانيكية، التي وإن
تكن مختفية لا تظهر بشكل محسوس، في مادة الجسر، الا أنها كامنة فيه ولو اختل واحد
منها انهار البناء على الفور. فالعالم المادي بمثابة ذلك الجسر، والله سبحانه
وتعالى من هذا العالم بمثابة تلك القوانين التي لا ترى ولكنها لا تنكر.
وعلى هذا الاعتبار تكون إرادة الله وقوانين الطبيعة شيء واحد، وكل ما يقع من حوادث عبارة عن النتيجة الآلية
المحتومة لتلك القوانين الدائمة، أي أنها ليست عبثا ولا فوضى. فهذا العالم تسيره
تلك الإرادة العليا، وليس مخيرا في كثير ولا قليل مما يفرض عليه فرضاً، وليس له عن
تنفيذه محيد. والإنسان
– ككل جزء آخر من أجزاء العالم – يسير كذلك في هذه الطريق المرسومة، الا أنه قد
تبلغ به الأنانية حدا بعيدا فيظن انه المقصود من خلق هذا الكون الفسيح، وأن هذه
الطبيعة وما فيها إنما وجدت من أجله ولصالحه، ولكن لا يجوز للفيلسوف بحال من
الأحوال أن ينظر إلى العالم هذه النظرة الشخصية الضيقة فواجبٌ أن نجرد أنفسنا من
نزعتنا البشرية، حتى يتسنى لنا أن ندرك الكون مستقلا عنا، بعيدا عما تمليه
أغراضنا، وأن ندرسه دراسة موضوعية كحقيقة عارية لا تؤثر فيها الميول الإنسانية.
فلا ننسب الخير والشر لهذا الشئ أو ذاك لأن الخير والشر نسبيان للبشر، وليس لهما
وجود في الواقع، فإذا ما حكما على شيء قي الطبيعة بأنه عبث وشر، أو أنه يثير فينا
السخرية فذلك لأننا لا نعرف الأشياء الا معرفة جزئية، ولأننا نريد أن تسير الامور
كما نشتهي نحن، وحسب ما تمليه عقولنا، لأننا نجهل أن الكون وحدةٌ لا تتجزأ، فما
نحكم عليه بأنه شرٌ ليس في الحقيقة شراً بالنسبة للقوانين التي تسير الطبيعة
بمقتضاها، ولكنه شر بالنسبة لطبيعتنا نحن بعد فصلها وانتزاعها من تلك الوحدة
الكونية. فالشر والخير أوهام لا تعرفها الحقيقة الخالدة. لا ولا الجمال والقبح
لأنهما كذلك أوصاف اصطلح عليها الإنسان. فالشيء الجميل والشيء القبيح هما في نظر القوانين
العامة سواء ولا تفضيلَ لأحدِهما على الآخر. هكذا يريد سبينوزا أن نجرد أنفسنا من
كل النزعات والميول والأغراض وأن ننظر إلى العالم من وجهة نظر الواقع، لا من وجهة
نظرنا نحن. حتى نصدر أحكاما صحيحة. يجب أن ننظر إلى العالم نظرة مجردة كما ننظر
إلى المثلث مثلا، فأنت لا تحكم عليه كما يقع في نفسك، فيكون لك فيه رأي ولي فيه
رأي آخر، لا بل ننظر إليه بالنسبة إلى القانون العام المجرد الذي يتحكم في جميع
المثلثات على السواء فيكون المثلث عندك كما هو عندي وعند أي إنسان. فلننظر إذن إلى
هذا العالم من وجهة نظر قوانينه الثابتة الشاملة حتى لا يتغير باختلاف الميول
والأشخاص. ويزعم سبينوزا: أن تلك النظرة الشخصية قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهما
صحيحا، فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لماذا؟ لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم
نتجرد لنطل عليه من جانب الحقيقة والواقع، فنحن مثلا نتصور الله في صورة المذكر
دائما، ولا نرضى أن نصبغه بصبغة التأنيث، نقول هو ولا نقول هي، وليس ذلك الا نتيجة
لخضوع المرأة لسلطان الرجل، كذلك ننسب إليه كل الصفات التي نراها حسنة كاملة لا من
حيث الواقع ولكن من حيث حكم العقل البشري المحدود بميوله وأغراضه. وقد كتب سبينوزا في ذلك إلى أحد معارضيه يقول:
(إذا اعترضت عليّ بأنني لا أريد أن أصف الله بالنظر والسمع والملاحظة والإرادة وما
إلى ذلك من الصفات. . . فأنت إذن لا تعرف الإله الذي أتصوره وأحسب أنك لا تستطيع
أن تتخيل مثلا أعلى من الصفات السالفة الذكر، وإني لا أستغرب منك هذا القصور في
الخيال لأنني أعتقد أن المثلث إذا استطاع أن يعبر عن نفسه لقال كذلك أن الله يتميز
بصفات المثلث. كما تقول الدائرة أن طبيعة الله دائرية. وهكذا ينسب كل شيء إلى الله
من الصفات ما يراها في نفسه) الله عند سبينوزا هو مجموع الأسباب والقوانين جميعا وقوته هي
مجموع القوى العقلية الكامنة في كل أجزاء المادة المنتشرة في الزمان والمكان.
لأن لكل شيء في الوجود جانبا عقليا أي روحيا، كما أن الامتداد، أي
الجسم، جانب آخر. ولكن ما هو العقل وما هي المادة؟ ذهب الخيال الجامح ببعضهم إلى حد القول بان
المادة روح كلها وليس الجسم الا محض فكرة، كما جمد الخيال عند بعض آخر إلى حد
القول بأن العقل مادة كله، وليست الأفكار الا عمليات جسمية، وذهب فريق ثالث إلى أن
العقل والمادة مستقل بعضهما عن بعض الا انهما متوازيان في عملهما أي أن العقل يفكر
والجسم يتحرك دون أن يكون بين ذلك التفكير وهذه الحركة علاقة ما. يستعرض سبينوزا
هذه الآراء جميعا فيرفضها جميعا، فلا المادة روحية ولا العقل مادي ولا هما مستقلان
متوازيان إذ ليس هناك شيئان متميزان: عقل ومادة، حتى نبحث عن العلاقة بينهما بل
ثمت شيء واحد فقط وعملية واحدة فحسب لها مظهران أو جانبان، فأنت تراها الآن باطنيا
في صورة الفكرة ثم تراها خارجيا في صورة العمل. فالعقل والجسم وحدة لا تتجزأ، وكل أجزاء الوجود لها هاتان الشعبتان
الممتزجتان المتحدتان، وبعبارة أخرى المادة التي في الكون والروح التي في الكون
شيء واحد ذو وجهين، وبعبارة ثالثة، الطبيعة والله شيء واحد، وإذا كان الأمر كذلك
من توحيد العقل والجسم أي الروح والمادة وجعلهما شيئا واحدا فلا اختلاف إذن بين
الإرادة والذكاء، ما دامت الإرادة هي عبارة عن نزوع الجسم إلى عمل معين، والذكاء
هو القوة الفكرية الخالصة، وها نحن أولاء قد رأينا أن أعمال الجسم وقوة الفكر ليسا إلا
ناحيتين من حقيقة واحدة.
الإنسان إذن بعقله وجسمه وحدة لا تقبل التقسيم وعماد وجوده هو
الرغبة اللاشعورية في البقاء، فالرغبة اللاشعورية عند سبينوزا هي كنه الإنسان وجوهره (قارن
إرادة الحياة عند شوبنهور وإرادة القوة عند نيتشه) وكل الغرائز خطط دبرتها الطبيعة لحفظ الفرد أو
النوع، والسرور والألم ينشآن عن إشباع الغرائز أو تعطيلها، فليس السرور والألم
سببا لرغباتنا كما يذهب فريق من المفكرين ولكنهما نتيجة لها. نحن لا نرغب في الشيء لأنه يسرنا ولكنه يسرنا لأننا نرغب فيه، ولا
بد لنا أن نرغب فيه لأنه يشبع لنا الغرائز التي تمهد لنا سبيل البقاء. ولا بد أن يكون القارئ قد سارعت إليه النتيجة
الطبيعية لهذه المقدمات وهي أن ليس ثمت إرادة حرة، وأن الإنسان مجبر على السير في طريق معينة
مرسومة ليس له أن يحيد عنها قيد شعرة، لأن ضرورات الحياة تحدد الغرائز والغرائز
تملي الرغبات والرغبات تخلق الأفكار والأعمال المعينة.
وقد يتوهم الإنسان انه حر فيما يفكر ويعمل ومنشأ ذلك الظن الخاطئ
انه مدرك لرغباته ولكنه يجهل الأسباب التي تسوق إليه الرغبات فيخيل إليه انه إنما
تولدت بمحض إرادته، والحقيقة أن هناك من الدوافع الغريزية ما تحتم عليه أن يحقق
هذه الرغبة أو تلك رغم أنفه، فهو يدرك النتائج فقط ويجهل الأسباب الدافعة إليها،
ويشبه سبينوزا الإنسان في ذلك بقطعة من الحجر الملقى الذي لا بد له من أن يسقط في
مكان معين تبعا لقوة الدفعة، فلو فرضنا أن ذلك الحجر الملقى له إدراك كالإنسان لظن
انه إنما يسقط في هذا المكان الخاص وفي هذه الساعة المعينة لأنه يريد ذلك وهذا
لأنه يجهل اليد التي دفعته فقسرته على تصرف لا يستطيع أن ينحرف عنه.
وهكذا تخضع أعمال الإنسان لقوانين ثابتة ثبوت القوانين الهندسية
ومعنى هذا ان الإنسان جزء لا يتميز من سائر أجزاء الطبيعة بل يندمج فيها ويخضع
لناموسها. الإنسان ظاهرة مادية ككل الظواهر الأخرى يتحكم فيها ذلك القانون الشامل
الذي يكمن وراء الكون جميعا ولا ينفصل عنه بل يكون معه كلا لا تنفصم عراه. وقد
ضربنا مثلا بذلك الجسر (الكوبري) وقوانينه الميكانيكية، نحن أجزاء من ذلك التيار
الذي يجرف أمامه كل شيء تيار القانون العام والسببية، ولما كان ذلك القانون هو
الله فنحن إذن أجزاء من الله تعالى ولو أن الأفراد تفنى بالموت الا أن تلك الحقيقة
الخالدة التي تتمثل فينا باقية لا تموت. أجسامنا خلايا في جسم الجنس والأجناس
أعضاء من جسم الحياة، وبهذا الدمج – دمج الفرد في الكل. يقول شاعر هندي (اعلم أن
روحا واحدا ينظم نفسك في الكل وانبذ الوهم الذي يفصل الأجزاء عن كلها الشامل.)
وباعتبار الإنسان جزءاً من كل فهو خالد، ذلك لأن القانون الذي
يسيره لا يفنى بفنائه كما قدمنا، بل هو أبدي تظهر آثاره في الأفراد بعد الأفراد.
فأنت إذا محوت مثلثا مخطوطا على ورقة أمامك فليس معنى ذلك فناء القوانين التي تخضع
لها المثلثات لأن هذا المثلث المعين الذي محوته لم يكن شخصية منفصلة عن زملائه
المثلثات بل يضبط الجميع ناموس واحد لا يعتريه التغير والفناء. وقل مثل هذا تماما
في أفراد الإنسان. يموت الواحد ويبقى قانونه ممثلا في سائر الأفراد وهذا هو معنى
الخلود عند سبينوزا، وهو كما ترى ليس خلود لأفراد بل خلود لقوة وقانون، وذلك يتضمن
بالطبع إنكار الثواب في الحياة الآخرة جزاء الفضيلة الدنيوية، وهو يقول في ذلك:
(إن هؤلاء الذين ينظرون للفضيلة كأنها عبودية مفروضة عليهم من الله تعالى ولا بد
أن يمنحهم الله جزاء على قيامهم بهذا الفرض الثقيل إنما هم أبعد ما يكونون عن فهم
الفضيلة على الوجه الصحيح. فالفضيلة أو طاعة الله هي سعادة في نفسها يشعر الإنسان
بالطمأنينة والنعيم في أدائها فعلام تنتظر الجزاء؟ انك تكون كرجل أسكنه سيده قصرا
فخما وأعد له فيه كل ألوان النعيم فيظل يرتع فيه وينعم ثم هو بعد ذلك ينظر من سيده
أجر البقاء في ذلك النعيم!!).
والخلاصة أن الطبيعة تسير بمقتضى قوانينَ كامنةٍ في صورها كما تكمن
قوانين الصوت مثلا في جهاز الراديو، فكما أنك لا تستطيع أن تقول هذا هو الجهاز
المادي للراديو وتلك هي قوانينه النظرية منفصلة بل هما شيء واحد لا ينفصل، كذلك لا
يمكنك أن تقول هذا هو العلم المادي وتلك هي القوة الروحية التي تسيره، لأنهما
متصلان في وحدة لا تتجزأ. وبما أن هذه القوانين تسيطر على كل جزء من أجزاء الوجود
(والإنسان واحد منها) فالإنسان يسير بمقتضى تلك القوانين الثابتة. ولا يتمتع بذرة
من الحرية في تصرفاته.
-2-
شرحنا في المقال السابق فلسفة سبينوزا الميتافيزيقية التي تتلخص في
أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه
الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته
إلا بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالبَ
وأشكالاً لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال
المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة
معينة، فهي متغيرة متبدلة أبدا، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية
خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي
وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. وذكرنا أن ذلك القانون الأعلى وهذه الطبيعة شيء واحد
لا يقبل التجزئة. ونزيد في هذا المقال أن نتناول بالشرح الموجز فلسفته الأخلاقية
والسياسية إتماماً للبحث:
الذكاء والأخلاق:
للأخلاق فلسفة متضاربة متناقضة، فهذا الفيلسوف يدعو إلى نظام
أخلاقي معين، وذاك يروج لنقيضه، وثالث يقف بين بين، يأخذ من هذا وذاك بمقدار. فهذه
المسيحية تبشر بفضائل الاستكانة والتواضع، وتدعو الناس إلى العطف والرحمة
والإيثار، وتعلم الناس أنهم جميعا سواسية لا يمتاز رجل على رجل، ترد الشر بالخير،
وتميل في السياسة إلى الديمقراطية المطلقة من كل القيود، وهي تعتبر المحبةَ أساسَ
الفضيلة. . وذانكم مكيافلي ونيتشه يدعوان الناس إلى التخلق بأخلاق الرجولة القوية
الصحيحة، وينكران المساواة بين الناس، فمنهم الضعيف ومنهم القوي، وفيهم العبقري
الفيلسوف وفيهم الغبي الأبله، ويحفزان الناس إلى نبذ السلم والمغامرة في معمعان
العراك والقتال ليحرز النصر من هو جدير بالنصر، وليتربع على الحكم من يستحق الحكم
والسلطان، والفضيلة عندهما هي القوة، ويميلان في السياسة إلى الاستبداد
والأرستقراطية الوراثية، فمكيافلي يصرح في كتابه (الأمير) بكل جرأة: (أن الأمير
الذي يريد حفظ كيان دولته، لابد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة
والإنسانية والدين) كما يحبذ نيتشه سياسة بسمارك التي تنتصر بالحديد والدم.
وبين هذين النقيضين يقوم نظام أخلاقي وسط بين حب المسيح وقوة
نيتشه، دعا إليه أرسطو، ومؤداه المزج بين أخلاق الضعف وأخلاق القوة، ويريد أن يلقى
بزمام الأمر إلى العقل المثقف الحكيم، فهو وحده الذي يصح أن يؤتمن على اختيار
الأخلاق الملائمة للمواقف المختلفة، فهو يعرف متى يلبس لبوس الحنان والعطف، ومتى
يتنمر ليفترس، ومعنى ذلك أن الفضيلة عند أرسطو هي الذكاء، ويميل في السياسة إلى
مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية ثم جاء سبينوزا فأخذ ينسج من هذه الصور وحدة
خلقية متناسقة. وهو في هذا يسير سيرا
منطقيا دقيقا حتى ينتهي إلى نتائجه التي يقدمها،
فهو يبدأ بتقريره أن
السعادة هي الغرض المقصود من الأخلاق الفاضلة.
ولكن ما هي هذه السعادة
التي نتجه نحوها ونقصد إليها؟ هي عنده في بساطة لا لبس فيها ولا غموض، وجود السرور
وارتفاع الألم. ولكنا نعود فنقول: وما السرور والألم؟ أهما حالتان معينتان؟ أم هما
نسبيان يختلفان باختلاف الأشخاص؟ هنا يجيب سيبنوزا بأنهما ليسا حالتين، أي ليس ثمة
حالة مستقرة يقف عندها المرء قائلا: هنا السعادة، وهناك الألم. إنما السعادة شعور بانتقال النفس إلى درجة أدنى إلى
الكمال، والألم شعور
بانتقالها إلى مرتبة أبعد عنه. ولما كان الكمال عنده هو القوة، لا قوة نيتشه الغاشمة
العمياء التي تقوم على الغريزة الوحشية، ولكنها القوة العقلية المتزنة. فكلما درجت صاعدا في سبيل هذه القوة العقلية
كنت أقرب إلى الكمال، وكنت بالتالي سعيدا مطمئن النفس. ومعنى هذا أن العواطف
والمشاعر هي مسالك أو طرق تسير فيها النفس، مقبلة نحو القوة تارة، مدبرة عنها
طورا. (لاحظ العلاقة بين كلمتي ووكذلك بين كلمتي ولتدرك العلاقة القوية في اللفظ
بين ألفاظ الحركة وألفاظ العواطف والمشاعر. ومثل هذه العلاقة موجودة أيضا في اللغة
الفرنسية) فالفضيلة والقوة عند سبينوزا شيء واحد، أي أن الفضيلة هي زيادة فاعلية
النفس التي تعمل على حفظ البقاء. وكلما اتسعت مقدرة الإنسان على حفظ وجوده ازداد
ما يتحلى به من فضيلة. وبعبارة أوضح يعتقد سبينوزا أن أساس الفضيلة هي الأنانية
المعتدلة التي تعينك على الاحتفاظ بوجودك، وهو لا يرى في حب الشخص لنفسه ضررا يلحق
بالآخرين، واذن فلا خير في أن تضحي بنفسك من أجل غيرك إلا إذا كان في ذلك قوة لك،
وهكذا يجب أن يحب كل إنسان نفسه، وان يلتمس كل وسيلة ممكنة تأخذ بيده إلى مرتبة
أدنى إلى الكمال فأنت ترى من ذلك أن سبينوزا لا يبني الأخلاق على الإيثار والخير
الطبيعي، ولا على الأنانية البشعة والشر الطبيعي، ولكن على أنانية معقولة لا يجد منها
مفرا لحفظ البقاء وعنده أن هذه الأنانية المعتدلة التي يمليها منطق الحياة نفسها
لا يمكن أن تباعد بين مصالح الأفراد، أو تبذر بذور البغضاء في النفوس، لذلك تراه
لا يتمالك نفسه حيرة في هذا التحاسد والتنابذ والكراهية، وهو يائس من أن يبرأ
المجتمع من علله وأمراضه قبل أن يهذب الناس من هذه العواطف ويصلحوها، وهو ينصح لنا
أن نبادل أعدائنا حبا بكره، ذلك لأن الكراهية تنمو وتتغذى إذا وجدت لها صدى من
كراهية مثلها في نفوس الآخرين. وهو بمحاربة هذا التباغض، ينشد فينا النخوة الحق
والرجولة الصحيحة، فأنت حين تشعر بالكراهية نحو غيرك، فإنما يكون ذلك اعترافا
صريحا منك بانحطاطك دونه وخوفك منه، لأنك لا تكره عدوا تثق بأنك تستطيع أن تتغلب
عليه في سهولة وتدحره في غير عناء.
وإذا كانت عواطفنا الغريزية كما نرى حائرة السبيل يعوزها الدليل
الأمين، فلا يجوز إذن أن نلقي بزمامنا اليها، إنما يجب أن يكون الفكر وحده رائدنا،
ولكن سبينوزا لا يريد أن نكبح الغرائز جملة واحدة، لا بل نستغلها ونتخذ منها دافعا
يسوقنا تحت سيطرة العقل وإشرافه، فتكون هي بمثابة قوة البخار الذي يدفع القطار،
ويكون العقل بمثابة السائق الذي يتحكم في سيره ووقوفه، وحجته في عجز الغرائز وحدها عن القيادة، انها
متضادة الأغراض متضاربة المقاصد، فإذا ما تركناها على سجيتها، انطلقت كل واحدة
تسعى في إشباع رغبتها، دون أن تراعي صالح الكل، وإذن فلابد من رقابة رشيدة تعمل
أولا وقبل كل شيء لما فيه خير الشخص كمجموعة متحدة، بأن نكبح بعض الغرائز حينا، ونطلق
بعضها الآخر حينا، حسب ما يتطلبه الموقف، ومعنى ذلك كله أن الفضيلة مرهونة
بالمعرفة أو الذكاء،
والذكاء وحده هو الوسيلة التي نستطيع بها أن نحرر أنفسنا من سيطرة الغرائز التي
تفرض عليها سلوكا معينا، وتعمل جهدها لقسرنا عليه، فنحن عبيد لها بقدر انسياقنا
لما تمليه علينا، أي
أن سلبية العاطفة عبودية للإنسان، وحريته في فاعلية العقل. فالحرية الشخصية متوقفة على المعرفة، وفي ذلك
يقول ديوي أستاذ الفلسفة في جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة: (إن الطبيب أو
المهندس يكون حرا في فكره وعمله بمقدار ما تتسع معرفته في المهنة التي يباشرها،
وقد تكون هذه المعرفة مفتاح الحريات جميعا) بناء على ذلك يكون السوبرمان (الإنسان
الأعلى) الذي ينشده سبينوزا هو الذي يستطيع أن يحرر نفسه من سلطان الغرائز، وليس
هو الذي يتخلص من القيود الاجتماعية العادلة كما صوره نيتشه. يقول سبينوزا: (ان من
يعملون الخير بناء على إرادة العقل، ويلتمسون النفع الذي يدل عليه المنطق الصحيح،
هؤلاء في الواقع ينشدون مع خير أنفسهم صالحا للإنسانية عامة) فلأن تكون عظيما لا
يعني أن تضع نفسك فوق مستوى البشر لتنشب أظفارك في أعناقهم كما يريد نيتشه، ولكن
العظمة هي أن تترفع عن سخف الرغبات الغريزية، التي لا يشرف عليها عقل متزن حكيم، ليست العظمة في أن تحكم الآخرين، وإنما هي في أن
تحكم نفسك. هذه الحرية التي
تستطيع أن تنعم بها من السيطرة على نفسك هي أشرف مما يسمونه حرية الإرادة، لأن
الإرادة مجبرة مسيرة، أو قل ليس ثمة إرادة ما، لأن الإرادة والفكر وجهان لحقيقة
واحدة. وهنا يلاحظ سبينوزا أن ليس في جبر الإرادة نقيصة يؤسف عليها، بل هو يهذب
الأخلاق ويسمو بها إلى مستوى رفيع، فهو يعلمنا ألا نحتقر انسانا، كائنا ما كان
موضعه من المجتمع، لأنه غير مسئول عن ذلك الموضع، إنما كتبت له الإرادة العليا أن
يكون حيث هو. والجبر كذلك يوحي إلينا الرضى عما قد يبديه الدهر من قسوة وغلظة،
لأننا نعلم أنه إن ظلم وجار في ناحية معينة، فلابد أن يكون ذلك لصالح الكل، ما
دامت الأفراد جزءا من جسم الوجود المتحد.
الرسالة السياسية:
كان صوت سبينوزا واحداً من تلك الأصوات التي انطلقت تصيح بحرية
الإنسان. ففي نفس الوقت الذي كان فيه (هوبز) يدافع عن الملكية في إنجلترا، ويقاوم
بنظريته قوة الشعب الإنجليزي التي أخذت تناهض استبداد الملك، كتب سبينوزا فلسفته
السياسية، وهي تعبر تعبيرا صادقا عن الديمقراطية التي بدأ يختلج حلمها الجميل في
نفوس الناس عندئذ، والتي أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت ذروتها عند روسو، ثم تدفقت ثورة
عنيفة في فرنسا.
يقدم سبينوزا بادئ الأمر
هذه البديهية التي لا تحتمل الشك، وهي إن الإنسان في أول نشأته كان يعيش منفردا
غير مجتمع، فلا يرتبط مع غيره بقانون ولا نظام، لا يفهم معنى الحق إلا ما يستطيع
أن يستولي عليه بالقوة، وإذن لم يكن ذلك الإنسان الأول يدرك معنى الخير والشر،
لأنهما عبارتان اصطلح عليهما بعد تكوين المجتمع، إذ أطلقتا على بعض الأعمال التي
تواضع عليها الأفراد، أما قبل ذلك فكان الفرد يتصرف حسب ما تملي عليه شهوته،
وبالطبع لم يكن مسئولا عن تصرفاته إلا أمام نفسه، ومعنى هذا أن الجريمة لم يكن لها
وجود في الحياة الطبيعية الأولى، لأنها لا تدرك إلا في حالة المدنية، حيث يتفق
الجميع على تحديد الخير والشر، ويصبح كل إنسان مسئولا عن ذلك أمام هيئة معترف بها
هي الدولة وأنت تستطيع أن تتمثل الحياة الطبيعية الأولى التي لم تكن تفرق بين
الخير والشر، أو بعبارة أخرى بين ما يجوز عمله وما لا يجوز، في علاقة الدول بعضها
مع بعض، إذ لا يربطها نظام خلقي معترف به في قوة النظام الذي يربط الأفراد، ولا
تشرف عليها سلطة عامة نافذة الإرادة كما هي الحال بين الأفراد، لذلك كان الحق في
العلاقات الدولية هو القوة (يلاحظ أن اسم الدولة العظمى بالإنجليزية هو وفي هذا
إشارة صريحة تؤيد هذا المعنى) إذ لا تفهم الدول على وجه الدقة معنى الخير والشر
كما يفهمها الأفراد. كان الناس إذن يعيشون بادئ الأمر كما تعيش الدول الآن، ليس
لأحدهم عند الآخر حقوق، ولكن لم يلبث الإنسان أن شعر بحاجته إلى التعاون لدرء ما
يتعرض له من الخطر، فاتفق الأفراد في ما بينهم على أن يتآزروا إذا دهمهم داهم من
سوء، ومعنى ذلك أن الإنسان
ليس مدنياً بالطبع، ولكنه اجتمع لدفع أخطار الحياة. وحسبك دليلا أن تلقى نظرة عجلى على الغرائز الإنسانية، لترى كيف أن
الغرائز الاجتماعية أضعف جدا من الغرائز الفردية، فالإنسان يسعى لخيره أولا ثم
يسعى لخير الدولة، بل هي الأنانية أيضا التي تدفعه للسعي وراء خير الدولة، لأنها
دولته هو، ويريد أن يسعد بسعادتها.
اضطر الإنسان إذن إلى الاجتماع بعد تلك الحياة الفردية، فتواضع
الجميع على حدود خاصة لا يجوز لواحد أن يشذ عنها، بحيث يصبح لكل إنسان الحق في أن
يتصرف كيف شاء، دون أن يخرج على تلك الحدود المرسومة، أي أن له أن يستمتع بكل ما
له من قوة شخصية دون أن يغير على حرية الآخرين، وبعبارة أخرى اتفق الأفراد على أن
ينزل كل منهم عن بعض حقوقه الطبيعية لهذه الجماعة المنظمة، في مقابل أن يأمن
ويطمئن على حقوقه الباقية، أي أن قانون الجماعة يجب ألا تزيد وظيفته على الإشراف
العام، بحيث يسعى كل فرد حرا، في غير تضارب ولا تنافر بين الأفراد، أي أن القانون
الكامل يجب أن يكون للأفراد بمثابة العقل للعواطف: يحسن تصريفها بحيث يزيد نشاطها
من قوة الكل، دون أن تتعرض واحدة منها لنشاط الأخرى (فالغرض الأسمى من الدولة إذن،
لا أن تحكم الناس، ولا أن تحد من مجهودهم، بل يجب أن تؤمن الإنسان من كل المخاوف،
حتى يعيش ويعمل في طمأنينة تامة. . . الغرض من الدولة أن تدع الناس يعيش بعضهم
بجانب بعض، كل يستغل قوته العقلية في صالح المجموعة، حتى لا تتبدد قواهم في
التنابذ والتنافر، إذن فالغرض الأسمى من الدولة هو الحرية )وظيفة الدولة العليا أن تكفل للأفراد حريتهم،
ومعنى ذلك أن الديمقراطية هي المثل الأعلى لنظام الحكم، ثم يستدرك سبينوزا بقوله
أن ضرر الديمقراطية الوحيد هو ميلها إلى وضع غير الأكفاء في مناصب الحكم، ولذلك ينصح علاجا لذلك أن يتسلم إدارة الدولة
جماعة من ذوي العقول الجبارة، كي يسيروا بها بعيدا عن مواطن الزلل. . . .وفاضت روح
سبينوزا وهو يكتب للناس رسالة الحرية