فلسفة البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة (4)
تكنولوجيا الرقابة الاجتماعية في أعمال ميشيل فوكو الفلسفية
حسن المصدق
واصل حسن
المصدق في دراسته "البيولوجيا
السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة"
تحليل ما
ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي الراحل (1926ـ 1984) في
أبحاثه وكتاباته حول الذات والأخلاق والسلطة
والعنف والحرية والتي أثارت العديد من الاعتراضات وأثارت كثيرا من اللغط والحجاج، ورجّت القناعات لا سيما
باعلانه فكرة موت
الإنسان مشهرا بالآليات الجديدة التي تتداخل فيها السياسة والبيولوجيا، الأولى تتحكم في المجال العام والثانية تتحكم في
الأجساد.
وأصبحت السياسة الأحيائية –الحيوية- هي الوسيلة الجديدة الفعّالة للمراقبة الاجتماعية الحديثة، بل إن
مجمل هذه التقنيات الجديدة موضوعة غايات وظيفية محددة منذ أن
توارت مشاهد التعذيب في
الساحات
العموميّة".
وتكشف هذه
الحلقة الرابعة من
الدراسة عن بعض "سمات المراقبة الضبطية في المجتمع الحديث المتجلية في بناء
أشكال هندسية دائرية محاطة بأسوار وعبر
شبكات تمتد طولا
وعرضا في المجتمع" وهي تدعي في
الوقت ذاته "أنها لا
تضطلع بوظيفة غير
وظيفة تعليم الناسإصلاح أخطائهم وسلوكهم وطبائعهم وتهذيبهم وحمايتهم، حتى يتم
تحقيق فضاء اجتماعي منسجم"
يخلص الفيلسوف ميشيل فوكو إلى اعتبار المنحرفين والمهمشين والمجرمين ودعاة العنف بمثابة صورة باطنية كفيلة بتصوير لا وعي المجتمع وأعراضه الثاوية، فهذا اللاوعي الذي يتم كبته، سرعان ما يتفجر في وجه من قيّدوه ليغتالوه في حريته ويرهبهم كما أرهبوه.
إذ لا يمكن اعتبار المنحرفين والمرضى والمهمشين والمجرمين بهذا المعنى محض ظواهر اجتماعية فحسب، بل هم حقائق اجتماعية وإنسانية للمجتمع نفسه بامتياز، كما أن إنزال العقاب بهم، لن يستأصل هذه الظواهر بل ينذر بانفلاتها وانتقال العدوى، عدوى الرد والرد المضاد فالعنف الذي تمارسه السلطة من أعلى قد ينْقلب عنفا أقوى وأشد من أسفل. لذا لا مندوحة من الاعتراف بأنهم يشكلون وجهها الحقيقي المفزع ولوحة معبرة عن أمراضها شاءت أم أبت.
ففي أزمة المنبوذ وبؤس المهمش ومرض الشاذ واعوجاج المنحرف وذنب المجرم وعنف المتمرد، حقيقة أنكرها المجتمع وغيبها الجميع، لكنها وسخ غسيلنا وخير من يفشي أسرارنا الفاضحة التي نسعى لحجبها وكبتها والتستر عليها. فـ"المجنون" عندنا بهذا
المعنى هو من يبوح بحقيقة "العاقل" و"المنحرف" هو من يُفشي
بسرّ "السويّ" و"الشاذ" هو من يعرّي عوج"المستقيم"
وتناقضاته.
لا غرابة إذن، فهم أمراضنا المخفية والمكبوتة والسرية...هم بؤس الحقيقة وحقيقة البؤس اللذان يضعان المجتمع أمام المرآة
دون أقنعة ولا بهرجة ولا مساحيق..
وهذا الوعي بالجسد من خلال عرض أعراضه المرضية (الشذوذ والجريمة والانحراف والتهميش والاغتصاب والعنف) يكشف لنا حقيقة ما نحن عليه، وطبيعة السلطة الواقفة على رؤوسنا، حيث نرى ما لا نرغب فيه ونريد أن نخفيه. فكل هذه القيم والمثل التي
حاولت السلطة الاستبدادية أن توهمنا بصدقيتها ومصداقيتها
استحالت أكاذيب وأوهاما وتداعياتٍ وأعراضا دفعت المجتمعات ثمنا باهظا لسكوتها عليها..
إجمالا، يبقى أن التاريخ الحقيقي ليس هو ما يُدوَّن وتحتفظ
به السجلات الرسمية، بل هو تلك الأشياء المتناثرة والبسيطة والأحداث اليومية التي لا يلتفت إليها أحد. ومن ثم يجدر تقويض
-ذات السلطة أو سلطة الذات- من ناحية، كما سلطة المجتمع
ومجتمع السلطة في تاريخ
الفكر من ناحية أخرى، لأن القول
بمركزية حقائقها ومطلقيتها مجرد وهم جميل ولا فائدة يرجى منها على المدى المتوسط والطويل. فالبحث
عن حقيقة
المجتمع وعيوبه لإصلاح
أمراضه يبدأ
من تاريخ
ذوات تلك
الفئات المنبوذة
والمهمشة والمطحونة والمنفية
والمعذبة، التي
على الرغم
من التغييب
والحجب واللامبالاة بادية
للعيان وفي
كل مكان، حيث ذلك التغييب علامة على خوف المجتمع من حقيقته المرعبة وأمراضه المزمنة وما به من
ذوات مزيفة. هنا نستحضر أن ثمة مفكرين قلائل أخذوا على عاتقهم
البحث في ما أنكره المجتمع من خطابات الجموع المحرومة والذوات
المعطلة من جحافل المهمشين والمنبوذين والمجرمين والصعاليك والمقصيين والمنفيين، حيث
أصبحت تلك
الحقائق المغيبة
عبارة عن لاوعي
المجتمع وأسراره
الفاضحة والمكبوتة. فالفرد لا يعدو
في كتاب فوكو
"المراقبة والمعاقبة" عن كونه "ذرة خيالية لتمثلات
"أيديولوجية" للمجتع، علاوة على أنه صنيع هذه التكنولوجيا
الخاصة بسلطة نسميها الانضباط".
وبذلك لن نخالف الصواب إذا اعتبرنا أن فلسفة فوكو مرافعة نقدية عنيفة ضد شفافية الذات كما تصورتها الفلسفة منذ ديكارت وصولا إلى وجودية سارتر، إذ يتمحور رهان فوكو على تحطيم فلسفة الذات القائمة على الفصل بين الجسد والروح، لصالح هذا الأخير.
خطوة سباق المسافات الطويلة تبدأ بالسعي أولا إلى فضح هذا
الفصل بين الجسد والروح، ومن ثم نزع قناع الوعي الشفاف والوحدة والانسجام والتماهي وادعاء تلك الذوات امتلاك الحقيقة بعد إعادة
تشكيلها وطبخها تاريخيا، أي عبر ما يسميه فوكو جينيالوجيا -وهي تقنية يقصد بها ممارسة البحث عن المبادئ والمنطلقات في وقائع التاريخ- تعيد تشكيل أصول المعارف ومنطلقات الخطابات ومجالات الموضوعات دون الرجوع إلى الذات كبداية أو
أساس. ما يعرف عندنا بتاريخ الأنساب.. وهو ما يعني أن نفكر في الذات
كموضوع تشكل تاريخيا وفق تحديدات خارجية عنها يجب إزاحتها كما يزيح عالم الآثار ما اختلط بالمعالم من غبار وتراب، إذ لم يتوقف
الأفراد قط عبر التاريخ عن إعادة بناء ذواتهم وحقائقهم باستمرار
حتى تكونت سلسلة لانهائية من الصور الذاتية والحقائق المختلفة.
وهو ما يستوجب عدم الوقوف عند ذات بعينها، ولا حتى عند حد
يمكن أن يدعي صاحبه أنه يقدم أول صياغة للإنسان بطريقة نهائية، لأن للذاتية إشكالية تاريخية متعددة تكمن في
الطريقة التي تتمثل بها تجربتها بنفسها وفي علاقتها مع رهان الحقيقة" تاريخياً.
الرقابة كيان شريد
يبقى من الصعب جدا حصر مفهوم
"الرقابة" في أعمال فوكو، حيث لا نجد استعمالا أحاديا أو تطبيقا وحيدا له يفي بالمراد.
فالمصطلح غني بتعدد استعمالاته وتأويلاته الممكنة، ويمكن القول إنه متعدد الدلالات بتعدد الاستعمالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير مستقر على دلالة بعينها، مما يجعل منه جنسا قائما بذاته يسع قوالب شتى. لكن لا بأس من القول بداية إن الرقابة بصفة عامة، -والمراقبة بصفة خاصة- ليست مجرد نظام ونتاج للسلطة كما هو شائع، ولا يمكن حصرها في ذلك فحسب، فهي
عنوان كيان شريد ليس له حمولة واحدة وبعينها في التاريخ. ومن
ثم يرى فوكو أن المجتمعات التي تشتغل بآليات رقابية أو بسلطة
الضبط تستبطن هذا المصطلح بطريقة تجعل منه مرتبطا بالضبط بجميع مجالاتها الحياتية، حيث يتم النظر إلى المراقبة باعتبارها
مجموعة من التقنيات مستقلة بذاتها. والمراقبة بهذا المعنى مقولة تتجسد كل مرة بشكل معين، فهي تارة تكون محط انتقاد واعتراض ومقاومة، وتارة أخرى بمثابة الوسيط الضروري للوصول إلى تحقيق النظام. مما يجعل نظرة فوكو متميزة عن سائر نظريات
الضبط الاجتماعية التي حاولت تبرير وظيفة المراقبة الاجتماعية
من خلال وظيفتين أساسيتين:
-
الوظيفة الأولى تختص بضرورة مراقبة المجتمع للحد من ظواهر الانحراف فيه أو التمرد عليه.
بينما الثانية ترى المراقبة كصورة من صور الصراع في المجتمع،
ومن ثم تغدو وظيفتها مختتصة باستعمال المراقبة لفائدة جماعة معينة ضد أخرى.
غير أن فوكو في هذا الصدد لا يفضل أيا من هذين التفسيرين
الوظيفيين، بل يجاهر برفضه لهما، نظرا لأن سقف التبرير المقدم
يظل أخلاقيا بالأساس. وبالتالي يحول دون الوصول إلى رؤية شاملة لجميع ظواهر المراقبة الاجتماعية وأشكالها. لذلك تراه يشدد على ضرورة إصلاح هذه النظرة الوظيفية الضيقة لكي نتمكن من الإلمام بجميع وظائف المراقبة في المجتمع وما يحيط بها من تعقيدات. وبالرجوع إلى نصوص فوكو التي تتمحور حول هذا
الموضوع، سنجد أنها معروضة في كتابه "المراقبة
والمعاقبة" وفق خاصية مزدوجة، حيث يمكن اعتبار المراقبة
نتاجا للمؤسسات من ناحية، ومستقلة عنها من ناحية أخرى. ثم يمكن أن نضيف أيضا ما ورد بشأنها في كتابه المعلمة
"تاريخ الجنس" (ثلاثة أجزاء) وآخر
دروسه التي ألقاها في الكوليج دو فرانس –غير
منشورة- التي نبهت إلى مجمل الرهانات الأخرى المتعلقة بالمراقبة
الذاتية التي يتم تصنيفها ضمن خانة التحكم الذاتي بالتمثيلات
REPRESENTATIONS (المرتبطة بتدبير الذات ثقافياً ولغوياً ورمزياً)، وما يتعلق بمحاولة إصدار قانون جديد ومؤسسات جديدة تأخذ بعين الاعتبار تدبير الآخرين لحياتهم. وأول ما يستدعيه كتاب "المراقبة
والمعاقبة" مشاهد التعذيب في الساحة العمومية إبان
القرن السابع عشر والثامن عشر، حيث حق نزع الحياة كان مُسلَّطا على رقاب الناس وحق من حقوق الملوك والسلاطين، وهي في نظر فوكو إحدى أعنف الأشكال التي يمارس بها الحاكم المطلق –ممثل السيادة-، المراقبة الاجتماعية في المجتمعات الإقطاعية آنذاك. إذ لا
"نجد في مجتمع [كما نجد في ]
المجتمع الإقطاعي شيئا شبيهاً بالهندسة الدائرية Panoptique))، شكل معماري يحوي بناءات هندسية دائرية الشكل، يوضع في وسطها برج للمراقبة يُمكِّن الجالس فيها من مراقبة
جميع ما يجري من حوله، وهو الشكل الهندسي الذي تم استخدامه مع حلول القرن الثامن عشر والتاسع عشر في بنايات مؤسسات الضبط (السجن،المستشفى، الثكنة، الإصلاحيات...)، حيث يصبح
مبدأ المراقبة والبصَّاصة حاضران غائبان طوال الوقت، لا يعرف
السجناء بالضبط وقت مراقبتهم ولكنهم يستبطنون هذه المراقبة في وعيهم على نحو تظل فيه حاضرة في عقولهم دائما. وهو الغاية من المراقبة، كما لا يعني هذا عدم وجود هيئات (أخرى) للمراقبة الاجتماعية في المجتمع الإقطاعي أو في المجتمعات الأوروبية في القرن السابع عشر". وهذا الشكل يشير إلى مبدأ المراقبة في حد
ذاته، لأن الشكل الدائري أو الحلزوني يتحكم في معمار كل بنايات الحبس من جهة وبناية السجن ذاتها من جهة أخرى، بيد أن الفكرة الأساسية المتوخاة من مبدأ التفتيش والمراقبة الحلزونية بهذا الشكل عند مؤسسها الفيلسوف الإنجليزي جريمي بنتام (رائد المدرسة النفعية وأحد آباء القانون الدستوري الإنجليزي) تحقيق أكبر ما يمكن تحقيقه من آثار السجن على السجين بتكلفة أقل.
البناء
الحلزوني أو الدائري
وبالكشف عن مكونات هذا الفضاء، يصبح الحارس الجالس في البرج الموضوع في وسط البناية رمزا لعين الرقيب الدائمة الحضور
التي ترى كل شيء وقت ما تريد، بينما لا يراها أحد. إذ أن مبدأ
البناء الحلزوني أو الدائري كما يوظفه فوكو مبدأ عام نجده في مؤسسات عديدة، تشترك كلها في الجمع بين العديد من الأفراد داخلها: (السجن، المدرسة، المعمل، المستشفى).
فالبناء الحلزوني الذي كان الفيلسوف جريمي بنتام وراءه، لا يعني أنها بناية تستطيع من خلال تصاميمها الهندسية مراقبة الشاذة من تحركات السجناء (عين مركزية قادرة على أن ترى كل
شيء وفي لحظة واحدة)، بل يود فوكو الإشارة إلى مبدأ التفتيش.
ومبدأ التفتيش نجده معروضا بشكل مستفيض في نصين
مختلفين للفيلسوف جريمي بنتام رائد المدرسة النفعية وأب القانون الدستوري البريطاني دون منازع، الأول كتب سنة 1786 وهو عبارة عن 21 رسالة جمعت في كتاب (Panopticon) تم نشرها سنة
1791.
وهذا النص ترجم من طرف صديقه الفرنسي إتيان ديمون ليتم نشره وفق قرار الجمعية الوطنية الفرنسية الثورية سنة 1791.
والمهم هو أن البناء الحلزوني أو الدائري الذي تم اعتماده
وإقراره مع المجتمع الصناعي الوليد، يعد بمثابة رمز لمجتمع المراقبة الذي بدأ باختراع مؤسسة الشرطة تحت[إشراف] لويس الرابع عشر، فالشرطة هي الأخ التوأم للبناء الحلزوني.
وهي تؤمن النظافة والسهر على أمن المدينة وتسهر على إمداداتها من المؤن والمحاصيل والمواد. فالشرطة بهذا المعنى:
"تشرف على مجالات الكائن الحي"، وكان أول قانون منظّم
للشرطة إبان ظهوره سنة 1705 يحتوي في بنوده على مواد تنظم بيع
الحبوب..الخ.
والمبدأ في حد ذاته ليس جديدا ولا يعد تغييرا راديكاليا زمن نشر
الفيلسوف جيرمي بنتام نصه الأول، فلقد كان أمر إصلاح النظام
القضائي والسجون حديث الشارع آنذاك، بخاصة ما تم عرضه في
مدوّنة "جرائم وعقوبات" لصاحبها بكاريا Baccaria. إذ إن مشروع بناء
بنايات محاطة بأسوار عالية تمكن من مراقبة كاملة للأفراد داخلها يرجع الاهتمام به إلى ما قبل كتابه Panopticon، حيث كان السؤال الذي يشغل بال الراغبين في الإصلاح من البورجوازية الصاعدة للحكم آنذاك يتمحور حول كيفية الحصول على سلطة
رادعة بأقل تكلفة في وسائلها وتقطع مع المشاهد الفظيعة السائدة
في الحقبة الإقطاعية، لكنها تكون قادرة في نفس الوقت على القيام
بالمراقبة الدقيقة والتحكم في المجتمع.
ومن بين هؤلاء المهتمين جميعا، استطاع الفيلسوف جريمي
بنتام أن يقدم هندسة جديدة تمكن من بلوغ أهداف
إصلاحية تربوية -في نظره- بأقل تكلفة ممكنة، بحيث استطاع أن
يقدم نموذجا كونيا تم تبنيه في العالم قاطبة. وهو ما أولاه ميشيل فوكو اهتماما بالغا، معتبرا إياه
"حدثاً في تاريخ الفكر" بامتياز.
فعبر هذا الشكل الهندسي الحلزوني –الدائري
سينشأ أول فضاء رسمي منظم للتربية والتقويم والتهذيب والحبس والعزل،
حيث تم لأول مرة الاستغناء عن الأقبية والسراديب الكالحة والصلبان والمحارق، لأن العصر كان عصر النهوض بفكر عصر الأنوار واقتصاد الرأسمالية التي تقتضي حسن التدبير لموارد الدولة واستغلالها بشفافية.
هذا دون أن ننسى أن إنجاز تصاميم مشروع البنايات الحلزونية
بوصفها مؤسسات حديثة للتأهيل والتربية والإصلاح والضبط دام عشرين سنة متتابعة، كما كلف جريمي بنتام أموالا باهظة، غير أن المشروع
لم يلق ترحيبا من الملكية البريطانية، لأنه كان مشروعا إصلاحيا
بامتياز. غير أن الاعتراف سيأتيه سريعا من الجمهورية الفرنسية الوليدة التي رأت في أفكاره الإصلاحية قطيعة مع إرث الإقطاعية
وأنماطها البائدة من نظم وقوانين، بل إن الثورة الفرنسية منحته
الجنسية الفرنسية تقديرا له لما قدمه من خدمات جليلة للبشرية.
والمهم أن مصطلح الأحيائيات السياسية تعني هذا التحول الذي طرأ على وظيفة الدولة التي لم تعد تعرف نفسها فحسب بوصفها القيّمة على القانون، ولم تعد تنحصر وظيفتها في الدفاع عن المجال
الترابي كدولة لها سيادة إدارية، بل امتدت إلى تنظيم حياة سكانها وتدبير شؤونهم الثقافية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية، مثلها مثل الراعي الذي يحمي قطيعه بتنظيم مواعيد نومهم وأكلهم و.... فهي بهذا المعنى لا تحمل العصا فحسب، بل الجزرة أيضا، لأن
الشرطي تقمص تقريبا في صورته المهيبة صورة دور رجل الدين في مراقبة أجساد هذه الكائنات الحية، إذ أنه بداخل هذا الشرطي توجد
قلنسوة رجل دين أخذت زيا رسميا جديدا.
ويمكن القول أن فوكو أعاد قراءة دور هذه البناية في كتابه "المراقبة
والمعاقبة"، حيث أصبحت هذه المراقبة التي كانت غاية البناء الحلزوني، حاضرة في كل الأوقات وفي كل الجهات. فأين وليت الوجه في المجتمع الحديث تجد أعين الرقيب لا ينام، ما
يجعلها كناية عن نظام مراقبة اجتماعية حديثة الذي أصبح مهيكلا
ويتمتع بعقلانية كاملة، ويستعمل أدنى التكاليف لكي يحصل على أكبر العائدات، كما تم تصوره بالفعل من طرف الفيلسوف بنتام
رائد النفعية. فالبحث في نجاعة المراقبة أصبح بمثابة المبدأ الذي يقوم عليه تنظيم المجتمع الحديث بجميع مؤسساته دون استثناء،
بل من إحدى ظواهر اليوم ما سماه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بظاهرة البيروقراطية التي تعد أحد أشكال الضبط الحديثة
في المجتمع.
المجتمع الصناعي الوليد
وهو ما يلتفت إليه كثيرا فوكو، لأن عين السلطة التي لا تنام
تتوجه إلى التحكم في فضاء الأفراد القريب منه أو البعيد، حيث هي حاضرة في كل مكان: المدينة والقرية الحي والأسواق، المدرسة، الشارع، المستشفى، وهلم جرا. وهو ما يستدعي ويقتضي تطوير
تقنيات مراقبة خاصة بكل هذه الفضاءات، الأمر الذي يعني أن مجتمع السوق الرأسمالي هو في واقع الحال مجتمع مراقبة بامتياز. إذ بحلول الهندسة العمرانية الجديدة المتمثلة في البناءات الحلزونية أو الدائرية Panoptique في
القرن التاسع عشر، أصبحت المراقبة
الاجتماعية غير مرتبطة بحق الحاكم المطلق في نزع الحياة، بل مقترنة بمؤسسة تحافظ على الحياة المدنية. وفي هذا كناية عن أن
الأفراد في هذا العصر خولوا للمؤسسات حق تدبير حياتهم ذاتيا،
كما تدبير الجماعات بواسطة معايير وقوانين ونظم.
ومن ثم أصبحت عمليات التعذيب وقطع الرؤوس وصلب
الأجساد في الساحات العامة عملية غير مقبولة ويشمئز منها عموم
الشعب والرأي العام، حيث تم استبدال قطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد وحرقها أو التمثيل بها بآليات جديدة تتداخل فيها
السياسة والبيولوجيا، الأولى تتحكم في المجال العام والثانية
تتحكم في الأجساد.
ومن ثم أصبحت السياسة الأحيائية –الحيوية- هي الوسيلة الجديدة الفعالة للمراقبة الاجتماعية الحديثة وتنظيمها، بل إن
مجمل هذه التقنيات الجديدة موضوعة لغايات وظيفية محددة منذ أن توارت مشاهد التعذيب في الساحات العمومية. علاوة على أن
سمات المراقبة الضبطية في المجتمع الحديث تجلت في بناء أشكال
هندسية دائرية محاطة بأسوار وعبر شبكات تمتد طولا وعرضا في
المجتمع، مدعية أنها لا تضطلع بوظيفة غير وظيفة تعليم الناس
وإصلاح أخطائهم وسلوكهم وطبائعهم ووظيفة تهذيبهم وحمايتهم، حتى يتم تحقيق فضاء اجتماعي منسجم.
ومن بين أهم الوظائف التي تم تحديدها لهذه المؤسسات، وظيفتان أساسيتان:
ـ تنحصر الوظيفة الأولى في وضع "استعمالٍ للزمن" بغية مراقبة غدو ورواح الأفراد، بينما:
-
تروم الثانية مراقبة أجساد الأفراد، مراقبة دقيقة وكاملة.
وهو ما يمكن الاستدلال عليه بوضع توقيت فتح الأسواق والمدارس
والمستشفيات والثكنات والإدارات العامة لأبوابها ومواقيت إقفالها،
في المقابل أصبحت الوظيفة الثانية تهتم بالجسد من خلال الصحة
ورعاية النسل وتنظيم شؤون العمران والنظافة ومكافحة الأوبئة
والحد من الوفيات المبكرة للأطفال وحملات التلقيح...
ذلك أن الغاية من استعمال آليات السياسة الحيوية –الأحيائية- إحكام نوع جديد من المراقبة الاجتماعية على المجتمع الصناعي الوليد، حيث يستعرض ميشيل فوكو في هذا الباب مختلف الصيغ والنماذج التي نظمت الحياة الاجتماعية عبر العصور، واختلاف كل
واحدةٍ عن الأخرى. فآلية المراقبة الاجتماعية في "المجتمعات الإقطاعية"
كانت تتم عبر امتلاك الحاكم المطلق رقاب البلاد والعباد واستعماله لهذا الحق بشكل مطلق في فرض هيبة السلطة (يسمّي فوكو هذه المجتمعات
"مجتمعات سياديّة").
ثم تلتها حقبة تختلف عنها، تم تسميتها بـ
"مجتمعات الضبط" التي طبعت ميلاد العهد
الصناعي وبداية الرأسمالية، والتي تختلف بدورها عمّا تلاها من بناء "مجتمعات الرقابة"
في الحقبة المعاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق