بعنوان "مفهوم الحرّية في الإسلام وفي الفكر الغربي. رؤية بانوراميّة.
3 الحرية والتجربة الغربية الحديثة:
ممّا لامناص منه أنّ مفهوم الحرية من المفاهيم الفلسفية الأكثر جمالية ووجدانية، فلهذا السبب اتخذت
دائماً شعاراً للحركات التحررية والثورية ومختلف المنظمات الحقوقية في العالم، باعتبارها قيمة إنسانية
سامية تنطوي على مسوغات أخلاقية واجتماعية وأخرى وجدانية وجمالية. إلا أنها تعد من المفاهيم الفلسفية
الأكثر جدلاً واستشكالاً.
بالنظر إلى تاريخ المجتمع الإنساني، مروراً بكلّ مراحله، نجد أنّ حرية الفرد تتعارض مع مصلحة
الجماعة، بل كانت الجماعة لا يقوم نظامها ولا تصون مصالحها إلا على حساب تقييد حرية الفرد، لأنّ الفرد
البشري قد ارتقى من مستوى الحيوان المفترس إلى مستوى الإنسان.
-1-3 الحرية والديمقراطية عند الإغريق:
يربط أرسطو الحرية بالاختيار فيقول: «الاختيار ليس عن المعرفة وحدها، بل أيضاً عن الإرادة...،
والاختيار اجتماع العقل والإرادة معاً ». بينما الحرية عند سقراط تعني فعل الأفضل، وهذا يفترض معرفة ما
هو الأحسن، فاتخذت الحرية معنى التصميم الأخلاقي وفقاً لمعايير الخير. وأمّا عند أفلاطون، فتعني الحرية
وجود الخير، والخير هو الفضيلة، والخير محض، ويراد لذاته، ولا يحتاج إلى شيء آخر، والحر هو من
يتوجه فعله نحو الخير 38 .
إنّ ظهور الفلسفة داخل الديمقراطية الأثينية لم يكن ظهوراً طبيعياً وسلبياً، وإنّما كان ظهوراً متوتراً
وملتبساً تعتوره ظروف خاصة، وكانت تجربة «سقراط » شاهدة على ذلك التوتر والتنافر بين الفلسفة
والديمقراطية، بالرغم من أنّ سقراط كان يجسد دوماً المواطن النموذجي، ويشكل بدوره الصورة الحقيقية لما
ينبغي أن يكون عليه الفرد داخل المدينة. إنّ هذا الحدث التاريخي يبينُ أنّ هامش الحرية الذي كان يسمح به
الفضاء الديمقراطي الأثيني لم يكن يتلاءم ومقدار الحرية التي يتطلبها التفكير الفلسفي. لهذا وضعت حدوداً
للفلسفة، وأدانت كلّ من تجرأ على تجاوز تلك الحدود. لقد عارضت الديمقراطية اليونانية سقراط وحاكمته،
لأنّه تجرأ على وضع المبدأ المؤسس لها موضع تساؤل ونقد وشك، وذلك بتساؤله عن الغاية الحقيقية من
-37 محمد همام، مرجع مذكور، ص 63
-38 عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط. 1، 1984 ، ص 458
الفعل السياسي داخل النظام الديمقراطي، وهل يجب أن يتأسس هذا الفعل على الرغبة؟ وهل تستطيع السياسة
الديمقراطية أن تؤديَ إلى إشباع الرغبة الإنسانية في الحياة؟ 39 .
فالديمقراطية الأثينية لم تستطع أن تستوعب الفيلسوف سقراط، وترويَ عطشه للحرية، لأنّها أسيرة
لتناقضات لم تستطع أن تصعدها عبر عقد مصالحة بين قطبيها، بل انتهت إلى تغليب طرف على طرف آخر،
فحفرت قبرها بيدها لتنتهيَ فيه مقبورة. ويتعلق الأمر بالتناقض بين «مطلب الجسد » و »مطلب الروح »، بين «الرغبة » و »الخير »، بين «المصلحة الخاصة » و »المصلحة العامة ». بين «السفسطة » و »الفلسفة ». وهذا التوتر بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، هو الذي سيكون في أساس الإشكال السياسي الملهم للتجربة الديمقراطية في العصر الحديث 40 .
ويعبر جون جاك شوفالييه عن الحرية في المدن اليونانية بأنّها «ذات الطابع الخاص تمارس ضمن
حدود الاحترام الواجب للحكام والقوانين: لاسيما تلك التي تؤمّن الدفاع عن المضطهدين والتي بالرغم من
عدم تدوينها، تلحق بالذي يخرقها احتقاراً كليّاً. أمّا الحرية السياسية فإنها ليست مجرد قدرة على الفعل. إنّ
ممارستها الفعلية إلزامية، أخلاقياً على الأقل: إنّ الأثينيين هم الوحيدون الذين يعتبرون من لا يهتم بشؤون
المدينة ليس مجرد شخص كسول وعديم الطموح، وإنّما هو شخص غير نافع وغير جدير بلقب مواطن
نبيل 41 .
ويُعتبر أرسطو أول من ميز بين وجهي الحرية، عندما حدد ذلك في كتابه «السياسة « :» الحرية ذات
وجهين: الوجه الأول أن نكون بالتناوب حكاماً ومحكومين، والوجه الآخر أن يكون لكل فرد حرية التصرف
كما يشاء، وقد تجلت فكرة الحرية في التعبير، عن الحق الطبيعي الذي صوره الشاعر المسرحي سوفوكل
) 406-494 ق.م( في إحدى مسرحياته على لسان إنتيغون Antigone التي قامت بدفن شقيقها القتيل، رغم
منع الملك الطاغية «كريون Créon » بسبب خيانته في ساحة القتال، بقولها: لم أكن أعلم أنّ كائناً مثلك له
القوة الكافية لمخالفة التعاليم السماوية المكتوبة، والتي لن تتغير، فهي لم توجدْ لا اليوم ولا الأمس، وليس
لأحد أن يعلم متى كانت، فهي خالدة لا تموت أبداً 42؟» .
ويعتبر بركليس أعظم الخطباء المتكلمين باسم الديمقراطية الأثينية، وفي خطابه المعروف باسم خطبة
إسبرطة عام 430 ق.م، قال في تصوير هذه الديمقراطية: «إنّما تُسمى حكومتنا ديمقراطية لأنّها في أيدي
الكثرة دون القلة، وإنّ قوانيننا لتكفل المساواة في العدالة للجميع، في منازعاتهم الخاصة، كما أنّ الرأي
-39 محمد أندلسي، الأزمنة الحديثة، عدد 5، )نحو إعادة استشكال فلسفي لمفهوم الحرية في ضوء الثورات الربيعية(، ص 97
-40 نفسه، ص 98
-41 جون جاك شوفالييه، أمهات الكتب السياسية، من مكيافيلي حتى أيامنا، آرمان كولان، باريس، ط. 4، 1954 ، ص 23
-42 عيسى بيرم، الحريات العامة...، مرجع مذكور، ص ص 76 - 77__
العام عندنا يرحب بالموهبة ويكرمها في كل عمل يتحقق، لا لأي سبب طائفي، ولكن على أسس من التفوق
فحسب، ثم إننا نتيح فرصة مطلقة للجميع في حياتنا العامة، فنحن نعمل بالروح ذاتها في علاقاتنا اليومية
فيما بيننا. ولا يوعزنا ضد جارنا أن يفعل ما يحلو له ولا نوجه إليه نظرات محنقة، قد لا تضر، ولكنها غير
مستحبة. ونحن نلتزم بحدود القانون أشد التزام في تصرفاتنا العامة، وإن كنا صرحاء ودودين في علاقاتنا
الخاصة. فنحن ندرك قيود التوقير: نطيع رجال الحكم والقوانين، لاسيما تلك القوانين التي تحمي المظلوم،
والقوانين غير المكتوبة التي يجلب انتهاكها عاراً غير منكور. ومع ذلك فإنّ مدينتنا لا تفرض علينا العمل
وحده طيلة اليوم. فما من مدينة أخرى توفره من أسباب الترويح للنفس، من مباريات وقرابين على مدار
السنة، ومن جمال في بيئتنا العامة، يشرح الصدر، ويسر العين، يوماً بعد يوم، وفوق هذا فإنّ هذه المدينة
من الكبر والقوة بحيث تتدفق عليها ثروة العالم بأسره، ومن ثم فإنّ منتجاتنا المحلية لم تعدْ مألوفة لدينا أكثر
من منتجات الدول الأخرى.
وإذا كانت قلة منا هم الذين يرسمون أية سياسة، فإنّنا جميعاً قضاة صالحون على هذه السياسة. وفي رأينا
أنّ أكبر معوق للعمل هو نقص المعلومات الوافية، وليس النقاش ذاته ».
ويستخلص الأستاذ محمود محمد طه من خطبة بركليس هذه المبادئ التالية التي وصلت إليها الديمقراطية الحديثة فكراً وتصوراً، وهي:
- الاعتراف بالمساواة الأساسية بين الناس.
- قيمة الفرد فوق قيمة الدولة.
- الحكومة خادمة الشعب.
- حكم القوانين.
- الاسترشاد بالعقل، والتجربة، والخبرة.
- حكم الأغلبية، مع تقديس حقوق الأقلية.
- الإجراءات أو الوسائل الديمقراطية تُستخدم لتحقيق الغايات في الدولة الديمقراطية 43 .
-2-3 علاقة الحرية بالسلطة:
مادام الإنسان جزءاً من مجتمع فقضيته هنا هي قضية الالتزام بهذا المجتمع والجماعة والمكونة له،
كنتيجة حتمية للعلاقة التي تربطه بها، لأنّ الإنسان ليس حيواناً اجتماعياً ومفكراً فحسب، بل لديه أهواء
-43 المرجع السابق، ص 179
وحاجيات ورغبات جامحة، ولديه كما يقول كانط مزاج اجتماعي يدفعه إلى الرغبة في توجيه كلّ شيء على
هواه 44 . فالحياة الإنسانية في حاجة إلى النظام والتنظيم، وافتراض الحرية المطلقة للجميع معاً افتراض خارج عن التصور والتفكير، لأنّ نتائجه ستقود إلى الفوضى المطبقة وانتشار الشر...، وبذلك لا يمكن للحرية أن تتوفر إلا في ظلّ النظام، ولا يمكن إقامة نظام بدون سلطة. فالسلطة السياسية هي الملجأ الذي يقبل الجميع
اللجوء إليه والمشاركة في بنائه وتشييده.
-1-2-3 تعريف السلطة:
السلطة حسب جيرهارد ليبهولز: «القدرة على فرض المرء ذاته - بطريقة مباشرة أو غير مباشرة،
على كائنات بشرية »، بينما يعرفها جان مينو: «السلطة هي القدرة على التنظيم في ضوء الأوامر المصدرة .»
وهي بالتالي نوع من النفوذ الذي يمارسه فرد أو مجموعة من الأفراد على غيرهم داخل الجماعة. فيلجأ
البعض منهم إلى استخدام مفاهيم متنوعة للسلطة، كالقدرة والقوة والتأثير، والسيطرة والنفوذ، وبالتالي كلها
تؤدي إلى المدلول نفسه 45 .
ويخلص عيسى بيرم إلى أنّ السلطة هي القدرة على السيطرة، وفي تنوعها تشمل العلاقات القائمة داخل
الجماعات التي يتكون منها المجتمع الكلي )السلطة الاجتماعية، السلطة الدينية، السلطة الاقتصادية...(، إلى
جانب السلطة الأساس، وهي السلطة السياسية 46 .
ويعرّف جان مينو السلطة السياسية بأنّها: «أرفع السلطات الاجتماعية التي تحكم المجتمعات الخاصة
في المجتمع المدني. فالسلطة السياسية هي التي تدير المجتمع المدني بأكمله، وتتدبر تنظيم العلاقات بين
الجماعات العديدة والمتنوعة التي تؤلفه، بشكل يكفل لها بقاءها مندمجة بالمجموع الكلي، ويوفر لها الطواعية
اللازمة لمواجهة التحولات الداخلية والخارجية. والاعتراف بهذا الدور للسلطة السياسية يعني تأكيد سيادة
هذه السلطة...، أي استقلال السلطة السياسية إزاء أيّة سلطة اجتماعية خارجة عن نطاق المجتمع المدني،
وأولويتها على كلّ سلطة داخل هذا المجتمع، في آنٍ واحد 47» . ويستنتج عيسى بيرم من هذا التعريف أنّ
السلطة تكون شرعية إذا ما كانت قائمة على رضا المحكومين أو الخاضعين لها، أمّا إذا كان مصدر السلطة
هو القوة والسيطرة فيُقال إنّ السلطة فعلية، ولا تكون الدولة بدون هذه السلطة القسرية التي يدعوها ابن
خلدون الحكم بالقهر 48 .
-44 جان وليم لابيار، السلطة السياسية، ترجمة: إلياس حنا إلياس، منشورات عويدات، باريس، ط. 3، 1983 ، ص 8
-45 عن: عيسى بيرم، مرجع سابق، ص 57
-46 المرجع السابق، ص 57
-47 جان وليم لابيار، مرجع سابق، ص 89 - 90
-48 عيسى بيرم، مرجع سابق، ص 57
-2-2-3 ما بين الحرية والسلطة:
يرى هيغل أنّ الدولة هي المكان الحقيقي لازدهار الحرية الحقيقية وليس المجردة، ليقول: «كون
الإنسان في ذاته ولذاته لم يوجد ليستعبدَ، هذه حقيقة ندركها كضرورة عقلية فقط، ولكي نكف عن إدراكها
كمثل مجرد علينا أن نعترف بأنّ فكرة الحرية لا توجد بالفعل إلا في واقع الدولة ». ويستخلص عيسى بيرم
من كلام هيغل وفلسفته أنّه [يوفّق] بين هدف الفرد وهدف الدولة ويضع الحرية في نطاق الدولة لتصبح في
صيرورة المجتمع والتاريخ، وحتى لا تتعارض مع مصالح الأفراد يجب أن تكون في طور النضج لتحافظ
على الحرية الشخصية ولا تلغيها 49 .
بينما هارولد لاسكي يرى أنّه لا يمكن أن يتحقق التوازن بين الحرية والسلطة إلا بالحد من السلطة
المطلقة، فيقول: «وواجبنا هو أن نحقق التوازن بين الحرية التي نحتاجها والسلطة التي لا غنى عنها.
ذلك التوازن الذي يبعث لدى الرجل المتوسط إحساساً واضحاً بأنّ لديه مجالاً فسيحاً للتعبير المستمر عن
شخصيته 50» .
ويرى الباحث مصطفى أبو زيد فهمي أنّ العلاقة بين الحرية والسلطة تكمن في حل التناقض بينهما،
وذلك بتغليب كفة الحرية، يقول: «إنّ حل قضية التناقض بين السلطة والحرية يقوم على أنّ الغلبة دائماً
للحرية، وذلك لأنّ الفرد يعتبر دائماً أنه الغاية من وجود السلطة والمحافظة على حقوقه الطبيعية هو
أهم واجبات الدولة... ويجب على السلطة أن تكون محايدة وغير مستبدة، إذ لا يعقل أن يخضع الإنسان
لإرادة مستبدة ». وبدورها تناقش الدكتورة سعاد الشرقاوي هذه العلاقة في قولها «إنّ الحرية والسلطة ليستا
متناقضتين وإنما متكاملتان، وبدون نظام لا توجد حرية. والحرية يجب أن تتعايش مع القانون والنظام، وهذا
التعايش يتسم بالجدلية 51» .
-3-2-3 الصراع بين السلطة والحرية:
إنّ الصراع بين الحرية والسلطة هو السمة الأوضح لهذه العصور التاريخية التي ألفناها منذ القدم، منذ
عصر اليونان وروما القديمة، ولاسيما إنجلترا. ولكنّ النزاع قديماً كان مواجهة بين صاحب السيادة ورعاياه
أو بعض الطبقات من رعاياه. لقد كنا نفهم من كلمة حرية معنى الحماية من طغيان أصحاب السيادة. كان
الحكام والمحكومون يتخذون مواقع عدائية ضرورة، وسواء كان الحكم بيد فرد واحد أو بيد قبيلة أو فرقة،
فإنّهم جميعاً قد اكتسبوا سلطتهم إمّا بالوراثة أو بالغزو، ولكنّهم لا يستمدونها أبداً من الشعب، وما كان أحد
يجرؤ، وربما حتى يرغب، في منازعتهم سلطتهم مهما تكن الاحتياطات التي توجب أخذها ضدّ الممارسة
-49 عيسى بيرم، مرجع سابق، ص 60
-50 هارولد لاسكي، الحرية في الدولة الحديثة، ط. 2، باريس، 1978 ، ص 27
-51 عيسى بيرم، مرجع سابق، ص 61
التعسفية التي أتوها سابقاً. كانت سلطة الحكام تستشعر ضرورة وغاية في الخطورة في الآن نفسه: مثل
سلاح يمكن أن يرتدّ بسهولة على رعاياهم أو على أعدائهم في الخارج 52 .
ويعتبر جون ستيوارت ميل أنّ للحرية حدوداً يمكن تحقيقها عبر سبيلين: أولاً: «الحصول على الاعتراف
ببعض الامتيازات التي تُسمّى حريات أو حقوقاً سياسية، والتي لا يمكن للحاكم انتهاكها دون أن يخلف بواجبه
ويثير مقاومة خاصة أو عصياناً عاماً يكون حينئذٍ مبرراً تبريراً تاماً ». وثانياً: «ضرورة إقامة وسائل
الردع الدستورية. إنّ اتفاق المجموعة أو أيّ جسم اجتماعي قادر على تمثيل مصالحها- يصبح هو الشرط
الضروري لبعض الأفعال ذات الأهمية القصوى لوجود الحكامة ». ويضيف ستيوارت ميل أنّه «يأتي على
الناس حينٌ من الدهر يكفون فيه عن الاقتناع بأنّ قانوناً طبيعياً يمكن أن يخول للحكام سلطة مستقلة مناقضة
لمصالحهم الذاتية، ووجب على مختلف قضاة الدولة أن يتخذوا منافحين عن الناس وممثلين لهم يمكن خلعهم
متى شاؤوا. ويبدو أنّ ذلك كان هو الطريقة الوحيدة للتوقي الكامل من تجاوزات السلطة الحاكمة. وشيئاً
فشيئاً أضحى هذا الاستحقاق هذه الحاجة الجديدة لحكام منتخبين ووقتيين- أضحى الموضوع الرئيس لجهود
الحزب الديمقراطي في كل مكان، حيث يوجد مثل هذا الحزب، وأخذ يعوض بشكل واسع المجهود القديم
في الحد من سلطة الحكام. وبينما كنا نناضل من أجل وضع سلطة الحكام تحت وصاية المحكومين، ذهب
بعضهم إلى أننا أعرنا اهتماماً أكثر من اللازم لموضوع الحد من السلطة نفسها. وكانت تلك حيلة فقط حين
صارت مصالح الساسة متعارضة مع مصالح الشعب... 53» .
ويضيف ستيوارت ميل في شأن استغناء الشعوب عن الحد من سلطتها على نفسها: «غير أنّه في إطار
النظريات السياسية والفلسفية وحتى في نطاق الأفراد قد يكشف النجاح من أخطاء وآفات كان قد حجبها
الفشل عن العيان. ففكرة استغناء الشعوب عن الحد من سلطتها على نفسها يمكن أن تبدو بديهيّة عندما لا
يكون لحكومة ديمقراطية وجود بَعدُ إلا في أحلامنا وفي كتب الحكايات. لكنّ هذه الفكرة لا يمكن، نتيجة
لذلك، أن نقلل من شأنها بسبب الانحرافات العارضة للثورة الفرنسية التي من أخطرها فعل أقلية مغتصبة
لا تجد شرعية في المؤسسات الديمقراطية، وإنّما في تفجرات ثورة مفاجئة، وهو جاء ضد الاستبداد .»
ويضيف قائلاً أيضاً: «ليس أبناء الشعب الذين يمارسون السلطة هم دائماً أنفسهم الذين تمارس عليهم السلطة.
والاستقلال الذاتي السياسي، موضوع النقاش، ليس هو حكم كل فرد بنفسه، ولكنّه حكم كل فرد بواسطة كل
الآخرين. وأكثر من ذلك، فإنّ إدارة الشعب تعني عملياً إرادة الأغلبية أو أولئك الذين يستطيعون أن يفرضوا
أنفسهم كأغلبية. فمن المحتمل إذن أن ينزع أبناء الشعب إلى قهر جزء من ذلك الشعب. أليس هذا أيضاً إسرافاً
في استعمال السلطة يجب التوقي منه بالطريقة نفسها التي نتوقى بها من الإسراف الآخر؟ لهذا السبب يصبح
-52 جون ستيوارت ميل، في الحرية، ترجمة: محمد بن محمد الخراط، ص 6
-53 نفسه، ص 7
من المتأكد أن نجد من سلطة الحكومة على الأفراد حتى في حال كان من يبسط يده على الحكم محل مساءلة
دائمة أمام المجموعة، يعني أمام الحزب الأقوى 54» .
ويقول ميل أيضاً: «إنّ الاحتماء من استبداد الحكام لا يكفي، وإنّما يجب أن نحتميَ أيضاً من استبداد
الرأي والشعور الطاغي وميْل المجتمع إلى أن يفرض بوسائل أخرى غير العقوبات الجزائية- أفكاره
الخاصة وممارساته الخاصة باعتبارها قواعد سلوك على أولئك الذين يخالفونه الرأي أن يتبعوها، ويجب أن
نحتميَ أيضاً من جنوح المجتمع إلى عرقلة التطور في كل فردية أو على الأقل منعه لتشكلها- لا تتواءم مع
عاداته وأن نحتميَ من تكييفه لكل الخصائص وفق نموذج مشكّل سلفاً 55» .
ويحاول نعوم تشومسكي أن يقارب السلطة من خلال نقد السلطة التقليدية فيقول: «إننا نعيش من جديد
في عصر مماثل، حيث تهب ريح ثورية تعصف بالعالم الثالث المزعوم، وتوقظ من غفلتها كتلاً هائلة من
الأفراد وتحررها من تبعيتها وولائها للسلطات التقليدية. يميل البعض إلى الاعتقاد بأنّ المجتمعات الصناعية
قد أضحت هي الأخرى مهيأة لتعيش هذا التحول الثوري. يؤدي خطر حصول تحولات ثورية إلى تحرك آلة
القمع والاضطهاد. والمؤشرات الدالة على ذلك بديهية وتظهر في صور مختلفة، كما هو الحال في فرنسا
والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة...، لذا من الطبيعي جداً أن نفرغ الجهد من أجل تجريد النظر في
مشكل الحرية الإنسانية، والتوجه باهتمام وعناية شديدين صوب فكر عصر سابق حيث خضعت مؤسسات
اجتماعية قديمة لتحليلٍ نقدي وتعرضت لهجمات متكررة...، سيظل هذا الأمر طبيعياً ومناسباً متى حرصنا
على استحضار التنبيه القوي الذي أطلقه شلينغ: «لم يُخلق الإنسان للتأمل فحسب وإنّما للعمل أيضاً 56» .
ويؤكد تشومسكي في ذهابه مع فيلهيلم فون هومبلدت ) Wilhelm Von Homboldt ( إلى أنّه لا
شيء يجعل الإنسان ناضجاً للحرية وتقبلها سوى الحرية نفسها، وخاصة إذا ما كان الاعتراف بهذه الحقيقة
بعيداً عن الذين يوظفون مقولة غياب النضج كذريعة لتبرير القمع والاضطهاد ضد الناس بلا حدود. يقول
تشومسكي: «عدم الأهلية للحرية لا يمكن أن تنتج إلا عن نقص في القوة الأخلاقية والفكرية، والزيادة في
هذه القوة تُعَدُّ الوسيلة الوحيدة لتجاوز هذا النقص، بيد أنّ هذا يفترض استعمال هذه القوة، وهذا الاستعمال
يفترض الحرية التي توقظ الفعالية التلقائية. صحيح أنّه إذا ما قمنا بفك قيود شخص لا يشعر إطلاقاً بأنّه مقيد،
فمن البديهي أنّه لا أحد سيسمي هذا الفعل عملاً تحررياً. لكن لا يوجد إنسان في العالم مهما بلغت درجة
إهماله من طرف الطبيعة وكيفما كانت نسبة الانحطاط التي أوقعته فيها الظروف- يكون هذا صحيحاً بالنسبة
إليه حُيال كل القيود التي تكبله وتأسره. فلنهرعْ إلى تكسيرها الواحدة تلو الأخرى كلما استيقظ الإحساس
بالحرية في قلوب الناس، وسنعجل بمجيء التقدم في كل مرحلة. إنّ أولئك الذين لا يدركون هذا الأمر يمكن
-54 ستيوارت ميل، مرجع سابق، ص 8
-55 نفسه، ص 8
-56 نعوم تشومسكي، )الحرية واللغة، ترجمة حسن العمراني(، الأزمنة الحديثة، عدد 5، ص 11
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق