قراءة جديدة لفلسفة هيجل في الدولة
على العكس مما يقال عن فلسفة هيجل (1770-1831) بوجه عام، و فلسفته السياسية بوجه خاص أنها نظرية ميتافيزيقية و مثالية في الدولة، يهدف هذا المقال إلى إثبات خطأ هذا القول، و ذلك بتوضيح الدلالات الاجتماعية و الاقتصادية و التاريخية لفلسفة هيجل في الدولة، وبتوضيح أن وراء اللغة المثالية التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية تكمن نظرية في الدولة تضاهي وتتفوق على النظريات الليبرالية والماركسية في نفس الوقت، كما أنها تتمتع بصحة ومصداقية إذا ما وضعناها في محكمة التاريخ، وبدلالات معاصرة إذا قارناها بالصورة التي اتخذتها الدولة بعد عصر هيجل.
و بما أن ماركس (1818-1883) هو المصدر الأول الذي يعتمد عليه كل من يقيّم نظرية هيجل في الدولة على أنها مثالية وميتافيزيقية ورفضها من أساسها بناء على ذلك، وذلك لأن ماركس هو أول من قيمها هذا التقييم في كتابه "ملاحظات في نقد فلسفة الحق عند هيجل" الذي لم ينشر منه في حياته إلا المقدمة، فوجب علينا تناول هذا النقد الماركسي لنظرية هيجل في الدولة و توضيح سوء الفهم الذي يسود هذا النقد، وفي المقابل توضيح أن فلسفة هيجل السياسية ليست مقطوعة الصلة بروح عصره وظروف مجتمعه، بل تعد استجابة للقضايا التي أرقت هيجل وعصره الذي شهد الثورة الفرنسية والحروب النابوليونية وعصر عودة الملكية Restoration. فهيجل نفسه هو الذي يعلن في تصديره لكتاب "أصول فلسفة الحق" أن "مهمة الفلسفة هي أن تفهم ما هو موجود، لأن ما هو موجود هو العقل..وأن كلا منا هو ابن عصره وربيب زمانه. وبالمثل يمكن أيضا أن نقول عن الفلسفة أنها عصرها ملخصا في الفكر".
سبق لعدد من الماركسيين الغربيين تناول فلسفة هيجل السياسية مثل لوكاتش وماركيوز وأدورنو، وما كان يشغل هؤلاء محاولتهم توضيح مثاليتها وبالتالي رفضها جملة على أساس أن ماركس قد استطاع تقديم نظرية سياسية بديلة عنها أكثر واقعية وارتباطا بالاقتصاد والمجتمع. وسبق أيضا لعدد من المفكرين ذوي الميول الليبرالية أن حكموا على فلسفة هيجل السياسية بأنها تنادي بالدولة الشمولية التسلطية وذلك مثل كارل بوبر وفريدريك هايك وبارسونز. وبالطبع ففي النصف الأول من القرن العشرين تم الربط بين فلسفة هيجل في الدولة وصعود النازية. وقد استخدمت فلسفته بالفعل في تدعيم بعض الأفكار الشمولية عن الدولة على يد كروتشة وباريتو في إيطاليا وبوزانكيت وبرادلي في بريطانيا. ولم تتخلص فلسفة هيجل السياسية من هذه التأويلات الخاطئة إلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين. ويهدف هذا المقال إلى توضيح أن فلسفة هيجل السياسية بعيدة تماما عن هذه التأويلات ومتفقة مع روح العصر أكثر مما اعتقد الكثيرون.
والحقيقة أن هيجل نفسه يتحمل بعض المسؤولية عن سوء فهم فلسفته السياسية، ونظريته في الدولة على وجه الخصوص. فقد استخدم عبارات أوحت للكثيرين بتفسيرات خاطئة، وبالتالي تم نقدها على أساس هذه التفسيرات. فيذهب هيجل مثلا إلى أن الدولة هي اكتمال مسيرة الإله على الأرض، وهي "الروح وقد وهبت نفسها التحقق الفعلي في مسار تاريخ العالم" ( ) ، و هي "قوة العقل المحقق لذاته" (فقرة 258) و أن "الدولة هي الروح وقد تموضعت Objectivized" وأن "واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضوا في الدولة" ( ). الواقع أن اللغة المثالية المجردة التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية لا تعني أن نظرياته السياسية مثالية أو ميتافيزيقية، فوراء هذه اللغة تكمن أفكار اجتماعية وتاريخية وتحليلات أصيلة ونظرية واقعية في الدولة بها العديد من الدلالات المعاصرة التي تتفق مع روح الدولة الحديثة. لقد كان على هيجل نفسه أن يستخدم هذه اللغة المثالية المجردة وذلك كأسلوب اختزالي للتعبير عن أفكار كثيرة وهامة في عبارات قليلة و قصيرة.
ألم يقل هيجل نفسه إن الفلسفة هي عصرها ملخصا في الفكر؟ وفلسفته هو على وجه الخصوص هي عصرها ملخصا في الفكر. فانظر كيف يكون هذا الفكر الذي يلخص عصرا بأكمله، وهو عصر التحولات الكبيرة في التاريخ والفكر، عصر الثورة الفرنسية والتنوير. وبالطبع سوف يكون هذا الفكر غاية في التجريد للتعبير عن خبرات مثل هذا العصر المحوري من تاريخ العالم. كل ما هنالك أن لغة هيجل وفلسفته تحتاج إلى ترجمة لكي يتم فهم وتقدير معناها ومغزاها السياسي، وفي نفس الوقت لإدراك دلالاتها المعاصرة. فإذا كانت فلسفة هيجل السياسية هي نظرية فلسفية في الدولة الحديثة، فسوف نحاول ترجمتها إلى نظرية سياسية في الدولة الحديثة.
نقد نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي:
لا يمكن فهم فلسفة هيجل في الدولة إذا اقتصرنا على تناول كتابه "أصول فلسفة الحق"، فلهيجل كتابات في النظرية السياسية سبقت "فلسفة الحق" بعضها نشره في حياته مثل "نظريات الحق الطبيعي"، وبعضها الآخر كان ملاحظات كتبها هيجل لاستخدامها في محاضراته أثناء تدريسه في جامعة "يينا" Jena ، ولم تنشر إلا في القرن العشرين. تحتوي هذه الأعمال المبكرة على نقد لنظريات الحق الطبيعي Theories Natural Right والعقد الاجتماعي Social Contract Theories ، وهي جزء لا يتجزأ من فلسفته السياسية، ولا يمكن فهم فلسفته في الدولة بدونها.
يعارض هيجل اتجاه الفلسفة السياسية الحديثة منذ هوبز ومرورا بلوك وهيوم وروسو في تحليل الحياة السياسية إلى أدق تفاصيلها وأصغر مكوناتها والرجوع إلى الأفراد باعتبارهم الذرات المكونة لأي نظام سياسي، وهو بذلك يقف ضد النـزعات الفردية Individualism والذرية Atomism السائدة لدى الليبرالية. ويرفض هيجل بدء نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي بالفرد بناء على أن وعي الفرد بذاته باعتباره فردا لا يمكن أن يكون معطىً أولياً مبدئيا، بل هو نتيجة عملية تمايز واختلاف عن البيئة الأصلية للفرد، عملية تتصف بأنها تاريخية واجتماعية. إن بدء الفلسفة السياسية الحديثة بفرد عاقل وناضج بالكامل دليل على عدم إدراكها لتاريخية الوجود البشري وعدم انتباهها لعمليات التطور التي مر بها الفرد حتى يكون فردا ويحصل على وعي بفرديته. والحقيقة أن هيجل في "فينومينولوجيا الروح" يعطينا وصفا لعملية الرقي التدريجي للوعي من أولى مراحل اليقين الحسي والارتباط اللامتمايز بالطبيعة وحتى الوصول لمرحلة العقل الواعي بذاته. ومن هنا يمكن النظر إلى فينومينولوجيا هيجل على أنها تقدم بديلا لنظرة نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي للفرد ( ).
ولا ينظر هيجل إلى الحق على أنه طبيعي، أي صادر عن طبيعة بشرية ثابتة وأزلية وواحدة لدى جميع الشعوب في كل زمان ومكان، بل على أنه تاريخي ونتيجة صراع تاريخي طويل. فقد صور فلاسفة العقد الاجتماعي حق الملكية على أنه مستمد من الحق في حفظ الحياة والوجود المادي للإنسان، فالملكية من بين عناصر طبيعة إنسانية ثابتة. أما هيجل فيعالج حق الملكية بطريقة مختلفة. فحق الملكية عنده مرتبط بالإنسان كإنسان له إرادة وروح ووعي، بينما عالجه لوك على أنه مرتبط بالطبيعة البيولوجية الحيوانية للإنسان. والذات عند لوك تقف في مواجهة الطبيعة وتأخذ منها ما يشبع احتياجاتها البيولوجية، أما في فلسفة هيجل فإن كلا من الذات والعالم الخارجي يشكلان بعضهما البعض في حركة جدلية. فالذات تحول العالم الطبيعي إلى جزء من عالمها الإنساني عن طريق العمل، والعالم الطبيعي يساعد الذات على أن تخرج عن ذاتها ويتجسد نشاطها في صورة مادية. وعندما يذهب هيجل إلى أن الإنسان يجعل من أشياء العالم الخارجي أجزاء من عالمه الإنساني عن طريق العمل فهو بذلك يرفع مكانة الشخصية الإنسانية فوق الطبيعة البيولوجية ( ).
تحمل فلسفة هيجل تصورا اجتماعيا عن حق الملكية يختلف عن التصور ذي النـزعة الفردية السائد لدى ليبرالية هوبز ولوك. فالملكية عند لوك هي علاقة بين الناس والأشياء، ولذلك تظهر حرية الآخرين على أنها قيد على حريتي أنا، بما أن الآخرين يمنعونني من الامتلاك اللامحدود ويقيدون رغبتي في الاستحواذ اللانهائي. أما عند هيجل فإن حقوق الملكية تظهر في نظام من الاعتراف المتبادل Mutual Recognition لإرادات وحقوق الآخرين. فحقوق المجموع هي أساس تحقق حقوق أي فرد. وهنا يتضح المفهوم الهيجلي المميز عن العقد Contract ، فالعقد يظهر في مجال الاعتراف المتبادل: فأنا أحوز على ملكية شيء معين لا عن طريق إرادتي الذاتية بل عن طريق إرادة أشخاص آخرين، وبالتالي أحتفظ بهذه الملكية لكوني مشاركا في إرادة عامة مشتركة ( ). والملاحظ هنا أن هيجل يؤسس حق الملكية في مجال اجتماعي قائم ويرجع هذا الحق إلى فعل الاجتماع البشري، وذلك عكس ما ذهبت إليه نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي من تأسيس هذا الحق في حالة الطبيعة الأولى السابقة على الاجتماع.
لا يوافق هيجل على الفكرة الليبرالية التي تذهب إلى أن أصل المجتمع هو إجماع أفراد أحرار ومتساوين وعقلانيين واتفاقهم على إيجاد نظام يكفل حقوقهم ويحميها. فالحقيقة أن الفردية والحرية والحقوق وتساويها ليست موجودة في حالة سابقة على الاجتماع البشري ويأتي النظام السياسي ليحميها، فهي أشياء من صنع الاجتماع السياسي نفسه، وبالتالي لا يمكن الذهاب إلى أن النظام السياسي ظهر إلى الوجود لحفظها وحمايتها،لأنها ليست أسبابا لظهور السياسة، بل هي أهداف يحققها التفاعل السياسي ( ). لقد صادرت الليبرالية على ما تريد إثباته، إذ افترضت وجود الحريات والحقوق قبل الاجتماع السياسي في حين أن هذه الأشياء هي الغايات النهائية للاجتماع السياسي.
وتتضح مواجهة هيجل لنظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي من تناوله لمفهوم الحرية. فتفترض هذه النظريات وجود الحرية كاملة في الحالة السابقة على التنظيم السياسي، وهذه الحرية الكاملة تدفع الناس إلى الصراع وتكون حربا للكل ضد الكل. ولكي يتم التغلب على هذا الوضع يتفق الناس ويجمعوا على التنازل عن جزء من حرياتهم الأصلية في سبيل إنشاء نظام سياسي يعمل على تحقيق الأمن والردع و تطبيق القانون. حالة الاجتماع السياسي إذن هي حالة تخل عن جزء من الحرية ومن الحق الطبيعي للأفراد. ومن هنا يذهب هيجل إلى أن الليبرالية تنظر إلى الدولة على أنها قيد خارجي على حرية المرء، ونظام فرضته ضرورة خارجية وليس نتيجة للتطور الاجتماعي والسياسي للبشرية. وعلى الجانب الآخر يذهب هيجل إلى أن الأفراد لا يتخلون عن جزء من حرية أو حق للدخول في النظام السياسي، بل يتخلون عن الإرادة الهوجاء والعنف والهمجية الناتجة عن اختفاء النظام السياسي. فليست هناك حريات أو حقوق قبل الاجتماع السياسي ( ).
ويرفض هيجل القول بأن اختفاء الدولة في حالة الطبيعة الأولى كان اختفاء لأي اجتماع سياسي أو تعاون اجتماعي من أي نوع. فقد بحث هيجل نفسه في التاريخ عن فترات اختفت فيها الدولة وجعلها معيارا للحكم على مفهوم حالة الطبيعة الأولى لدى نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي. ففي محاضراته في فلسفة التاريخ تناول هيجل فترة الانتقال التاريخية من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. ففي هذه الفترة لم تكن الدولة الحديثة قد ظهرت بعد، كما اضمحلت فيها سلطات الملكيات القديمة، وكانت فترة وسيطة بين فترتين تاريخيتين شهدتا دولا كبيرة قوية هي فترة العصر القديم الذي شهد دول مصر والصين والهند واليونان والرومان، وفترة العصر الحديث الذي شهد ظهور دول أوروبا الحديثة. ففي فترة اختفاء الدولة في العصور الوسطى شهد المجتمع الأوروبي صعود العديد من طوائف واتحادات التجار والحرفيين والفرسان والنبلاء وذلك لمواجهة حالة الفوضى واللانظام واختفاء الدولة. فعندما وجدت حالة طبيعة أولى حقيقية في التاريخ، أي حالة اختفاء للدولة، لم تكن هذه الحالة مكونة من أفراد متصارعين كما تذهب الليبرالية، بل من تنظيمات اجتماعية وطوائف ونقابات ذات طابع خاص ( ).
وفي مقابل النـزعات الفردية والذرية لهذه النظريات، يضع هيجل مقولة المجتمع الإنساني Community باعتباره كلا أخلاقيا لا يمكن أن يرد إلى أفراده المكونين له وسابق عليهم، بمعنى أنه هو الذي يعطيهم هويتهم وتفردهم ذاته. ويستعين هيجل هنا بالفكرة اليونانية القديمة عن دولة المدينة Polis ليعطي بها مثالا عما يقصده بالمجتمع الإنساني السياسي Political Community . فهيجل يريد إثبات أن أي نظرية فلسفية في المجتمع يجب عليها ألا تنطلق من أفعال الأفراد المنعزلين، بل من الروابط الأخلاقية - المعيارية والقيمية- التي يتحرك خلالها الأفراد ( ). (دوركايم)
رفض النظرية الليبرالية في الدولة:
النظرية الليبرالية في الدولة هي نظرية تعاقدية Contractual، فالدولة تنشأ طبقا لهذه النظرية بناء على عقد اجتماعي يتم باتفاق وإجماع الأفراد. يذهب هيجل إلى أن هذه النظرية تخلط بين مجالين متمايزين هما مجال الدولة ومجال المجتمع المدني، وتأخذ نموذج العقد من مجال المجتمع المدني لتطبقه على الدولة، ويعد هذا في نظره خطأ منطقيا وتاريخيا في نفس الوقت. يقول هيجل في "أصول فلسفة الحق" : "إذا خلطنا بين الدولة والمجتمع المدني، وجعلنا الغاية الخاصة من الدولة الأمن وحماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية- لكانت مصلحة الأفراد بما هم كذلك الغاية النهائية التي اجتمعوا من أجلها، وينتج عن ذلك أن تكون عضوية الدولة مسألة اختيارية. غير أن علاقة الدولة بالفرد شيء مختلف عن ذلك أتم الاختلاف.. إن الفرد لن تكون له موضوعية ولا فردية أصيلة ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضوا من أعضائها. إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية" ( ). الحقيقة أن الفقرة السابقة ليست مجرد نقدٍ للنظرية الليبرالية في الدولة، بل هي نقد للمفهوم البورجوازي عن الدولة، ونقد للدولة البورجوازية القائمة بالفعل في عصر هيجل وطوال القرن التاسع عشر.
لا ينتج عن التصور الليبرالي للدولة إلا دولةٌ خارجية، دولة البورجوازية. يقول هيجل: "في عملية السعي نحو تحقيق الغايات الأنانية.. يتشكل نظام كامل من الاعتماد المتبادل، حيث يتداخل نسيج حياة الفرد وسعادته ووضعه القانوني مع حياة جميع الأفراد الآخرين وسعادتهم وحقوقهم، ولا تكون هذه الحقوق مضمونة إلا داخل هذا النظام المترابط. ويمكن النظر إلى هذا النظام.. على أنه الدولة الخارجية، أي الدولة التي تقوم على أساس الحاجة"، أي الدولة الليبرالية التي تعمل على حفظ حقوق الملكية الفردية الخاصة، أي الحقوق البورجوازية. إنها الحكومة المحدودة Limited Government أو دولة الحد الأدنى Minimal State في الأدبيات الليبرالية.
يرفض هيجل أن يؤسس الدولة على علاقات تعاقدية، أو أن يختزل طبيعتها وماهيتها في العلاقات التعاقدية. وهناك ثلاثة أسباب تجعله يرفض العلاقات التعاقدية كأساس للدولة؛ فهذه العلاقات مجردة Abstract وعارضة Contingent ومتمركزة حول الذات Self-Centered . أما عن كون العلاقات التعاقدية مجردة فيذهب هيجل إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى التعاملات المادية في المجتمع المدني. ففي سياق المجتمع المدني لا يجمع شخصين إلا كونهما مالكين، ولا يوجدان بالنسبة لبعضهما إلا باعتبارهما كذلك. فأنت لا توجد بالنسبة لي إلا باعتبارك مالكا، والعكس صحيح، كما أنني لا أعترف بك إلا لأنك تحوز على شيء أحتاجه وأبغي مبادلته معك بشيء ملكي أنت تحتاجه. وفي العقود لا تكون هناك علاقة بين شخصين إلا علاقة المصلحة المادية. ويحكم هيجل على العلاقة التعاقدية بأنها مجردة لأنها تجرد الإنسان من كل جوانب وجوده وإمكاناته إلا الجانب المادي، ولا تنظر إليه إلا باعتباره مالكا، ولا شأن لها بما يعطيه ماهية وهوية. وعلى العكس من العلاقات التعاقدية تتأسس الدولة على البشر بجميع هوياتهم، لا بتجريد أو اقتطاع جزء منها، وعلى الوجود الاجتماعي للإنسان لا مجرد وجوده الاقتصادي. وفي حين تكون العلاقات التعاقدية عارضة واعتباطية، تتأسس علاقات المجتمع الإنساني السياسي Political Community
على العقل والضرورة العقلانية ( ).
يصر هيجل على أن تكون الدولة غاية لا مجرد وسيلة ويرفض التفكير فيها باعتبارها وسيلة لتحقيق أي مصلحة شخصية. والحقيقة أن ماركس قد فقد الأمل في الدولة القائمة في عصره لنفس السبب، أي لكونها تحولت إلى وسيلة وأداة لتحقيق المصالح الشخصية والجزئية للبورجوازية. كما نقد ماركس مفهوم الدولة عند هيجل في نفس الوقت، فعندما يقول هيجل أن الدولة هي الغاية المطلقة والنهائية للوعي الذاتي الفردي، فإن هذا قد يعني بسهولة الخضوع للدولة وذوبان الأفراد فيها، وهذا هو ما فهمه ماركس بالضبط. ولذلك لم يلجأ ماركس إلى أي مفهوم عن الدولة لحل أزمات الرأسمالية وتناقضاتها، بل تخلى عن خيار الدولة في سبيل خيار آخر هو الثورة الاشتراكية وتحطيم الدولة البورجوازية القائمة. لكننا سوف نوضح في الصفحات التالية أن ماركس كان مخطئا في التخلي عن خيار الدولة.
يذهب هيجل إلى أن التعامل مع الدولة باعتبارها آلية للحصول على غايات خارجية ومادية، وباعتبارها تنظيما يعمل على إشباع حاجات الناس يخرجها عن طابعها الأخلاقي ويؤدي في النهاية إلى الفساد السياسي والانهيار الاجتماعي، ويؤدي كذلك إلى انهيار الدولة ذاتها. وهذا هو ما حدث للدولة الرومانية وأدى إلى انحلالها الداخلي قبل سقوطها على أيدي البرابرة بزمن طويل. وتتمثل القوة النقدية في فلسفة هيجل السياسية في أنه يعتقد أن بذور الانهيار هذه ليست شيئا من الماضي وحسب، بل إنها موجودة في عصره بتمامها وكمالها. والجدير بالملاحظة أن بذور الانهيار التي يتحدث عنها هيجل هنا هي النـزعة الفردية والتعامل مع الدولة باعتبارها وسيلة لتحقيق غايات اقتصادية جزئية، وهي في حقيقتها سلبيات البورجوازية وتصورها عن الدولة، وسلبيات الاقتصاد الرأسمالي. وبذلك يكون هيجل قد سبق ماركس في تشخيص الأزمة الأساسية للمجتمع الرأسمالي. لكن ما الحل الذي يقدمه هيجل لهذه الأزمة، تلك التي يسميها تناقضات المجتمع المدني؟ يتمثل الحل في مفهومه عن الدولة، فهي في نظره القادرة على علاج هذه التناقضات.
لكن نقد هيجل للدولة الليبرالية لا يقف عند هذا الحد. فهو يذهب إلى أننا لو نظرنا إلى الدولة ببساطة على أنها امتداد للمجتمع المدني، وإلى المجتمع المدني على أنه مكون من شبكة من العلاقات التعاقدية الاقتصادية، فمن الطبيعي أن نفكر في الحياة السياسة باعتبارها مظهرا خارجيا للتعاملات المادية في المجتمع المدني، أو بناء فوقيا وانعكاسا للبناء التحتي الاقتصادي والحياة الاقتصادية بتعبير ماركس. يقول هيجل: "ولو أن الدولة ظهرت كوحدة من الشخصيات المختلفة، أي كوحدة هي أشبه بالشركة فحسب، فإن المقصود عندئذ حقا هو المجتمع المدني. ولم يكن في استطاعة كثير من المشرعين
الدستوريين المحدثين أن يقدموا نظرية عن
الدولة سوى هذه" ( ). إن مفهوم هيجل عن الدولة إذن يختلف عن مفهومها لدى
"كثير من المشرعين الدستوريين المحدثين". من هم هؤلاء ؟ هم منظرو الدولة
في إنجلترا وفرنسا، منظرو الدولة الليبرالية البورجوازية. وقد درس ماركس نفس هؤلاء
المنظرين في شبابه، لكنه لم يقدم نقدا لنظريتهم في الدولة لأنه رأى أن فلسفة هيجل
السياسية متقدمة عنها وهي التي تستحق النقد، ولذلك قدم نقدا لفلسفة هيجل في
الدولة. ومن هذا العمل المبكر لماركس اتضح أنه لن يلجأ إلى أي مفهوم عن الدولة، والمفهوم
الهيجلي بوجه خاص، لحل أزمات عصره. الحقيقة أن ماركس قد استبدل الثورة الاشتراكية
بالمفهوم الهيجلي عن الدولة. لكن هل كان محقا في ذلك؟ هذا ما ستكشف عنه الصفحات
التالية.
إذا نظرنا إلى الدولة على أنها شركة أو جهاز يضمن الحقوق الفردية البورجوازية وحسب، فإننا لا نتكلم في الحقيقة إلا عن المجتمع المدني البورجوازي. لقد وصل هيجل إلى الحدود النهائية للدولة البورجوازية والمجتمع المدني البورجوازي، أي للرأسمالية ودولتها، وحاول وضع البديل بمفهومه عن الدولة. لكن لكي نفهم ما هو المفهوم الهيجلي للدولة يجب علينا تناول النقد الذي وجهه هيجل للمجتمع المدني البورجوازي، فدولة هيجل ليست مجرد بديل عن النظرية الليبرالية في الدولة، بل علاج لسلبيات وتناقضات المجتمع المدني البورجوازي.
هيجل و الثورة الفرنسية:
ماذا يحدث عندما توضع المبادئ السياسية الليبرالية موضع التطبيق؟ يجيب هيجل على هذا التساؤل بتناوله للثورة الفرنسية، فهي التي وضعت هذه المبادئ بالفعل موضع التطبيق. كان هيجل متحمسا للثورة ويقدرها تقديرا عاليا، لكنه في نفس الوقت أدرك تناقضاتها وتلازم إنجازاتها مع سلبياتها، أي مع عدم قدرتها على الإتيان بنظام سياسي ثابت وتدعيمه، كما كانت عينه دائما على عدم قدرة أي نظام سياسي أتى بعد الثورة بما فيه عصر عودة الملكية في تحقيق الاستقرار السياسي والخروج من مصاعب الثورة وآثارها الجانبية ( ).
يوجه هيجل نقده للثورة الفرنسية من منطلق أنها استندت على فكرة الإرادة العامة General Will عند روسو. فقد ذهب روسو إلى أن الحكومة تقوم على رضاء المواطنين وعلى إرادتهم العامة، وإذا لم يحصل النظام السياسي على رضاء وموافقة هذه الإرادة العامة كان من حق المواطنين الثورة عليه. أدت فكرة الإرادة العامة هذه كما فهمتها الثورة الفرنسية إلى الفوضى والإرهاب. فقد تم النظر إلي هذه الإرادة العامة على أنها إرادة المجموع Collective Will، أي جماع إرادات الأفراد في المجتمع. وفي التطبيق العملي تنقلب إرادة المجموع بسهولة إلى أن تكون مرادفة لرأي الجمهور من الغوغاء والدهماء، ولذلك تحولت الثورة إلى الفوضى وانتهت بالإرهاب نتيجة لأنها أعطت مضمونا سياسيا لأهواء الجمهور المتقلبة ( ).
لم تكن فكرة الإرادة العامة إلا مفهوما صوريا فارغا بدون مضمون، ولم تكن تصلح إلا لهدم النظام القديم، إلا أنها لا تصلح لتأسيس نظام جديد. فليس هناك معيار للتوصل من هذه الإرادة العامة إلى الاتفاق العقلاني الكلي، فما هو هام ليس وحدة في العواطف والمشاعر لدى الجماهير، بل الوصول إلى إرادة كلية Universal Will مؤسسة على العقل. وطالما نظرت كل إرادة فردية لنفسها على أنها معبرة عن الإرادة العامة حدثت الفوضى. لم يستطع روسو أن يحدثنا عن مضمون هذه الإرادة العامة، أي ما تريده هذه الإرادة. الإرادة العامة عند روسو تحدد إجراء صوريا شكليا لتأسيس النظام، إلا أنها لا تقول لنا ما هو هذا النظام. فهذه الفكرة تدور إذن في عالم الوسائل لا في عالم الغايات التي يقابلها روسو بالحياد ولا يتكلم عن مضمونها. والحقيقة أن الإرادة العامة عنصر يتحقق بعد تأسيس الاجتماع السياسي، أو هو أحد وظائف وأهداف هذا الاجتماع السياسي. فأي إرادة عامة أو شعبية تتطلب مجتمعا سابقا عليها وقائما بالفعل قبل أن تصبح فعالة وذات تأثير، لكنها لا تؤسس هذا المجتمع من البداية كما يذهب روسو. و بذلك يكون روسو قد افترض مسبقا ما كان يجب أن يؤسسه.
كما فهمت الثورة الفرنسية مبدأ الحرية بطريقة صورية ومجردة، فالحرية في نظرها ذاتية وتتمثل في استقلال فردي خالص. ومن هنا انعزلت إرادات الأفراد عن أي سياق عام، وهذا ما أدى إلى الفوضى والإرهاب. أما المبدأ القائل أن العقل يجب أن يحكم العالم فقد أسيء فهمه على أنه يعني أن عقل كل فرد يجب أن يكون ذا أثر فعال على الأحداث، وهذا ما جعل الجماهير في حالة دائمة من الهياج معتقدة أنه مشاركة سياسية وديمقراطية فعالة، في حين أنها كانت الفوضى. كما تحولت الفضيلة المدنية على يدي الثورة إلى ذاتية متطرفة وبذلك تعاقبت الحكومات الكثيرة أثناء الثورة وتعاقبت الدساتير دون تحقيق استقرار ( ).
و يوجه هيجل نقده لليبرالية الثورة الفرنسية قائلا: "لا ترضى الليبرالية… بوجود تنظيم سياسي تظهر فيه دوائر متعددة من الحياة المدنية ذات وظيفة محددة لكل منها، ولا بذلك التأثير على الشعب الذي يمارس من قبل الأعضاء المثقفين في المجتمع والثقة التي يجب أن تكون تجاههم. وفي مقابل كل ذلك ترفع الليبرالية المبدأ الذري Atomistic الذي يصر على الفاعلية السياسية للإرادات الفردية، ذاهبة إلى أن كل حكومة يجب أن تنبع من سلطة هؤلاء الأفراد وتحصل على موافقتهم العلنية. إن الجماعة التي تناصر هذا الجانب الشكلي من الحرية - وهذا التجريد - لا تسمح لأي تنظيم سياسي أن يؤسس على دعائم ثابتة" ( ). والحقيقة أن هيجل في هذا النص وفي نقده للثورة الفرنسية بوجه عام إنما ينقد مبدأ الديمقراطية المباشرة، إذ يتضح من هذا النقد أنها خرافة. إذ كان هيجل دائم الإصرار على أن الدولة الحديثة تتصف بدرجة عالية من التعقيد وتعدد الأجهزة والوظائف بحيث لم تعد الديمقراطية المباشرة تصلح في ظلها. فالاعتقاد في إمكانية مشاركة الأفراد المنعزلين مشاركة مباشرة في تسيير شؤون الدولة كما كان يحدث في دولة المدينة اليونانية يعد سذاجة سياسية ووهما ديماجوجيا.
تقوم فكرة الديمقراطية المباشرة ، وخاصة كما فهمتها الثورة الفرنسية، على مسلمة أساسية وهي النظر إلى الإرادة السياسية على أنها هي إرادات الأفراد. ويذهب هيجل إلى أن الفوضى والإرهاب الناتجين عن الثورة الفرنسية هما نتيجة التوحيد بين الإرادة الفردية الطبيعية المباشرة والإرادة السياسية، أي الاعتقاد في أن إرادات الأفراد المنعزلين والمشتتين يمكن أن ينتج عنها إرادة سياسية عامة و كلية. ويحكم هيجل على فكرة الديمقراطية المباشرة بأنها ساذجة وديماجوجية لأنها تحل إشكالية العلاقة بين الفرد والدولة بأن تجعل الأفراد مسيطرين مباشرة على الدولة ويستخدمونها كأداة لتنفيذ ما يشاؤون. وهي ساذجة لأنها لا تدرك طبيعة الدولة الحديثة، إذ ينقصها تصور واضح عن دور المؤسسات الوسيطة بين الفرد أو المجتمع المدني والدولة. فبينما تصر النظريات الليبرالية على الفصل الحاد بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فإن فلسفة هيجل لا تعترف بهذا الفصل، ويصر هيجل في فلسفته السياسية على ضرورة وجود مؤسسات أو تنظيمات تتوسط بينهما تعمل على رفع مستوى المصالح والاهتمامات الفردية الخاصة إلى مرتبة الحياة العامة السياسية. والمؤسسات الوسيطة التي يقصدها هيجل هي النقابة والطبقة، وسوف نتوسع في الحديث عنهما عندما نأتي لتناول نظريته في الدولة.
لكن لنا ملاحظة حول مفهوم المؤسسات الوسيطة. يتحدث هيجل عن النقابة والطبقة باعتبارهما من المؤسسات الوسيطة في الجزء المتعلق بالدولة في كتابه "أصول فلسفة الحق"، ولهذا دلالة كبيرة، فهو يريد أن يقول أن هذه المؤسسات الوسيطة تنتمي للدولة أكثر من انتمائها للمجتمع المدني، فالحياة السياسية التي تعد الدولة تجسيدها العيني هي هدف المؤسسات الوسيطة، أي أن هدفها هو هدف الدولة نفسه. والأهم من ذلك أن التوسط بين الفرد والدولة ليس من وظيفة النقابة والطبقة فقط، فهما يقومان بالتوسط بالمعنى السياسي الضيق. وإذا بحثنا في فلسفة هيجل كلها سوف نجد أشياء أخرى كثيرة تقوم بهذه الوظيفة، وترفع الأفراد إلى مستوى الحياة السياسية العامة، وذلك مثل الدور الذي تقوم به الفلسفة نفسها، وفلسفة هيجل على وجه الخصوص. إذ تهدف "فينومينولوجيا الروح" إلى الرقي بالوعي الفردي والوصول به إلى إدراك العقل، أما فلسفته في التاريخ فتهدف إلى توضيح أن العقل يتحقق في التاريخ، وذلك بالتدريج وعبر مراحل حتى يصل إلى أقصى مراحل التحقق في الدولة الحديثة.
وافق هيجل نظريات العقد الاجتماعي والليبرالية على ذهابها إلى أن السياسية والمؤسسات السياسية الحديثة يجب أن تؤسس على وعي المواطنين، إذ ذهبت تلك النظريات إلى أن الشرعية السياسية يجب أن تؤسس على الإرادة، وهذا هو ما وافق فيه الثورة الفرنسية. إلا أن هذه النظريات، ومعها الثورة الفرنسية، فهمت الإرادة بصورة خاطئة مغرقة في الفردية وبطريقة جزئية وخاصة. وبذلك تفشل في تلبية مطلب هام وهو أن تكون هذه الإرادة مساهمة بفاعلية في النظام السياسي وجزءاً منه، بأسلوب يختلف عن الأسلوب الديماجوجي للثورة الفرنسية. يؤدي هذا التصور الضيق عن الإرادة إلى نظام تكون فيه السياسة مقامة من أجل مصالح الأفراد. إن تكوين نظام سياسي وعقلاني ومرض عند هيجل يتطلب إرادة جماعية كلية لا إرادة فردية جزئية، أما الإرادة العامة عند روسو وكما فهمتها الثورة الفرنسية فما هي إلا مجموع الإرادات الفردية الجزئية. ويرى هيجل أن المفهوم الليبرالي عن الإجماع Consent كما يظهر في نظريات العقد الاجتماعي مغرق في التلقائية والاختيارية والجزئية بطريقة تعوقه عن أن يقوم بالدور التأسيسي الموكل إليه في هذه النظريات. والحقيقة أن فلسفة هيجل السياسية هي محاولة للوصول إلى أسس بديلة أكثر عمومية وشمولية لتأسيس الشرعية السياسية. وبما أن الشرعية السياسية هي شرعية الدولة فإن فلسفة هيجل السياسية هي فلسفة في الدولة. وهذا هو السبب في مركزية مفهوم الدولة في أعماله السياسية التي فهمت خطأ على أنها تمجيد للدولة ورفعها فوق الأفراد وجعلها قوة مستقلة عنهم ودعاية للدولة الشمولية.
نقد هيجل للمجتمع المدني:
المجتمع المدني عند هيجل هو النظام الذي ينشأ من الاعتماد المتبادل بين الأفراد في نشاطاتهم المادية، فهو نتاج الفردية والنظام الذي تنشئه هذه الفردية. يقول هيجل: "الشخص العيني الذي هو نفسه موضوع غاياته الجزئية - وبوصفه مجموعة الحاجات، ومزيجا من الهوى والضرورة المادية- هو المبدأ الأول في المجتمع المدني. لكن هذا الشخص الجزئي يرتبط بالضرورة بغيره من الشخصيات الجزئية الأخرى حتى أن كلاً منهم يقيم ذاته ويشبعها عن طريق الآخرين، وهذا هو .. المبدأ الثاني في هذا المجتمع" ( )، أي مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يجعل المجتمع يسير بتلقائية وآلية. والمجتمع المدني حسب هذا الوصف هو المجتمع البورجوازي كما وصفه منظروه: هوبز ولوك وهيوم وآدم سميث.
"المجتمع المدني" الذي يتحدث عنه هيجل هو في حقيقته الاقتصاد الرأسمالي، فإذا استبدلنا كلمة "الاقتصاد الرأسمالي" أو كلمة "الرأسمالية" بكلمة "المجتمع المدني" فلن يختل المعنى، بل سيزداد وضوحا. يقول هيجل: "المجتمع المدني هو القوة الهائلة التي تمتص الناس إليها وتتطلب منهم العمل لأجلها (وبالتالي فهم) يدينون بكل شئ لهذه القوة، ويقومون بكل شئ وبأي شئ بوسائلها" ( ).
أدخل هيجل الاقتصاد السياسي في صميم مذهبه، فقد تمكن من قراءته لمؤلفات ستيوارت وآدم سميث وريكاردو من معرفة أن ما يحكم المجتمع المدني هو هذا الاقتصاد السياسي الذي أسماه "نسق الحاجات" System of Needs . وكان هيجل قد أظهر اهتماما مبكرا بالاقتصاد السياسي منذ إقامته في مدينة برن، وظل هذا الاهتمام يلازمه وهو في فرانكفورت ويينا حتى استقر في برلين. ( ) أما ماركس فلم يكن مهتما بالاقتصاد السياسي في وقت مبكر مثل هيجل، بل كان مهتما في البداية بقضايا سياسية عامة و بفلسفة هيجل نفسه وبنقد الهيجليين الشباب. أما اهتمامه بالاقتصاد السياسي فلم يبدأ إلا سنة 1844 في المخطوطات الفلسفية الاقتصادية التي دوّنها في باريس ولم ينشرها. وبفضل دراسته للاقتصاد السياسي استطاع هيجل الكشف عن تناقضات المجتمع المدني بدقة مستبقا ماركس، ومن هنا فإن نظريته في الدولة كانت محاولة لتجاوز تناقضات هذا المجتمع، الاقتصادية في الأساس، أي تجاوز تناقضات المجتمع البورجوازي الرأسمالي.
لقد شخص هيجل بدقة سلبيات المجتمع المدني، ونستطيع أن نقول الاقتصاد الرأسمالي منذ سنة 1804 وذلك في محاضراته في جامعة يينا التي لم تنشر إلا في القرن العشرين. فما كان يقلقه آنذاك هو الإضعاف المتزايد لقوى الإنسان وإمكاناته، أو اغترابه. في هذه الفترة المبكرة حلل هيجل قضية العمل المغترب وذلك قبل ماركس بكثير، والحقيقة أن المرء يذهل من مدى قرب وتطابق النقد الهيجلي والنقد الماركسي، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن تحليلات هيجل هذه لم تنشر إلا في القرن العشرين، أي لم يطلع عليها ماركس. يقول هيجل في تعليقه على آدم سميث ومثاله عن مصنع المسامير: "إن تجزيء العمل يضاعف عملية الإنتاج؛ ففي مصنع إنجليزي يعمل 18 عامل في إنتاج مسمار واحد (أي يتخصص كل واحد منهم في صنع جزء صغير من المسمار) ولكل واحد منهم جانب معين من العمل يقوم به؛ فالفرد الواحد لا يمكنه إنتاج 120 مسمار، ولا حتى مسماراً واحداً… لكن قيمة العمل تتناقص بنفس القدر الذي تتزايد به الإنتاجية. والعمل بالتالي يصبح ميتا أكثر وأكثر، إنه يصبح عملا آليا، وتصبح مواهب وقدرات الفرد محدودة، وينحدر وعي عامل المصنع إلى أقصى مستويات التبلد. ويصبح الرابط بين العمل الجزئي والكم الهائل من الحاجات غير مدرك على الإطلاق، ويتحول إلى اعتماد أعمى.. ويتحول العنصر الروحي، أي الحياة الممتلئة الواعية بذاتها، إلى نشاط فارغ" ( ).
وفي "أصول فلسفة الحق" يذهب هيجل إلى أنه عندما يملك شخص آخر إنتاج المرء فإن هذا يكون له عواقب سلبية على شعور المرء بقيمته وإنسانيته، وذلك للدور الهام الذي يقوم به العمل في شخصية الإنسان وماهيته. يقول هيجل: "… هذه الخصائص الجوهرية ("هذه المنتجات" حسب ترجمة نوكس عن الأصل الألماني) التي تكون شخصيتي الخاصة والماهية الكلية لوعيي لا يمكن أن تغترب عني أو تتحول إلى ملكية شخص آخر، ولا حتى أن يسقط حقي فيها بمرور الزمن، فمثل هذه الخصائص هي شخصيتي بما هي كذلك، هي الحرية الكلية لإرادتي، هي حياتي الأخلاقية الموضوعية…(وعلى الرغم من ذلك) ففي استطاعتي أن أتنازل لغيري عن منتجات فردية أنتجتها مهارتي العقلية أو الجسمية، وفي استطاعتي أن أمنحه استعمال قدراتي لفترة.. لكن بتنازلي عن كل وقتي على نحو ما يتبلور في عملي ومجموع إنتاجي، فإني بذلك أجعل من جوهر وجودي ونشاطي الكلي وواقعيتي وشخصيتي ملك لشخص آخر" ( ).
توصل هيجل إلى أن الإفقار هو نتيجة لآليات الاقتصاد الرأسمالي نفسه، أو المجتمع المدني بتعبيره. ويقول هيجل أن هذا الفقر يمنع الفقراء من "امتيازات المجتمع المدني، فقد حرمهم هذا المجتمع من الوسائل الطبيعية للكسب.. كما أن فقرهم حرمهم .. من كل حسنات المجتمع مثل فرصة اكتساب المهارة أو فرص التربية والتعليم من أي نوع، مثلما حرمهم من الاستفادة من القضاء وخدمات الصحة العامة". لكن ما الحل؟ الدولة هي الحل. فالسلطة العامة للدولة "تحل محل الأسرة إزاء الفقراء" . هذه هي دولة الرفاهية المنظمة للاقتصاد والمسيطرة على السوق. ذلك لأن "كل حسنات المجتمع" التي أفقدها المجتمع البورجوازي الفقراء سوف توفرها الدولة ( ).
كان هيجل على وعي تام بأن هذا التدخل وهذه السيطرة من قبل الدولة سوف تظهر على أنها تسلطٌ وإلزامٌ فوقي خارجيّ، لكن هيجل يريد أن يقول لنا عبر كل كتابه "أصول فلسفة الحق" أن هذا الخوف من الدولة هو خوف الوعي الفردي العادي والساذج، وما "أصول فلسفة الحق" إلا فينومينولوجيا هدفها الارتقاء بهذا الوعي الفردي الخائف إلى مستوى الاقتناع بضرورة الدولة وكليتها وعقلانيتها. وهذا هو نفسه السبب في أن فلسفة هيجل السياسية هي نظرية فلسفية في الدولة. وكما يقول هيجل فإن الحرية المجردة والاعتباطية هي التي تنظر إلى مثل هذا التدخل من الدولة على أنه تسلط من الخارج وتحكم غريبٌ على المجتمع ( ).
ويوافق هيجل ساي وسميث وريكاردو على ما ذهبوا إليه من أن المجتمع المدني يكشف عن درجة عالية من الاعتماد المتبادل والتسيير الآلي والتلقائي الذي تضمنه يد خفية، أو حكمة ومكر العقل، إلا أنه في نفس الوقت يذهب إلى أن الاعتماد المتبادل والنظام التلقائي ليس آمنا ولا مضمونا ولا يمكن توقع عواقبه. فالمجتمع بهذه الطريقة يصبح جسدا ميتا لكن في حركة خادعة، فهو يتحرك في هذا الطريق أو ذاك بطريقة عشوائية عمياء مثله مثل الحيوان البري، ولذلك فهو يتطلب السيطرة المستمرة والتوجيه الدائم. ولذلك لا يشارك هيجل الاقتصاديين السياسيين وفلاسفة الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي في ميلهم نحو الدولة المحدودة Limited State ، فمفهومه عن الدولة مناقض تماما للمفهوم الليبرالي البورجوازي عن الدولة المحدودة.
كان هيجل أيضا مدركا لضرورة التوسع العالمي للمجتمع المدني أو للرأسمالية عن طريق الاستعمار، فهو يقول: "فما دام الميل الطاغي إلى الكسب يتضمن المغامرة، فإن الصناعة.. بدلا من أن تظل ضاربة بجذورها في التربة و الأرض، فإنها تعتنق مبدأ التدفق و الخطر و التدمير، و فضلا عن ذلك فإن البحر هو أعظم وسائل الاتصال، و التجارة عن طريق البحر تخلق الروابط التجارية بين البلاد البعيدة، كما تخلق أيضا العلاقات المتضمنة في الحقوق التعاقدية". أي تخلق توسعا للبورجوازية على نطاق عالمي ( ).
ويجعل هيجل الدولة، وبخاصة سلطاتها التنفيذية، معالجة لتناقضات المجتمع المدني البورجوازي، أي الاقتصاد الرأسمالي، وهو يتحدث عن دور تنظيمي للدولة يذكرنا بدولة الرفاهية ونظام رأسمالية الدولة. يقول هيجل: "يمكن لمصالح المنتجين والمستهلكين المختلفة أن تصل إلى حد الصدام بعضها مع بعض، وعلى الرغم من أنه يمكن الوصول إلى تسوية عادلة بين الكل تلقائيا، فسوف يظل التوافق بينهم بحاجة إلى سيطرة تعلو على الجميع وتقوم به عن وعي، وحق ممارسة مثل هذه السيطرة.. وحق الجمهور ألا يغش.. يمكن أن يكونا مهمة عامة تقوم بها السلطة العامة للدولة" . أي أن المجتمع المدني ليس بقادر وحده على علاج تناقضاته، ويجب تدخل الدولة. أما ماركس فسيرفض هذا الخيار، ولن يضع أمله في الدولة، بل في الثورة الاشتراكية، والحقيقة أنه لم يكن على صواب في ذلك.
و يكشف هيجل عن جدل تناقضات المجتمع المدني، ويشير إلى أن التوسع المتزايد لهذا المجتمع يخلق الفقر والطبقات الفقيرة التي لا تستطيع علاج فقرها [إلا] عن طريق المؤسسات الخيرية أو الهبات المقدمة من الطبقات الغنية. أما البديل لهذه الحلول فهو "إتاحة فرص العمل أمامها" ، وهو الحل الذي قدمه كينـز. لكن دخول أعداد كبيرة من العمال سوق العمل سوف يؤدي إلى فرط في الإنتاج مع نقص في التوزيع وكساد، فما الحل؟ يقول هيجل: "الجدل الداخلي للمجتمع المدني .. يدفعه إلى أن يتجاوز حدوده الخاصة ويبحث عن أسواق جديدة- وعلى ذلك فإن وسائله الضرورية للبقاء توجد في البلاد الأخرى"( )، وهذا هو الاستعمار، الذي اكتشف هيجل أنه أعلى مراحل تطور المجتمع المدني، البورجوازي الرأسمالي. لاحظ هنا أن هيجل لا يدعو للاستعمار باعتباره حلا لتناقضات المجتمع المدني الرأسمالي، بل يحلل اتجاه التطور الطبيعي والمنطقي لهذا المجتمع، أما حله لتلك التناقضات فيتمثل في نظريته في الدولة.
إذا نظرنا إلى الدولة على أنها شركة أو جهاز يضمن الحقوق الفردية البورجوازية وحسب، فإننا لا نتكلم في الحقيقة إلا عن المجتمع المدني البورجوازي. لقد وصل هيجل إلى الحدود النهائية للدولة البورجوازية والمجتمع المدني البورجوازي، أي للرأسمالية ودولتها، وحاول وضع البديل بمفهومه عن الدولة. لكن لكي نفهم ما هو المفهوم الهيجلي للدولة يجب علينا تناول النقد الذي وجهه هيجل للمجتمع المدني البورجوازي، فدولة هيجل ليست مجرد بديل عن النظرية الليبرالية في الدولة، بل علاج لسلبيات وتناقضات المجتمع المدني البورجوازي.
هيجل و الثورة الفرنسية:
ماذا يحدث عندما توضع المبادئ السياسية الليبرالية موضع التطبيق؟ يجيب هيجل على هذا التساؤل بتناوله للثورة الفرنسية، فهي التي وضعت هذه المبادئ بالفعل موضع التطبيق. كان هيجل متحمسا للثورة ويقدرها تقديرا عاليا، لكنه في نفس الوقت أدرك تناقضاتها وتلازم إنجازاتها مع سلبياتها، أي مع عدم قدرتها على الإتيان بنظام سياسي ثابت وتدعيمه، كما كانت عينه دائما على عدم قدرة أي نظام سياسي أتى بعد الثورة بما فيه عصر عودة الملكية في تحقيق الاستقرار السياسي والخروج من مصاعب الثورة وآثارها الجانبية ( ).
يوجه هيجل نقده للثورة الفرنسية من منطلق أنها استندت على فكرة الإرادة العامة General Will عند روسو. فقد ذهب روسو إلى أن الحكومة تقوم على رضاء المواطنين وعلى إرادتهم العامة، وإذا لم يحصل النظام السياسي على رضاء وموافقة هذه الإرادة العامة كان من حق المواطنين الثورة عليه. أدت فكرة الإرادة العامة هذه كما فهمتها الثورة الفرنسية إلى الفوضى والإرهاب. فقد تم النظر إلي هذه الإرادة العامة على أنها إرادة المجموع Collective Will، أي جماع إرادات الأفراد في المجتمع. وفي التطبيق العملي تنقلب إرادة المجموع بسهولة إلى أن تكون مرادفة لرأي الجمهور من الغوغاء والدهماء، ولذلك تحولت الثورة إلى الفوضى وانتهت بالإرهاب نتيجة لأنها أعطت مضمونا سياسيا لأهواء الجمهور المتقلبة ( ).
لم تكن فكرة الإرادة العامة إلا مفهوما صوريا فارغا بدون مضمون، ولم تكن تصلح إلا لهدم النظام القديم، إلا أنها لا تصلح لتأسيس نظام جديد. فليس هناك معيار للتوصل من هذه الإرادة العامة إلى الاتفاق العقلاني الكلي، فما هو هام ليس وحدة في العواطف والمشاعر لدى الجماهير، بل الوصول إلى إرادة كلية Universal Will مؤسسة على العقل. وطالما نظرت كل إرادة فردية لنفسها على أنها معبرة عن الإرادة العامة حدثت الفوضى. لم يستطع روسو أن يحدثنا عن مضمون هذه الإرادة العامة، أي ما تريده هذه الإرادة. الإرادة العامة عند روسو تحدد إجراء صوريا شكليا لتأسيس النظام، إلا أنها لا تقول لنا ما هو هذا النظام. فهذه الفكرة تدور إذن في عالم الوسائل لا في عالم الغايات التي يقابلها روسو بالحياد ولا يتكلم عن مضمونها. والحقيقة أن الإرادة العامة عنصر يتحقق بعد تأسيس الاجتماع السياسي، أو هو أحد وظائف وأهداف هذا الاجتماع السياسي. فأي إرادة عامة أو شعبية تتطلب مجتمعا سابقا عليها وقائما بالفعل قبل أن تصبح فعالة وذات تأثير، لكنها لا تؤسس هذا المجتمع من البداية كما يذهب روسو. و بذلك يكون روسو قد افترض مسبقا ما كان يجب أن يؤسسه.
كما فهمت الثورة الفرنسية مبدأ الحرية بطريقة صورية ومجردة، فالحرية في نظرها ذاتية وتتمثل في استقلال فردي خالص. ومن هنا انعزلت إرادات الأفراد عن أي سياق عام، وهذا ما أدى إلى الفوضى والإرهاب. أما المبدأ القائل أن العقل يجب أن يحكم العالم فقد أسيء فهمه على أنه يعني أن عقل كل فرد يجب أن يكون ذا أثر فعال على الأحداث، وهذا ما جعل الجماهير في حالة دائمة من الهياج معتقدة أنه مشاركة سياسية وديمقراطية فعالة، في حين أنها كانت الفوضى. كما تحولت الفضيلة المدنية على يدي الثورة إلى ذاتية متطرفة وبذلك تعاقبت الحكومات الكثيرة أثناء الثورة وتعاقبت الدساتير دون تحقيق استقرار ( ).
و يوجه هيجل نقده لليبرالية الثورة الفرنسية قائلا: "لا ترضى الليبرالية… بوجود تنظيم سياسي تظهر فيه دوائر متعددة من الحياة المدنية ذات وظيفة محددة لكل منها، ولا بذلك التأثير على الشعب الذي يمارس من قبل الأعضاء المثقفين في المجتمع والثقة التي يجب أن تكون تجاههم. وفي مقابل كل ذلك ترفع الليبرالية المبدأ الذري Atomistic الذي يصر على الفاعلية السياسية للإرادات الفردية، ذاهبة إلى أن كل حكومة يجب أن تنبع من سلطة هؤلاء الأفراد وتحصل على موافقتهم العلنية. إن الجماعة التي تناصر هذا الجانب الشكلي من الحرية - وهذا التجريد - لا تسمح لأي تنظيم سياسي أن يؤسس على دعائم ثابتة" ( ). والحقيقة أن هيجل في هذا النص وفي نقده للثورة الفرنسية بوجه عام إنما ينقد مبدأ الديمقراطية المباشرة، إذ يتضح من هذا النقد أنها خرافة. إذ كان هيجل دائم الإصرار على أن الدولة الحديثة تتصف بدرجة عالية من التعقيد وتعدد الأجهزة والوظائف بحيث لم تعد الديمقراطية المباشرة تصلح في ظلها. فالاعتقاد في إمكانية مشاركة الأفراد المنعزلين مشاركة مباشرة في تسيير شؤون الدولة كما كان يحدث في دولة المدينة اليونانية يعد سذاجة سياسية ووهما ديماجوجيا.
تقوم فكرة الديمقراطية المباشرة ، وخاصة كما فهمتها الثورة الفرنسية، على مسلمة أساسية وهي النظر إلى الإرادة السياسية على أنها هي إرادات الأفراد. ويذهب هيجل إلى أن الفوضى والإرهاب الناتجين عن الثورة الفرنسية هما نتيجة التوحيد بين الإرادة الفردية الطبيعية المباشرة والإرادة السياسية، أي الاعتقاد في أن إرادات الأفراد المنعزلين والمشتتين يمكن أن ينتج عنها إرادة سياسية عامة و كلية. ويحكم هيجل على فكرة الديمقراطية المباشرة بأنها ساذجة وديماجوجية لأنها تحل إشكالية العلاقة بين الفرد والدولة بأن تجعل الأفراد مسيطرين مباشرة على الدولة ويستخدمونها كأداة لتنفيذ ما يشاؤون. وهي ساذجة لأنها لا تدرك طبيعة الدولة الحديثة، إذ ينقصها تصور واضح عن دور المؤسسات الوسيطة بين الفرد أو المجتمع المدني والدولة. فبينما تصر النظريات الليبرالية على الفصل الحاد بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فإن فلسفة هيجل لا تعترف بهذا الفصل، ويصر هيجل في فلسفته السياسية على ضرورة وجود مؤسسات أو تنظيمات تتوسط بينهما تعمل على رفع مستوى المصالح والاهتمامات الفردية الخاصة إلى مرتبة الحياة العامة السياسية. والمؤسسات الوسيطة التي يقصدها هيجل هي النقابة والطبقة، وسوف نتوسع في الحديث عنهما عندما نأتي لتناول نظريته في الدولة.
لكن لنا ملاحظة حول مفهوم المؤسسات الوسيطة. يتحدث هيجل عن النقابة والطبقة باعتبارهما من المؤسسات الوسيطة في الجزء المتعلق بالدولة في كتابه "أصول فلسفة الحق"، ولهذا دلالة كبيرة، فهو يريد أن يقول أن هذه المؤسسات الوسيطة تنتمي للدولة أكثر من انتمائها للمجتمع المدني، فالحياة السياسية التي تعد الدولة تجسيدها العيني هي هدف المؤسسات الوسيطة، أي أن هدفها هو هدف الدولة نفسه. والأهم من ذلك أن التوسط بين الفرد والدولة ليس من وظيفة النقابة والطبقة فقط، فهما يقومان بالتوسط بالمعنى السياسي الضيق. وإذا بحثنا في فلسفة هيجل كلها سوف نجد أشياء أخرى كثيرة تقوم بهذه الوظيفة، وترفع الأفراد إلى مستوى الحياة السياسية العامة، وذلك مثل الدور الذي تقوم به الفلسفة نفسها، وفلسفة هيجل على وجه الخصوص. إذ تهدف "فينومينولوجيا الروح" إلى الرقي بالوعي الفردي والوصول به إلى إدراك العقل، أما فلسفته في التاريخ فتهدف إلى توضيح أن العقل يتحقق في التاريخ، وذلك بالتدريج وعبر مراحل حتى يصل إلى أقصى مراحل التحقق في الدولة الحديثة.
وافق هيجل نظريات العقد الاجتماعي والليبرالية على ذهابها إلى أن السياسية والمؤسسات السياسية الحديثة يجب أن تؤسس على وعي المواطنين، إذ ذهبت تلك النظريات إلى أن الشرعية السياسية يجب أن تؤسس على الإرادة، وهذا هو ما وافق فيه الثورة الفرنسية. إلا أن هذه النظريات، ومعها الثورة الفرنسية، فهمت الإرادة بصورة خاطئة مغرقة في الفردية وبطريقة جزئية وخاصة. وبذلك تفشل في تلبية مطلب هام وهو أن تكون هذه الإرادة مساهمة بفاعلية في النظام السياسي وجزءاً منه، بأسلوب يختلف عن الأسلوب الديماجوجي للثورة الفرنسية. يؤدي هذا التصور الضيق عن الإرادة إلى نظام تكون فيه السياسة مقامة من أجل مصالح الأفراد. إن تكوين نظام سياسي وعقلاني ومرض عند هيجل يتطلب إرادة جماعية كلية لا إرادة فردية جزئية، أما الإرادة العامة عند روسو وكما فهمتها الثورة الفرنسية فما هي إلا مجموع الإرادات الفردية الجزئية. ويرى هيجل أن المفهوم الليبرالي عن الإجماع Consent كما يظهر في نظريات العقد الاجتماعي مغرق في التلقائية والاختيارية والجزئية بطريقة تعوقه عن أن يقوم بالدور التأسيسي الموكل إليه في هذه النظريات. والحقيقة أن فلسفة هيجل السياسية هي محاولة للوصول إلى أسس بديلة أكثر عمومية وشمولية لتأسيس الشرعية السياسية. وبما أن الشرعية السياسية هي شرعية الدولة فإن فلسفة هيجل السياسية هي فلسفة في الدولة. وهذا هو السبب في مركزية مفهوم الدولة في أعماله السياسية التي فهمت خطأ على أنها تمجيد للدولة ورفعها فوق الأفراد وجعلها قوة مستقلة عنهم ودعاية للدولة الشمولية.
نقد هيجل للمجتمع المدني:
المجتمع المدني عند هيجل هو النظام الذي ينشأ من الاعتماد المتبادل بين الأفراد في نشاطاتهم المادية، فهو نتاج الفردية والنظام الذي تنشئه هذه الفردية. يقول هيجل: "الشخص العيني الذي هو نفسه موضوع غاياته الجزئية - وبوصفه مجموعة الحاجات، ومزيجا من الهوى والضرورة المادية- هو المبدأ الأول في المجتمع المدني. لكن هذا الشخص الجزئي يرتبط بالضرورة بغيره من الشخصيات الجزئية الأخرى حتى أن كلاً منهم يقيم ذاته ويشبعها عن طريق الآخرين، وهذا هو .. المبدأ الثاني في هذا المجتمع" ( )، أي مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يجعل المجتمع يسير بتلقائية وآلية. والمجتمع المدني حسب هذا الوصف هو المجتمع البورجوازي كما وصفه منظروه: هوبز ولوك وهيوم وآدم سميث.
"المجتمع المدني" الذي يتحدث عنه هيجل هو في حقيقته الاقتصاد الرأسمالي، فإذا استبدلنا كلمة "الاقتصاد الرأسمالي" أو كلمة "الرأسمالية" بكلمة "المجتمع المدني" فلن يختل المعنى، بل سيزداد وضوحا. يقول هيجل: "المجتمع المدني هو القوة الهائلة التي تمتص الناس إليها وتتطلب منهم العمل لأجلها (وبالتالي فهم) يدينون بكل شئ لهذه القوة، ويقومون بكل شئ وبأي شئ بوسائلها" ( ).
أدخل هيجل الاقتصاد السياسي في صميم مذهبه، فقد تمكن من قراءته لمؤلفات ستيوارت وآدم سميث وريكاردو من معرفة أن ما يحكم المجتمع المدني هو هذا الاقتصاد السياسي الذي أسماه "نسق الحاجات" System of Needs . وكان هيجل قد أظهر اهتماما مبكرا بالاقتصاد السياسي منذ إقامته في مدينة برن، وظل هذا الاهتمام يلازمه وهو في فرانكفورت ويينا حتى استقر في برلين. ( ) أما ماركس فلم يكن مهتما بالاقتصاد السياسي في وقت مبكر مثل هيجل، بل كان مهتما في البداية بقضايا سياسية عامة و بفلسفة هيجل نفسه وبنقد الهيجليين الشباب. أما اهتمامه بالاقتصاد السياسي فلم يبدأ إلا سنة 1844 في المخطوطات الفلسفية الاقتصادية التي دوّنها في باريس ولم ينشرها. وبفضل دراسته للاقتصاد السياسي استطاع هيجل الكشف عن تناقضات المجتمع المدني بدقة مستبقا ماركس، ومن هنا فإن نظريته في الدولة كانت محاولة لتجاوز تناقضات هذا المجتمع، الاقتصادية في الأساس، أي تجاوز تناقضات المجتمع البورجوازي الرأسمالي.
لقد شخص هيجل بدقة سلبيات المجتمع المدني، ونستطيع أن نقول الاقتصاد الرأسمالي منذ سنة 1804 وذلك في محاضراته في جامعة يينا التي لم تنشر إلا في القرن العشرين. فما كان يقلقه آنذاك هو الإضعاف المتزايد لقوى الإنسان وإمكاناته، أو اغترابه. في هذه الفترة المبكرة حلل هيجل قضية العمل المغترب وذلك قبل ماركس بكثير، والحقيقة أن المرء يذهل من مدى قرب وتطابق النقد الهيجلي والنقد الماركسي، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن تحليلات هيجل هذه لم تنشر إلا في القرن العشرين، أي لم يطلع عليها ماركس. يقول هيجل في تعليقه على آدم سميث ومثاله عن مصنع المسامير: "إن تجزيء العمل يضاعف عملية الإنتاج؛ ففي مصنع إنجليزي يعمل 18 عامل في إنتاج مسمار واحد (أي يتخصص كل واحد منهم في صنع جزء صغير من المسمار) ولكل واحد منهم جانب معين من العمل يقوم به؛ فالفرد الواحد لا يمكنه إنتاج 120 مسمار، ولا حتى مسماراً واحداً… لكن قيمة العمل تتناقص بنفس القدر الذي تتزايد به الإنتاجية. والعمل بالتالي يصبح ميتا أكثر وأكثر، إنه يصبح عملا آليا، وتصبح مواهب وقدرات الفرد محدودة، وينحدر وعي عامل المصنع إلى أقصى مستويات التبلد. ويصبح الرابط بين العمل الجزئي والكم الهائل من الحاجات غير مدرك على الإطلاق، ويتحول إلى اعتماد أعمى.. ويتحول العنصر الروحي، أي الحياة الممتلئة الواعية بذاتها، إلى نشاط فارغ" ( ).
وفي "أصول فلسفة الحق" يذهب هيجل إلى أنه عندما يملك شخص آخر إنتاج المرء فإن هذا يكون له عواقب سلبية على شعور المرء بقيمته وإنسانيته، وذلك للدور الهام الذي يقوم به العمل في شخصية الإنسان وماهيته. يقول هيجل: "… هذه الخصائص الجوهرية ("هذه المنتجات" حسب ترجمة نوكس عن الأصل الألماني) التي تكون شخصيتي الخاصة والماهية الكلية لوعيي لا يمكن أن تغترب عني أو تتحول إلى ملكية شخص آخر، ولا حتى أن يسقط حقي فيها بمرور الزمن، فمثل هذه الخصائص هي شخصيتي بما هي كذلك، هي الحرية الكلية لإرادتي، هي حياتي الأخلاقية الموضوعية…(وعلى الرغم من ذلك) ففي استطاعتي أن أتنازل لغيري عن منتجات فردية أنتجتها مهارتي العقلية أو الجسمية، وفي استطاعتي أن أمنحه استعمال قدراتي لفترة.. لكن بتنازلي عن كل وقتي على نحو ما يتبلور في عملي ومجموع إنتاجي، فإني بذلك أجعل من جوهر وجودي ونشاطي الكلي وواقعيتي وشخصيتي ملك لشخص آخر" ( ).
توصل هيجل إلى أن الإفقار هو نتيجة لآليات الاقتصاد الرأسمالي نفسه، أو المجتمع المدني بتعبيره. ويقول هيجل أن هذا الفقر يمنع الفقراء من "امتيازات المجتمع المدني، فقد حرمهم هذا المجتمع من الوسائل الطبيعية للكسب.. كما أن فقرهم حرمهم .. من كل حسنات المجتمع مثل فرصة اكتساب المهارة أو فرص التربية والتعليم من أي نوع، مثلما حرمهم من الاستفادة من القضاء وخدمات الصحة العامة". لكن ما الحل؟ الدولة هي الحل. فالسلطة العامة للدولة "تحل محل الأسرة إزاء الفقراء" . هذه هي دولة الرفاهية المنظمة للاقتصاد والمسيطرة على السوق. ذلك لأن "كل حسنات المجتمع" التي أفقدها المجتمع البورجوازي الفقراء سوف توفرها الدولة ( ).
كان هيجل على وعي تام بأن هذا التدخل وهذه السيطرة من قبل الدولة سوف تظهر على أنها تسلطٌ وإلزامٌ فوقي خارجيّ، لكن هيجل يريد أن يقول لنا عبر كل كتابه "أصول فلسفة الحق" أن هذا الخوف من الدولة هو خوف الوعي الفردي العادي والساذج، وما "أصول فلسفة الحق" إلا فينومينولوجيا هدفها الارتقاء بهذا الوعي الفردي الخائف إلى مستوى الاقتناع بضرورة الدولة وكليتها وعقلانيتها. وهذا هو نفسه السبب في أن فلسفة هيجل السياسية هي نظرية فلسفية في الدولة. وكما يقول هيجل فإن الحرية المجردة والاعتباطية هي التي تنظر إلى مثل هذا التدخل من الدولة على أنه تسلط من الخارج وتحكم غريبٌ على المجتمع ( ).
ويوافق هيجل ساي وسميث وريكاردو على ما ذهبوا إليه من أن المجتمع المدني يكشف عن درجة عالية من الاعتماد المتبادل والتسيير الآلي والتلقائي الذي تضمنه يد خفية، أو حكمة ومكر العقل، إلا أنه في نفس الوقت يذهب إلى أن الاعتماد المتبادل والنظام التلقائي ليس آمنا ولا مضمونا ولا يمكن توقع عواقبه. فالمجتمع بهذه الطريقة يصبح جسدا ميتا لكن في حركة خادعة، فهو يتحرك في هذا الطريق أو ذاك بطريقة عشوائية عمياء مثله مثل الحيوان البري، ولذلك فهو يتطلب السيطرة المستمرة والتوجيه الدائم. ولذلك لا يشارك هيجل الاقتصاديين السياسيين وفلاسفة الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي في ميلهم نحو الدولة المحدودة Limited State ، فمفهومه عن الدولة مناقض تماما للمفهوم الليبرالي البورجوازي عن الدولة المحدودة.
كان هيجل أيضا مدركا لضرورة التوسع العالمي للمجتمع المدني أو للرأسمالية عن طريق الاستعمار، فهو يقول: "فما دام الميل الطاغي إلى الكسب يتضمن المغامرة، فإن الصناعة.. بدلا من أن تظل ضاربة بجذورها في التربة و الأرض، فإنها تعتنق مبدأ التدفق و الخطر و التدمير، و فضلا عن ذلك فإن البحر هو أعظم وسائل الاتصال، و التجارة عن طريق البحر تخلق الروابط التجارية بين البلاد البعيدة، كما تخلق أيضا العلاقات المتضمنة في الحقوق التعاقدية". أي تخلق توسعا للبورجوازية على نطاق عالمي ( ).
ويجعل هيجل الدولة، وبخاصة سلطاتها التنفيذية، معالجة لتناقضات المجتمع المدني البورجوازي، أي الاقتصاد الرأسمالي، وهو يتحدث عن دور تنظيمي للدولة يذكرنا بدولة الرفاهية ونظام رأسمالية الدولة. يقول هيجل: "يمكن لمصالح المنتجين والمستهلكين المختلفة أن تصل إلى حد الصدام بعضها مع بعض، وعلى الرغم من أنه يمكن الوصول إلى تسوية عادلة بين الكل تلقائيا، فسوف يظل التوافق بينهم بحاجة إلى سيطرة تعلو على الجميع وتقوم به عن وعي، وحق ممارسة مثل هذه السيطرة.. وحق الجمهور ألا يغش.. يمكن أن يكونا مهمة عامة تقوم بها السلطة العامة للدولة" . أي أن المجتمع المدني ليس بقادر وحده على علاج تناقضاته، ويجب تدخل الدولة. أما ماركس فسيرفض هذا الخيار، ولن يضع أمله في الدولة، بل في الثورة الاشتراكية، والحقيقة أنه لم يكن على صواب في ذلك.
و يكشف هيجل عن جدل تناقضات المجتمع المدني، ويشير إلى أن التوسع المتزايد لهذا المجتمع يخلق الفقر والطبقات الفقيرة التي لا تستطيع علاج فقرها [إلا] عن طريق المؤسسات الخيرية أو الهبات المقدمة من الطبقات الغنية. أما البديل لهذه الحلول فهو "إتاحة فرص العمل أمامها" ، وهو الحل الذي قدمه كينـز. لكن دخول أعداد كبيرة من العمال سوق العمل سوف يؤدي إلى فرط في الإنتاج مع نقص في التوزيع وكساد، فما الحل؟ يقول هيجل: "الجدل الداخلي للمجتمع المدني .. يدفعه إلى أن يتجاوز حدوده الخاصة ويبحث عن أسواق جديدة- وعلى ذلك فإن وسائله الضرورية للبقاء توجد في البلاد الأخرى"( )، وهذا هو الاستعمار، الذي اكتشف هيجل أنه أعلى مراحل تطور المجتمع المدني، البورجوازي الرأسمالي. لاحظ هنا أن هيجل لا يدعو للاستعمار باعتباره حلا لتناقضات المجتمع المدني الرأسمالي، بل يحلل اتجاه التطور الطبيعي والمنطقي لهذا المجتمع، أما حله لتلك التناقضات فيتمثل في نظريته في الدولة.
الدولة:
يصر هيجل دائما على ضرورة أن تعتمد المبادئ السياسية الحديثة على العقل وحده، وأن تكون نابعة منه فقط. والحقيقة أنه بذلك يقف ضد ما تدعو إليه الليبرالية ونظريات العقد الاجتماعي من تأسيس السياسة على الرأي العام والحس المشترك والطبيعة البشرية، فالعقل عنده يعلو كثيرا على هذه العناصر التي تعد مراحل متدرجة في تطور الوعي نحو العقل. ولأن هيجل يصر على أولوية العقل والعقلانية فقد وصف الدولة بأنها أعلى مراحل تطور العقل والاكتمال التام والنهائي لمسيرة العقل في التاريخ. قد يبدو هذا الكلام مغرقا في المثالية والميتافيزيقية، إلا أنه تعبير صادق بالفعل عن الطبيعة العقلانية للدولة الحديثة، التي أكد عليها ماكس فيبر بعد ذلك، وتعبير صادق أيضا عن اختلاف هيجل عن التراث السياسي الليبرالي.
ليست الحالة السابقة على التنظيم السياسي عند هيجل هي حالة الطبيعة الأولى أو حالة حرب الكل ضد الكل. الحالة السابقة على الدولة عنده لها أسبقية منطقية لا غير، أسبقية في الفكر لا في الواقع. التنظيمات السابقة على الدولة في وعي الأفراد هي ميدان الحقوق الفردية (حقوق الملكية والقانون الجنائي) والأسرة والمجتمع المدني. والحالة السابقة على الدولة ليست حالة لا اجتماعية بل توجد بها تنظيمات اجتماعية قائمة وهي الأسرة والمجتمع المدني. تنتقل نظريات العقد الاجتماعي من حالة طبيعية لااجتماعية إلى حالة اجتماعية من التنظيم السياسي الكامل والدولة القائمة وذلك مباشرة ودفعة واحدة، أما هيجل فليس في حاجة إلى افتراض كل ذلك، لأنه سلم بالفعل بوجود الحياة الاجتماعية قبل الدولة، بل في حاجة فقط إلى توضيح كيفية تحول الحياة الاجتماعية الصغيرة والممكنة إلى حياة اجتماعية قائمة بالفعل ومتحققة، أو انطلاقها من النسبي إلى المطلق، أي من الأسرة والمجتمع المدني إلى الدولة. لم يعد من الممكن لفلسفة هيجل أن تصف ظهور مجتمع الدولة باعتباره انتقالا من حالة طبيعية أولى إلى حالة سياسية، بل باعتباره تطورا للروح ( ).
يقف الفكر السياسي عند هيجل ضد النـزعة الفردية التفتيتية لليبرالية، ومن هنا فإن فكره شمولي، لا بمعنى أنه يعلي الدولة على الأفراد ويجعل منها قوة متسلطة، بل بمعنى أن نظرته شاملة وكلية، وبمعنى بيان دور الفرد في الكل الاجتماعي، ورفع الوعي الفردي إلى مستوى هذا الكل. يمكن أن يتهم هيجل بالشمولية Totalitarianism إذا كان الكل عنده هو مجموع من الأفراد الذين ينسحقون فيه وتختفي فيه هوياتهم، لكن الكل عند هيجل يتم التوصل إليه بعملية تجاوز وإعلاء Aufhebung لما هو خاص وجزئي، وللتناقضات بين الفرد والجماعة.
الدولة عند هيجل هي التجسيد الحي لروح الشعب وأخلاقه الاجتماعية وعاداته وتقاليده، وهي التعبير السياسي عن مجتمع إنساني معين Community . ولذلك فهي ليست مجرد حكومة أو نظاما في الحكم كما تذهب الليبرالية، بل هي المجتمع كله والتجسيد السياسي لحياته الأخلاقية. الدولة أيضا هي المشاركة في النحن، أي في مجتمع إنساني شامل يحرر الفرد من تمركزه حول ذاته وحول مصلحته الشخصية. والدولة عند هيجل أيضا هي مجتمع إنساني أخلاقي Ethical Community، بمعنى أن ما يشكلها ليس نظامها السياسي وحسب، بل هو ثقافتها وأخلاقها الاجتماعية ودستورها المستقى من هذه الأخلاق ومن علاقاتها بالدول الأخرى في السلم والحرب. والأفراد في هذه الدولة تجمعهم مشاركتهم في مثل أخلاقية معينة والتزامهم بتراث معين ويوحدهم نسق واحد من الأخلاق الاجتماعية. يتحدث هيجل هنا عما يقصده علماء الاجتماع من النظام المعياري Normative Order الذي يحدد هوية مجتمع معين ونظامه السياسي، والذي يعمل على إدماج الأفراد في مجتمعاتهم، فالاندماج الاجتماعي Social Integration والتساند Solidarity عند علماء الاجتماع، كما عند هيجل، يتحققان عن طريق المعايير والقيم والثقافة.
عندما يقول هيجل أن الدولة تتجاوز و تضم في نفس الوقت مجال الحق المجرد، أو الحقوق الفردية، فهو يعني أن الدولة هي التي تضمن حقوق الأفراد و حريتهم. فتلك الحقوق و هذه الحرية ليس لهما معنى و لا يستطيعان أن يتحققا إلا في ظل اعتراف جماعي و كلي من الجماعة كلها باعتبارها كيانا سياسيا.
لكل مجال اجتماعي رابطة إنسانية معينة تحدد العلاقات الاجتماعية بين الأفراد المشاركين فيه. فمجال الأسرة هو مجال الغيرية الخاصة Private Altruism ، فأنا أسعى في أسرتي إلى إيثار أبنائي أو آبائي على نفسي، وعلى الرغم من أنني أوثر غيري، إلا أن ذلك يتم في نطاق خاص ومحدد وهو الأسرة. أما المجتمع المدني فهو مجال الأنوية الكلية Universal Egoism ، فكل علاقاتي بغيري في المجتمع المدني تستهدف مصلحتي الشخصية، وأستخدم الآخر دائما باعتباره وسيلة لتحقيق أهدافي الخاصة. وأما الدولة فهي مجال الغيرية الكلية Universal Altruism ، أو يجب أن تكون كذلك، فأنا أوثر على نفسي أشياء أخرى كثيرة غير مجرد أسرتي الخاصة، إذ أضحي بحياتي في الحرب لا للدفاع عن مصالحي الشخصية ولا حتى عن ممتلكاتي أو أسرتي، فمن الممكن أن أنتقل بأسرتي وممتلكاتي إلى مكان آخر لأحميها من الحرب إذا لم أكن أريد أن أحارب، لكني أضحي بحياتي في الحرب للحفاظ على مجتمعي وقيمه وهويته. وأتخلى عن جزء من ثروتي وممتلكاتي في صورة ضرائب لا من أجل شخص معين بل من أجل المجتمع كله وصالحه العام الذي تمثله الدولة ( ). والملاحظ هنا أن انتقال هيجل في وصفه للحياة السياسية من الأسرة إلى المجتمع المدني ثم إلى الدولة يكشف عن حركة جدلية من القضية Thesis إلى نقيضها Anti-Thesis ومنهما إلى المركب Synthesis . فالأسرة أو الغيرية الخاصة هي القضية، والمجتمع المدني أو الأنوية الكلية هي نقيض القضية، والدولة أو الغيرية الكلية هي المركب منهما.
الدولة عند هيجل متجاوزة للمصالح الجزئية وممثلة للمصلحة الكلية، وما تقع عليه مسؤولية رعاية هذه المصلحة الكلية للدولة هي السلطة التنفيذية. قد يبدو هذا الكلام دعاية للدولة التسلطية، إلا أن هيجل يذهب إلى أن الإرادة الجزئية والعشوائية هي التي تنظر إلى الدولة على أنها قيد على حرية المرء. ونستطيع أن ندرك ذلك مما يقوله هيجل عن رابطة الواجب Bond of Duty التي ينظر إليها على أنها السائدة في مجال الدولة. يقول هيجل: "إن رابطة الواجب لا يمكن أن تظهر كقيد إلا على الذاتية اللامتعينة أو على الحرية المجردة، أو على الدوافع سواء أكانت دوافع الإرادة الطبيعية أو الإرادة الأخلاقية التي تحدد خيرها اللامتعين بطريقة تعسفية. غير أن الحقيقة هي أن الفرد يجد في الواجب تحرره" ( ).
على الرغم من أن الدولة تظهر في آخر "أصول فلسفة الحق"، إلا أنها الأولى منطقيا وتاريخيا. فالانتقال من مجال الحقوق الفردية إلى مجال المجتمع المدني ثم إلى الدولة لا يمكن أن يتم إلا في ظل دولة. ففي ظل دولة قائمة تظهر الليبرالية ويستطيع الاقتصاد الرأسمالي أن يتطور، ويستطيع أعضاء المجتمع الرأسمالي الوليد أن يسعوا وراء أهدافهم الخاصة، وفي ظلها أيضا يكون للقانون سيادة ومصداقية. ولكن إذا كان للدولة أسبقية منطقية وتاريخية فلماذا لا يبدأ بها هيجل، ولماذا لا تظهر الدولة إلا في النهاية؟ لأن هيجل لا يضع أمامنا نظرية استنباطية تستنتج حقوق الأفراد والمؤسسات السياسية والأسرة والمجتمع المدني من الدولة، بل يضع فينومينولوجيا للوعي السياسي بالدولة وبالحرية، أي إعادة بناء فلسفية للطريقة التي يمكن للفرد أن يصبح بها واعيا بحريته كما هي متحققة في الدولة الحديثة. ففلسفته السياسية تهدف إلى رفع مستوى الوعي الفردي والتعالي به فوق مستوى الحقوق الفردية والأسرة والمجتمع المدني حتى تصل به إلى مستوى الدولة، أي مستوى الحرية المتحققة بالفعل. فإذا كانت الدولة كما يذهب هيجل هي الحقيقة الكبرى والأساسية في عصره، فإن ما يجب عليه أن يفعله هو إزالة كل ما يعوق إدراكها ورؤيتها بإثبات أن كل ما يسبقها يؤدي بالضرورة إليها. وهذا هو بالضبط ما يجعل الإمكانات النقدية في فلسفته السياسية كبيرة. فمهمة التعالي بالوعي وقيادته فينومينولوجياً حتى يدرك أهمية وأولوية الدولة ويدرك تحقق حريته فيها هي ذاتها مهمة نقدية، ذلك لأنها تطلبت منه نقد نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي والليبرالية ( ).
كان هيجل على وعي تام بتعقد الجهاز السياسي والإداري للدولة الحديثة، وبأن الفرد لا يمكنه أن يشارك مشاركة مباشرة وفعالة في ظل هذا الجهاز المعقد والمتخصص. ولذلك ذهب إلى ضرورة وجود تنظيمات وسيطة بين الفرد أو المجتمع المدني والدولة. ومن هنا رأى أن النقابة والطبقة هما من بين هذه التنظيمات الوسيطة، فالنقابة هي المجال الذي يستطيع الفرد من خلاله ممارسة مهام عامة والسعي نحو مصالح عامة يتجاوز بها فرديته وأنانيته ويعمل للخير العام ويشارك في الحياة العامة. يقول هيجل: "المواطنون لا يشتركون في ظروف دولنا الحديثة السياسية بأقل القليل من الأعمال العامة. ومن المهم على أية حال أن نزود الإنسان الأخلاقي بنشاط كلي يرتفع به فوق غايته الخاصة، وهذا العنصر لا تزوده به الدولة الحديثة (أي الدولة بالمعنى السياسي الضيق) وإنما تعطيه له النقابة.. (لكن ومن جهة أخرى فإن) الدولة لابد وأن تتولى الإشراف على النقابات، وإلا فإنها سوف تتجمد، تبني نفسها وهي تنهار في نسق بائس من الطبقات المغلقة. غير أن الطبقة ليست في ذاتها وبذاتها طبقة مغلقة، بل إن هدفها هو على العكس وضع الحرف المنعزلة في نظام اجتماعي ورفع هذا النظام إلى دائرة يظفر فيها بالقوة والاحترام" ( ). وعندما يقول هيجل أن الدولة يجب أن تشرف على النقابات، وأنها بدون هذا الإشراف تتجمد وتنهار إنما يسير مع روح الحياة السياسية الحديثة، والمعاصرة أيضا. فالفترات التي شهدت علو أهمية النقابات ودورها الفعال، أي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى السبعينات، إنما هي مرحلة قوة الدولة متمثلة في نظم دولة الرفاهية ودولة الاشتراكية الديمقراطية. أما الفترات التي شهدت ضعفا للدولة واضمحلالا لها فهي أيضا الفترات التي شهدت ضعفا للنقابات وتهميشا لدورها. إن الدولة كما تنبأ هيجل هي الداعمة للنقابة والضامنة لحقوقها.
كما يذهب هيجل إلى أن الطبقة هي التي تتوسط بين المجتمع المدني والدولة، وبالتالي تعالج تناقضاته وسلبياته وترفع المصالح الخاصة إلى مستوى الكلي، أي مستوى الدولة حيث تحصل على تعبيرها السياسي والاعتراف بها.
وهناك طبقة يسميها هيجل الطبقة الكلية وهي طبقة الموظفين المدنيين Civil Servants ومهمتها "رعاية الصالح العام للمجتمع" . وعلى الرغم من أنهم يأتون من الطبقة الوسطى إلا أن اختيارهم وتدريبهم وتنظيمهم وروح الفريق لديهم توجه أنظارهم بعيدا عن منظور المجتمع المدني ونحو منظور الدولة ( ). هذه هي البيروقراطية التي سيركز عليها فيبر كثيرا ويذهب إلى أنها عماد الدولة الحديثة. والملاحظ هنا أن البيروقراطية هي التي ستعمل كوسيط بين الجزئي والكلي، بين المجتمع المدني والدولة، وهي التي ستمثل السلطة العامة للدولة. فإذا كان هيجل يريد من الدولة أن تعالج تناقضات وسلبيات المجتمع المدني البورجوازي، فإن هذه المهمة من جانب الدولة تقع على عاتق البيروقراطية. لقد ذهب ماركس إلى أن تناقضات الرأسمالية سوف تعالجها ثورة اشتراكية تأتي بالبروليتاريا إلى السيطرة على الدولة، لكن الحقيقة أن ما حدث بالفعل في الثورات الاشتراكية وعلى رأسها الثورة الروسية أن البروليتاريا لم تصل إلى السيطرة على الدولة، بل إن ما سيطر عليها هي هذه البيروقراطية الممثلة في الحزب الشيوعي. ومرة أخرى يكون هيجل على حق.
مفهوم الدولة بين هيجل و ماركس:
على الرغم من أن ماركس قد وجه انتقادات لاذعة لفلسفة هيجل في الدولة ورفضها باعتبارها حلا لعلاج تناقضات المجتمع المدني البورجوازي، إلا أنه كان يستخدم معيارا هيجليا في حكمه على الدولة القائمة في عصره. فقد ذهب هيجل إلى أن الدولة تضم في نطاقها الحياة الاقتصادية، لكن باعتبارها المظهر والتجسيد الخارجي لروح الشعب وحياته الأخلاقية. أي أن الحياة الاقتصادية ليست هي الأساس أو البناء التحتي للحياة السياسية، بل العكس. وكل فلسفة هيجل في الدولة تهدف إلى جعل الدولة وتمثيلها لروح الشعب هي الأساس، والحياة الاقتصادية هي العنصر الثانوي، وإلى حماية الدولة من أن تكون مجرد أداة اقتصادية أو مظهر من مظاهر الحياة الاقتصادية. وطالما كانت الدولة هي التي تضم في نطاقها الحياة الاقتصادية وليس العكس، فهي عقلانية عند هيجل. أما ماركس فقد حكم على الدولة في عصره بأنها لاعقلانية، وذلك لأنها تحولت إلى مجرد وسيلة لتحقيق منافع اقتصادية خاصة وأداة في يد البورجوازية تستخدمها لخدمة مصالح جزئية. فالدولة التي عاصرها ماركس هي الصورة المعكوسة للدولة الهيجلية، إذ أصبحت الحياة الاقتصادية هي الأساس أو البناء التحتي والحياة السياسية مجرد مظهرٍ خارجيٍّ أو بناء فوقي. الدولة عند هيجل تكون عقلانية عندما تتحول الحياة السياسية إلى أن تكون تعبيرا عن قيم غير اقتصادية، أي عن روح الشعب وقيمه وحياته الأخلاقية، أما الدولة عند ماركس فهي غير عقلانية لأن الحياة السياسية ومعها القيم الإنسانية أصبحت تعبيرا عن قيم اقتصادية.
واعتقد ماركس أن الحل يتمثل في سيطرة البروليتاريا على الدولة. لكن ماذا ستفعل البروليتاريا بالدولة عندما تسيطر عليها؟ سوف تعمل على تحطيم الدولة البورجوازية القائمة وتلغي الطبقات والملكية الخاصة، أي سوف تقضي على سيطرة الاقتصاد على الدولة، سوف تحقق الدولة الهيجلية. وهذا هو المعنى الحقيقي لمقولة ماركس الشهيرة القائلة أن الفلسفة قد اكتفت حتى الآن بتفسير العالم، والمهم الآن هو تغييره. الحقيقة أن الماركسية تريد تغيير العالم حسب التفسير الهيجلي له. فدكتاتورية البروليتاريا هي تحقيق للدولة الهيجلية.
لكن التاريخ أثبت أن البروليتاريا لم تكن هي التي حققت مشروع الدولة الاشتراكية، فمن حققها هم مجموعة من السياسيين الثوريين الطموحين الذين تحولوا إلى هيئة بيروقراطية، وهم البلاشفة الروس، والذين أنشأوا حزبا لم يكن إلا جهازا بيروقراطيا لإدارة الدولة الجديدة. أي أن من حقق الاشتراكية بيروقراطية من نوع خاص، لا البروليتاريا. ومرة أخرى يكون هيجل على حق، فالموظفون المدنيون عنده هم الطبقة الكلية الممثلة لمصلحة الدولة والمنفذة لإرادتها العليا، وهؤلاء هم الذين حققوا جميع المشاريع الاشتراكية التي ظهرت في القرن العشرين.
فلسفة هيجل في الدولة في ضوء التاريخ :
لماذا قدم هيجل كل هذا النقد غير المسبوق لنظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي والليبرالية، وذلك في أوج العصر الليبرالي؟ وما السبب وراء الأهمية الكبيرة للدولة في فلسفته السياسية؟ ولماذا جعل الدولة هي المعالجة والمتجاوزة لتناقضات وسلبيات المجتمع المدني البورجوازي؟ ما السبب في هذا الاختلاف الحاد عن تراث النظرية السياسية الليبرالية في صورتيها الإنجليزية والفرنسية؟ الحقيقة أن هناك ظروفا تاريخية واجتماعية عديدة وراء ذلك. ونستطيع القول أن هذه الظروف تشكل في مجموعها ما يسمى بوضع التـأخر التاريخي لألمانيا.
لم تمر ألمانيا بمراحل التطور الاجتماعي والسياسي التي عرفتها إنجلترا وفرنسا، فقد ظل الإقطاع سائدا حتى القرن التاسع عشر، وظلت الأرستقراطية مسيطرة حتى أوائل القرن العشرين. ولم تعرف ألمانيا ثورات سياسية مثل التي عرفتها إنجلترا سنة 1648 وفرنسا سنة 1789، وظلت مفتتة على عدد كبير من الإمارات والدويلات والمدن المستقلة، ولم تعرف الوحدة السياسية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كما كانت البورجوازية الألمانية ضعيفة ومشتتة ولاءاتها عبر السلطات الملكية والأرستقراطية، أما الصناعة فكانت كذلك متأخرة ولم تعرف ألمانيا الثورة الصناعية إلا في منتصف القرن التاسع عشر. ووسط هذه الظروف التاريخية والاجتماعية الخاصة لم يكن من الممكن لهيجل أن يعتمد على الفكر السياسي الليبرالي لتأسيس نظرية سياسية، فالليبرالية، المرتبطة بالخبرات الاجتماعية والسياسية للبورجوازية، لم تكن لتناسب الوضع الألماني، والحقيقة أن الاعتماد على الليبرالية بدون توافر الأسس الاجتماعية لها كان سيظهر على أنه وعي زائف. ومن المعروف أن ماركس وإنجلز قد نقدا عددا من الليبراليين الألمان لنفس هذا السبب، وحكما على أفكارهم الليبرالية بأنها أيديولوجيا، وهذه هي الأيديولوجيا الألمانية التي وجها لها نقدا لاذعا. أما هيجل فلم يكن ليقع في مثل هذا الخطأ، ولذلك لم يعتمد على أي أفكار ليبرالية في تأسيس فلسفته السياسية.
كما لم يكن هيجل ليقع في خطأ إلحاق دور كبير للبورجوازية في نظريته السياسية، وكان على وعي بسلبياتها قبل ماركس بكثير، ولذلك فإن فلسفته في الدولة باعتبارها متجاوزة للمجتمع المدني ومعالجة لسلبياته تستند على وعي سياسي عميق بالوضع الاجتماعي الألماني من جهة، وبالخبرات السياسية للبورجوازية الإنجليزية والفرنسية من جهة أخرى. ومن هنا وجه نقدا حادا لمجتمع مدني بورجوازي من جهة، ولثورة بورجوازية هي الثورة الفرنسية من جهة أخرى. فهو يريد أن يقول أن ألمانيا لا يناسبها ليبرالية إنجليزية ولا ليبرالية فرنسية، ومن هنا يضع حلا مختلفا بفلسفته في الدولة، التي يريد منها في نفس الوقت أن تحل محل الفلسفات السياسية الإنجليزية والفرنسية المستندة على الخبرة التاريخية للبورجوازية.
يذهب ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي إلى أنه عندما تُفتقد البورجوازية العصرية في مجتمع ما، أو تحجم عن العمل المنتظر منها، يصبح العمل من مسؤولية الطبقة التي ستحل محلها. والمقصود أن البورجوازية هي التي تطور أساليب الإنتاج وتنشئ صناعة وأسواقا وتعمل على تحقيق بعض الحريات الفردية والحقوق السياسية. ويريد ماركس وإنجلز من البروليتاريا أن تحل محل البورجوازية في تحقيق هذه الأشياء في المجتمعات التي لم تعرف بورجوازية قوية. والحقيقة أن ألمانيا في عصر هيجل، كما كانت أيضا في عصر ماركس وإنجلز، لم تعرف بورجوازية قوية، إلا أن هيجل لا يلحق المهام التي كان يجب أن تقوم بها بالبروليتاريا أو بأي طبقة أخرى، بل يجعلها مهام الدولة.
والحقيقة أن الدولة أثبتت أنها هي الفاعل الرئيسي في المجتمعات التي افتقدت بورجوازية قوية، مثل المجتمع الألماني نفسه في القرن التاسع عشر والمجتمعات النامية في القرن العشرين. أليس الدور الذي لعبته الدولة في هذه المجتمعات دليلا على صدق حدس هيجل حول الدولة ودورها الجديد؟ لقد كان نقل هذه المجتمعات إلى الحداثة والتصنيع والخروج عن تخلفها السابق مهام خارجة عن قدرات وإمكانيات بورجوازياتها ومجتمعاتها المدنية، ولذلك قامت الدولة بهذه المهام.
ويتمثل جانب آخر من الجوانب التي يتفوق فيها فكر هيجل السياسي على فكر ماركس في موقفهما من البورجوازية. فعلى الرغم من أنهما يوجهان انتقادات عديدة لها، ويضع كل منهما بديلا عنها، مثل الدولة في حالة هيجل والثورة الاشتراكية في حالة ماركس، إلا أن هيجل لم يذهب إلى التخلي عن البورجوازية نهائيا، فالحل عنده يتمثل في الدولة التي تتجاوز البورجوازية ومصالحها الاقتصادية الجزئية الخاصة، والتي تضمها في وحدة أعلى، أما ماركس فقد ذهب إلى ضرورة القضاء على البورجوازية نهائيا وعلى الطبقات كلها للخروج من دائرة المصالح الجزئية كلها. البورجوازية تظل موجودة في ظل الدولة الهيجلية، لكن في إطار من المصلحة الكلية، وهذا هو ما حدث في الغرب خلال القرن العشرين، فقد استطاعت الدولة هناك التوفيق بين الرأسمالية والطبقة العاملة في ظل نظام دولة الرفاهية والديمقراطية الاجتماعية.
إن ميدان المجتمع المدني كما يذهب هيجل هو ميدان الفردية والجزئية، وهي أشياء سلبية، لكن ما هو إيجابي فيه هو أنه ميدان الحقوق الفردية والحقوق السياسية، فالفرد في المجتمع المدني يلقى اعترافا بفرديته وخصوصيته وبمصلحته الشخصية في الحياة والملكية وحفظ الذات، بالإضافة إلى حقوق سياسية في اختيار الحكومات. والحقيقة أن البورجوازية هي التي عملت على تحقيق هذه الإنجازات في صراعها مع الإقطاع والأرستقراطية، وذلك باعتراف ماركس نفسه. لكن ماركس لم يدرك خطورة التضحية بالبورجوازية، فالقضاء عليها قبل تحقيق مبادئ مجتمعها المدني يعني القضاء على هذه المبادئ نفسها وعلى إمكانية تحققها. وهذا هو ما حدث في المجتمعات التي طبقت الاشتراكية، فقد طبقتها في مقابل التضحية بالحقوق الليبرالية البورجوازية. لقد كان ماركس يصر على ضرورة تحقيق المبادئ الليبرالية البورجوازية قبل الثورة الاشتراكية، إلا أنه مال في مؤلفاته اللاحقة إلى الاعتقاد في أن الثورة الاشتراكية سوف تحقق تلقائيا هذه المبادئ، لكن هذا لم يحدث.
والحقيقة أن الدولة في البلدان الغربية في القرن العشرين قد حملت الطابع الهيجلي بوضوح. فعلى العكس من توقعات ماركس وإنجلز، أيدت الطبقات العاملة دولها في الحربين العالميتين بدلا من أن تجد في الحرب فرصة للاتحاد مع بعضها ضد هذه الدول. فقد كان ماركس وإنجلز يتوقعان حدوث تحالفات طبقية عابرة للقوميات في حالة دخول النظام الرأسمالي في حرب شاملة مع بعضه البعض، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما. كما أن نظرة هيجل للحياة السياسية أثبتت أنها هي الأصدق. فعلى الرغم من أن الشعوب قد حصلت على السيادة إسميا، إلا أنها لا تمارس هذه السيادة بطريقة مباشرة، وهي الطريقة التي انتقدها هيجل، بل عبر مؤسسات وسيطة مثل الأحزاب والنقابات واتحادات العمال وجماعات الضغط. كما أصبحت الدولة تركيبا مندمجا من الأحزاب والجماعات المنظمة والموظفين المدنيين والبيروقراطية السياسية والسياسيين المحترفين. فالممارسة السياسية هي ممارسة جماعات سياسية منظمة لا أفراد منعزلين، والمشاركة السياسية هي مشاركة فئات وتنظيمات سياسية، وهي صورة للدولة وللحياة السياسية تتفق إلى حد كبير مع الصورة الهيغلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق