كيف تم إفراغ العالم من المعنى؟
(قراءة في كتاب أزمة العلوم لـ هوسرل)
فتحي المسكيني
في كتابه "أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية[1]"(1936م/1937م)، طرح هوسرّل مسألة (العالم)، ليس بوصفها مشكلًا جزئيًّا للفلسفة؛ بل بوصفها المشكل الفلسفي الأعظم في أفق الحداثة الأوروبية، والإنسانية الأوروبية. ويكمن وجه الطرافة في طرح هوسرل، كونه يسائل العلوم الأوروبية، على أنها فشلت في مساعدة "الإنسانية الأوروبية"، على معرفة العالم الذي تعيش فيه؛ بل عوّضته بعالم آخر، عالم "موضوعي"، ولكن لا يمتلك صلة حقيقيّة بالإنسانيّة، أو بالذاتيّة التي أنتجته. والسؤال هو: كيف يمكن للفلسفة أن تنجح في إعادة طرح معرفتنا الحديثة بالعالم، في ضوء مساءلة فينومينولوجية لمعنى العلوم الأوروبية، باعتبارها ظاهرة روحيّة متميّزة جدًّا، وهي آخر أكبر معرفة بالعالم؟
لنحدّد، أوّلًا، معنى أزمة العلوم الأوروبية، حسب هوسرل: إنّها أزمة ثقافة بأكملها. وأهمّ معنى لأزمة العلوم، هو: "فقدان دلالتها بالنسبة إلى الحياة"(ص43). ولكن، لننتبه إلى أنّ الأمر لا يتعلق بالتشكيك في منجزات العلوم الحديثة؛ إذ إنّ "مشروعية إنجازاتها المنهجية" لا يمكن التشكيك فيها. إذن: يمكن أن ينجح العلم منهجيًّا، لكنّه سيظلّ من الناحية الفلسفية موضع سؤال. ونواة الإشكال للفلسفة، حسب هوسرل، هي: "لغز الذاتية" التي جعلت العلم الأوروبي ممكنًا؛ إذ لا يوجد العالم إلّا بالنسبة إلى ذاتيّة ما، والحال؛ أنّ العلوم الأوروبية تفترض أنّ موضوعيتها غير ممكنة، إلّا بالقطع مع الذات السيكولوجية التي أنتجتها. ومن ثمّ، فالعلوم لا تصبح موضوعيّة إلّا بقدر ما تخرج من اعتبارها كلّ "الأسئلة المتعلقة بمعنى هذا الوجود البشري بأكمله"(ص44). والسؤال هو: "هل يمكن، في الحقيقة، أن يكون للعالم وللوجود البشري فيه معنى، إذا كانت العلوم لا تعتبر حقيقيًّا إلّا ما يقبل الملاحظة الموضوعية؟"(ص45).
المشكل، هو: أنّ العلم الوضعي قد أخرج أسئلة الميتافيزيقا من أفقه، ومنها السؤال عن "العالم" الذي نعيش فيه، أو عن "الإنسان" الذي نكونه، بوصفه مشكلًا ميتافيزيقيا، أو الإله الذي قد نؤمن به، أو الحرية التي قد نطالب بها، وبالتالي، أسئلة "المعنى" عامة.
وحسب هوسرل: إنّ كلّ هذه الأسئلة الميتافيزيقية، "تتخطّى العالم من حيث كلّية (Universum) الوقائع المحضة"(ص49). السؤال الفلسفي عن العالم، ليس سؤالًا عن الوقائع التي تؤسس فضاء الطبيعة؛ لأنّ ما تسأل عنه الميتافيزيقا: هو أمرٌ يتجاوز مستوى الوقائع الموضوعية، فالعالم ليس موضوعًا، أو واقعة موضوعيةً. وقد عوّلت الإنسانية منذ عصر النهضة الأوروبية، على "العلم" كي يبلغ بها إلى معرفة العالم معرفة كلّية، ولكنّ العلم، حسب هوسرل، قد فشل، وهذا الفشل "غير مفهوم" فلسفيًّا (ص50). وهكذا، فإنّ تهمة الوضعيين للميتافيزيقا، بأنّها قد أخفقت في أن تكون علمًا، هي تهمة مخاتلة؛ لأنّ العلوم هي التي فشلت في الإيفاء بما وعدت به الإنسان الحديث من معرفة كلية بالعالم.
مسألة العالم: هي نموذج مثير للأزمة التي دخلت فيها العلوم الأوروبية، وكلّ الفلسفات الحديثة، منذ هيوم وكانط، تحاول بناء فهم ذاتي للفشل الذي تعاني منه النظرة العلمية للعالم، حين تحصر نفسها في العقل الوضعي، ويتمثّل الفشل في ما يلي: "أصبحت الفلسفة بالنسبة إلى ذاتها مشكلًا، وفي البداية، كما هو مفهوم، في صورة إمكانية الميتافيزيقا"(ص51)؛ لأنّ معرفة العالم صارت مستحيلة بسبب العقل الوضعي؛ فإنّ الفلسفة قد صارت مشكلًا أمام نفسها، ولكنّ مشكل إمكانية الميتافيزيقا، ليس مشكلًا فرعيًّا؛ بل يتعلق بمسألة "معنى وإمكانية إشكالية العقل بأسرها"(ص52).
ما كان انتصارًا فذًّا للفلسفة الحديثة مع ديكارت، صار سؤالًا محرجًا مع العقل الوضعي؛ فقد كان تدشين الفلسفة الجديدة مع ديكارت، إعلانًا عن "إنسانية أوروبية" جديدة، وميزتها أنّها تريد أن تعيد تشكيل ذاتها بكلّ حرية، و"أن تتجدّد جذريًّا من خلال فلسفتها الجديدة، ومن خلالها فقط"(ص53). ومن ثمّ، فإنّ أزمة الفلسفة الأوروبية، ليست مشكلًا عاديًّا؛ بل هي "أزمة تمسّ البشرية الأوروبية ذاتها، في معنى حياتها الثقافية بأسره، وفي وجودها بأسره" (نفسه).
أمّا أهمّ مفصل حاسم في هذه الأزمة، فهو: يتعلق بالنظرة الفلسفية إلى معنى العالم.
يقول هوسرل: "هذا الريب لا يفتأ عن الاحتجاج بأن العالم المعيش واقعيًّا، عالم التجربة الفعلية، لا يوجد فيه شيء من العقل وأفكاره. أصبح العقل ذاته، العقل الذي يمنح من ذاته للعالم الكائن معنى، وفي مقابله العالمُ، من حيث هو كائن انطلاقًا من العقل، وغامضٌ أكثر فأكثر؛ وهكذا، إلى أن أصبح، أخيرًا، مشكلُ العالم، لغزُ كلّ الألغاز، التيمةَ الحقّة"(ص55).
ما أدّى إليه العلم الحديث، هو: جعل العالم الذي نعيش فيه، عالم الحياة، هو المشكل الأكبر، ومن ثمّ، "التيمة" أو الموضوعة الحقة للفلسفة، فبما أنّ العلم قد أزاح عالم الحياة، وعوّضه بعالم الوقائع المصطنع في المخابر، فقد حرم الإنسانية الأوروبية من عالمها المعيش، وحوّل وجودها الحيّ إلى مجرّد علاقات موضوعية بلا معنى.
لا يصبح العالم مشكلًا فلسفيًّا، إلّا بقدر ما ننجح في الإبصار بأزمة العلوم الأوروبية؛ أي عندما نفهم أنّ المشكل الفلسفي، هنا، هو: "ظاهرة البشرية التي تكافح من أجل فهم ذاتها" (نفسه)، والباحثة عن "بداية جديدة"، أو "تأسيس جديد" لذاتها، بعد أن أصابها اليأس من قدرة العلوم الحديثة على مساعدتها. ودور الفلسفة، هو: "أن تكتشف، أوّلًا، الألغاز الحقة للعالم، وتضعها على طريق الحسم"(ص56).
وأوّل هذا الألغاز: أنّ تاريخ الإنسانية مؤسّس على تاريخ الفلسفة، التي جعلته ممكنًا؛ أي التي منحته "وحدة المعنى" الذي يخترق تاريخها. وهذا المعنى، لا يزال حيًّا، لكنّ العقل الوضعي قد طمسه. يقول هوسرل: "إنّ الطريق الوحيد لجعل الميتافيزيقا تتحقق؛ هو دفعُ العقل الكامن إلى الفهم الذاتي لإمكانياته، وبالتالي، جعلُ إمكانية الميتافيزيقا بيّنة كإمكانية حقيقية"(ص57).
وحسب هوسرل: هناك "غاية" (Telos) عظيمة في تاريخ الإنسانية الأوروبية، وهي: رغبتها في أن تبني نفسها على العقل، فهي بشرية تريد أن تكون فلسفية، وكلّ الأجيال التي تعاقبت هي أجيال فلسفية؛ أي تحقّق مستوى معيّنًا من تاريخ العقل. وهكذا، فإنّ "الفلسفة أو العلم، هما الحركة التاريخية لانكشاف العقل الشامل (الذي يسكن) البشرية بما هي كذلك"(ص58).
إنّ ما قامت به الأزمنة الحديثة، هو أمر بالغ الخطورة: "لقد تمّ تصوّر عالم لامتناه، وهو، هنا، عالم من المثاليات، كعالم لا تكون موضوعاته في متناول معرفتنا بكيفية فردية؛ بل يبلغه منهج عقلي موحّد نسقيًّا"(ص65).
إنّ التعبير الكبير عن هذا التنصيب، غير المسبوق، لعالم لامتناه ومثالي، هو: "ترييضه للطبيعة"(ص66)؛ أي أن تصبح الطبيعة فضاءً متجانسًا من الأجسام المتجانسة، التي يمكن التعبير عنها بشكل رياضي. وبالتالي، لم يعد ممكنًا الاعتقاد بوجود أكثر من عالم، فهناك "عالم واحد، يضم الأشياء نفسها، التي تختلف فقط من حيث كيفية تجليها"(ص677).
والفكرة الأساسية للفيزياء الغاليلية، حسب تعبير هوسرل، هي: "الطبيعة بوصفها كونًا رياضيًّا"(ص75). كونٌ رياضي؛ أي عالم من الأشكال الهندسية، التي يتمّ "بناؤها" بشكل منهجي، وفي تلك اللحظة بالذات، وقع إخراج الفلسفة بأكملها من معركة "المعرفة العلمية بالعالم"(ص79)؛ ذلك أنّ معرفة العالم أصبحت مشروطة بمدى قدرة علماء الفيزياء على "ابتكار منهج لتركيب العالم في لانهائية سببياته تركيبًا نسقيًّا" (نفسه). تركيب العالم، هنا، يعني؛ بناءه رياضيًّا، وكان دور الرياضيات، هنا، حاسمًا: لقد تمّ تعويض المكان والزمان العاديين في "عالم العيش"، أو عالم الحياة البشرية بشكليين هندسيين ورياضيين، من الامتداد داخل عالم موضوعي؛ أي "كلية لا متناهية من الموضوعات المثالية"(ص79-80).
وبمقتضى "أسلوب العالم" الجديد، تحوّلت كل أشياء العالم الحدسي المحسوس إلى "أجسام" محضة: بعبارة مختصرة: "لقد تمّت موضعة العالم"(ص81). وذلك أمرٌ قام منذ غاليلي، على افتراض أنّ الطبيعة: هي شيء قابل للتحديد بشكل تركيبي في كل جوانبها. لقد تمّ تنصيب "كيفية تفكير" أخرجت عالم الحياة من الاعتبار، وتمّ فرض عالم له "بنية قبلية"؛ هي البني الرياضية: "إنّه كعالم، أو كهيئة شاملة لكل الأجسام، له إذن، صورة كلية تشمل كل الصور،وهذه يمكن إمثالُها، والسيطرة عليها عن طريق التركيب"(ص83). كل شيء في عالمنا، يجب أن يقبل الصورة الرياضية، ومن ثمّ، يمكن بناء صورة "مثالية" عنه، واعتبارها حقيقته "الموضوعية"، وكلّ ما كنّا "نجرّبه في حياتنا قبل العلمية في الأشياء ذاتها؛ كألوان، وأصوات، ..إلخ، لم يعد تلقائيًّا؛ بل لابدّ من إثباته علميًّا"(ص86). ذلك أنّ، الفكرة الجديدة والغريبة للعلم الحديث؛ هي الافتراض بأنّ: "كل ما يعلن عن ذاته في الكيفيات الحسية النوعية كواقعي، يجب أن يكون له مؤشر رياضي" (نفسه).
وبالتالي، فما لا يمكن قوله رياضيًّا عن العالم، هو ليس العالم. والغريب، هو: أنّ (غاليله) لم يكن يفهم ذلك "كفرضية"(ص89)؛ بل إنّ ذلك تأسس على قناعة تلقائية، تفيد بأنّ الطبيعة "كونٌ سببي"، وأنّ الفيزياء، هنا، هي: "فيزياء مكتشفة"(ص91) لبنية العالم. إنّ الأمر يتعلق، منذ غاليلي، بضرب من "الترييض غير المباشر للعالم، الذي يجري الآن كموضعة منهجية للعالم الحدسي"(ص92- 93). ما تمّ نسيانه، هو: أنّ الفرضية تبقى فرضية، ولا نحصل إلّا على "مسار لامتناه من التأكيدات"(ص93). وعندئذ، ما تمّ نسيانه هو: "وجود عالم العيش العملي"(ص95)، تحت حجب الترييض. الترييض، هنا، كموقف منهجي من الحياة نفسها. والنتيجة المرعبة فلسفيًّا، هي: "فقدان المعنى"(ص96)، مع عملية تنصيب "المنهج" الرياضي الحديث، كطريق وحيد لمعرفة العالم.
فقد عالم الحياة معناه، وانقلب إلى "موضوع" رياضي، قال هوسرل: "قاد تحسيب الهندسة من تلقاء ذاته بكيفية ما، إلى إفراغها من معناها"(ص97)؛ إذ تحوّلت الهندسة إلى "منطق صوري مطبّق"(ص98)، أو "فكرة منطقية- صورية لعالمٍ على العموم"(ص99).
والعنوان الحديث الأكبر، هنا، حسب تعبير هوسرل، هو: "إفراغ علم الطبيعة الرياضي من المعنى بفعل التقننة (Technisierung)"(ص100)، فالتقنية تفرغ العالم من المعنى، وتحوّله إلى موضوع منهجي، وذلك تحت راية فكرة عظيمة الشأن، هي: إمكانية العمل تحت غطاء علم كلّي، أو رياضيات كلية ((mathesis universalis)، تنحي العالم وتعوّضه بفضاء هندسي، وذلك من خلال "تقننة العمل الفكري- الرياضي- الصوري"، وتحويله من فكر يجرّب ويكتشف، إلى تفكير يعمل بمفاهيم رمزية، ومن ثم، "يصبح التفكير الهندسي المحض فارغًا، أيضًا، وعند تطبيقه على الطبيعة الواقعية، يصبح تفكير علم الطبيعة فارغًا"(ص102-103). ما وقع هو: أنّ التفكير الرياضي الفارغ من المعنى، قد نقل فراغه إلى الفيزياء، ومن ثم، إلى معنى العالم. وتاريخ الفيزياء الحديثة، حسب هوسرل، هو: "تاريخ خضع فيه علم الطبيعة عدة مرات إلى تحويل وحجب للمعنى"(ص103)، وصارت الفيزياء تعمل في "أفق متحول المعنى" (نفسه) باستمرار، وهي في كل مرة تنقل فراغها من المعنى إلى عالم الحياة نفسه.
إنّ الحرب على الإنسان، المستعرة في كل مكان، هي ليست بُشرى لأحد، ليس لأنّها خبر ميتافيزيقي سيّء؛ بل لأنّها نابعة من قرار أوروبي بتدمير العالم، اتّخذته الإنسانية الأوروبية منذ بضعة قرون، وهو لا يزال ساري المفعول كأفق أخلاقي للعقل العلمي نفسه، وذلك طالما لم تقم إنسانية أخرى، بافتكاك المشعل الميتافيزيقي من الغرب، والإقدام على اختراع علاقة جديدة، وغير أوروبية تمامًا بلحم العالم. عندئذ فقط، يمكنها أن تساهم في إعادة المعنى إلى العالم، ومن ثمّ، الشروع مرة أخرى في تنصيب الإنسان في مكانه.
[1]- إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية، مدخل إلى الفلسفة الفنومينولوجية، ترجمة: إسماعيل مصدّق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008م. كلّ الإحالات الواردة في المتن هي على هذا الكتاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق