قراءة مقتضبه في الفينومينولوجيا الهوسرلية
تعتبر الفينومينولوجيا التيار الفلسفي
الأكبر الذي قطع الصلة و حقق الانفصالية عن الفكر السائد في القرن التاسع عشر
للميلاد في الحضارة الغربية (1), و اعتبر الفيلسوف الألماني ادموند هوسرل هو أول
فيلسوف اعطى لكلمة فينومينولوجيا بعدها العميق لتصبح علما كليا مفتوحا , و ليس
مذهبا جزئيا , إلا أن هذه الكلمة استعملت قبل هوسرل قبل فترة طويلة و في معان
متعددة , إذ عمد الى تتبع تاريخ استخدامها لالاند في قاموسه الفني و التقني , و
اعتبر أن الفيلسوف *لامبير* هو أول من استخدم مصطلح فينومينولوجيا , ثم تبعه
فلاسفة كثر امثال ايمانويل كانط في كتبه و على رأسه **نقد العقل الخالص**, و هيجل
في كتابه الرئيسي * فينومينولوجيا الروح* , و هارتمان في كتابه * فينومينولوجيا
الضمير الاخلاقي*(2), و في بداية القرن العشرين صار يطلق على اتجاه يعتبر من
الاتجاهات الاساسية في الفلسفة الاوروبية المعاصرة , أسسه ادموند هوسرل , إذ أن في
البداية كان لاعمال هذا الفيلسوف تأثيرا حاسما على الفلسفة الالمانية و الفلسفة
الفرنسية , و ناصره من بعده في المانيا كل من *ماكس شيلر* بكتابه ** الاخلاق
الصورية و الاخلاق القيمية المادية ** سنة 1913, و مارتن هيدجر بكتابه ** الكينونة
و الزمان ** سنة 1927 , و في فرنسا كل من جون بول ساتر بكتابه ** الكينونة و العدم
** سنة 1943, و موريس ميرلوبونتي بكتابه ** فينومينولوجيا الإدراك** ,
و
فينومينولوجيا هوسرل هي مزيج مركب من عديد افكار وآراء فلاسفة تأثر بهم هذا الاخير
, فقد اخذ
عن افلاطون فكرة الماهيات الثابتة , و عرف من ديكارت قيمة الكوجيتو
, كما استفاد من مونادولوجيا ليبنتز , وتأثر ببعض اراء كانط في محاولته تأسيس
العقل على مبادئ يقينية ثابتة , و اقتبس من العلم طريقته المنهجية الوصفية , و من
الرياضيات تحليلاتها العقلية الدقيقة (3), و لكن يبقى استاذه عالم النفس فرانز
برنتانو هو الاعظم تأثيرا على فينومينولوجيا هوسرل خصوصا و أن هذا الاخير نهل منه
فكرة القصدية *Intentionalité*, و التي تعود بجذورها إلى فلاسفة العصر الوسيط
المسيحي , دون أن ننسى تأثير صديقيه الكسس مينونج , و عالم النفس الألماني *كارل
اشتمف*.(4)
فماهي الاسس التي بنيت عليها الفلسفة الفينومينولوجية الهوسرلية ؟, و ماهي اهم ركائزها ؟, و كيف تطورت هذه الحركة الفلسفية من خلال اعمال هوسرل الفلسفية ؟,
و للإجابة عن هذه المطارحات الفلسفية حري أن نعمد الى اتباع الخطة التالية =
أولا – تحديد الهدف الجوهري الهوسرلي من هاته الحركة الفلسفية .
ثانيا- تتبع سيرورة التطور الفلسفي الفينومينولوجيا لهوسرل من خلال أهم مؤلفاته بنمطية تراتبية.
ثالثا- تحديد اهم الخطوات المنهجية لفينومينولوجيا هوسرل ** الابوخية ** و ** القصدية **.
رابعا- ** خاتمة **.
سعى الفيلسوف هوسرل أن يجعل من الفلسفة علما كليا دقيقا للمعرفة الانسانية ولكافة العلوم الممكنة , وكان يطلق على الفينومينولوجيا في بعض الحالات بالعلم الدقيق، والفلسفة الاولى , أو باعتبار أنها نظرية وصفية خالصة للطبيعة الماهوية المتعلقة بالمكونات الداخلية للشعور, أو هي الفلسفة التي تعنى بالبدايات الصحيحة , والاصول الحقيقية, واعتبر كذلك أن عملية ادراك الماهيات تمثل جوهر الفينومينولوجيا .(5)
بدأ هوسرل حياته الفلسفية بأبحاث عن علم الرياضيات حيث نشر الجزء الاول من كتابه الهام *فلسفة علم الحساب* , ولكنه مؤلف لا يدل على شيء عن الطريق الذي ستنحوه فلسفته فيما بعد, و بين عامي *1900-1901-* ظهر مؤلفه الاساسي **ابحاث منطقية ** , وفيه يفحص اسس المنطق وينقسم الكتاب الى قسمين الاول منه يحمل عنوان * تمهيدات للمنطق الخالص** . ويحوي نقدا للمذهب النفساني كما يحتوي على نقد مفصل للمذهب الاسمي, هذا المذهب الذي اعتبر بأن القوانين المنطقية ماهي الا تعميمات تجريبية واستقرائية, مماثلة لقوانين الطبيعة, ويرون أن الكلي ماهو الا تصور عام هيكلي. أما هوسرل فبرهن على ان القوانين المنطقية ليست قواعد على اي نحو من الانحاء, وعلى ان المنطق ليس علما معياريا, وأن كان اساسا لمذهب معياري , فالمنطق يتحدث عن الوجود وبذلك عارض هوسرل المذهب الاسمي بشان نظرية هذا المذهب في التجريد, ويوضح أن الكلي لا علاقة له بالتصور التعميمي.(6)
ثم اتجه هوسرل ناحية الاتجاه النفساني الذي يرى ان المنطق ماهو الا فرع من علم النفس ويرد هوسرل على هذا الطرح بقوله أن الاتجاه النفسي يخطئ خطأ مزدوجا, فلو كان على صواب إذن لكانت القوانين المنطقية غامضة غموض القوانين السيكولوجية ولكانت القوانين المنطقية مجرد قوانين احنمالية. كما القوانين المنطقية تختلف عن القوانين السيكولوجية اذ هي قوانين نموذجية وقبلية.
أما الجزء الثاني من كتاب ..بحوث منطقية .. فكان عبارة عن تطبيق للمبادئ التي احتواها القسم الاول منه .
و في عام 1913 نشر هوسرل كتابه **افكار حول الفينومينولوجيا الخالصة , و الفلسفة الفينومينولوجية ** , و الذي صدرت له ترجمة عربيا حديثة (( ترجمة الباحث التونسي ابويعرب المرزوقي)) , حيث تتحول الفينومينولوجيا إلى فلسفة اولى , و يحتوي الكتاب على نتائج ذات طابع مثالي , ثم تتطور هذه النتائج المثالية , خصوصا في كتابه ** المنطق الصوري و المنطق الترانساندانتالي ** سنة 1929, و في عام 1931 نشرت لهوسرل ترجمة فرنسية لكتابه **تأملات ديكارتية –مدخل الى الفينومينولوجيا ** , و في سنة 1936 نشر جزء من كتابه **ازمة العلوم الاوروبية و الفينومينولوجيا الترانسندانتالية **, و في عام 1939 نشر مؤلف ** التجربة و الحكم ** (7), و حقيقة الأمر فإن هناك ارشيفا ضخما من مؤلفات هوسرل لا تزال مخطوطة و تزيد عن 45000 صفحة تنتظر الطبع .
أن شعار الفينومينولوجيا الهوسرلية الجوهري هو ** يجب الاتجاه الى الاشياء ذاتها** ,الا ان هاته الاشياء ذاتها وفق المنظورية الهوسرلية لا تعطى الا في انجازات ذاتية , ومحل هذه الانجازات هو الوعي البشري الخالص , وهدف فينومينولوجياه هو الوصول الى الماهيات , ومن اجل احقاق هذا المبتغى يعمد هوسرل الى انتهاج منهج الايبوخية والذي يعني التوقف عن الحكم *epoche* , وأن نضع بين اقواس العالم الطبيعي الخارجي الممتد في المكان , و المتتابع في الزمان , لكن هوسرل لا يقصد من الوضع بين اقواس منهجية ديكارت الدوكسية للعالم الخارجي كله , بل يقصد فقط عدم استعمال الاعتقاد الطبيعي في العالم , اذ اتاح هذا المنهج لهوسرل الانتقال من الموقف الطبيعي الى الموقف الفلسفي الترانسندانتالي , اذ تظهر الموضوعات للوعي في الموقف الطبيعي في كيفيات للعطاء مشروطة بوضعيات معينة , و لكي يتمكن الفينومينولوجي من توجيه الانتباه من كيفيات العطاء , يجب أن يتوقف عن انجاز الاعتقاد في وجود الموضوعات والعالم , وان يتحول الى ملاحظ غير مهتم أو غير مشارك, و هذا لا يعني اتخاذ موقف دوكسي , ينفي وجود الموضوعات و العالم بل التوقف عن اتخاذ اي موقف سواء أكان بالاثبات أو بالنفي أو موقفا وسطا بينهما .فالتوقف عن اتخاذ أي موقف ازاء وجود الموضوعات هو ما يسميه هوسرل ** بالايبوخية ** فحال الايبوخي هي التي تميز الموقف الفلسفي من الموقف الطبيعي .(8)
و هذا الوضع بين اقواس يتألف من عناصر عدة = اذ ننحو اولا الى الوضع التاريخي بين اقواس , و ذلك بان نغض الطرف عن سائر المذاهب الفلسفية و الاراء و المعتقدات و العلوم السالفة و لكأنها غير موجودة بتاتا , لان الفينومينولوجيا لا يهمها اراء الاخرين و مذاهبهم لانها تنحو فقط الاشياء ذاتها ., ويقوم الوضع الثاني **في الوضع الوجودي بين اقواس **, و ذلك بأن نمتنع عن كل الاحكام الوجودية و حتى تلك الاحكام الواضحة الجلية البينة المطلقة مثل **وجود الانا** .(9)
و بعد هذا التوقف يأتي دور الرد او الاختزال **réduction phénoménologique** و يميز هوسرل بين نمطين من الردود او الاختزالات فهناك ...النوع الاول يسميه هوسرل ب الارجاع الماهوي و الذي يعني رد و ارجاع الوقائع الجزئية الى الماهيات العامة كرد انواع الاحمر المتجلية في الاشياء الحمراء **غلاف احمر , قلم احمر ...الخ** الى ماهية الاحمر .., و النوع الثاني من الرد يسميه الرد او الارجاع الترانسندانتالي , و يقوم هذا الاخير بوضع كل ما لا يمت بصلة الى الوعي الخالص بين اقواس , و نتيجة لهذا الارجاع فأنه لا يبقى من الموضوع الا ماهو معطى للذات فحسب .(10)
ومن أجل فهم شامل لنظرية الاختزال الترانساندانتالي ينبغي أن ننظر في مذهب هوسرل في القصدية **Intentionalité** لأنها اساس و ركيزة الفينومينولوجيا الهوسرلية .
حديثنا عن القصدية يحيلنا مباشرة الى الجذور العميقة التي استقى منها هوسرل هذه الفكرة , وحري بنا و نحن نقدم لهذه الدراسة أن نشيد بالذكر استاذ هوسرل عالم النفس *فرانز برنتانو* , و الذي استعاره بدوره من الفلسفة الإسكولائية *المدرسية * ( فلسفة العصور الوسطى المسيحية ), إذ يعرفها هوسرل بقوله كلمة قصدية لا تدل على شيء اخر غير هذه الخاصية الاساسية و العامة التي يختص بها الشعور , بأن يكون شعورا بشيء ما , و ان يحمل في ذاته هو , بوصفه أنا افكر موضوعه المفكر فيه "(11), و يعقب الباحث الجزائري مهنانة اسماعيل عن القصدية بشيء من التوضيح مؤكدا أنه لا يمكن البتة فصل الكوجيتو الديكارتية عن مدركاتها, فهي محايثة لكل مواضع تفكيراته رغم أنه يقوم شرطا لها بقدر ما تكون المدركات شرطا لظهور الانا , بمعنى ان الانا تحيل مباشرة على الاخر مهما كان ** لا أنا , العالم , موضوع ...**كما ان هذه الموجودات لا يمكن تصورها الا في افق الانا المفكرة , و هذه الاحالة المتبادلة هي التي يسميها هوسرل بالقصدية .(12)
"أن نقول إن الوعي هو الوعي بشيء ما هو أنه لا يوجد فكر (noèse) دون موضوع الفكر (noème)، ولا الأنا المفكر (cogito) بدون الموضوع المفكر فيه(cogitatum()، هو الفكر عندما "يتوجه نحو" موضوعه (وهنا يتجلى المعنى الاشتقاقي للكلمة اللاتينية "intentio" بمعنى "التوجه نحو"): "القصدية هي القدرة التي يمتلكها الوعي في رصد الموضوع أو بالأحرى كينونة الوعي كانفتاح على الموضوع" 13
و بهذا تكون مدركات العالم مباطنة دوما لتيار الوعي , و لا شك أن العالم يقف من وراء هذا كله , و ان لم يكن هذا هو الحال دائما لانه من الممكن أن يقوم *فعل قصدي* بدون أن يكون له موضوع حقيقي في العالم الخارجي , فوجود العالم ليس ضروريا لوجود الوعي الخالص , فمفهوم القصدية اذن يرتبط بفكرة التعالق بين فعل الوعي و موضوعه ارتباطا وثيقا , فالشعور القصدي يتألف من ذوبان الذات و الموضوع في بوتقة الشعور, والوعي القصدي يحمل في ذاته الارتباط بالموضوع , و لا بأس أن نشير الى نقطه مهمة في القصدية , فهوسرل يرى بان التحليل الفينومينولوجي يتوقف عند الوعي الخالص وهذا اثناء عملية الرد و الاختزال الفينومينولوجي , كون الوعي هو حدس عياني مباشر للعالم , ومع ذلك فالفينومينولوجيا لا تقتدر على اختزال الحدس .(14
و بذلك فالمهم في التصورية الهوسرلية أنه لا يعتبر القصدية سمة تضاف للوعي يمكن ان يتوفر عليها احيانا و و ان يفتقدها احيانا اخرى ,. بل ان الوعي يحمل في ذاته الارتباط بالموضوع بما يقصده , و بما يعنيه , و لا يهم في هذه الحالة أن يكون الموضوع المقصود موجودا بالفعل أم غير موجود , و بهذا التصور يعتقد هوسرل انه هيأ الظروف لتجاوز مشكله ثنائية الذات و الموضوع التي منيت بها الذهنية الاوروبية في العصر الحديث وفقا لمنظور المثالية الذاتية التي ترى ان الذات تتحكم في الموضوع و تصنعه ** وجود الشيء قائم في ادراكي انا له ** البركلية , أو الواقعية التي ترى بان المادة تصنع الفكرة .(15)
و في الاخير يمكن ان نتوصل الى نتيجة مفادها أن هوسرل نحا نهجه وفقا للتأملية الديكارتية و طرائقها , و عمد الى الاسترشاد بفكرة فلسفة , باعتبارها علماً كليا , و بناها وفقا لنحو دقيق وممكن , كما عمل على تنمية تاملاته بفينومينولوجيا ايدوسية والذي به تتحقق بشكلها الاتمي الفلسفي , كعلم فلسفي و فلسفة اولى , و كان اهتمام هوسرل في اخريات كتاباته بالاختزال الترانسندانتالي , و الانا المحض , و عمد الى تحليله بناءً على مبادئ ضرورية و مبادئ يقينية , المنسوبة الى الانا عموما., مناديا بضرورة الرجوع الى الكليات و الضروريات الجوهرية .
فماهي الاسس التي بنيت عليها الفلسفة الفينومينولوجية الهوسرلية ؟, و ماهي اهم ركائزها ؟, و كيف تطورت هذه الحركة الفلسفية من خلال اعمال هوسرل الفلسفية ؟,
و للإجابة عن هذه المطارحات الفلسفية حري أن نعمد الى اتباع الخطة التالية =
أولا – تحديد الهدف الجوهري الهوسرلي من هاته الحركة الفلسفية .
ثانيا- تتبع سيرورة التطور الفلسفي الفينومينولوجيا لهوسرل من خلال أهم مؤلفاته بنمطية تراتبية.
ثالثا- تحديد اهم الخطوات المنهجية لفينومينولوجيا هوسرل ** الابوخية ** و ** القصدية **.
رابعا- ** خاتمة **.
سعى الفيلسوف هوسرل أن يجعل من الفلسفة علما كليا دقيقا للمعرفة الانسانية ولكافة العلوم الممكنة , وكان يطلق على الفينومينولوجيا في بعض الحالات بالعلم الدقيق، والفلسفة الاولى , أو باعتبار أنها نظرية وصفية خالصة للطبيعة الماهوية المتعلقة بالمكونات الداخلية للشعور, أو هي الفلسفة التي تعنى بالبدايات الصحيحة , والاصول الحقيقية, واعتبر كذلك أن عملية ادراك الماهيات تمثل جوهر الفينومينولوجيا .(5)
بدأ هوسرل حياته الفلسفية بأبحاث عن علم الرياضيات حيث نشر الجزء الاول من كتابه الهام *فلسفة علم الحساب* , ولكنه مؤلف لا يدل على شيء عن الطريق الذي ستنحوه فلسفته فيما بعد, و بين عامي *1900-1901-* ظهر مؤلفه الاساسي **ابحاث منطقية ** , وفيه يفحص اسس المنطق وينقسم الكتاب الى قسمين الاول منه يحمل عنوان * تمهيدات للمنطق الخالص** . ويحوي نقدا للمذهب النفساني كما يحتوي على نقد مفصل للمذهب الاسمي, هذا المذهب الذي اعتبر بأن القوانين المنطقية ماهي الا تعميمات تجريبية واستقرائية, مماثلة لقوانين الطبيعة, ويرون أن الكلي ماهو الا تصور عام هيكلي. أما هوسرل فبرهن على ان القوانين المنطقية ليست قواعد على اي نحو من الانحاء, وعلى ان المنطق ليس علما معياريا, وأن كان اساسا لمذهب معياري , فالمنطق يتحدث عن الوجود وبذلك عارض هوسرل المذهب الاسمي بشان نظرية هذا المذهب في التجريد, ويوضح أن الكلي لا علاقة له بالتصور التعميمي.(6)
ثم اتجه هوسرل ناحية الاتجاه النفساني الذي يرى ان المنطق ماهو الا فرع من علم النفس ويرد هوسرل على هذا الطرح بقوله أن الاتجاه النفسي يخطئ خطأ مزدوجا, فلو كان على صواب إذن لكانت القوانين المنطقية غامضة غموض القوانين السيكولوجية ولكانت القوانين المنطقية مجرد قوانين احنمالية. كما القوانين المنطقية تختلف عن القوانين السيكولوجية اذ هي قوانين نموذجية وقبلية.
أما الجزء الثاني من كتاب ..بحوث منطقية .. فكان عبارة عن تطبيق للمبادئ التي احتواها القسم الاول منه .
و في عام 1913 نشر هوسرل كتابه **افكار حول الفينومينولوجيا الخالصة , و الفلسفة الفينومينولوجية ** , و الذي صدرت له ترجمة عربيا حديثة (( ترجمة الباحث التونسي ابويعرب المرزوقي)) , حيث تتحول الفينومينولوجيا إلى فلسفة اولى , و يحتوي الكتاب على نتائج ذات طابع مثالي , ثم تتطور هذه النتائج المثالية , خصوصا في كتابه ** المنطق الصوري و المنطق الترانساندانتالي ** سنة 1929, و في عام 1931 نشرت لهوسرل ترجمة فرنسية لكتابه **تأملات ديكارتية –مدخل الى الفينومينولوجيا ** , و في سنة 1936 نشر جزء من كتابه **ازمة العلوم الاوروبية و الفينومينولوجيا الترانسندانتالية **, و في عام 1939 نشر مؤلف ** التجربة و الحكم ** (7), و حقيقة الأمر فإن هناك ارشيفا ضخما من مؤلفات هوسرل لا تزال مخطوطة و تزيد عن 45000 صفحة تنتظر الطبع .
أن شعار الفينومينولوجيا الهوسرلية الجوهري هو ** يجب الاتجاه الى الاشياء ذاتها** ,الا ان هاته الاشياء ذاتها وفق المنظورية الهوسرلية لا تعطى الا في انجازات ذاتية , ومحل هذه الانجازات هو الوعي البشري الخالص , وهدف فينومينولوجياه هو الوصول الى الماهيات , ومن اجل احقاق هذا المبتغى يعمد هوسرل الى انتهاج منهج الايبوخية والذي يعني التوقف عن الحكم *epoche* , وأن نضع بين اقواس العالم الطبيعي الخارجي الممتد في المكان , و المتتابع في الزمان , لكن هوسرل لا يقصد من الوضع بين اقواس منهجية ديكارت الدوكسية للعالم الخارجي كله , بل يقصد فقط عدم استعمال الاعتقاد الطبيعي في العالم , اذ اتاح هذا المنهج لهوسرل الانتقال من الموقف الطبيعي الى الموقف الفلسفي الترانسندانتالي , اذ تظهر الموضوعات للوعي في الموقف الطبيعي في كيفيات للعطاء مشروطة بوضعيات معينة , و لكي يتمكن الفينومينولوجي من توجيه الانتباه من كيفيات العطاء , يجب أن يتوقف عن انجاز الاعتقاد في وجود الموضوعات والعالم , وان يتحول الى ملاحظ غير مهتم أو غير مشارك, و هذا لا يعني اتخاذ موقف دوكسي , ينفي وجود الموضوعات و العالم بل التوقف عن اتخاذ اي موقف سواء أكان بالاثبات أو بالنفي أو موقفا وسطا بينهما .فالتوقف عن اتخاذ أي موقف ازاء وجود الموضوعات هو ما يسميه هوسرل ** بالايبوخية ** فحال الايبوخي هي التي تميز الموقف الفلسفي من الموقف الطبيعي .(8)
و هذا الوضع بين اقواس يتألف من عناصر عدة = اذ ننحو اولا الى الوضع التاريخي بين اقواس , و ذلك بان نغض الطرف عن سائر المذاهب الفلسفية و الاراء و المعتقدات و العلوم السالفة و لكأنها غير موجودة بتاتا , لان الفينومينولوجيا لا يهمها اراء الاخرين و مذاهبهم لانها تنحو فقط الاشياء ذاتها ., ويقوم الوضع الثاني **في الوضع الوجودي بين اقواس **, و ذلك بأن نمتنع عن كل الاحكام الوجودية و حتى تلك الاحكام الواضحة الجلية البينة المطلقة مثل **وجود الانا** .(9)
و بعد هذا التوقف يأتي دور الرد او الاختزال **réduction phénoménologique** و يميز هوسرل بين نمطين من الردود او الاختزالات فهناك ...النوع الاول يسميه هوسرل ب الارجاع الماهوي و الذي يعني رد و ارجاع الوقائع الجزئية الى الماهيات العامة كرد انواع الاحمر المتجلية في الاشياء الحمراء **غلاف احمر , قلم احمر ...الخ** الى ماهية الاحمر .., و النوع الثاني من الرد يسميه الرد او الارجاع الترانسندانتالي , و يقوم هذا الاخير بوضع كل ما لا يمت بصلة الى الوعي الخالص بين اقواس , و نتيجة لهذا الارجاع فأنه لا يبقى من الموضوع الا ماهو معطى للذات فحسب .(10)
ومن أجل فهم شامل لنظرية الاختزال الترانساندانتالي ينبغي أن ننظر في مذهب هوسرل في القصدية **Intentionalité** لأنها اساس و ركيزة الفينومينولوجيا الهوسرلية .
حديثنا عن القصدية يحيلنا مباشرة الى الجذور العميقة التي استقى منها هوسرل هذه الفكرة , وحري بنا و نحن نقدم لهذه الدراسة أن نشيد بالذكر استاذ هوسرل عالم النفس *فرانز برنتانو* , و الذي استعاره بدوره من الفلسفة الإسكولائية *المدرسية * ( فلسفة العصور الوسطى المسيحية ), إذ يعرفها هوسرل بقوله كلمة قصدية لا تدل على شيء اخر غير هذه الخاصية الاساسية و العامة التي يختص بها الشعور , بأن يكون شعورا بشيء ما , و ان يحمل في ذاته هو , بوصفه أنا افكر موضوعه المفكر فيه "(11), و يعقب الباحث الجزائري مهنانة اسماعيل عن القصدية بشيء من التوضيح مؤكدا أنه لا يمكن البتة فصل الكوجيتو الديكارتية عن مدركاتها, فهي محايثة لكل مواضع تفكيراته رغم أنه يقوم شرطا لها بقدر ما تكون المدركات شرطا لظهور الانا , بمعنى ان الانا تحيل مباشرة على الاخر مهما كان ** لا أنا , العالم , موضوع ...**كما ان هذه الموجودات لا يمكن تصورها الا في افق الانا المفكرة , و هذه الاحالة المتبادلة هي التي يسميها هوسرل بالقصدية .(12)
"أن نقول إن الوعي هو الوعي بشيء ما هو أنه لا يوجد فكر (noèse) دون موضوع الفكر (noème)، ولا الأنا المفكر (cogito) بدون الموضوع المفكر فيه(cogitatum()، هو الفكر عندما "يتوجه نحو" موضوعه (وهنا يتجلى المعنى الاشتقاقي للكلمة اللاتينية "intentio" بمعنى "التوجه نحو"): "القصدية هي القدرة التي يمتلكها الوعي في رصد الموضوع أو بالأحرى كينونة الوعي كانفتاح على الموضوع" 13
و بهذا تكون مدركات العالم مباطنة دوما لتيار الوعي , و لا شك أن العالم يقف من وراء هذا كله , و ان لم يكن هذا هو الحال دائما لانه من الممكن أن يقوم *فعل قصدي* بدون أن يكون له موضوع حقيقي في العالم الخارجي , فوجود العالم ليس ضروريا لوجود الوعي الخالص , فمفهوم القصدية اذن يرتبط بفكرة التعالق بين فعل الوعي و موضوعه ارتباطا وثيقا , فالشعور القصدي يتألف من ذوبان الذات و الموضوع في بوتقة الشعور, والوعي القصدي يحمل في ذاته الارتباط بالموضوع , و لا بأس أن نشير الى نقطه مهمة في القصدية , فهوسرل يرى بان التحليل الفينومينولوجي يتوقف عند الوعي الخالص وهذا اثناء عملية الرد و الاختزال الفينومينولوجي , كون الوعي هو حدس عياني مباشر للعالم , ومع ذلك فالفينومينولوجيا لا تقتدر على اختزال الحدس .(14
و بذلك فالمهم في التصورية الهوسرلية أنه لا يعتبر القصدية سمة تضاف للوعي يمكن ان يتوفر عليها احيانا و و ان يفتقدها احيانا اخرى ,. بل ان الوعي يحمل في ذاته الارتباط بالموضوع بما يقصده , و بما يعنيه , و لا يهم في هذه الحالة أن يكون الموضوع المقصود موجودا بالفعل أم غير موجود , و بهذا التصور يعتقد هوسرل انه هيأ الظروف لتجاوز مشكله ثنائية الذات و الموضوع التي منيت بها الذهنية الاوروبية في العصر الحديث وفقا لمنظور المثالية الذاتية التي ترى ان الذات تتحكم في الموضوع و تصنعه ** وجود الشيء قائم في ادراكي انا له ** البركلية , أو الواقعية التي ترى بان المادة تصنع الفكرة .(15)
و في الاخير يمكن ان نتوصل الى نتيجة مفادها أن هوسرل نحا نهجه وفقا للتأملية الديكارتية و طرائقها , و عمد الى الاسترشاد بفكرة فلسفة , باعتبارها علماً كليا , و بناها وفقا لنحو دقيق وممكن , كما عمل على تنمية تاملاته بفينومينولوجيا ايدوسية والذي به تتحقق بشكلها الاتمي الفلسفي , كعلم فلسفي و فلسفة اولى , و كان اهتمام هوسرل في اخريات كتاباته بالاختزال الترانسندانتالي , و الانا المحض , و عمد الى تحليله بناءً على مبادئ ضرورية و مبادئ يقينية , المنسوبة الى الانا عموما., مناديا بضرورة الرجوع الى الكليات و الضروريات الجوهرية .
هوامش القراءة
1-بوشنسكي جوزيف , الفلسفة المعاصرة في اوروبا , ترجمة عزت قرني , سلسلة عالم المعرفة العدد 165, الكويت , سبتمبر 1992, ص.177.
2-سماح رافع محمد , الفينومينولوجيا عند هوسرل (دراسة نقدية في التجديد الفلسفي المعاصر ), دار الشؤون الثقافية العامة , بغداد , سنة 1991, ص 57.
3- ادموند هوسرل , أزمة العلوم الاوروبية و الفلسفة الترانساندانتالية ( مدخل الى الفينومينولوجيا ) , ترجمة اسماعيل مصدق , مرجعة جورج كتورة , المنظمة العربية للترجمة , بيروت , لبنان , الطبعة الاولى , يوليو سنة 2008, ص 09.
4- جوزيف بوشنسكي , الفلسفة المعاصرة في اوروربا , ص 179.
5-سماح رافع محمد , الفينومينولوجيا عند هوسرل , ص.93.
6-جوزيف بوشنسكي , الفلسفة المعاصرة في اوروبا , ص.180-181-182.
7-المرجع نفسه , ص .180.
8-ادموند هوسرل , ازمة العلوم الاوروبية و الفينومينولوجيا الترانساندانتالية , ص.640-641.
9-بدوي عبد الرحمن , موسوعة الفلسفة ,الجزء الثاني , المؤسسة العربية للدراسات و النشر , بيروت , لبنان , , الطبعة الاولى , سنة الطبع 1984, ص542.
10-بدوي عبد الرحمن , مدخل جديد إلى الفلسفة , الناشر , وكالة المطبوعات , الكويت , الطبعة الاولى , سنة 1975, ص132.
11-جوزيف بوشنسكي , الفلسفة المعاصرة في اوروبا , ص.179.
12-مقال للباحث مهنانة اسماعيل بعنوان –نشاة الهيرمينوطيقا في فكر مارتن هيدغر , قسم الفلسفة , جامعة منتوري قسنطينة , الجزائر .ص 152..
13-http://histoirphilo.yoo7.com/t537-topic
14-ادموند هوسرل , ازمة العلوم الاوروبية و الفينومينولوجيا الترانسندانتالية , ص 644.
15-ادموند هوسرل , المصدر نفسه , ص 644.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق