إيمانويل كانط Kant
(1724ـ 1804)
زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة.
لم يشهَد تاريخ الفِكر فلسفةً بلغَتْ من السيادة والسيطرة على الأفكار
في عصر الأفكار في عصر من العصور ما بلغتْه فلسفة «عمانوئيل كانْت» من النفوذ في
القرن التاسع عشر، فلقد تمخَّض ذلك الفيلسوف بعد ستِّين
عامًا قضاها في النموِّ المُتدرِّج الهادئ المُعتزل، عن كتابه المشهور «نقد العقل
الخالص» الذي يُزلزل قوائم التفكير السائد، والذي لا يزال أثرُه قويًّا عميقًا حتى
اليوم، فلم تكن المذاهب الفلسفية التي ظهرَت في القرن التاسع عشر، والتي نادى بها
شوبنهور وسبنسر ونيتشه، إلا موجات سطحية يتدفَّق تحتها تيَّار قوي مكين، هو تيار
الفلسفة الكانْتية الذي ما يزال يزداد عمقًا واتِّساعًا حتى يومنا هذا، فلقد
سلَّم نيتشه بكل ما جاء به «كانْت»، ثم أضاف عليه، كما أُعجب شوبنهور بذلك الكتاب
إعجابًا شديدًا، حتى قال عنه إنه أهمُّ كتابٍ في الأدب الألماني، وعندَه أنَّ
الرجل يظلُّ طفلًا حتى يفهم «كانْت»! وما أجدَرَنا هنا أن نقتبِس
العبارة التي قالها «هِجِل» عن «سْبينُوزا»، فنقولها عن كانْت: لكي تكون فيلسوفًا
فلا بدَّ أن تدرُس ما جاء به «كانْت» أولًا … وإذن فما أحجانا أن نأخُذ في دراسة
هذا الفيلسوف دراسةً مُتقنة دقيقة، ولكن حذار أن تعمَدَ من فورك إلى كتُب
«كانْت» فتنكبَّ عليها بالقراءة والدرس، فإن فعلتَ هذا اختصارًا للطريق، فما أنت
ظافِرٌ بشيء؛ لأن الخط المُستقيم في الفلسفة — كما هو في السياسة — أطول الطرُق
بين نُقطتين، فإن أردتَ أن تقرأ «كانْت»، فآخِر ما يجب أن تقرأه هو «كانْت» نفسه؛
لأنه لم يعمد فيما كتَب إلى السهولة والوضوح، بل راح يتحدَّث
في غموض والْتِواء دون أن يسُوق الأمثلة التي توضح ما يقول، زاعمًا أنها تُطيل
كتابه بغير جدوى؛ إذ هو يقصد بكتُبه إلى الفلاسفة المُحترفين، وليس
هؤلاء بحاجةٍ إلى الشرْح والإيضاح، ومع ذلك فقد كان بين هؤلاء من ضاق بها صدرًا،
فقد حدَث أنَّ «كانْت» قد بعَثَ بالنسخة الخطية من كتابه في «نقد العقل الخالص»
إلى صديقه هرز Herz ليطَّلِع عليها، وكان «هرز» مُتعمِّقًا في دراسة الفلسفة معروفًا
بسَعة اطِّلاعه وعُمق تأمُّله، ولكنه مع ذلك لم يكَدْ يقرأ الكتاب إلى نصفه حتى
أعادَه إلى صاحبه قائلًا: إنه يخشى على نفسه الجنون لو واصل قراءة الكتاب … فإن
كان هذا شأن من اتَّخذ الفلسفة حرفة، فماذا نحن صانعون؟ لا بدَّ أن ندنو منه في
يقظةٍ وحذَر، وأن نبدأ السير من نُقطٍ مختلفة على هامشه، وبعيدة عن قلبه ولُبابه،
ثم نلتمِس ثغرة لننفُذ منها إلى حيث ذلك الكنز المغلق، والسر المُبهم العسير.
(١) من «فولتير» إلى «كانْت»
لقد كان من أثر الصيحة الدَّاوية التي هتفَ بها «فرانسس بيكون» أن
اندفعت أوروبا بأسرِها (ما عدا روسُّو) تثِق بالعِلم وتؤمن بالمنطق في حلِّ كل ما
يعترِض الإنسان من مشكلات، ولقد غالى الفرنسيُّون في تمجيد العقل في العصر الذي
يُسمَّى بعصر التنوير، والذي يُمثله فولتير، إلى حدِّ أن اتَّخَذ الباريسيون في
ثورتهم امرأةً حسناء عصرية من نساء باريس، وأطلقوا عليها اسم «إلهة العقل»
ليدلُّوا بتمجيدهم إيَّاها على إطراحهم لأساليب التفكير البالية، واعتناقهم للعقل
وحدَه، به يستهدفون دون أن يكون لغيره عليهم سلطان. ولقد استتبع هذا التمسُّك
بالعقل ومنطقة الكفر والإلحاد والنزعة المادية في إنجلترا وفي فرنسا على السواء. فقال
«هوبز» في إنجلترا: «ليس في الوجود إلَّا ذرَّات الفراغ.» وأخذتِ العقيدة الدينية
في فرنسا تتقوَّض وتنهار، حتى زعموا أنهم أنزلوا الله من ملكوته، في نفس الوقت
الذي أنزلوا فيه أُسرة البوربون من عرشها. وطغى الإلحاد في فرنسا حتى أصبح بِدْعًا
(مُودَة) سائدًا في الأندية، وحتى أخذ به رجال الكنيسة أنفسهم، وهكذا غاض الإيمان
في فرنسا عندئذٍ، وساد العقل وانتصر.
فولتير.
ولكن هذه الهجمة العنيفة التي سُدِّدت نحوَ
الدين في عصر التنوير على يدي فولتير وأقرانه لم يطُل أمدُها، فليس من اليسير أن
تُزعزِع إيمانًا يحمِل معه التفاؤل والأمل، قد مدَّ جذوره في أفئدة الناس وقلوبهم.
هيهات للعقل أن يقتلِع بعاصفتِه هذه الدوحة المُتأصِّلة الراسخة، ولهذا لم
يلبَث الإيمان — الذي ظنَّ العقل أنه قد أطاح به ومحاه — أن عاد وشكَّ في أهلية
القاضي الذي حكَم عليه بالزَّوال … لماذا لا نتناول هذا العقل نفسه الذي وضَع نفسه
موضِع الحَكَم بالاختبار، كما تناول هو الدِّين من قبل بالتجربة والامتحان؟ ما
هذا العقل الذي يأبى عليه غروره إلا أن يهدم عقيدة عُمِّرت آلاف السنين، وتغلغلَتْ
في ملايين النفوس؟ أهو حَكَمٌ فصْل صادق لا ينطق إلا بالحق، أم هو عضو من أعضاء
الإنسان، وهو — كأيِّ عضوٍ آخر — محصور بقيود وظيفته، محدود بقواه؟ لقد حان الوقت
لنحاكم القاضي، نعم لا بدَّ أن نمتحِن هذه المحكمة القاسية التي قضت بكلمةٍ
على إيمانٍ فيه الأمل المُبتسِم الزاهر، ها قد جاء الحين «لنَقْد العقل» على يدي
«كانت».
(٢) من «لوك» إلى «كانت»
لقد مهَّد (لوك، وبركلي، وهيوم) الطريق لهذه المُحاكمة التي نريدها
للعقل، إذ ارتدَّ العقل لأول مرة في الفكر الحديث إلى نفسه يمتحِنها ويختبرها في
كتاب «لوك»، مقالة «في العقل البشري»، وبدأت
الفلسفة تبحث في الوسائل التي ركنَتْ إليها، ووثِقَت بها هذا الزمن الطويل، فلم
تعُد تأتمِن العقل، وداخلها فيه الرَّيب والشك.
فقد انتهى «لوك» إلى إنكار الآراء الفطرية، التي يقول دُعاتها إنها
تُولَد مع الإنسان كمعرفة الخير والشر مثلًا، وأكد أنَّ العقل عند ولادة الطفل
يكون كالصفحة البيضاء خاليًا من كلِّ شيءٍ وقابلًا للانفعال بالبواعِث المُختلفة،
فإذا ما مرَّت به تجارب الحياة تركَتْ فيه آثارها، وطريق
تلك التجارب إلى العقل هي الحواس وحدَها، وليس في حنايا العقل أثرٌ واحد لم
يسلُك طريق الحواس أولًا، فالآثار الخارجية تنتقل إلى الذهن في إحساساتٍ مختلفة،
ثم تُولِّد هذه الإحساسات شتَّى الآراء والأفكار. وما
دامت الأشياء المادية وحدَها هي التي يمكن أن تنتقل عن طريق الحواس، إذن فكلُّ
معلوماتنا مُستمَدَّة من الأجسام المادية دون غيرها، ومعنى ذلك أنَّ المادة عند
«لوك» هي كل شيء.
ثم جاء «بركلي» وخطا بعد ذلك خطوةً جريئة، فقد سلَّم بمُقدِّمات
«لوك»، ولكنه اختلف وإيَّاه في النتيجة. ألم يقُل «لوك» بأن معلوماتنا جميعًا
مُشتقَّة مما يجيء عن طريق الحواس؟ إذن فنحن لا ندري عن الشيء الخارجي إلَّا
الإحساسات التي تنبعِث إلينا منه، والأفكار التي تتولَّد من هذه الإحساسات عند
وصولها إلى الذهن. خُذ التفاحة مثلًا، فهذا لونها يصِل إليك ضوءًا عن طريق العين،
وهذه رائحتها تجيئك عن طريق الأنف، وذاك طعمُها تعلَمُه عن طريق الذوق، وذلك
ملمَسُها وشكلها يصِلان إليك عن طريق أعصاب اليد، فإذا تناول هذه التفاحة كفيف
البصر علِم عنها كلَّ شيءٍ إلا لونها، وإذا كان فاقدًا لحاسَّتَي الشم والذوق
أيضًا اقتصر عِلم التفاحة على شكلها وملمسها، فإذا فرَضْنا أن أعصاب يدِه أصيبت
بالشَّلَل ففقدت عملها كذلك أنكَر صاحبنا وجود التفاحة في يده مهما قدَّمْتَ إليه
من وسائل الإقناع، فلولا الحواسُّ لما كان للأشياء الخارجية وجود، فالحواسُّ هي التي
كوَّنَتْها، ولذلك لم يتردَّد «بركلي» في إنكار المادة
إنكارًا تامًّا، ولم يعترِف بوجود شيءٍ إلَّا حقيقة واحدة يُحِسُّها في نفسه ألا
وهي العقل.
أجهز بركلي على المادة فمحاها على صفحة الوجود، وأشفق على العقل
فسلَّم بوجوده، ولكن جاء بعدَه هيوم فأبى أن يقِف عند هذا الحدِّ المُتواضِع من
الإنكار، وسارع إلى العقل بمِعولِه فألقاه في هوَّة العدَم. ما هذا العقل الذي
يتشبَّث بركلي بوجوده؟ ابحث في نفسك بحثًا باطنيًّا، وحاول أن تعثُر على ذلك العقل
باعتباره ذاتًا مُستقلَّة فلن تعود بطائل، ولن تُصادِف في نفسك إلا سلسلةً من
الأفكار والمشاعر والذكريات يتلو بعضها بعضًا، فليس ثمَّة عقل، ولكنها عمليات
فكرية، وصُوَر ذهنية لا أقلَّ ولا أكثر، وإذن فقد انهار العقل كما انهارتِ المادة
من قبل! وهكذا قوَّضَت الفلسفة بفئوسها كلَّ شيء، ثُم وقفت بين تلك الأنقاض الخربة
لا تجد وقودًا يُذكيها، فقد ضاع العقل وضاعت المادة، ولم يبقَ لها منهما شيء، قرأ «كانْت» ترجمةً ألمانية لكتُب «ديفد هيوم» فروَّعته هذه
النتيجة التي قضت على الدِّين والعِلم معًا؛ لأنه إن كان لا روح فلا دين، وإن كان
لا مادة فلا عِلم، روَّعته هذه النتيجة الهادِمة وأيقظته من نُعاسِه واستسلامه
للآراء القديمة على حدِّ تعبيره … هالَهُ أن يُعلن العلم والإيمان
إفلاسهما، وأن يسلما نفسيهما إلى الشك، فأعمل الفكر في وسيلة النجاة والإنقاذ.
(٣) من «روسو» إلى «كانت»
نادى رجال عصر التنوير بأنَّ العقل ينتهي إلى تأييد المذهب المادي،
فأجاب بركلي بأنَّ المادة ليس لها وجود، ولم يكن يعلَم بركلي — وهو القسيس
المُتبتِّل — أنَّ هذا السهم الذي سدَّده إلى صدر الإلحاد سيرتدُّ إلى نحرِه فيقضي
عليه، لم يكن يعلم أن هذه الحجَّة التي أبطل بها المادة ليهدم مادية المُلحدين،
ستُبطل كذلك العقل — أي الروح — فتنهدم روحانية المُتديِّنين. فقد كان أجدر ببركلي
أن يُحارب الملاحدة الماديين الذين يتشبَّثون بالعقل، بسلاحٍ آخر، فيزعُم لهم أن
العقل ليس هو الحَكَم الذي ينتهي بقوله كلُّ زعْم وادِّعاء؛ إذ ما أكثر النتائج
المنطقية التي ينتهي إليها العقل، والتي نميل بشعورنا وفِطرتنا إلى رفضها، وليس
هناك ما يُبرِّر أن أنبذ ما يُمليه علي شعوري وفطرتي لأستمع إلى إملاء العقل
المنطقي وحدَه، مع أن هذا العقل أحدث من ذلك الميل الغريزي عهدًا وأضعف بناء. نعم
إنَّ العقل كثيرًا ما يكون خير مُرشدٍ وأفضل هاد، لا سيما في الحياة المدنية، ولكن
إذا اشتدَّت أزمات الحياة فلا بدَّ أن نلجأ إلى الشعور والفطرة نستلهِمها الإرشاد،
ونستهديها الطريق.
هذا ما نادى به جان جاك روسُّو (١٧١٢–١٧٧٣م) الذي وقف وحدَه في فرنسا
يُحارب المادية، ويُعارض الإلحاد الذي جاء به عصر التنوير.
كان روسُّو شابًّا سقيمًا فلم يستطع أن ينزل ببنيتِه العليلة في
معمعان الحياة، وآثَر الحياة الهادئة، فكان ذلك داعيةً لطول تفكيره وعُمق تأمُّله،
كأنما فرَّ من لذعات الحقيقة المُرَّة إلى عالمٍ ملأه بأحلامه وخياله، وفي سنة
١٧٤٩م أجرت أكاديمية ديجون مسابقةً بين الكُتَّاب في رسالة موضوعها: «هل أدَّى تقدُّم
العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق أم إلى إصلاحها؟» وأعدَّت للمتسابق الفائز منحة،
فظفِرَت مقالة روسو بالجائزة، وقد جاء في رسالته تلك أنَّ الثقافة أقرب إلى الشر
منها إلى الخير، فحيثما تنشأ الفلسفة تهبِط الأخلاق «ولقد شاع بين الفلاسفة أنفسهم
أنه منذ ظهر رجال العِلم اختفى أصحاب الشرَف.» «وإنَّني
لأُصرِّح في يقينٍ أن التفكير مناقض لطبيعة الإنسان، وأن الرجل المُفكِّر حيوان
سافل.» إنه لخيرٌ للناس ألف مرةٍ أن
يطرحوا هذا العقل، وأن يعمدوا أولًا إلى رياضة القلب والمحبَّة. إنَّ التعليم لا
يُخرج من الإنسان نبيلًا فاضلا، ولكنه يُنمِّي ذكاءه فقط، والذكاء أداة للشرِّ في
أغلب الأحيان، فأجدَرُ بنا أن نعتمِد على الغريزة والشعور؛ لأنهما أولى بالثِّقة
من العقل. ولقد شرح روسُّو في قصته المشهورة «هلواز الجديدة» رأيه في تفوُّق
الشعور على العقل شرحًا مُفصَّلًا.
وهكذا حمل «روسو» حملتَه على العقل. ومجَّد الشعور ورفع من شأنه حتى
تبدَّل «البِدْع» «المودة» في «صالونات» باريس، وأصبحت سيِّدات الطبقة الراقية
يُباهين برقَّة شعورهن ودقة إحساسهن، بعد أن كان الفخر كل الفخر بالعقل والتفكير،
ونتج عن ذلك أن تحوَّلت وجهة الأدب إلى العاطفة بعد أن كان مدارها الفِكر، كما
استيقظ الشعور الديني في النفوس واشتدَّت الحماسة له.
وخُلاصة الدعوة التي نادى بها «روسو» هي: أنه إذا أمكن
للعقل أن ينقُض العقيدة في الله، وأن يُنكر الخلود، فإن الشعور يؤيدهما، فلماذا لا
نُصدِّق الشعور الفطري هنا بدل أن نستسلِم إلى هذا الشكِّ الجارف الذي يؤدي إليه
العقل؟
قرأ «كانْت» ما كتبه «روسو» فانصرَفَ إليه بكل قلبه، حتى
إنه حين بدأ في مُطالعة كتابه «إميل» أبى أن يغادر داره إلى نُزهته اليومية
المُعتادة قبل أن يفرغ من قراءة الكتاب، ولم يكن امتناعُه عن الخروج أمرًا يسيرًا،
وهو الذي أفرغ حياته في قانونٍ من حديد، فلا يُغير من مجرى سلوكه إلَّا لأخطر
الأسباب.
وجد «كانت» في «روسُّو» رجُلًا يريد أن يشقَّ لنفسه طريقًا يُفلِت به
من الإلحاد الذي خيَّم بظلامه الحالك على النفوس، فذهب إلى تفضيل الشعور على
العقل، فيما يتَّصِل بما هو فوق الحسِّ من الموضوعات — ولقد أراد «كانْت» أن
يتصدَّى هو أيضًا لهذه المهمة الكبرى، أراد أن يُنقِذ الدين من العقل، وأن يُخلِّص
العلم من الشك؛ فكانت تلك رسالته.
ولكن من
هو «عمانوئيل كانْت»؟
وُلِد في كونسبرج Konigsberg في بروسيا سنة ١٧٢٤م، وإذا استثنَينا فترةً قصيرة قضاها في
التدريس في قريةٍ قريبة من بلده، فإنه لم يُغادر مسقط رأسه طوال حياته، وقد كان
ضئيلًا نحيلًا هادئًا، انحدر من أُسرةٍ فقيرة هاجرت من سكوتلانده قبل ولادة
الفيلسوف ببضع مئين من السنين، وكانت أُمُّه عضوًا في جماعةٍ دينية محافظة،
تتمسَّك بالعقيدة الدينية تمسُّكًا دقيقًا شديدًا لا هوادة فيه ولا تسامُح، فانغمس
فيلسوفنا إبان طفولته في الدين من الصباح إلى المساء، فأدى ذلك إلى نتيجتَين؛
الأولى: أنَّ هذا التطرُّف في العبادة قد أحدث في نفسه ردَّ فعلٍ فاعتزل الكنيسة
في رجولته، والثانية: أنَّ هذه النشأة الدينية قد طبعته على الكآبة من ناحية،
وحفَّزته إلى صيانة الإيمان من إغارة الإلحاد من ناحيةٍ أخرى.
ولكن كيف يتسنَّى لشابٍّ يُعاصر «فردريك الأكبر» و«فولتير» أن يُخرِج
نفسه من تيَّار الشك الذي طغى على ذلك العصر بقوة حتى غمَر جميع الناس؟ لا، لم
يستطِع «كانت» أن يُجنِّب نفسه الشكَّ السائد في زمانه، وتأثَّر أعمق الأثر، حتى
بمن أراد أن ينقُض آراءهم، وربما كان أشدَّ الفلاسفة تأثيرًا في نفسه عدوُّه
المحبوب «ديفد هيوم»، وسوف نرى فيما بعد نتيجة هذا
التجاذُب بين إيمانه وشكِّ عصره، وكيف أدى به ذلك في آخِر كتابٍ أخرجه — وسنُّه
تقرُب من السبعين — إلى التجاوز عمَّا بدأ به حياته من محافظةٍ وإيمان، إلى
إباحيةٍ كادت تؤدي إلى موته لو لم تَحمِهِ شيخوختُه وشُهرته، وتقرأ «كانْت» في أُخريات أيَّامه، فيُخيَّل إليك أنك إنما
تستمع إلى «فولتير»! ولقد قال «شوبنهور» إن أدلَّ ما يدلُّ على تسامُح «فردريك
الأكبر» أن يتمكن «كانْت» من نشر كتابه «نقد العقل الخالص»، ولعلَّ «كانْت» قد
أحسَّ أنه وجد من التسامُح في إخراج كتابه على ما فيه من آراء ما لم يكن ليجِده في
أي مكانٍ آخر، أو في حُكم أي ملكٍ غير «فردريك»، فأهدى كتابه هذا إلى «زدلتز zediltz» وزير المعارف في حكومة
«فردريك» تقديرًا لهذه الحرية التي أطلقوها للناس في إبداء ما يَعِنُّ لهم من
الآراء.
وفي ١٧٥٥م عُيِّن «كانْت» محاضرًا في جامعة كونسبرج، وظلَّت الجامعة
خمسة عشر عامًا ترفُض أن تُعيِّنه أستاذًا بها، حتى إذا كان عام ١٧٧٠م عُيِّن
أستاذًا للمنطق والميتافيزيقا، وقد أكسبَه طول اشتغاله بالتدريس خبرةً واسعة بفنِّ
التربية، فأخرج في هذا الموضوع كتابًا كان هو نفسه يقول عنه إن به طائفةً كبيرة من
الآراء القَيِّمة، غير أنه للأسف لم يستطِع تطبيقها في تدريسه، ولكنه مع ذلك كان
مُدرِّسًا ناجحًا من الوجهة العملية، وكانت له منزلة رفيعة في نفوس تلاميذه، ومن
بين آرائه العملية أن يُوجِّه المدرِّس أكبر قسطٍ من عنايته للفئة المتوسطة من
التلاميذ؛ لأن الأغبياء لا يُجدي فيهم المجهود، والنوابغ لا يحتاجون إلى مجهود
غيرهم.
ولقد كان الناس يتوقَّعون كل شيءٍ إلا أن يُخرج هذا الأستاذ الهادئ
المُتواضِع نظامًا جديدًا في الفلسفة يهتزُّ له العالم أجمع، نعم كان الناس
يُصدِّقون كلَّ شيءٍ إلا أن يُثير «كانْت» أوروبا كلها بآرائه، وهو ذلك الحييُّ
الذي لم يُسئ قطُّ إلى أحد، بل إنه هو نفسه لم يكن يتوقَّع أن ينتهي إلى ما انتهى
إليه، فقد كتَب وهو في سنِّ الثانية والأربعين يقول: «لقد شاء لي حُسن الطالع أن
أكون عاشقًا للميتافيزيقا، ولكن معشوقتي لم تُطلعني حتى الآن إلا على قليلٍ من
حُسنها.» وكان يتحدَّث حينئذٍ عن البحث فيما وراء الطبيعة أنه هاوية سحيقة لا قاعَ
لها ولا قرار، وأنه مُحيط مُظلم لا شُطآن فيه ولا منائر يُهتدى بضوئها في
خِضَمِّه، وأنه كثيرًا ما تحطَّمت بين أمواجه نظُم فلسفية بغير جدوى. ولقد ذهب
«كانْت» إلى أبعدَ من هذا في يأسِه من الميتافيزيقا بأنه اتَّهم كل من يشتغلون بها
بأنهم إنما يسكنون من تأمُّلاتهم أبراجًا عالية، حيث الهواء شديد فيعصف بآرائهم
الخيالية ويذروها هشيمًا … قال كل ذلك عن البحث فيما وراء الطبيعة كأنه لم يدْرِ
أنه سيُخرِج للعالَم أقوى ما شهد العالَم من الميتافيزيقا.
وقد كان في النصف الأول من حياته أميلَ إلى البحث في الطبيعة منه فيما
وراءها، فكتب عن الكواكب والزلازل والنار والرياح والأثير والبراكين ووصف الأقطار
والأجناس البشرية وما إلى ذلك، وكانت نظريته في الأجرام السماوية قريبةً من
النظرية السديمية التي ارتآها «لابلاس»، ومن آرائه أنَّ
الكواكب كلها قد سكنَها الأحياء أو سيسكنونها، وأبعدها عن الشمس فيه نوع من
الكائنات العاقلة أسمى بكثيرٍ من سكَّان هذه الأرض؛ وذلك لأنها أقدَمُ عمرًا، وإذن
فقد أتيح لها أمدٌ أطوَلُ للنموِّ والتكوُّن. وله كتاب في الأجناس البشرية (هو
مجموعة المحاضرات التي ألقاها في حياته). قال فيه إنَّ الإنسان لا بدَّ أن يكون قد
تحدَّر من أصلٍ حيواني، وأنه قد أصابه كثير جدًّا من التغيُّر والتطوُّر، ويستشهد
على ذلك بأمثلةٍ منها أنه لو كان الطفل في العصور الأولى من حياة الإنسان يصرُخ
عند ولادته كما يصرُخ اليوم لَمَا استطاع الحياة يومًا واحدًا؛ لأنَّ صُراخَه كان
سيدلُّ الحيوانات المُفترِسة على مكانه فتهجم عليه لتلتهِمه، وإذن فيُرجَّح أن
يكون الإنسان اليوم مُخالفًا كلَّ المخالفة لما كان عليه بالأمس. ثم يستطرد
«كانْت» فيقول: «كيف أحدثت الطبيعة هذا التقدُّم؟ وما هي العوامل التي ساعدتها على
ذلك؟ إننا لا ندري … وماذا يمنع أن تسُوق المصادفة ثورةً عظيمة في الطبيعة تؤدي
إلى انقلاب هذه الحالة الحاضرة، فيعقُبها مرحلة ثالثة يتهذَّب فيها الأورانج
أوتان، أو الشمبانزي، فيرهف من نفسه أعضاء الشمِّ واللمس والكلام، حتى يبلُغ بها
هذا التركيب الدقيق الذي أدركَه الكائن البشري؟» يُضاف إلى هذا عضو مركزي يُعينه
على الفهم فتتقدَّم تلك القِرَدة تدريجًا بفضل ما تُنشئه من نظُم اجتماعية، ولعلَّ
«كانت» يريد — بهذا التنبُّؤ بما قد يحدُث في المستقبل — أن يذكر لنا رأيه بطريقةٍ
غير مباشرة فيما حدَث في الماضي عند انتقال الإنسان من حالته الحيوانية إلى حالته
الحالية.
هكذا أخذ «كانْت» ينمو في إنشاء فلسفته نموًّا بطيئًا، ولقد سار حياته
على نظام مُطَّردٍ دقيق «استيقاظ، ثم شُرب القهوة، ثُم الكتابة، ثم المُحاضرة، ثم
الغداء، ثم التنزُّه.» فلكلٍّ من هؤلاء ساعته المُحدَّدة، فإذا ما خرج عمانوئيل
«كانْت» بمعطفه الرمادي وعصاه في يده، وأخذ يتَّجِه ناحية الطريق الصغير الذي
تكتنِفه أشجار الزيزفون، والذي لا يزال يُسمَّى «نزهة الفيلسوف» عرف الناس أنَّ
الساعة قد بلغتْ منتصف الرابعة تمامًا، وضبطوا ساعاتهم، ولم يمتنِع «كانْت» عن
نُزهته تلك في صيفٍ أو شتاء، فإذا اكفهرَّت السماء أو تلبَّدَت بالسحُب التي
تُنذِر بالمطر، رأيتَ خادمه الكهل «لامب Lampe» يتبعُه حاملًا مِظلَّتَه
تحت إبطِه.
وكان الفيلسوف ضعيف البنية ضعفًا كان يضطرُّه إلى المُبالغة في وقاية
نفسه من المرض؛ لأنه أيقن أن وقايته لنفسه خيرٌ من أن يلجأ إلى طبيب، وبهذا استطاع
أن يُعمر ثمانين عامًا، وقد كتَب في سنِّ السبعين مقالًا في «مقدرة العقل على
السيطرة على شعور المرض بقوَّة العزيمة»، ومن بين مبادئه الوقائية ألا يتنفَّس
الإنسان إلا من أنفِه، وبخاصَّة إذا كان خارج منزله، ومن أجل هذا كان لا يسمح
بتاتًا لأحدٍ أن يُكلِّمه وهو في نُزهته (لأنَّ الكلام سيدعوه إلى التنفُّس من
الفم)، وكان يقول في ذلك: إن الصمت خير من المرَض بالبرد، وهكذا كان كانْت
فيلسوفًا في كلِّ شيءٍ في حياته دقَّ أو جلَّ، حتى إنه كان يتَّخِذ لنفسه طريقةً
خاصة في ربط جواربه، وكان يُفكر في كلِّ شيءٍ تفكيرًا
طويلًا دقيقًا قبل أن يُقدِم عليه، وقد فوَّتَ عليه هذا التفكير الزواج ولبِثَ
عزَبًا حتى مات، فقد فكَّر مرَّتَين في الزواج، ولكنه أطال التفكير في المرة
الأولى حتى تقدَّم للسيدة التي أراد الزواج بها خطيبٌ آخر، وأطال التفكير في المرة
الثانية حتى انتقلت من أراد خطبتها من كونسبرج مع أُسرتها قبل أن يصِل الفيلسوف
إلى رأيٍ في الزواج منها. وظلَّ «كانْت» مدى حياته فقيرًا مُعتزلًا لا يُفكر
ويكتُب، وقد أحدثت كتُبُه من الانقلاب في عالم الفلسفة ما لم يُحدِثه أي مؤلِّف
آخر.
نقد العقل الخالص The Critique of Pure Reason
شغل العقليُّون والتجربيُّون أنفسهم بمسألة المعرفة، فذهب الأوَّلون
إلى أنها تحصل بواسطة العقل المحض، وبه وحدَه يحصُل العلم بالأشياء، أما بواسطة
الإدراك بالحس فمُستحيل أن يحصُل ذلك، والتجربيُّون يُنكِرون تحصيل المعرفة بالعقل
المحض … ولكن لم يتعرِض أحد المذهبَين لمسألة إمكان
المعرفة، فكلاهما وثق بالعقل البشري ثِقةً تامَّة، واعتقد في قُدرته على
معرفة الأشياء، ولكن لمَّا كان هذا الوثوق بالعقل، وبقُدرته على تحصيل الحقائق قد
انتهى إلى الشك، فقد أخذت الفلسفة تتناول العقل نفسه بالنقد والامتحان.
وبذلك نشأت مسألة جديدة هي: هل تُمكِن المعرفة؟ وإذا
أمكنَتْ فما حدودها؟ لم يبحَث العقليُّون والتجربيون هذه المسألة، بل آمنَّا بأنَّ
لنا قُدرة على معرفة الأشياء، إما بواسطة الإدراك بالحس، وإما بواسطة التفكير.
جاء «كانْت» فأخضع العقل لهذا التحليل النقدي، وهو لا يُريد به أن
يُهاجم العقل أو أن يُنكره، ولكنه أراد أن يتبيَّن إلى أي حدٍّ يستطيع العقل
الخالص أن يُحصِّل المعرفة، وهو يقصد بالعقل الخالص ذلك الذي لا يعتمِد في تحصيل
المعرفة على التجربة أو الحواس، إنما يُنشئها من تلقاء نفسه إنشاءً بحُكم طبيعته
وتركيبه، وبعبارةٍ أخرى فقد أراد «كانْت» بهذا الكتاب أن يرى هل في طبيعة العقل
التي فُطِر عليها ما يُمكِّنه من الوصول إلى بعض المعرفة دون اعتماده على ما تأتي
به الحواس من العالم الخارجي.
استهلَّ كتابه بنقْض ما ذهب إليه «لوك»، وذهبت إليه المدرسة
الإنجليزية كلها، فزعَم أن ليست المعرفة كلها مُستمدَّة من الحواس، كما قالوا؛
فلقد انتهت تلك المدرسة بهذه النتائج التي وصَل إليها «هيوم» من إنكار وجود العقل،
وبعبارةٍ أخرى وجود العِلم؛ لأنَّ هذا يقوم على ذلك، إذ يقول «هيوم» بأنَّ عقل
الإنسان ليس إلا أفكاره مُتتابِعة مُتعاقبة، وأنه لا يجوز لنا أن نقطع برأيٍ يقين؛
لأنَّ كل رأيٍ لنا إنْ هو إلا احتمال وترجيح قد يظهر ما ينقضه وينفيه … فأجاب
«كانْت» بأنَّ هذه النتائج الباطلة التي افترضَها، إذ زعم أنَّ كل معرفة الإنسان
تُستقى من أحاسيس مُنفصلة ومفكَّكة لا تربِط بعضها ببعضٍ صِلةٌ أو رابطة، فإحساس
مُعيَّن يتلوه إحساس ثانٍ فثالث وهكذا، وطبيعي أنَّ هذه السلسلة المُفكَّكة لا
تدلُّ على أنَّ هناك تتابعًا ضروريًّا، وقانونًا معروفًا تسير بمُقتضاه الأشياء،
وطبيعي إذا سلَّمْنا بهذا أن ننتهي إلى أن التتابُع الذي عرض لإحساساتنا في الماضي
قد لا يكون هو نفسه في المُستقبل، وبذلك تنهدِم السببيَّة التي هي أساس العِلم،
ولا يعود هناك عِلة لا بدَّ أن يتبَعَها معلولها.
نعم نحن نُسلِّم أن يقين المعرفة يكون مُستحيلًا لو كانت كل المعرفة
تأتينا من الحسِّ ومن عالمٍ خارجي مُستقل عنَّا لا يدَ لنا فيما يَبعَث إلينا من
إحساساتٍ على أنه يسير سيرًا مُطردًا لا يقبل الشذوذ، نقول إنه لو كان هذا هو مصدر
المعرفة الوحيد لسلَّمْنا بنتيجة «هيوم» من أن يقين المعرفة مُستحيل، ولكن ماذا
يقول «هيوم» لو بحثْنا فوجدْنا في أنفسنا معرفةً لم تُستمَد من التجربة الحِسِّية،
معرفة نثِق بصحَّتها ويقينها، حتى قبل أن نُصادف في الحياة أيَّةَ تجربة، وقبل أن
يستقبل الذهن إحساسًا واحدًا من العالِم الخارجي؟ أفلا تكون الحقيقة المُطلقة
والعِلم المطلق مُمكِنَين وفي مقدور الإنسان؟ وإذن فلنبحث أوَّلًا لنرى هل نملِك
هذه المعرفة المُطلقة التي لا تعتمد في وجودها على الحواس والتجربة، أم لا؟ ذلك هو
موضوع الكتاب الأول من النقد، وتلك هي المسألة التي قصد إلى بحثِها، وقد أورد فيه
«كانْت» تحليلًا بارعًا لأصل الأفكار وتطويرها، ولطبيعة العقل المَفطور عليها، وهو
يقول عن كتابه هذا: «لقد قصدتُ بهذا الكتاب إلى الكمال، وإني لأُقرِّر في يقينٍ
أنك لن تجد مسألةً واحدة من مسائل ما وراء الطبيعة إلا ألفيتَ حلَّها فيه، أو على
الأقل وجدتَ مفتاحًا تستعين به على حلها.»
ولمَّا كانت هذه الأبحاث التي يُقدمها «كانْت» لا تتَّخذ موضوع
دراستها نفس الأشياء التي تتعلق بها المعرفة، ولكنها تتناول بالدرْس عملية
التعرُّف ذاتها، فهي إذن فوق تلك الأشياء وخارجة عن نطاقها، فهي لا تُعالج موضوعها على النحو الذي عالجَتْه به المدرسة
التجربية التي اقتصرت على أنْ دلَّتْنا على ما يحدُث أثناء قيام العقل بعملية
المعرفة، بل هي تبحث فيما هو سابق لتحصيل المعرفة، أعني في الشرط اللازم توفُّره
في العقل، حتى يتمكن من العلم. إنَّ «كانْت» لا يبحث في كيف تتمُّ
المعرفة، ولكنه يعلو ذلك مرتبة فيبحث كيف يمكن للعقل أن يعرف، ومن هنا أطلق على
أبحاثه اسم «ما فوق
العقل Transcendental».
فكتابه في «نقد العقل الخالص» يبحث في إمكان المعرفة العقلية التي لا
تجيء عن طريق التجربة، بل التي تكون موجودة قبل التجربة، وهو
لا يريد بكتابه هذا أن يكون دراسةً فيما وراء الطبيعة، بل هو يريد أولًا أن يثِق
بأنَّ العِلم بما وراء الطبيعة مُمكن، فإذا ثبَتَ إمكانه، فكيف يكون؟ وإن
انتهى إلى جوابٍ إيجابي فعندئذٍ يبدأ البحث فيما وراء الطبيعة حين ينتهي نقد العقل
… ولمَّا كان من المعلوم أنَّ كل ضروب العِلم هي عبارة عن
أحكامٍ يُثبتها الإنسان للأشياء أو ينفيها عنها، كان في استطاعتنا أن نقول إن مبحث
هذا الكتاب هو: هل في العقل أحكام نشأتْ فيه قبل أن تأتيه من العالَم
الخارجي؟ ولسْنا نريد بذلك الأحكام التحليلية التي لا تزيد على أن
تُخبر بما هو كائن في المُخبَر عنه. كأن تقول عن الجسم إنه هو ما يتَّصِف
بالامتداد، وعن الخط المُستقيم بأنه ما ليس بمُعوج، إذ إنَّنا لا نشكُّ في أن هذا
الضرب من الأحكام في ميسور العقل بغَير أن يلجأ إلى التجربة الحسِّية؛ لأن هذه لا
تُضيف إلى علمنا شيئًا جديدًا، وأكثر ما تؤديه هو توضيح ما نعلمه، إنما نُريد الأحكام الإنشائية [التركيبية] التي تُخبرنا بشيءٍ
جديدٍ عن الشيء المُخبَر عنه كأن نصِف الجسم بالثقل، والخط المستقيم بأنه أقصر
الطرُق بين نُقطتين، فهل النوع من الأحكام الإنشائية التي يأتي فيها
الخبر بشيءٍ جديد عن المُبتدأ في مُتناول العقل المجرد الخالص من أن يستمدَّها من
الخارج؟ هذا هو موضوع كتاب «نقد العقل الخالص» الذي نستطيع أن نصُوغ الغرَض منه في
هذه العبارة الموجَزة: هل الأحكام الإنشائية السابقة للتجربة في مقدور العقل
وإمكانه؟ وإذا كانت كذلك فما وسيلة إمكانها؟
ولكن هذا السؤال سرعان ما يتفرَّع إلى أسئلةٍ ثلاثة:
فالرياضيَّات كلها تتألَّف من هذه الأحكام الإنشائية، فأنت لا تشكُّ
بأن ٣ + ٤ = ٧، ولكن هذه النتيجة التي وصلْتَ إليها ليست مُتضمَّنة في
مُقدِّماتها، فلا السبعة موجودة في العدد ثلاثة، ولا هي موجودة في العدد أربعة،
وليس في كلا الرقمين ما يدلُّ على أن جمعهما إلى بعضهما يُنتج سبعة، وإذن فهو خبر
جديد أَخبَرْنا به عن مبتدأ لا يتضمَّنه ولا يحتويه، كذلك
أنت لا تتردَّد في الحُكم على الخط المستقيم بأنه أقصر الخطوط بين نُقطتَين، مع أن
هذا الحُكم لا يوجَد في الخط المستقيم، وإذن فهو جديد مُنشأ … فالرياضيات
أحكامها إنشائية، وهي من إنشاء العقل دون التجربة الحسية،
وعلى ذلك يتفرَّع من السؤال الأصلي سؤال فرعيٌّ هو: كيف أمكن للعقل معرفة
الرياضيات؟
كذلك العلم الطبيعي الذي لا يجيء عن طريق الحواس فيه قضايا أنشأها
العقل الخالص، وهي في الوقت نفسه أحكام إنشائية، أي تُضيف علمًا جديدًا، مثال ذلك
قولنا: إن كلَّ تغيُّر لا بدَّ أن يكون له سبَب، فهذا حكم
عقلي لم نحتَجْ إلى التجربة الحسِّية لمعرفته، وإذن فقد تفرَّع من السؤال الأصلي
سؤال فرعي ثانٍ هو: كيف أمكن معرفة العِلم الطبيعي الخالص؟
وأخيرًا هنالك بعض القضايا التي هي فوق مُتناول الحسِّ مثل
قولك: إنَّ الروح خالِدة، فهذه أيضًا فيها حُكم إنشائي أنشأه العقل المَحْض مُستقلًا
عن التجربة، وحتى هؤلاء الذين يُنكرون بداهةً مثل هذه القضية، فهُم على الأقل قد
بسطوا لأنفسهم هذا السؤال، ومجرَّد السؤال فيه احتمال أن تكون القضية صحيحة، وإذن
يتفرَّع من السؤال الأصلي سؤال فرعي ثالث وهو: هل المعرفة الميتافيزيقية التي تسمو
على المحسوسات مُمكنة؟
والجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة يكوِّن الجزء الأول من كتاب
نقد العقل وهو أهمُّ أجزاء الكتاب.
ولكي يُجيب عن هذه الأسئلة في إمكان المعرفة، نَظَر فإذا ﺑ «لوك» من
ناحيةٍ قد حصر المعرفة في الحواس، كما حصرَها «لَيْبنتِز» في العقل، فنَقَد
المذهبَين جميعًا، وقال: إن للمعرفة الإنسانية أساسَين مُختلفين لا غِنى لأحدهما
عن الآخر:
الحس، وبه نكتسِب الإدراكات الحسِّية باستقبالنا للأحاسيس.
والفكر، وبه نكون المُدرَكات العقلية بواسطة اختيارنا مما يأتي إلينا
من الإحساسات ما يُلائمنا وما نحتاج إليه، فلا يمكن بأية حالٍ أن تكون التجربة هي
الميدان الوحيد الذي تنحصِر عقولنا في حدوده، فالتجربة تدلُّنا على ما هو واقع،
ولكنها لا تدلُّنا على أن هذا الواقع لا بدَّ بالضرورة أن يكون هكذا، ولا يكون على
صورةٍ أخرى، وهي لذلك لا تمدُّنا قطُّ بالحقائق العامَّة، مع أن هذا الضرْب من
المعرفة هو ما تنزِع إليه عقولنا بصفةٍ خاصة، فالتجربة
تُوقِظ العقل أكثر ممَّا تُقنِعه، وما دام العقل في مُكنته أن يصِل إلى الحقائق
العامَّة مع أنها ليست من التجربة. فهو إذن مصدر العِلم إلى جانب التجربة. ولعلَّ
أنصع مثال يدلُّ على وصول العقل إلى المعرفة بغير طريق التجربة هو مثال الرياضة؛
لأنها يقينية ويستحيل على التجربة أن تنقُضها يومًا ما، فلقد يجُوز لك أن تتصوَّر
الشمس مُشرقة من الغرب في الغد، وأن النار قد تتبدَّل عليها الظروف، فلا تعود
قادرةً على إحراق عصاك الخشبية، ولكنك لا تستطيع بحالٍ من الأحوال أن تتصوَّر أن
العالَم سيحدُث فيه ما يجعل اثنَين واثنَين لا تساوي أربعة، فهذه الحقيقة
الرياضية ثابتة إلى الأبد ومن الأزل، ولا تحتاج لكسبِها إلى تجربة؛ لأنها حقيقةٌ
مُطلقة لازِمة الحدوث، والتجربة لا تمدُّنا إلَّا بإحساساتٍ مُتفرِّقة، وأحداث
مُفكَّكة، لا يطَّرد تتابُعُها، فقد تجيء في غدٍ على غير النظام الذي جاءت به
اليوم أو أمس. إذن فهذه الحقائق الرياضية وأشباهها
تستمِدُّ ضرورتَها من تركيب عقولنا الفطري، من الطريقة الطبيعية التي تعمل
على مُقتضاها إذ إنَّ عقل الإنسان ليس قطعةً من الشمع تنفعل بالتجارب دون أن يملك
لنفسه شيئًا، كلَّا ولا مجرد اسمٍ أطلقْناه على مجموعة الحالات العقلية التي
تتتابَع في سلسلةٍ مُتلاصقة الحلقات، ولكنه عضو فعَّال يتقبَّل الإحساسات فيُشكلها
ويُنسِّقها كيف شاء، ثُم يُحوِّلها إلى أفكار. هو عضو تأتيه آلاف الآثار الحِسية
في فوضى، فيتناولها بالتنظيم، حتى تُصبح وحدةً فكرية مُتماسكة، ولكن كيف يتمُّ له
ذلك؟
يجيب «كانْت» على ذلك السؤال في جُزأين: يسمى الأول «الحسُّ السامي»،
وهو يبحث في المرحلة الأولى من مراحل المعرفة، أي في وصول الإحساسات إلينا من
الخارج، ويُسمَّى الثاني «المنطق السامي»، وفيه يبحث فيما يطرأ على الأحاسيس بعد
وصولها إلى العقل. وهو يُقسِّم هذه المرحلة الثانية إلى فرعَين: مرتبة دُنيا من
الفهم، ويُسميها «التحليل السامي»، ومرتبة عُليا، ويُسميها «الميتافيزيقا
السامية».
وهذه الإجابات الثلاث تُقابل من ناحيةٍ أخرى الأسئلة
الفرعية الثلاثة التي ذكرْناها من قبل؛ فالحسُّ السامي يُجيب عن كيفية إمكان
المعرفة الرياضية، والتحليل السامي يُجيب عن كيفية إمكان معرفة العلم الطبيعي
الخالص، والميتافيزيقا السامية تُجيب عن إمكان المعرفة الميتافيزيقة غير
المُحسَّة.
الحس
السامي Transcendental Aesthetic
يُسمِّي «كانْت» هذه المباحث «سامية»؛ لأنها تبحَث في تركيب العقل وبنائه، ودرس
قوانين الفكر الفطرية المَوروثة، فهي إذن أبحاث فوق التجربة الحسِّية وأسمى منها، «إنَّني أُسمِّي بحوث المعرفة ساميةً إذا كانت لا تُعنى
بالأشياء بقدْر ما تُعنى بأفكارنا الفطرية عن الأشياء.» يعني إذا كانت
تُعنى بطريق العقل في وصل ما تأتي به التجربة من آثارٍ حِسِّية وتحويلها إلى
معرفة، وإن العقل ليتبع في ذلك مرحلتَين — كما قدَّمنا — حتى يتمَّ له تحويل مادة
الإحساس الخام إلى ثمار الفكر الناضجة:
- الأولى: ربط
الأحاسيس الآتية من الخارج والتوفيق بينها، وجمعها في وحدةٍ بِصبِّها في
قلبَي الإدراك الحسِّي وهما المكان والزمان.
- والثانية: التوفيق
بين تلك المُدرَكات الحسية التي انتهَينا من صُنعها في المرحلة الأولى، حتى
نُخرج منها مُدرَكاتٍ عقلية.
ونحن الآن نتناول المرحلة الأولى «الحس السامي» بالبحث:
نحن نقصد بكلمة «إحساس» شعور الإنسان بوجود أحد المؤثِّرات على إحدى
الحواس، فقد تبعَثُ فينا الأشياء الخارجة عنَّا طعمًا على اللسان، أو رائحةً في
الأنف، أو صوتًا في الأذن، أو حرارة على الجلد، أو لمعةً خاطفة من الضوء على شبكية
العين، أو ضغطة على الأصابع، فهذه الآثار الحِسِّية هي المادة الخام الأولية التي
تُمِدُّنا بها التجربة، وهي التي تكون لدى الطفل في أيامه الأولى قبل أن يبدأ
حياته العقلية، وليست تُسمَّى هذه الإحساسات «معرفة» ما دامت مفرَّقة مُفكَّكة لا
يرتبط الطعم الذي جاء على اللسان بالضوء الذي أثَّر في العين ولا بالرائحة التي
سلكت طريق الأنف إلخ. ولا تتجمَّع كلها حول «شيء» مُعين، فإذا ما تجمَّعت هذه
الأشتات الحسِّية حول «شيء» في المكان والزمان تحوَّلت إلى علمٍ ومعرفة، فليست
رائحة التفاحة وحدَها، أو طعمها وحدَه، أو الضوء المُنبعث منها «لونُها» وحدَه، أو
ضغطها على اليد الذي يكوِّن شكلها معرفة، ولكن إذا ما اتَّحدَت الرائحة والطعم
واللون والشكل كلها في مجموعةٍ واحدة مُتعلقة بشيءٍ مُعيَّن، كان إدراكُنا لهذا «الشيء»
هو المعرفة؛ لأنَّنا عندئذٍ لا نشعُر بمؤثِّرٍ عن حاسَّة فحسْب، بل نُدرك شيئًا،
وهذا الإدراك للشيء في مجموعِه هو ما نُسميه بالإدراك الحسي … وتحوُّل الإحساس إلى
إدراك حِسِّي معناه تحوُّل الإحساس إلى معرفة.
ولكن كيف تتحوَّل الإحساسات إلى إدراكٍ حسي؟
كيف تتجمَّع المؤثرات الحسية المُتفرِّقة التي تسلك إلى الذهن سُبلًا شتَّى حول
شيءٍ بعَينه؟ إنَّ لون التفَّاحة يدخُل من بابٍ غير الباب الذي يدخل منه طعمُها،
وشكلها يأتي من نافذةٍ غير النافذة التي تأتي منها رائحتها، فمن الذي يتناوَل هذه
الآثار المُبعثَرة عند وصولها إلى الذهن، فيضُمُّها بعضها إلى بعض، ويكوِّن منها
«تفاحة»؟ أم هل تُسارع هذه الآثار فتجمَع بعضها إلى بعض بطريقةٍ آلية دون أن تحتاج
في تجمُّعها إلى قوةٍ خارجةٍ عنها؟ يقول «لوك وهيوم»: نعم، إنَّ هذه الإحساسات
تتحوَّل إلى إدراكٍ حسِّي من تلقاء نفسها وبطريقةٍ آلية، وأما «كانْت» فيبعثها
صرخةً داوية يُنكِر بها ما ذهب إليه «لوك وهيوم».
إنَّ هذه الإحساسات المُختلفة تصل إلينا من خلال قنواتٍ شتَّى، إنها
تسلك ألوفًا من الأعصاب التي تمتدُّ من الجلد والعين والأذن واللسان إلى المُخ.
فانظُر إلى هذا الخليط المُتضارِب المتنافِر يصِل إلى حُجرة العقل ويتزاحَم فيها،
وكل واحدٍ منَّا يدعو الذهن إلى الانتباه إليه! فلو ترك هذا الجمع المُحتشِد وشأنه
لظلَّ في تعدُّدِه وفوضاه عاجزًا أن يُرتِّب نفسه وينظمها، بحيث يصبح غرضًا وقوة
ومعنى، إن مثلها مثل طائفةٍ كبيرة من الرسائل ترِد إلى قائد الجيش في ساحة القتال
من فيالِق الجيش وبنوده، أترى إذا وُضِعت الرسائل إلى جانب بعضها فوق المائدة،
أكانت تستطيع من تلقاء نفسها أن تُرتِّب نفسها، ثم تتحوَّل إلى فهمٍ للموقف، ثم
أمر يُرسَل إلى الجنود ليرسُم لهم خطة السير؟ كلا، بل لا بدَّ لها من مُنظِّم ومُشرِّع!
لا بدَّ لها من قوةٍ لا تتلقَّى الرسائل وكفى، بل تتناولها فتصُوغها في معنًى من
المعاني.
وجدير بنا أن نُلاحظ أن ليس كل ما يُبعث من الرسائل يُقبل، مما يدلُّ
على أن الأمر لا يقتصر على استقبالٍ فحسب، فهناك من المؤثِّرات التي تؤثر في نواحي
جسمك في هذه اللحظة ملايين، هنالك عاصفة من المؤثِّرات الحسِّية الآتية من الخارج
تضرِب على أطراف الأعصاب، وتتطلَّب الوصول إلى الذهن، ولكن ليس كل ما يدقُّ الباب
يُسمَح له بالدخول، بل إنا نختار من ملايين الإحساسات الواردة إلينا ما نتمكَّن من
صياغته في إدراكاتٍ حسِّية تُناسب الغرَض الذي نقصد إليه هذه اللحظة المُعيَّنة،
كما نختار من بين تلك الإحساسات ما نرى أنه يُنبئ بالخطر … افرِض أن ساعةً تدقُّ
الآن أمامك أثناء قراءة هذه الصفحة، فهذه الدقَّات تبعَث موجاتها الصوتية التي
تقرَع أعصاب الأذُن، ولكنك مع ذلك لا تسمعها، فإذا ما توجَّهتَ بإرادتك إلى الساعة
سمعتَ دقَّاتها جليَّةً واضحة، مع أنها لم تعْلُ عمَّا كانت قبل … ثم انظر إلى هذه
الأمِّ الراقِدة إلى جانب طفلها تراها لا تستيقِظ لعجيج الأصوات الصاخِبة من
حولها، ولكن لو تحرَّك صغيرُها حركةً خفيفة، أو همَس همسةً خافتة، نهضَتْ من نُعاسها
فزِعة، مع أنَّ صوت الطفل أضأل من جلبة العربات والمارَّة، فهذا دليل على أنَّ
العِبرة ليست في مجرد الإحساس، ولكن لا بدَّ كذلك من القوة التي تختار هذه
الأحاسيس وتُكسِبها ما لها من معنى، فالأمر مُتوقِّف على غرَض الإنسان الذي يقصد
إليه في وقتٍ مُعين، فمثلًا لو رأيتَ رقم ٢ ورقم ٣
مكتوبَين أمامك على ورقة، ثم قصدتَ إلى جمعها، كان الناتج في ذهنك «خمسة»، فإذا
قصدت إلى ضربهما، كان الناتج «ستة» مع أن صورة الرقمين، أي الإحساس الذي ينبعِث
منهما إلى العين هو هو في كِلتا الحالين لم يتغيَّر، إنما الذي تغيَّر هو الغرَض،
فاستتبع ذلك اختلافًا في معنى إحساسٍ بعَينه … إنَّ التداعي بين الإحساس والأفكار
ليس مُتوقفًا فقط على التجاور في المكان، أو التقارُب في الزمان، أو التشابُه، أو
التكرار، أو ما إلى ذلك، بل إنه خاضع فوق ذلك كلِّه إلى غرَض العقل،
فإحساساتُنا وأفكارنا خدَم لنا تنتظِر دعوتَنا فلا يأتي الأثر الحِسِّي أو الفكرة
إلى أذهاننا إلا إذا احتجْنا إليها فدعوناها، وإنَّ لدَينا قوة تقوم بهذا
الاختيار، وهذا التوجيه، ألا وهي قول العقل.
وللعقل وسيلتان في اختيار الإحساسات، ثُم في تحويلها إلى إدراكاتٍ
حسِّية ذات معنى هما الزمان والمكان، فكما يُرتِّب القائد الرسائل التي ترِد إليه
من أطراف جيشِه حسب زمانها الذي كُتِبت فيه، ومكانها الذي جاءت منه، وبهذا يستطيع
أن يفهم موقف جيشه فيُصدِر أوامره تبعًا له، كذلك العقل يُرتِّب الرسائل الحسِّية
التي ترِد إليه من العالَم الخارجي حسْب زمانها ومكانها، فيعزوها إلى هذا الشيء أو
ذاك، وإلى الحاضر أو إلى الماضي، وبذلك يتمكَّن من ترتيبها في ذهنه ترتيبًا
تتحوَّل بفضله إلى إدراكٍ حسِّي له معنى، ولكن ليس الزمان
والمكان اللَّذان يُضيفهما للآثار الحسية الواردة إليه شيئَين موجودين في الخارج،
ولكنهما صورٌ ابتكرَها العقل ليستعين بها على الإدراك. هما طريقان لوضع المعنى في
الإحساس، أو هما وسيلتان للإدراك الحسي.
نحن نتلقَّى مادة الإحساس الخام من الخارج فنصُبُّها في صورةٍ من
عندنا حتى تصير إدراكًا حسِّيًّا؛ إذن فالمادة مكتسبة. أما الصورة التي نُشكِّل
المادة فيها فمفطورة فينا، وهي سابقة لكلِّ تجربة، المادة تجربية، أما الصورة
فخالصة، وكلاهما يكوِّنان الإدراك الحسي، فكل إدراكٍ حسِّي هو عبارة عن مادةٍ جاءت
من الخارج فاكتسبَت صورتها في العقل، فنحن لا نخلق المدركات الحسية، ولكنَّا نصفها
فقط كما يصنع النجار المائدة من قطع الأخشاب، والأداتان
اللتان نستعمِلُهما في صنع الإدراكات الحِسية من الإحساسات هما الزمان والمكان،
والزمان الذي بواسطته نضع الآثار الحسية في تتابُعٍ وتعاقُب، حتى تتكوَّن منها
سلسلة مترابطة مُتصلة،
والمكان الذي بواسطته نجاور بين الطعم واللون والرائحة حتى تتألَّف منها التفاحة …
والزمان والمكان لا يجيئان إلينا من الخارج مع التجارب الحسية، ولكنهما كما
قدَّمنا موجودان في العقل بطبيعته، وآية ذلك ما يتَّصِفان به من ضرورة، فلسْنا
نستطيع أن نُفكِّر بغيرهما، أو أن نجرِّد منهما الأشياء والحوادث التي تقع في
التجربة، وكما أنهما لم يأتيا من التجربة الحسِّية، كذلك هما ليسا فكرتَين
مجرَّدتَين استخلصهما العقل مما يُصادف من جزئيات في الخارج؛ لأن وجودهما لا
يستلزم وجود عدَّة أزمنة وعدَّة أمكنة لكي نصِل إلى فكرتيهما، بل الأمر على النقيض
من ذلك؛ إذ لا بدَّ لك لكي تُفكر في عدَّة أزمنة، وعدَّة أمكنة، أن يكون لدَيك
بادئ بدء «زمان» و«مكان». وما يدلُّ على أنهما فكرتان ذاتيَّتان موجودتان فينا
وليس لهما وجود في الخارج، أنك لا تستطيع مثلًا أن تُفرِّق بين مكانين إلا
بالنِّسبة لشخصك، فلا يمكنك أن تُفرِّق بين وضع اليد الحقيقية ووضع صورتها في المرآة
إلَّا بقولك: إنَّ هذه ناحية اليمين، وتلك ناحية اليسار. واليمين واليسار بالطبع
اعتباران ذاتيَّان يتعلقان بالشخص الرائي، وأنت مُضطر أن تلجأ إليها في التفرقة
بين الوضعَين؛ لأنه ليس هناك صفات مكانية موضوعية مُستقلة عنك يمكن استعمالها في
التمييز بين وضعَين مُختلفين.
إذن فنحن الذين نخلع على الإدراكات الحسية المختلفة، (أي الظواهر)
زمانيَّتَهما ومكانيَّتَهما، والزمان والمكان يتشابهان في أن كلًّا منهما حالة
ذاتية يستعين بها الشخص على تحويل الإحساسات إلى إدراكاتٍ حِسية، ولكنهما يختلفان في أنَّ المكان تُستعمَل صورته في تشكيل
الإحساس الذي يأتي إلينا من الخارج فقط، أما الزمان فهو قبل كلِّ شيءٍ يُستخدَم في
وصل مشاعر الشخص وحالاته المُتعاقبة لكي يتكوَّن منها في النهاية ذات، أعني أنَّ
المكان خاصٌّ بما تُدركه في الخارج، والزمان خاص أولًا بما تُدركه في باطنك، ولكن
لمَّا كانت تلك الإحساسات الخارجية التي تربط بعضها ببعض بواسطة «المكان» يتبَعُها
دائمًا إحساساتٌ داخلية أو ذاتية، ولمَّا كانت هذه الإحساسات الداخلية — كما
قدَّمنا — ترتبط وتتشكَّل بواسطة «الزمان»، فالزمان إذن صورة (غير مباشرة) للإدراك
الحسِّي الخارجي أيضًا، فموضِع الخلاف بينهما هو أنَّ المكان لا يُستعمَل إلَّا في
الإحساسات الخارجية فقط، أما الزمان فيُستعمَل في الإحساسات الداخلية والخارجية
على السواء؛ الأولى بطريقةٍ مُباشرة، والثانية بطريقةٍ غير مباشرة، ومعنى ذلك أنَّ
الزمان أشمل من المكان، فكل الظواهر باطنيةً كانت أو خارجية زمانية، أي تُصاغ في
صورة الزمان، والظواهر الخارجية مكانية أيضًا، أو بعبارةٍ أخرى: فالظواهر الخارجية
تقع في الزمان والمكان معًا، والتأمُّلات الباطنية تقع في الزمان والمكان.
وواضح أنه ما دام الزمان والمكان أداتَين يستخدمهما الإنسان
في تكوين الإدراكات الحسِّية فهُما يبطلان إذا ما استُخدِما في غير الحس، أي ما
ليس بالظواهر. ويُسمِّي «كانْت» كُنه الشيء الذي وراء ظاهرة: «الشيء في ذاته»،
وإذن فالأشياء في ذواتها ليست تقع في زمانٍ أو مكان؛ لأنها ليست مما يُدرَك بالحس، وكما أنك لا تستطيع أن ترى بعينيك إلا
ما هو مرئي، كذلك لا يمكنك أن تصُبَّ الزمان والمكان إلا على ما هو حسِّي.
وما دُمنا قد علِمنا مما سبق أن الزمان والمكان هما صورتان مفطورتان
في العقل لم يُستمَدَّا من التجربة، وأنهما هما اللتان تجعلان المُدركات الحسِّية
هي ما هي؛ فإذن ينتُج من ذلك أنَّ كل ما نعزوه للأشياء من أحكامٍ متعلقة بمكانها
أو زمانها فهو مُستمَدٌّ من فطرتنا، ولم نعتمد فيه على ما أتانا من الخارج بواسطة
الحواس، وعلى ذلك فكل القضايا الرياضية مُشتقَّة من طبائع عقولنا؛ لأنها تتعلَّق
إما بالمكان أو بالزمان، وهذان كما قُلنا قد خلقناهما بأنفسنا من أنفسنا، فالهندسة
تختصُّ بالمكان، والحساب يتوقَّف على إدراكنا للزمان؛ لأنه أعداد، والعدد عبارة عن
تكرار الوحدة، والتكرار معناه التعاقُب والتتابُع، وهذا هو الزمن، وعلى ذلك
فالمبادئ الرياضية لم تأتِ لنا من الخارج، ولكنَّا خلقناها من أنفسنا، فهي إذن
فطرية لا تعتمِد على التجربة، أعني أنها خالصة مجرَّدة، ويستحيل أن يثبُت خطؤها أو
أن يظهر فيها شيء من التناقُض، ومعنى ذلك كله أن الرياضة
باعتبارها علمًا خالصًا مُمكنة المعرفة، ما دام الزمان والمكان موجودَين فينا
بالفطرة، وبذلك يكون «كانْت» قد أجاب عن السؤال الأول.
يتَّضِح ممَّا سبق أنَّ «كانْت» وقف بمذهبه بين الواقعية والمثالية؛
لأنه من ناحيةٍ اعترف بالإحساسات التي تأتينا من الخارج كمادَّة المعرفة الأولية،
ولكنه من ناحيةٍ أخرى أكد فاعلية العقل واشتراكه في صياغة تلك الإحساسات في
مُدرَكات حِسِّية،. هو واقعي مِثالي؛ لأنه يرى أن الأشياء المكانية موجودة حقًّا
وليست مجرَّد ظواهر، ولكن أساس وجودها هو المكان الذي يقع فينا وتخلُقه عقولنا.
ها نحن قد نجَونا بالرياضة فأثبتْنا يَقينها بعد أن طاح بها شكُّ
«ديفد هيوم»، فتُرى هل نستطيع ذلك في بقية العلوم؟ نعم ذلك مُستطاع لو أثبتْنا صحَّة
قانونها الأساسي، قانون السببيَّة الذي مؤدَّاه أن العِلَّة المُعينة يجب دائمًا
أن يتبعها معلول مُعين، فلو أقمْنا الدليل على أن هذا القانون فطري موروث تُمليه
طبيعة عقولنا كما هي الحال في الزمان والمكان لثبتَتْ علوم الطبيعة كما ثبتت من
قبلها الرياضة.
التحليل السامي Transcendental Analytic
يحاول «كانْت» في هذا الفصل أن يُجيب على السؤال الثاني وهو: هل في
فطرة الإنسان ما يُمكِّنه من معرفة قوانين الطبيعة؟ وبهذا ينتقل «كانْت» ببحثه من
ميدان التجربة الفسيح إلى غرفة العقل الضيقة المُظلمة؛ ليرى ماذا يصنع العقل بالمُدرَكات
الحسية التي تكوَّنت فيه مما جاء إليه من آثار حسِّية من العالم الخارجي. فيقول:
إنه كما أنَّ أشتات الأحاسيس المُتفرقة قد تجمَّعت بفضل صورتَي الزمان والمكان،
فتكوَّن منها مُدرَكات حسِّية، كذلك يتناول الفكر هذه المُدرَكات الحسِّية نفسها
فيصُبُّها فيما لدَيه من قوالب ذهنية، فيؤلِّف بينها وينسُج منها مدركات عقلية
وأحكامًا كلية، وعندئذٍ فقط؛ أعني عندما تتكوَّن في العقل هذه المُدرَكات الذهنية،
يكون في العقل محتويات فكرية، وأما قبل ذلك فهو فارغ خالٍ. أي أن المعرفة الصحيحة لا تبدأ إلَّا بتحويل المُدرَكات الحسية
إلى مدركاتٍ عقلية؛ إذ المعرفة معناها التفكير فيما لدَيك من إدراكاتٍ حسية. وكما
أن الفكر بغير إدراكٍ حسِّيٍّ يظلُّ فارغًا كذلك الإدراكاتُ الحسية إذا ظلَّتْ
كذلك دون أن تتحوَّل إلى مُدرَكاتٍ عقلية فهي عمياء.
وهكذا يستطيع العقل بما لدَيه من صورٍ ذهنية أن يرتفِع بالمعرفة
الحسِّية للأشياء إلى معرفةٍ عقلية لما بين تلك الأشياء من علاقات، وما يُسيِّرها
من قوانين، فهي التي تُهذِّب التجربة التي تأتي إلينا عن طريق الحواسِّ حتى
تُصيِّرها علمًا. وإذن فالعقل الذي تَصوَّره «لوك وهيوم» قطعة قابلة من الشمع
تُشكِّلها التجربة الحسِّية كيف شاءت، يراه «كانْت» فعَّالًا يتلقَّى التجربة
فيُبوِّبها وينظمها ويصُوغها في فكرٍ مُنسجِم. خُذ مثلًا نظامًا فكريًّا كفلسفة
«أرسطو»، ثم سائل نفسَك كيف يُمكن أن يكون هذا النظام المُتَّسق الشامل قد تمَّ
بناؤه بطريقةٍ آلية، وأن ما بناه هو المُفردات الحسِّية نفسها التي جاءت إلى عقلِه
من الخارج في تزاحُمٍ وفوضى، دون أن يتناولها بالتنظيم عقل فعَّال؟
انظُر إلى تلك الصناديق التي رُتِّبَت فيها بطاقات الكتُب في دار
الكتُب، ثُم تصوَّر أن تلك البطاقات قد انتثرَتْ فوق أرض الغرفة، فاختلط بعضها
ببعض في غير نظام، فهل تُصدِّق أن في مقدورها أن تتجمَّع من تلقاء نفسها، وأن
تَصطفَّ في نظام أبجدي كلُّ نوعٍ في صندوقه الخاص، ثم يسعى كلُّ صندوقٍ إلى مكانه
فيستقر فيه؟ هذا ما يُريدنا دُعاة الشك أن نؤمن به، فهم يطالبوننا أن نعتقد بأن
أخلاط الأحاسيس إذا وصلتْ إلى العقل استطاعت من تلقاء نفسها أن تُبوِّب نفسها، وأن
تنتظِم في فكرٍ مُرتَّب! كلَّا، إنما تأتي الإحساسات في خليطها وفوضاها فتتحوَّل
إلى مُدركاتٍ حسِّية مُنظمة وتُصبح أشياء، ثم تتحوَّل هذه إلى مُدرَكات عقلية أكثر
نظامًا حيث تكون علمًا ومعرفة، ثم يسمو هذا العلم نفسُه إلى مرتبةٍ أعلى من النظام
فيكون حِكمة!
فمن ذا الذي أكسب ذلك العلماء نظامه وانسجامه؟ إنَّ هذا التنظيم لم
يأتِ من الأشياء نفسها؛ لأنَّنا لا نعلم تلك الأشياء إلا بما نتلقَّاه من أحاسيس،
وهذه تأتينا في ازدحامٍ وكثرةٍ وفوضى سالكةً إلينا نوافذ عدَّة، إنما الذي أكسبَها
هذا النظام وهذا الاتحاد هو العقل بما يقصد إليه من أغراض، وإذن فلقد أخطأ «لوك» حين قال إنه «ليس في العقل شيء إلا ما كان في
الحواس أولًا.» وكان «لَيْبنتِز» على حقٍّ حين علَّق على عبارة «لوك»:
«لا شيء إلا العقل نفسه.» … فلو كانت الإدراكات الحسية
قادرة وحدَها على أن تُنظِّم نفسها بطريقةٍ آلية في فكرٍ مُنظم، ولم يكن للعقل أثر
فعَّال في تحويل فوضى الإحساس إلى نظام الفكر، فبماذا نُفسِّر أن يتلقَّى رجلان
تجربةً حسية واحدة، فيكون الأول مُتوسِّط الذكاء، ويرتفع الثاني إلى ذُروة الفلسفة
والحكمة؟
لا، لا بدَّ أن يكون هناك عقل، ولا بدَّ أن يكون لذلك العقل صُوَر أو
قوالب نشأت فيه بالفطرة ولم تأتِهِ من التجربة، يُمكنه بها أن يصُوغ الإحساس في
فكر،.ومن تلك الصور الفطرية التي يستعين بها العقل
على تشكيل الإدراك الحسِّي وصياغته قانون العِلة والمعلول، وهنا
ينشأ سؤال: كيف يمكن للعقل أن يُطبِّق صوره الذهنية على الأشياء الحسِّية حتى
يصُوغها على نسَقِها وغِرارها؟ إنَّ تلك الصور عقلية خالصة، وهذه الأشياء حِسِّية
بحتة، فهل يمكن للعقل والحس على ما بينهما من خلافٍ أن يتَّصِلا ويتلاقَيا؟ يُجيب
«كانْت» إنه لا بدَّ من مرحلةٍ متوسطة تصِل هذَين
الطرفَين أحدهما بالآخر، ويقول: إنَّ هذا الوسيط هو «الزمن». فلقد عرفْنا في الفصل
السابق أنَّ «الزمان» قالب ذهني تتشكَّل فيه كل الإدراكات الحسِّية، فلِكَون
«الزمان» فطريًّا فهو إذن شبيهٌ بالصُّوَر العقلية في فطريَّتها وتجرُّدها، ولكونه
صورةً للحسِّ فهو يُقاسِم الأشياء الحسِّية في صفاتها، وعلى ذلك يكون الزمان
حسيًّا وعقليًّا فيتمكَّن بذلك الحس والعقل — الأشياء من ناحية، والصور العقلية من
ناحيةٍ أخرى — أن يتقابلا على ما يُفرِّق بينهما من تبايُنٍ وخلاف. ومعنى ذلك أن
الصور العقلية لا تؤثِّر في الأشياء مباشرة، بل تحتاج في أداء مهمَّتِها إلى وسيط
ليس ما في العالم من نظام موجودًا في الطبيعة نفسها، إنما نَظَّمَه
الفكر الذي عرَفَه وأدركه، ونظَّمه حسب قوانينه هو المُتأصِّلة فيه، أي إنه ليس
للعالم الطبيعي قوانين خاصة يسير بمُقتضاها غير القوانين والصور الذهنية التي يعمل
بها العقل، فقوانين الأشياء هي قوانين الفكر، والعلاقة التي تربط الأفكار بعضها
ببعض هي نفسها العلاقة التي تربط الأشياء، فإذا كنتَ ترى العقل يسير في حُكمِه من
المُقدِّمة إلى النتيجة، فإنَّ الأشياء تسير من العِلَّة إلى المعلول، ولا غرابة
فنحن لا نعلم الأشياء الخارجية إلا بالفكر، ولهذا الفكر قوانين يجِب أن يسير على
أساسها، بل الفكر هو قوانينه، فبديهي إذن أن تكون تلك القوانين العقلية هي نفسها
قوانين الطبيعة، أو كما قال هجل: «إن قوانين المنطق وقوانين الطبيعة شيء واحد.»
إذن فقوانين العلم وأصوله ضرورية يستحيل عليها الاختلال؛
لأنها هي هي قوانين الفكر، وقوانين الفكر مفطورة فيه، نشأت من طبيعة تكوينه
وتركيبه، ومعنى ذلك أن نفس القوانين التي سارت على أساسها التجربة في الماضي
والحاضر ستظلُّ صحيحةً إلى الأبد، وبهذا ينهار صرْح الشكِّ الذي بناه «هيوم» …
فالعلم مُطلق، والحقيقة خالدة.
ولكن يجب على العقل أن يقِف في تصوُّره عند حدِّ التجربة
الحسية، إذ لا يمكن لأفكارنا أن تمتدَّ إلى كُنه الأشياء ولُبابها — إلى الأشياء
في أنفسها — فإذا ما حاوَلْنا أن نعرفها بنفس الوسائل التي نعرف بها الظواهر
(أي الزمان والمكان والسببية وغيرها) تورَّطنا في التناقُض والخطأ، وإقامة
الدليل على ذلك هو موضوع: «الميتافيزيقا السامية».
البحث السامي فيما وراء الحس Transcendental Dialectic
ولكن إذا كان العِلم صحيحًا مُطلقًا، وإذا كانت الحقيقة خالدة، فذلك
على شرط أن [لا] يتعدَّى الإنسان بعِلمه ميدان التجربة والظواهر؛ لأننا لا ندري من
الأشياء إلا ما ظهَر لنا منها في تجربتنا. فالعالم كما نعرفه بناءٌ قد اشترَكَ في
تشييده عامِلان، العقل من ناحية، والأشياء نفسها من ناحيةٍ أخرى، العقل بما لدَيه
من قوالب وصور، والشيء بما يبعَثُه من المؤثِّرات التي تؤثِّر في الحواسِّ وأطراف
الأعصاب. فظاهر الشيء كما يبدو لنا قد يكون مُخالفًا كلَّ المخالفة للشيء الخارجي
قبل أن يجيء في دائرة حواسِّنا. ويستحيل على الإنسان أن
يعرِف كيف كان ذلك الشيء في أصله وحقيقته؛ لأنه لا يعرِف إلا ما يُصادفه في تجربته،
فإن وقَعَ «الشيء في ذاته» في حدود التجربة، تحوَّل أثناء مروره خلال الحواس
والفكر، «إننا نجهل ماهية الأشياء وحقيقتها المُستقلة عن إدراك الحواس جهلًا
تامًّا. إنَّنا لا ندري من الأشياء إلا كيفية إدراكنا لها، ولمَّا كانت تلك
الكيفية خاصَّة بنا لم يكن من الضروري أن يشترك فيها كل الكائنات، ولو أنها ولا
رَيب عامة بين البشر جميعًا.»
إن القمر كما نعرفه لا يزيد على حزمةٍ من الإحساسات (كما
ارتأى هيوم) وحَّدَها العقل (وذلك ما فاتَ هيوم) بأنْ حوَّل الإحساسات إلى إدراكات
حسِّية، ثُم الإدراكات الحسية إلى مُدركاتٍ عقلية وأفكار، وإذن فالقمر بالنسبة لنا
هو عبارة عن أفكارنا … ولكن لا ينبغي أن نفهم من هذا أن «كانْت» قد أنكر وجود
المادة ووجود العالم الخارجي، بل هو يعترِف بتلك المادة، وإنما يزعُم أننا لا نعرف
شيئًا يقينيًّا عنها أكثر من أنها موجودة وأنَّ كلَّ ما تصِل إليه من علمٍ يتعلق
بظاهرها، أي بما لدَينا عنها من إحساسات، فشطرٌ كبير من كلِّ شيءٍ قد خلفته صُوَر
الإدراك الحسي والعقلي. فنحن نعلم الشيء بعد تحوُّله إلى فكرة، أما ماذا كان الشيء
قبل هذا التحوُّل فهذا ما نعجز عنه كلَّ العجز، وإذا ظنَّ العلم أنه يُعالِج
الأشياء في أنفسها أي كما هي في حقيقتها فهو ساذَج مخدوع، والفلسفة أشدُّ من
العِلم انخداعًا إن زعمَتْ أن مادة العلم كلها لا تتألَّف من مُدرَكات الإنسان
الحِسِّية والعقلية، بل من الأشياء نفسها.
ومعنى ذلك أن كل محاولة يبذُلها العلم أو الدين في أن يصِل
إلى الحقيقة النهائية محاولة نظرية فاشلة؛ لأنه لا يُمكن للعقل أن يتعدَّى الظواهر
الحسِّية، فإن مضى العِلم والدِّين في ذلك توَرَّطا في التناقُض والخطأ. ووظيفة
«الميتافيزيقا السامية» أن تُبين موضع الخطأ في محاولة العقل أن يتخطَّى دائرة
الحس والظواهر، وأن يدخُل في عالم الأشياء في أنفسها مع أنه عالم مجهول … فمثلًا
إذا حاول العقل أن يحكُم هل العالم محدود أو لا نهائي — من حيث المكان — وقع في
تناقُض وإشكال؛ لأنه سيجِد نفسه مُضطرًّا إلى رفض الفرضَين كليهما، فنحن من جهةٍ
نتصوَّر أن وراء كلِّ حدٍّ شيئًا أبعدَ منه، وهكذا إلى ما لا نهاية، ثم يتعذَّر
علينا من ناحيةٍ أخرى أن نتخيَّل اللانهاية في ذاتها. كذلك لو حاول العقل أن يعرف
هل كان للعالَم ابتداء زَمني وقع في الإشكال نفسه؛ لأنَّنا لا نستطيع أن نتصوَّر
الأزلية التي ليست لها نقطة ابتداء. ولكنَّا في الوقت نفسه لا يمكن أن نتصوَّر
لحظةً ماضية نُسمِّيها بدء الزمن، إذ لا يسَعُنا إلا أن نشعُر بأنَّه قد كان قبل
تلك اللحظة الأولى شيء، ثم لو تساءل العقل هل لسلسلة العِلة والمعلول بدء، أي هل
للعالم عِلة أولى نشأ عنها، أمكن له أن يُجيب بالإيجاب والنفي معًا، فبالإيجاب
لأنه لا يستطيع أن يتصوَّر سلسلة لا نهاية لها، وبالنفي لأنه لا يمكن تصوُّر عِلة
أولى لا عِلة لها، هذه كلها مشاكل ومُتناقضات لا يمكن للعقل أن يتخلَّص منها إلا
إذا وضع نُصب عينيه أن المكان والزمان والعِلة ليست إلا وسائل للإدراك الحسِّي
والإدراك العقلي، وبغيرها لا تكون لنا تجربة ولا معرفة، ولكن لا يجوز بحالٍ من
الأحوال أن نتوهَّم أن المكان والزمان والسببية أشياء خارجة عنا، مُستقلة عن
إدراكنا، فعلى الرغم من أنَّ كلَّ ما نُصادِف من تجارب لا يمكن فهمه إلا إذا
صُغناه بعباراتِ الزمان والمكان والسببية، فلن تكون لنا فلسفة صحيحة إذا فاتَنا
أنَّ هذه ليست أشياء واقعة، ولكنها طرُق لتفسير التجارب وفهمها فقط.
كذلك لو حاول اللاهوت أن يُبرهِن بالعقل النظري أنَّ الروح خالدة لا
يجوز على «عنصرها» الفساد، وأنَّ الإرادة حُرة من قيود «السببية»، وأن في الكون
كائنًا واجب الوجود هو الله، نقول: لو حاول اللاهوت ذلك لوقَع في مثل إشكال
العِلم، ويجِب أن يذكُر اللاهوت أن «العنصر» و«السببية» و«الضرورة» كلها صُوَر
عقلية ووسائل يتَّبِعها العقل في تبويب وتنظيم التجربة الحسية، فهي إذن لا تكون
صحيحةً قويمة إلا إذا طبَّقناها على الظواهر الحسِّية التي تأتي بها التجربة. أما
إذا تعدَّينا ذلك وطبَّقناها على المُدرَكات العقلية، فهنالك الخطأ والتناقُض،
وعلى ذلك فلا يُمكننا أن نُبرهِن على صحة الدين بالعقل النظري.
هكذا ينتهي الكتاب الأول في النقد، وكأنَّنا «بديفد هيوم» ينظُر إلى
هذه النتائج التي وصل إليها «كانْت»، والتي أراد بها أن يبني ما هدَمَه «هيوم»،
فيبتسِم ابتسامةً ساخرة! علامَ انتهى هذا الكتاب الضخم العميق الذي أراد أن يُنقِذ
العلم والدين من معاول الشك؟ لقد حدَّد العِلم وحصرَه في عالم الظواهر، فإن تغلغل
إلى لُباب الأشياء وحقيقتها زلَّ وأخطأ، وهكذا أنقذ العِلم! ثم زعم أنَّ حُرِّية
الروح وخلودها وأن وجود إلهٍ خالق مما يستعصي على العقل أن يقيم عليه الدليل،
وبهذا أنقذ الدين! ولا عجَبَ أنَّ رجال الدين في ألمانيا رفضوا هذا الإنقاذ
واحتجُّوا عليه، وأرادوا أن ينتقِموا لأنفسهم من الفيلسوف، فأطلق كلٌّ منهم على
كلبه اسم «عمانويل كانت».
ولقد قارن «هَيْني Heine» بين «كانت» الضئيل النحيل و«روبسبير» المروِّع الجبار، فقال: إن
«روبيسبير» لم يقتُل إلا ملكًا وبضعة آلاف من الفرنسيين — وهي جريمة قد يتسامح
فيها الرجل الألماني — أما «كانْت» فقد قوَّض الدعائم التي يرتكز عليها بناء
اللاهوت «لشدَّ ما يختلف مظهر هذا الرجل عن آرائه الهدَّامة التي زلزلت العالم!
فلو كان أهل كونسبرج قد قدَّروا كل ما تستتبع أفكاره من خطر، لارتاعوا لوجود هذا
الرجل أكثر ممَّا يُروِّعهم سفَّاك لا يقتل إلا الكائنات البشرية، ولكن الناس
كانوا من الطيبة بحيث لم يرَوا فيه إلا أستاذًا للفلسفة، إذا ما خرج في ساعته
المُحدَّدة هزوًا له رءوسهم يُحيُّونه تحية الصداقة، وأخذوا يضبطون ساعاتهم.»
نقد العقل العملي The Critique of Practical Reason
إذا كان الدين لا يمكن أن يقوم على أساسٍ من العِلم والعقل، فماذا عسى
أن يكون الأساس الذي يبنى عليه؟ يُجيب «كانْت» إنه يجِب أن يرتكز على دعامة من
الأخلاق؛ لأنك إن أقمتَ بناءه على عَمَدٍ من اللاهوت العقلي عرَّضْته — كما
قدَّمْنا — لأخطر الأخطار، فلنترُك العقل هنا ولنشيِّد الإيمان على ما هو فوق
العقل، على الأخلاق، ولكن يجِب أن تكون قاعدة الدين الأخلاقية مُطلَقة مُستقلة بذاتها،
غير مُستمدَّة من التجربة الحسِّية المُعرَّضة للشك، وألا يفسدها العقل ببحوثه
وقضاياه، يجب أن تُستمدَّ القاعدة الأخلاقية من باطن النفس مباشرة، وإذن فلا بدَّ
أن تكون لدَينا مبادئ أخلاقية فطرية تنشأ في الإنسان بطبيعته فيستلهِمها ويستوحيها
دون أن يلجأ في تحديد سلوكه إلى عِلمٍ أو تجربة، فكما أثبتْنا أن للرياضة مثلًا
أساسًا فطريًّا في النفس يقضي بصحَّتها، فسبيلُنا الآن أن نُبين أن العقل الخالص
يمكنه بطبيعة تكوينه أن يقود الإرادة، وأن يَهديها إلى أقوَمِ السلوك من غير أن
يستنير في ذلك بشيءٍ خارجي محسوس، أي أن نُبين أن قانون الأخلاق ناشئ فينا قبل
التجربة، وأن الأوامر الأخلاقية التي لا مَندوحة عنها لتكون قاعدةً للدين عامَّة
مُطلقة مُستمدَّة من فطرة الإنسان.
وإن تجارب الحياة لتنهض دليلًا قويًّا على وجود هذا الباعث الفطري
للأخلاق، فكُلنا يشعر شعورًا قويًّا واضحًا لا لبسَ فيه أن هذا العمل خطأ، وأن ذلك
صواب، مهما اشتدَّت أمامنا دواعي الإغراء، نعم قد يستسلِم الإنسان للخطأ، ولكنه لا
يسَعُه رغم ذلك إلا أن يشعُر بأنه مُخطئ، فقد أرتكِب الجريمة، ولكنِّي مع ذلك أعلم
أنها جريمة، وأحسُّ في نفسي بعزمٍ على [عدم] ارتكابها مرةً أخرى، فما ذلك الصوت
الذي يصيح فينا صيحةَ التأنيب، ثم يدعونا إلى اعتزام السلوك على النحو الصواب، إنه
الضمير الذي لا ينفكُّ يأمرُنا أن نعمل على نحوٍ يصحُّ أن يكون قانونًا عامًّا
للبشر، أعني أن نسلك سلوكًا لو سلكه الناس جميعًا لأدَّى إلى الخير، فنحن نعلم —
لا بالمنطق — ولكن بشعورنا القوي المباشر أننا يجِب أن نتجنَّب السلوك الذي إن
اتبَّعَه الناس جميعًا تعذَّرت الحياة الاجتماعية أو تعسَّرت، إنني قد أتورَّط في
كارثة، ولا يكون لي سبيل للنجاة منها إلا بالكذب، وقد أكذب طلبًا للنجاة، ولكني
«بينما أريد لنفسي الكذِب، فإنني لا أُحِبُّ بحالٍ من الأحوال أن يكون قانونًا
عامًّا؛ لأنه بمِثل هذا القانون ستنتفي الوعود.» وهذا لا يتَّفق وحياة الجماعة.
ولذا فإني أحسُّ في نفسي أنه لا يجوز أن أكذب حتى ولو كان الكذب في صالِحي.
وهذا القانون الأخلاقي المفطور في نفوسنا لا يقيس خيرية العمل بما
ينتُج عنه من نتائج طيبة، أو بما فيه من حِكمة، إنما الخير هو ما جاء وفقًا لما
يأمُر به الواجب، بغضِّ النظر عن نتائجه وحِكمته، ولا غرابة فهو لم يُستمَدَّ من
التجربة الشخصية، ولكنه فطري طبيعي فينا، فلا خير في الدنيا إلا إرادة الخير،
وأقصد بها تلك الإرادة التي تجيء وفقًا لقانون الأخلاق المتأصِّل في نفوسنا، ولا
عبرةَ لما تعود به تلك الإرادة الخيِّرة علينا من غُنم أو غُرم؛ إذ ليس الغرَض
الأسمى هو السعادة، وإنما هو الواجب «فليست الأخلاق هي
ما يُعلِّمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، ولكن هي ما يجعلنا جديرين بالسعادة.»
فيجب أن نقصد إلى سعادة الناس، فلننشُد الكمال، سواء جاء ذلك الكمال متبوعًا
بلذَّة أو ألَم، ولكي يكون سلوكك مؤدِّيًا إلى كمال نفسك وسعادة الآخرين يجب «أن تعمل بحيث تتَّخِذ الإنسانية — سواء أكانت مُمثَّلة في شخصك أو
في أي شخصٍ آخر — غرَضًا، ولا يجوز لك قطُّ أن تعتبر الإنسانية وسيلةً فقط.»
يجب أن يكون هذا المبدأ أساسًا لحياتنا، فإنْ فعَلْنا فسرعان ما نخلق لأنفسنا
مُجتمعًا مثاليًّا كاملًا، ولا سبيل إلى خلق ذلك المجتمع الكامل إلا أن نعمل كما
لو كنَّا بالفعل أفرادًا فيه، وبهذا نضع قانونًا كاملًا في حياةٍ ناقصة فتكمُل. قد
تقول إنها أخلاق شاقَّة عسيرة — تلك التي تريدك على وضع الواجب فوق السعادة —
ولكنها هي الوسيلة الوحيدة التي ترتفع بنا عن هذه الحيوانية التي نعيش فيها، وتسير
بنا في طريق الله.
وجدير بنا أن نُلاحظ أن هذا الصوت الباطني الذي ينادي
بالواجب يقوم دليلًا على حُرية إرادة الإنسان؛ لأنك لا تستطيع أن تتصوَّر فِكرة
الواجب دون أن تتصوَّر الإنسان حُرًّا فيما يختار من سلوك. فحرية الإنسان التي
استعصى علينا إقامة الدليل عليها بالعقل النظري يمكن البرهنة عليها بالشعور بها
شعورًا مباشرًا إذا ما وقَفَ الإنسان مَوقف الاختيار بين سلوكَين. ولقد يظهر لنا
أن أعمالنا تتبع قوانين ثابتة لا نقضَ فيها ولا تبديل، فنتوهَّم أن ذلك بُرهان على
عدم اختيار الإنسان لسلوكه، والواقع أنَّنا نرى أعمالنا مُنظمة مُطَّردة؛ لأننا
ندرك نتائجها بواسطة الحواس، وقد علِمنا أن العقل مجبول على صياغة كل ما تنقُله
إليه الحواسُّ في صورة السببية، فيجعل منها علةً ومعلولًا، ولكن هذه السببية من
صُنع عقولنا، وليست في الأشياء أو الأعمال ذاتها. وبديهي أنها فَوق القوانين التي
نصنعُها بأنفسنا؛ لكي نستعين بها على فَهم تجاربنا الحسية، فالإنسان حرٌّ فيما
يعمل رغم ما يُقيِّد الأعمال من سببيةٍ ظاهرة، ونحن نشعُر بهذه الحرية، ولا
يُمكِنُنا أن نقيم عليها الدليل.
وكما استنتجْنا حرية إرادة الإنسان من صوت الواجب الذي فُطِرنا عليه،
كذلك نستطيع أن نستنتج منه خلود الإنسان، فنحن نشعُر بهذا الخلود، ولكن لا يُمكننا
أن نقيم عليه الدليل، إن الحياة تُعلمنا كلَّ يومٍ درسًا بل دروسًا بأنه لا عقاب
للمُسيء ولا ثواب للمُحسن، بل إنها تُعلِّمنا كل يوم بأن افتراس الثعبان أنجَحُ في
هذه الدُّنيا من رقَّة الحمامة ووداعتها. وأن السرِقة والخيانة والغدْر كثيرًا ما
تكون أجدى من الفضل والأمانة والإحسان، فلو كان مجرد النفع الدُّنيوي والوصول إلى
الغاية هو كلُّ ما يُبرِّر الفضيلة، لما كان من الحِكمة أن نكون فُضَلاء … ولكنَّا
نرى أنَّنا على الرغم من هذا كله نشعُر بصوتٍ يدعونا إلى الفضيلة وعمل الخير، حتى
ولو لم يؤدِّ ذلك إلى النفع، فكيف يمكن لهذا الشعور بالحقِّ أن يعيش إن لم نكن
نُحسُّ في قرارة نفوسنا أن هذه الحياة الدُّنيا ليست إلا جزءًا من الحياة، وأن هذا
الحلم الدنيوي ليس إلا مقدمة لميلادٍ آخَر وبعْثٍ جديد. لماذا نستمِع لصوت الحق
والفضيلة إن لم نكن نحسُّ بأن تلك الحياة الأخرى أطول أمدًا، وأنَّ كل امرئٍ
سيُجزى فيها بما فعل من خير أضعافًا مضاعفة؟
وهذا الدليل نفسه الذي أثبتَ حرية الإنسان وخلوده ينهض برهانًا على
وجود الله؛ لأنه إذا كان الشعور بالواجب يتضمَّن العقيدة في الجزاء في المُستقبل
أي في الخلود، فإن الخلود لا بدَّ أن يتبعَهُ فرْض وجود علَّة متكافئة مع معلولها، أي لا بدَّ أن يكون قد أنشأ هذا الخلود من هو خالد، وإذن فلا
بدَّ من التسليم بوجود الله، وليس هذا كذلك برهانًا بالعقل، بل هو
مُستمَدٌّ من شعورنا الفطري بقانون الأخلاق، ويجِب أن يوضَع هذا الشعور فوق المنطق
النظري الذي لم ينشأ إلا لمُعالجة الظواهر الحسِّية. إن عقولنا تُبيح لنا أن نعتقد
أن وراء الأشياء إلهًا، وشعورنا الأخلاقي يُحتِّم علينا هذه العقيدة، ولقد أصاب
«روسُّو» حين قال: «إن شعور القلب أسمى من منطق العقل.» كما أصاب «بسكال» في قوله:
«إن للقلب أسبابًا خاصَّة به لا يمكن أن يفهمها العقل.»
(٤)
الدين والعقل
لم يكن «كانْت» فيما انتهى إليه من إثبات الدين على أساس الشعور
بالواجب الأخلاقي رجعيًّا أو جبانًا، بل كان على النقيض من هذا جريئًا بالِغ
الجرأة في إنكاره أن يكون الدين قائمًا على العقل، ولقد أثار ما ذهب إليه — من حصر
الدين في حدود الشعور — كثيرًا من رجال الدين في ألمانيا، فانهالوا عليه بالنقد
والاحتجاج. ولقد تطلَّبت هذه العاصفة من الفيلسوف شجاعةً
نادرة بلغَتْ أقصاها حين نشَرَ وهو في سنِّ السادسة والستِّين كتابه «نقد الحكم»، ثُم كتابه
الذي أصدرَه وهو في سنِّ التاسعة والستِّين «الدين في حدود العقل الخالص».
وهو في أوَّل هذَين الكتابين يرفض الرأي القائل بأن وجود غاية يقصد
إليها العالم دليلٌ على وجود الله. فإذا كانت الطبيعة حقًّا تبدو رائعة الجمال في
كثيرٍ من نواحيها — مما قد يحمِلُنا على أنها تَسير إلى قصدٍ مُعيَّن مُدبَّر —
فينبغي أن نذكر أنها من ناحيةٍ أخرى تُبدي كثيرًا من دلائل العبَث والفوضى … نعم
إنَّ في الطبيعة جمالًا، ولكن على حساب كثيرٍ من ألوان التعذيب والموت، إذن فظاهر
الكون وإن بدا جميلًا فليس هو بالبرهان القاطع على وجود الله، فعلى رجال اللاهوت
الذين يعتمِدون في دليلهم على هذه الفكرة أن ينبذوها، كما أنَّ على رجال العِلم
الذين بالغوا في نبذِها واطِّراحها أن يستردُّوها؛ لأنها مع ذلك مفتاح جليل يؤدي
إلى كشف كثيرٍ من الجوانب الغامضة. فلا شكَّ أن في العالم قصدًا وتصميمًا، ولكنه
قصدٌ وضعَه الكلُّ لأجزائه. فما أحوَجَ رجال العلم أن يُفسِّروا أجزاء الكائن
العضوي بأن لها معنى يقصده الكل، وهم إن قالوا ذلك أنقذوا أنفسهم من هذه المُغالاة
في فكرتهم عن آلية الحياة؛ لأنَّ هذه الآلية وحدَها يستحيل أن تُفسِّر نموَّ
برعمةٍ واحدة من النبات.
يقول «كانْت» في هذا الكتاب عن الدين والعقل: إنه لا يجوز
أن يُقام الدين على أساسٍ من العقل النظري، بل يجِب أن يُبنى على الأخلاق العملية،
ومعنى ذلك أن أيَّ كتابٍ من الكتُب المقدَّسة، وكل ما ينزل به الوَحي يجِب أن
يُحكَم عليه بما له من قيمةٍ أخلاقية، ولا ينبغي أن يكون هو نفسه الحَكَم الذي
يُرجَع إليه في صياغة قانون الأخلاق، أو بعبارةٍ أخرى يجب أن تأتي الكتُب
المقدَّسة متمَشِّية مع ما يُمليه الشعور الأخلاقي المفطور في الإنسان، وليس هذا
الشعور هو الذي يتغيَّر تبعًا لما ينزل به الكتاب المقدَّس، وإن قيمة الكنائس
والمُعتقدات هي بمقدار ما تعاون الجنس البشري على الرُّقي الخُلقي. أما إذا انقلب
الدين إلى طائفةٍ من العقائد والطقوس الشكلية، ثم وُضِعَت هذه العقائد والطقوس في
منزلةٍ أرفع من الشعور الأخلاقي، وكانت هي المقياس الذي يقاس به الدين قبل أن
يُقاس بالأخلاق، فقل على الدين السلام … إن الكنيسة الحقيقية هي جماعة من الناس — مهما تقسَّموا شِيَعًا
وأحزابًا — اتفقوا جميعًا على اتِّباع قانون الأخلاق المُشترك بين الناس، ولقد عاش
المسيح ومات ليؤسِّس جماعةً كهذه، فكانت تلك الجماعة هي الكنيسة الحقيقية التي
أسَّسها لينقُض بها شكلية العبادة اليهودية، ولكن نشأت بيننا كنيسة أخرى كادت تطغى
على تلك الفكرة النبيلة: «لقد قرَّب المسيح ما بين مملكة الله والأرض، ولكنَّا
أخطأنا في فهمِه فاستبدلنا بمملكة الله مملكة القديسين!»
لقد عادت الطقوس والعقائد الشكلية فحلَّت محل الحياة
الخيِّرة الفاضلة، وبدَل أن يرتبط الناس بعضهم ببعض برباط الدين انقسَموا ألف
مذهب، وأخذوا يُلقون في النفوس ضروبًا من الورع الكاذب، وحسِبوا أنَّ الإنسان لا
يسترضي ربَّ السماء إلَّا بهذا الرياء، كأنما الله حاكِم من حكَّام الأرض هذا، وإن
المعجزة لا يمكن أن تؤيِّد الدين، ولا خير في دينٍ يريد أن يُعطِّل قوانين الطبيعة
التي تدلُّ على صحَّتها التجارب كلها. ولعلَّ أنكَبَ الكوارث التي تحلُّ بالناس أن
تُصبح الكنيسة أداةً طيعة في يد حكومةٍ سيئة، وأن يصير رجال الدين — الذين من
واجبهم أن يُخفِّفوا وَيلات الإنسانية وكروبها بالإيمان والأمل والإحسان — أدواتٍ
لظُلمٍ سياسي.
لقد كان «كانْت» في نشْر تلك الآراء جريئًا شديد الجرأة؛
لأنَّ هذه الحالة التي يصِفها هي ما كانت عليه بروسيا وقتئذ، إذ اعتلى العرش
فردريك وليام الثاني خلفًا لفردريك الأكبر الذي مات سنة ١٧٨٦م، وكان الملك الجديد
رجعيًّا جامدًا لم يستمرئ حرية الرأي التي شجَّعها سلَفُه العظيم، فأقال
«زدلتز Zedlitz» وزير المعارف؛ لأنه كان مُشير فردريك
الأكبر في «فلنر Wöllner»، فكان هذا الوزير الدِّيني أطوَعَ للملك
الجديد من بَنانه، واستعمل كلَّ ما أوتي من قوَّةٍ لطمْس معالِم الحرية الفكرية
التي أخذت تنتشِر في بروسيا، وصمَّم أن يُعيد التقاليد الدِّينية الرجعية إلى
السيادة والنفوذ، فأصدر في سنة ١٧٨٨م قانونًا يُحرِّم على أية مَدرسةٍ أو جامعة أن
تعلَم ما لا يتَّفِق مع تلك التقاليد الدينية، وأنشأ رقابةً شديدةً على كل ضروب
النشر، وأمر بطرْد كل مدرسٍ يُتَّهم بالزندقة … أما «كانْت» فقد تُرِك أول الأمر
دون أن تُصيبه تلك الحكومة الرجعية بأذًى؛ لأنه — كما قال عنه رجل من رجال البلاط
الملكي عندئذٍ — شيخ عجوز، لا يقرؤه إلَّا قليل من الناس، وهؤلاء القليلون لا
يفهَمون ما يقرءون. ولكن لمَّا أصدَر «كانْت» كتابه عن الدين — وكان سهل الأسلوب
يسير الفهم — لم يُفلِت من يدِ الرقابة، فأمرت المطبعة التي تعهَّدَت بنشْر الكتاب
ألا تقوم بطبعِه.
وهنا ثارت ثائرة «كانْت»، واشتعل نشاطًا — وهو ذلك الكهل الذي كاد
يبلُغ السبعين من عمره — فأرسل الكتاب إلى بعض أصدقائه في «يينا»، حيث نشرتْه
مطبعة الجامعة هناك، وكانت «يينا» خارج حدود بروسيا، تحت ولاية الدوق «فيمار» الذي
عُرِف بآرائه الحُرة، والذي كان عندئذٍ يتعهد الشاعر الفيلسوف «جوته»، فلمَّا
علِمَت الحكومة البروسية بطبع الكتاب أرسل الملك إلى «كانْت» هذه الرسالة الآتية:
إنَّ ذاتنا السامية قد ساءها إساءةً عظيمةً أن تلاحظ أنك تُسيء
استعمال فلسفتك، فتُزعزِع وتُحطم كثيرًا من أهم آراء الكتاب المُقدَّس والديانة
المسيحية، فنحن نأمرك بشرح موقفك على الفور شرحًا دقيقًا، وإن لم تمتنِع في
المستقبل عن مثل هذا الإيذاء، بل إن لم تستخدِم مواهبك وعلمك فيما يتَّفِق مع
واجبك، حتى يتيسَّر لنا القيام بواجبنا الأبدي — أقول لو استمررت في معارضة هذا
الأمر — فلتتوقَّع من العواقب ما لا يُرضي.
فأجاب «كانْت» بأنه يجِب أن يكون لكلِّ عالمٍ الحق في تكوين أحكامه في
الأمور الدينية، وأن تكون له الحُرية في إذاعة آرائه في الناس، ولكنه يَعِد في
جوابه هذا أن يظلَّ صامتًا إبَّان حكم هذا الملك، وقد نحا بعض المؤرِّخين باللائمة
على «كانْت» لهذا الإذعان، ولكنَّا يجِب أن نتذكَّر أنَّ فيلسوفنا كان قد بلغ
سِنَّ السبعين، وأنه عسير على تلك الشيخوخة المُتهدِّمة أن تُنازل وتُناضِل، هذا
فضلًا عن أنه قد رضي لنفسه بالصَّمت بعد أن بلَّغ للعالَم رسالته.
(٥) في السياسة والسلام الدائم
كان هيِّنًا على الحكومة البروسية أن تتسامح مع «كانْت» فيما أذاعه من
آراءٍ في الدين على ما جاء فيه من زندقة، ولكنه لم يكن من الهيِّن أن تعفو عنه،
وقد اتُّهم إلى جانب زندقته الدينية بالزندقة السياسية أيضًا، فالثورة الفرنسية
كانت قد صاحت صيحتَها الكُبرى التي زلزلت قوائم العروش في أوربا بعد أن اعتلى
فردريك وليام الثاني أريكة المُلك في بروسيا بثلاث سنين، فتسابق
أساتذة الجامعات في بروسيا إلى التقرُّب إلى الملك بأبحاثهم التي تؤيد الملكية
الشرعية، ما عدا «كانْت»، فقد قابل أنباء الثورة بالبِشر والارتياح رغم تقدُّمه في
السن. وقد قال مرةً لأصدقائه وعيناه دامِعتان: «أستطيع الآن أن أقول ما قاله
«سيمون Simon»: يا إلهي! اسمح لعبدِك الآن أن يرحَلَ
بسلام؛ لأني رأيتُ بعينيَّ عفوَكَ عن عبيدك.»
وكان «كانت» قد نشَر في سنة ١٧٨٤م عرضًا موجزًا لنظريته السياسية
بعنوان: «المبدأ الطبيعي للنظام السياسي، وعلاقته بفكرة التاريخ الدولي العام»،
وقد بدأ هذا الكتاب بالبحث في موضوع النزاع بين الفرد والمجتمع، ذلك النزاع الذي
فزِع له «هوبز» وأنكرَه، أما «كانْت» فقد أقرَّ هذا التنازُع، بل أوجبه وحتَّمَه
قائلًا: إنه لا مندوحة عنه لاطِّراد التقدُّم، فلو بلغَتِ النزعة الاجتماعية في
الأفراد أقصى حدودَها لركَدَ الإنسان وخمَدَ نشاطه، فلا بدَّ من النزعة الفردية
التي تُوجِب التنافُس، إذ بغير ذلك لا تتهيَّأ للبَشر الحياة والنمو، فلولا ما لدى
الناس من صفاتٍ فردية لعاشوا في انسجامٍ تامٍّ وقناعةٍ وحُب متبادل، ومثل هذه
الحياة يقتُل المواهب ولا يُحفِّزها للظهور، «فنحن نحمد الطبيعة على ما وهبَتْنا
إيَّاه من صفةٍ غير اجتماعية أدَّت إلى اشتعال الغيرة، وإلى رغبةٍ لا تنتهي في
الملك والقوة … إن الإنسان يودُّ لو لم يكن بينَه وبين
الناس شيءٌ من التنافُر، ولكن الطبيعة كانت أعلم منه بما ينفع نوعه، فهي تريد
التنافُر، حتى يُضطرَّ الإنسان إلى إظهار قواه في كلِّ حين، وإلى شحْذ مواهبِهِ
الطبيعية بغَير انقطاع.»
فليس التنازُع من أجل البقاء شرًّا، ومع ذلك فقد قيده الناس
بقيود القوانين وحدود العادات والتقاليد، ومن هنا نشأت وتقدَّمت الجماعة المدنية،
وإن النزعة الفردية في الإنسان (أي جانبه غير الاجتماعي) هي التي دعَتْ الإنسان
أول الأمر إلى الاجتماع؛ لأن الفردية تستصحِب الاعتداء واستعمال القوة وحُب الذات،
فأراد الناس أن يقي بعضهم شرَّ بعض، فألَّفوا الجماعة، والعجيب أن هذا الجانب
الاجتماعي نفسه هو الذي يدعو كلَّ دولةٍ الآن إلى التمسُّك بحُريتها من حيث
علاقتها بالدول الأخرى، والنتيجة أنَّ كلَّ دولة تتوقَّع دائمًا من الدول الأخرى
نفس الشرور التي كان يعتدي بها الأفراد بعضهم على بعضٍ أول الأمر، والتي اضطرتهم
إلى التعاقُد في اتحادٍ مدني يُنظِّمه القانون. ولقد حان الحين للأمم أن تفعل ما
فعلته الأفراد من قبل، فتخرج من حالتها الطبيعية الوحشية، ويتعاقد بعضها مع بعض
لحفظ السلام، وإنَّ لُبَّ التاريخ ومعناه هو الحدُّ من الخصومة والعنف والاعتداء
الذي بين الدول، وهذا توسيع مُتواصِل لدائرة السلام، ولو نظرْتَ إلى تاريخ الجنس
البشري كوحدةٍ وجدْتَه يُحقِّق خطةً خفية للطبيعة دبَّرتها وقصدَتْ إليها، أرادتْ
بها أن يسُود في العالَم نظام سياسي يُتيح لكلِّ الملَكات والمواهب التي وُضِعت
بذورها في الإنسانية أن تنمو نموًّا كاملًا، فإن لم يسِر التاريخ في هذا السبيل
لكانت الدُّنيا في سَيرها أشبَهَ ما تكون «بسيسيفوس Sisyphus» الذي أراد أن يصعد إلى
قِمَّةِ الجبل بحجرٍ ضخمٍ مُستدير، فكان كلَّما قرُب من القمَّة عاد الحجَر فتدحرج
إلى بطن الوادي، نعم لو لم يسِرِ التاريخ نحوَ تلك الغاية التي قصدت إليها الطبيعة
لَما كان إلا عبثًا يدور في حَلْقةٍ مُفرغة.
ويشكو «كانْت» في هذه الرسالة السياسية من
أنَّ «حُكَّامنا لا يملكون من المال ما ينفقونه على تعليم الشعب. فقد خصَّصوا
الموارد كلها لحساب الحرب القادمة.» وهيهات
أن تتمدَّن الأُمم حقًّا حتى تنمحي كلُّ هذه الجيوش القائمة، وما أجرأ «كانْت» في
هذه الصيحة، إذ كانت بروسيا عندئذٍ تكاد تُجنِّد الشعب كله «إنَّ الجيوش القائمة
تُثير شهوة المُنافسة في الدول، فتتنافس في عدد جنودها، وليس لهذا العدد حدٌّ يقِف
عندَه، وبسبب ما يُكلِّف هذا من مال، يُصبح السِّلم في نهاية الأمر أكثر ظلمًا من حربٍ
قصيرة، ولذلك كثيرًا ما يكون وجود الجيوش سببًا في حروب عدائية تقبل عليها الدول؛
لكي تتخلَّص من هذا العبء.» وذلك لأنه في زمن الحرب يعتمِد الجيش على نفسه في
تهيئة ما يلزَمه من مدَد، إما سلبًا من أرض العدو، أو أخذًا من أرض مواطنيه، وحتى
هذه الحالة الأخيرة خيرٌ من إرهاق مالية الدولة في الصرْف على الجيش.
ويرى «كانْت» أن النزعة إلى الحروب التي تتملَّك الدول
الأوروبية ترجع في مُعظمها إلى توسُّع أوروبا في أمريكا وإفريقيا وآسيا، كما ينشأ
بين اللصوص من معارك على الغنائم، وإنه لمِمَّا يُروِّعك أن ترى ماذا تفعل هذه الدول
الأوروبية المُتمدِّنة إذا ما استكشفت أرضًا في إحدى تلك القارات. إن مجرد زيارتهم
لتلك الشعوب تُعتَبر في نظرهم مُساوية لغزوها، فهُم عندما استكشفوا أمريكا — موطن
الزنوج — عاملوها كأنها بلاد لا يملكها أحد، واعتبروا سكَّانها الأصليين كميةً
مهملة … وقد وقع هذا كله من أُمَمٍ ملأت الدنيا صياحًا بورعها وتقواها … فبينا هذه
الأمم تسقي الظلم كالماء، تريد أن تعدَّ نفسها صفوةَ أصفياء الله.
ولقد عزا «كانْت» هذا الشَّرَه والاستبداد إلى الحكومات الأولجاركية
في أوروبا؛ إذ تسرَّبَت الأسلاب والغنائم إلى أيدٍ قليلة، أما إذا قامت
الديمقراطية، وأخذ كلُّ إنسانٍ بقِسطه من القوة السياسية، فإنَّ غنائم السرقات
الدولية ستوزَّع توزيعًا واسعًا عادلًا بين أفراد الأمة كلهم، فلا يُصيب الواحد
إلا مقدار ضئيل لا يُغري، وإذن فالمادة الأولى من شروط السلام الأبدي هي هذه:
«يجِب أن يكون الدستور المدني لأية دولة جمهوريًّا، ولا يجوز أن تُعلَن حرب إلا
إذا استُشير المواطنون جميعًا.» فإذا أعطَينا لهؤلاء الذين يقومون بالحرب حقَّ
الاختيار بين السِّلم والقتال، فلن يعود التاريخ يُسطَر بالدماء، أما إذا لم يكن
الفرد عضوًا في الدولة يُحسَب لرأيه حساب، أعني إذا لم تكن الحكومة جمهورية، فإن
تقرير الحرب يُصبح أهون شيءٍ عند الحكومة القائمة؛ لأنَّ الحاكم لا يكون في مثل
هذه الحالة مواطنًا كبقية المواطنين، ولكنه يكون مالك الدولة، ولا يُصيب شخصه من
الحرب أية خسارة أو أذًى، بل قد تزيد في أسباب نعيمه وهو في قصوره بين الموائد
والولائم، ولذلك فما أهوَنَ عليه أن يقضي بالحرب كأنَّ الأمر لا يزيد على رحلةٍ
للصيد، وأما تبريرُها فما عليه إلا أن يركن في ذلك إلى الهيئات السياسية التي لا
تتردَّد قطُّ في أن تُقدِّم للملك ما يريد من خدمات!
لقد بعث انتصار الثورة الفرنسية أول الأمر رُوح الأمل في نفس «كانْت»
فرجا أن يعمَّ النظام الجمهوري أوروبا جميعًا، وأن تسود الديمقراطية ويزول
الاستعباد والاسترقاق، وأن يَنشُر السِّلم لواءه فوق الربوع؛ فوظيفة الحكومة هي
معاونة الفرد على النمو لا أن تستذلَّه وتستغلَّه «فاحترام
كل فردٍ واجب باعتبار الفرد غاية مُطلقة في حدِّ ذاته، وإنها لجريمة ضدَّ شرَف
الإنسانية أن نتَّخِذ من الفرد وسيلةً لغرَضٍ كائنًا ما كان.» وعلى ذلك
فإنَّ «كانْت» يدعو إلى المساواة بين الأفراد، فيما يُتاح لهم من فُرَص النمو
وإظهار القوى والمواهب، ويرفُض كلَّ ضروب الامتياز والتفاوت في الأُسَر والطبقات،
وهو يُعلِّل كلَّ الامتيازات الوراثية بانتصارٍ حربي ظفِرَت به الأُسَر الممتازة
في الأيام الماضية.
ظلَّ «كانْت» رغم شيخوخته نصيرًا للديمقراطية والحرية في
الوقت الذي كادت تُجمِع أوروبا كلها على مقاومة الثورة الفرنسية وتدعيم العروش
الملكية، فلم يشهد التاريخ قبلَه كهلًا شايَعَ الحرية بحرارة الشباب وحماستِه كما
فعل، ثم غلب عليه ضَعف الشيخوخة ووَهَنُها فأخذ يَذبُل ويذوي ويتحوَّل إلى سذاجة
الكهولة التي انقلبت آخِر الأمر إلى مسٍّ خفيفٍ من الجنون، وأخذت قُواه تتفانى
ومشاعره تبرُد حتى كان عام ١٨٠٤م، وكانت سِنُّه تسعًا وسبعين، فأسلم الرُّوح
هادئًا، وسقط كما تسقُط ورقةٌ ذابلة في الخريف.
نقد
وتقدير
هذا هو البناء الشامِخ الذي شيَّده «كانْت» وألَّفه من المنطق،
والميتافيزيقا، وعلم النفس، والأخلاق، والسياسة، فليتَ شعري ما شأنه اليوم بعد أن
وقف أمام العواصف الفلسفية قرنًا كاملًا؟ إنها لم تنَلْ منه إلا قليلا، فلا تزال
الفلسفة «الكانتية» حتى اليوم قائمة قوية الأركان؛ إذ شقَّت الفلسفة النقدية مجرًى
جديدًا في تاريخ الفكر فغيَّرت من اتجاهه، وإذا كان قد أصابها شيء من الوهَن، فما
ذاك إلا في التفصيل والعَرَض دون الأساس والجوهر.
فأول ما أُخِذ عليه من وجوه النقد فِكرته عن المكان، فهل أصاب «كانْت»
فيما ذهب إليه من أن المكان صورةٌ ذهنية يستعمِلها العقل لصياغة الإحساسات لا
أكثر؟ نستطيع أن نُجيب على ذلك بالإيجاب والنفي معًا، فهو كذلك لأنه فكرة ذهنية
تظلُّ فارغة، حتى تملأ المُدرَكات الحسية، إذ ليس معنى المكان إلَّا أشياء بعَينها
في مَوضعٍ مُعين بالنسبة إلى الشخص المُدْرِك، أو هو مسافة تقاس بالنسبة إلى أشياء
مُدْرَكة، ويستحيل على الإنسان أن يُدرِك الأشياء الخارجية إدراكًا حسيًّا إلا وهي
في مكان، وإذن فلا شكَّ أن المكان صورة ضرورية لا بدَّ منها للحسِّ الخارجي، وهو
ليس كذلك؛ لأن ثمَّة من الحوادث ما يقع في المكان دون أن يُدركها الإنسان إدراكًا
حسيًّا، وفي مثل هذه الحالة يكون المكان مُستقلًا عن الإدراك الحسي، ولا يكون كما
قال «كانْت» صورة عقلية يستخدِمها الإنسان في صياغة المُدرَكات الحسِّية، ومثال
ذلك دورة الأرض حول الشمس، فهذه تتمُّ في المكان دون أن يُدركها الإنسان بحواسِّه،
فليس صحيحًا ما زعمَه «كانْت» من أن الإنسان يتلقَّى إحساساتٍ لا مكانية فيخلع
عليها عقله المكان، بل الصحيح أنَّنا نُدرِك المكان في نفس الوقت الذي نُدرك فيه
الأشياء المُحسَّة.
كذلك ليس الزمان حقيقة ذاتية فحسب، بل هو كذلك موضوعي موجود في الخارج
بغضِّ النظر عن الإنسان، فهذه الشجرة المُعينة ستنمو، ثم تكتهل، ثم تذوي وتتلاشى
سواء أدركْنا نحن مرور الزمن عليها وقِسناه أم لم نُدْركه.
لقد أراد «كانْت» فيما يظهر أن يُقِيم الدليل على أن المكان ذاتي
مَحض، وليس له وجود في الخارج، عساه ينجو من نتائج المذهب المادي، فخشى أن يُقرِّر
موضوعية المكان ولا نهايته، فينتُج عن ذلك وجود الله في المكان، ووجوده في المكان
معناه ماديته.
وممَّا هو جدير بالملاحظة هنا أنَّ العِلم الحديث قد انتهى
بنظرية النسبية إلى نفس ما قاله «كانْت» عن الزمان والمكان إذ تُقرِّر نظرية
النسبية أن المكان المُطلق والزمان المطلق ليس لهما وجود، ولكنهما موجودان فقط إذا
وُجِدَت الأشياء والحوادث، أي إنهما صُوَر للإدراكات الحِسِّية.
كذلك يؤخَذ على «كانْت» ما ذهب إليه من أنَّ الحقيقة مُطلقة من حيث
الثبوت واليقين لا كما قال عنها «هيوم» إنها لا تزيد على احتمالٍ وترجيح، فقد جاءت
الأبحاث العلمية الحديثة مُؤيِّدة «لهيوم» مُعارضة «لكانْت»، إذ ساد الرأي القائل
إنَّ كافة العلوم حتى الرياضيَّات الدقيقة، نسبيةٌ في حقيقتها، وأصبح العلم يقنع
برجحان كفَّةِ الاحتمال دون أن يُطالَب بحقيقةٍ مُطلقة؛ لأنه أدرك أن هذه مستحيلة،
وحتى لو كانت موجودة فليس للإنسان حاجة إليها.
ولعلَّ أعظم ما أتى به «كانْت» برهَنَتُه على أن الإنسان لا يعلَم من
العالم الخارجي إلا ما تجيئه به الحواس، وأن العقل ليس صفحةً بيضاء قابلة تخطُّ
فيها التجارب ما تشاء، بل فاعِل إيجابي يتلقَّى التجارب الحِسِّية، فيختار منها ما
يُريد، ويبنيها بما لدَيه من صورٍ ذهنية موروثة فيه … ولكن هنالك من يَشكُّون في
فطرية هذه الصور الذهنية، أي في وجودها عند الإنسان قبل أن يصِل إليه من الخارج
إحساسٌ ما. فيقول «سبنسر»: إنَّ ذلك قد يكون صحيحًا في الفرد، ولكنه خطأ بالنسبة
للجنس كله، أعني أنَّ الإنسان كجنسٍ قد استمدَّ هذه الصورة الذهنية من العالم
الخارجي، ثُم ورَّثَها لأفراده، وهناك من يقول إنَّ هذه الصورة الذهنية مَجارٍ
فكرية، أو عاداتٌ كوَّنَتْها بالتدريج الإحساسات، ثم المُدرَكات الحِسِّية، فأصبح
للإنسان بعد تكوينها القُدرة على الإدراك الحِسي والعقلي، ويقول هذا الفريق من المُفكرين
إن الذاكرة (أي الصور الحسية المحفوظة في الذهن، والتي جاءت من الخارج على مرِّ
الأيام) هي التي تُفسِّر الإحساسات التي تأتينا عن طريق الحواسِّ المختلفة، وهي
التي تُنظِّمها وتُبوِّبها وتُحوِّلها إلى مُدركاتٍ حِسية، ثم تُحوِّل هذه
المدرَكات الحسِّية إلى أفكار. فالذاكرة هي التي تُسبِّب ما للعقل من وحدةٍ
وتماسُك، وإذن فوحدة العقل مكسوبة لا موهوبة كما قال «كانْت»، وقد يفقد الإنسان ما
اكتسَبَه من وحدة العقل في بعض الحالات كالجنون مثلًا، وعلى ذلك تكون كلُّ
مُدركاتنا العقلية من صُنعِنا وليست فطريةً موروثة.
وقد تناوَل الناقدون نظرية «كانْت» في
الأخلاق فأنكروا إطلاقها وفطرِيَّتَها، وقال أشياع مذهب التطور: إن شعور الإنسان
بواجبه ليس صادرًا من أخلاقيةٍ فطرية كما ذهب إليه «كانْت»، ولكنه مُستمَدٌّ مما
أودَعَه المجتمع في الفرد من قواعد للسلوك، فالأخلاق لم تهبط إلى الإنسان كما هي،
بل هي الثمرة الأخيرة لتطوُّرٍ امتدَّ ردحًا طويلًا من الزمان، وليست الأخلاق
عامَّة مُطلقة، ولكنها قانون للسلوك ينمو ويتطوَّر بما هو ملائم لحياة الجماعة،
وهي مُتغيِّرة بتغيُّر الجماعة وظروفها. فالنزعة الفردية مثلًا تكون مُنافية
للأخلاق في شعبٍ يُحاصره العدو، ولكنها تكون خير الوسائل في أُمَّةٍ آمِنة هادئة
للرُّقي والنشاط، فليس هناك عمل خير في ذاته كما يقول «كانْت».
وقد استرعى النظَرَ أنَّ «كانْت» قد عاد في كتابه النقدي الثاني
فأقرَّ بوجود الله، وحُرية الإرادة، وخلود الروح، بعد أن كاد يَنفُرُها جميعها في
كتابه الأول. ولقد قال عنه أحد النُّقاد: «إنك تشعُر في كتُب «كانْت» كأنك في سوقٍ
ريفية يمكنك أن تشتري منها ما تشاء، حرية الإرادة وجبرها، المِثالية وتنفيذها،
الإلحاد والإيمان بالله، فهو أشبَهُ شيءٍ «بالحاوي» الذي يستطيع أن يخرج من
مِخلاته الفارِغة كلَّ شيء، إذ تراه يستخرج من فكرة الواجب إلهًا وخلودًا وحرية.»
ويعتقِد «شُوبنْهَوَر» أنَّ «كانْت» كان في حقيقة الأمر شاكًّا نبَذَ العقائد
لنفسه، ولكنه تردَّد في أن يهدم عقائد الناس إشفاقًا على الأخلاق العامَّة من
الفساد: «إنه زعزع اللاهوت القائم على العقل، ثُم ترك اللاهوت الشعبي دون أن
يمسَّه، لا بل دعمَه باعتباره عقيدةً مبنية على الشعور الأخلاقي … فكأنه أدرك
الخطأ الناجِم من هدمِه اللاهوت العقلي، فأسرع إلى اللاهوت الأخلاقي يستمِدُّ منه
بعض الدعائم الواهنة المؤقَّتة عسى أن يظلَّ البناء قائمًا حتى يتمكَّن من الهرَب
قبل أن تقع عليه الأنقاض.»
ولكن مهما يَقُلِ النُّقاد عن إيمان «كانْت» من أنه يُبطن إلحادًا،
فإن لهجة الفيلسوف في مقالته عن «الدين في حدود العقل الخالص» تدلُّ على إخلاصٍ
شديد، وإيمان قوي، ولقد كتَب «كانْت» إلى أحد أصدقائه يقول: «حقًّا إنَّني كثيرًا ما أُفكِّر في أشياء وأوقن بصحَّتها …
ولكني لا أجِد في نفسي الشجاعة للتصريح بها، ومع هذا يستحيل عليَّ أن أقول شيئًا
لا أعتقد بصحَّته.» وليس بعجيبٍ أن
تتضارب آراء «كانْت» لِما يكتنِف رسالته العظيمة من غموضٍ وتعمُّق، ولقد قيل في
هذا الكتاب بعد نشره: «لقد أعلن المُتديِّنون بأن «نقد العقل الخالص» محاولةُ
شاكٍّ يريد بها أن يزعزع يقين المعرفة.» وقال الشاك: «إنه ادِّعاء فارغ يحاول به
أن يبني صورةً جديدة من الجمود الدِّيني على أنقاض الأنظمة الجديدة.» وقال من
يعتقدون بما فوق الطبيعة إنه حيلةٌ مدبَّرة لمَحو الأُسس التي يقوم عليها الدين
وإقامة المذهب الطبيعي. وقال الطبيعيُّون: إنه دعامة جديدة لفلسفة الإيمان التي
تحتضِر. وقال الماديُّون: إنها مثالية تريد أن تنقُض حقيقة المادة. وقال
الرُّوحانيون: إنه تحديد لا مُبرِّر له للحقيقة وحصرها كلها في الأجسام المادية.
والواقِع أنَّ عظمة الكتاب هي في تقديره لكلِّ وجهات النظر، ولعلَّه قد وفَّق
بينها وصهرَها جميعًا في وحدةٍ متماسِكة، لم تَرَ الفلسفة لها ضريبًا في كلِّ
عهدها الماضي.