أر سي سبرول 19
محاضرة عن جون لوك
في المحاضرات القليلة
السابقة تكلّمنا عن فكر القرن السابع عشر والذي سبق أن وصفناه على أنه "عصر
المنطق" أو حركة التي تدعى العقلانيّة.
إن كان القرن السابع
عشر عصرَ العقلانيّة في تاريخ الفكر الغربي، فإننا نعتبر القرن الثامن عشر عصر
التجريبيّة. ألاحظ أن هذا المصطلح "تجريبيّة" ليس مألوفاً لدى الجميع،
وليس واحداً من تلك المصطلحات العاديّة التي نستعملها في أحاديثنا اليوميّة، لكن
الجدال القائم بين فلاسفة القرن الثامن عشر، لا سيما في بريطانيا العظمى
والعقلانيين القاريّين في القرن السابع عشر كان أساساً جدالاً حول نظريّة المعرفة.
سبق أن رأينا أن
نظريّة المعرفة هي علم المعرفة. غالباً وبما أني ممثّل ومدافعٌ عمّا أسمّيه
المسيحيّة العقلانيّة، عليّ أن أسمع مراراً انتقاداً لكوني صاحب مذهب عقليّ، لكني
أسارع دائماً إلى الإشارة إلى وجود فرقٍ بين كون المرء عقلانياً وصاحب مذهبٍ
عقليّ. يمكن الفرق في التعريف، فما إن تضيف بعض الأحرف إلى نهاية أيّ كلمة عاديّة
حتى تدخل إلى حياة جديدة ورؤية كونيّة جديدة. وكما أقول، يوجد فرق بين كون المرء
إنساناً، وكونه إنسانيّاً.
إن قلت إن الكنيسة
عقلانيّة، فهذا لا يعني أني أعتنق مذهب العقليّة، أو أني صاحب مذهب العقليّة.
لكن هذا مجرّد جزء من
المشكلة، لأنه تمّ استعمال المصطلح العقلانيّة بأكثرَ من طريقة واحدة في ثقافتنا.
في الواقع، أشير إلى
ايتعماله على الأقلّ بطريقتين مختلفتين تماماً. الطريقة الأولى هي الطريقة التي
رأيناها سابقاً، وهي تشير إلى فلسفة تعطي الأولويّة، أي التشديد والتوكيد على
الذهن والاستنتاج المنطقي باعتبار أنهما الطريقة الرئيسيّة والأهم لنتوصّل إلى
معرفة الحقيقة، خلافاً للتجريبيّة التي تعلّم أن الطريقة الرئيسيّة لتوصّلنا إلى
معرفة الحقيقة لا تتمّ من خلال الاستنتاج المنطقي أو التخمين الفكري، وإنما من
خلال العمل على المعطيات البحتة والوقائع التي نصادفها باختبارنا الحسّي التجريبي
هو من يقول إنه يتعلّم عبر النظر والسمع والتذوّق واللمس، إلى آخره.
في هذا الصدد، لم يكن
التجريبيون غيرَ عقلانيّين، ولم يعترضوا على الاستعمال الصحيح للمنطق. بدلاً من
ذلك، إنهم يقولون ببساطة إنه في عمليّة المعرفة، طريقة اكتساب المعرفة تتمّ أولاً
م خلال الاختبار. ما زلنا نملك عقولاً، وعلى العقول أن تتفاعل مع المعلومات
والمعطيات التي نستمدّها من حواسّنا، لكن العقل لا يحتلّ المرتبة الأولى في ترتيب
اكتساب المعرفة، وإنما الحواس هي الأولى في ترتيب اكتساب المعرفة.
ثمّة طريقة أخرى
لاستعمال مصطلح العقلانيّة في ما يتعلّق بمسألة المصدر الأساسي للحقيقة.
يؤمن المسيحي بأنه
على الرغم من أن إيماننا عقلانيّ، إلا أن المصدر الأساسي لمعرفتنا وللحقيقة هو
الإعلان الإلهي، بحيث إن الطريقة الأسمى للمعرفة تقضي بتلقي معلومات من الله نفسه.
إن مفكّري القرن
الثامن عشر الذين تبنّوا التجريبيّة، على الأقل البعض منهم، كانوا يدعون أيضاً
عقلانيين، ليس لأنهم رأَوا أولويّة المنطق على الحواسّ، وإنما لأنهم أرادوا حدّ
فهمهم للدين بما يمكن معرفته ببساطة عبر المنطق الطبيعي والتأمّل في الاختبار الذي
نصادفه في الكون، وليس عبر الاعتماد على مصدرٍ فائق للطبيعة للإعلان كما نجد في
الكتاب المقدّس.
إذاً، مدرسة
المفكّرين تلك تدعى أيضاً أحياناً العقلانيّة، ما يعني أن بلك المعرفة ليست مبنيّة
على أساس نوعٍ من الإيمان يمضمون إعلانٍ نتلقّاه من الله، وإنما أي معرفة نكتبها
عن الله محصورة بالمنطق الطبيعي والعلم واكتشاف ما يمكن في المجال المنطقي والعادي
للمعرفة.
توجد أيضاً طريقة
ثالثة لاستعمال مصطلح العقلانيّة، وأنا سأكتفي بذكرها بين هلالين، وهي حين نتكلّم
عن العقلانيّة على أنها نظريّة فلسفيّة، نرجع إلى حرحة القرن التاسع عشر حيث كان
فريدريك هيغل المفكر البارز، واعتبر أن الواقع كلّه هو ظهور للـ"منطق"
بين هلالين.
فبالنسبة إليه، يوجد
فعلاً منطقٌ إلهي، والمنطق بحد ذاته يصبح الله.
حين أتكلّم عن
المسيحيّة العقلانيّة فأنا لا أقصد أيّاً من تلك الأمور الثلاثة. أنا أقول ببساطة
إن مضمون الإيمان المسيحي مفهوم وترابط منطقيّاً ويمكننا فهمه بعقولنا. أما الآن
فلنعطِ بعض الاهتمام لهذه الحركة التي ظهرت في القرن الثامن عشر والتي نسمّيها
"التجريبيّة".
كان يوجد العديد ن
المفكّرين المهمّين في هذه الفترة، لكن طبعاً أهم مفكّر من بين المفكّرين الأوّلين
في هذه الحركة هو جون لوك. ربما سمعتم بـ جون لوك حتى إن لم تسمعوا شيئاً عن تاريخ
الفلسفة الغربيّة، لأنه وإلى جانب أمورٍ أخرى، كان لوك مهتمّاً جداً بالفلسفة
السياسيّة وبالنظريّة السياسيّة، وجزء كبير من فكره حول كيفيّة تأسيس الحكومات
وتشكيلها كان له تأثير كبير على الآباء المؤسّسين للجمهوريّات الأمريكيّة كما
توماس جيفرسون.
كانت نظريّة لوك عن
الحكومة التمثيليّة وحكومة الضوابط والتوازنات هي التي كان لها وقعٌ كبير في القسم
الأخير من القرن الثامن عشر. لكني لن أغوص في فلسفته السياسيّة، لأنه مهمّ جداً
أيضاً في تاريخ الفكر النظري، بفضل نظريّة المعرفة الخاصّة به.
سأعرض أمامكم خلفيّة
لوك، هو وُلِد في العام 1632 وتُوُفِّي في العام 1704، ما يبيّن لنا أن معظم حياته
وأعماله تمّت في القرن السابع عشر، لكنه طبع المرحلة الانتقاليّة الأساسيّة من
عقلانيّة القرن السابع عشر إلى تجريبيّة القرن الثامن عشر. لقد تخرّج في جامعة
أكسفورد، وخلافاً لسائر العقلانيين في القرن السابع عشر الذين كان معظمهم متخصّصاً
بالرياضيات والفيزياء، كان لوك طبيباً ممارساً، وكان لديه وقتٌ قصيرٌ جداً للفلسفة
التخمينيّة.
لقد قال "كان
عليّ اتخاذ قرارٍ حين يأتي إليّ شخصٌ مريض بشأن السبب الجسدي الفعلي لمرضه الذي قد
يكون مميتاً. لا يمكنني الجلوس هامداً والقيام بعمليّة حسابيّة والتخمين بشأن ما
يمكن أن يكون خطبُه وفق تصوّراتي، لكن عليّ أن أبدأ بالجسّ والفحص وربما حتى إجراء
عمليّة جراحيّة لأكتشف بواسطة حواسّي ماهيّة المشكلة وكيفيّة حلّها".
إذاً، بالمعنى
الحقيقي، كان جون لوك مفكّراً سليم التفكير، وكان أكثر اهتماماً بمواجهتنا
العاديّة للواقع من الاهتمام بالتخمين المنطقي. كما أنه كان عدوّاً واضحاً لشكلٍ
مفرط من أشكال العقلانيّة والذي أصبح يُعرَف بالمفهوميّة.
والمفهوميّة بشكلها
الأكثر صراحةً توصّلت إلى الاستنتاج أن أيّ فكرةٍ يمكن تصوّرها في الذهن على أنها
عقلانيّة لا بدّ أن تكون موجودة في عالم الواقع، لأن ما هو عقلانيٌّ حقيقيّ.
انتبهوا هنا، هذا لا
يعنيى القول إن كلّ ما هو حقيقي هو عقلانيّ، وإنما كل ما هو عقلانيّ هو حقيقيّ،
وبالتالي إن استطعنا تكوين مفهوم عقلاني مثلاً عن وحيد القرن، فلا بدّ من وجود
وحيد قرن في الواقع. وكما قلت، هذا شكل مفرط
من أشكال العقلانيّة، وجزء منه نتج عن التقدّم المذهل الذي تمّ تحقيقه كما
ذكرت سابقاً في الاكتشافات الجديدة في العالم العلمي، حيث كان علماء الرياضيّات هم
المفكرين الفاصلين، وهم من يقولون "تشير حساباتنا إلى أننا إن وجّهنا منظارنا
نحو هذا الموقع في الفضاء الخارجي فلا بدّ من وجود كوكب أو قمرٍ هناك".
كانوا يوجّهون
منظارهم، وتماماً مثلما بيّنت توقّعاتهم الحسابيّة، كانوا يجدون الحقيقة، وبالتالي
كان يتمّ إيلاء ثقةٍ كبيرة إلى الرياضيّات نظراً لما تمكّنت الرياضيّات من تحقيقه
في الاختراق للتوصّل إلى أبعاد جديدة من التعلّم، ما جعل البعض يتطرّف قائلاً: "إن
كان يمكن تصوّر الأمر حسابيّاً فلا بدّ أن يكون موجوداً فعليّاً".
اعتبر لوك الأمرَ
تافهاً. قال إن الذهن قادرٌ أن يكون واسع الخيال، وأن يخلق خيالاً حيث يمكنك دمج
أفكارٍ من هنا وهناك، فتأخذ فكرة الاحمرار، وتأخد فكرة الدب القطبي، وتتصوّر دبّاً
قطبياً متوهّج الاحمرار.. هذا لا يعني وجود دبٍّ قطبيّ متوهّج الاحمرار.
إذاً، إراد أن يُرجِع
الفلسفة إلى الحقائق الواقعيّة وأن يرغم الفلسفة على التعاطي مع ما هو حقيقي، مع
ما هو موجود فعلاً. إذاً، أحد أهم الأمور التي أعطانا إياها لوك هي نظريّة
الحقيقة، وهو ليس الإنسان الوحيد الذي تبنّى هذه النظريّة، لكن غالباً ما يرتبط
اسمه بها، وهي تُعرَف بنظريّة الحقيقة التطابقيّة.
وببساطة، نظريّة
الحقيقة التطابقيّة تفيد بما يلي: الحقيقة هي ما يتطابق مع الواقع.
هذه فكرةٌ بسيطةٌ
جداً في يومنا وعصرنا، تتعرّض هذه الفكرة للهجوم كلّ لحظة، لأن مفهوم الحقيقة هذا
يفيد بأن الحقيقة هي كلّ ما هو واقعيّ، وبالتالي هي موضوعيّة. ما هو موجود فعلاً
لا يتوقّف على ما أشعر به حياله، أو حتى كيفيّة تصوّري إياه، لأني لست أنا مبدع
الحقيقة، ولست من خلق الواقع. أنا أصادف الواقع، أنا أقابل الواقع، وعليّ التجاوب
مع الأشياء الموجودة فعلاً بمعزلٍ عن ذاتي والسعي وراء العلم والسعي وراء الحقيقة.
هو السعي وراء اكتشاف ما هو حقيقي بدلاً من الخيالي أو الوهمي.
اليوم، نسمع أناساً
يعتنقون مذهب النسبيّة والذاتانيّة قائلين أن الحقيقة هي كلّ ما أظنّه موجوداً أو
كل ما أريد أن يكون موجوداً.
لم يكن لدى لوك الوقت
لهذا النوع من التفكير، فهذا يجعل العلم الحقيقي مستحيلاً، لأن العالم يكون عندئذٍ
نسبيّاً، أي أنه يكون أمراً بالنسبة إليك، وأمراً آخر بالنسبة إليه وأمراً آخر
بالنسبة إليه وهكذا.. كيفما تريد أن يكون.
سبق أن أخبرت قصّة
السيّدة التي تناقشت معها بشأن وجود الله، وقالت لي: "هل تؤمن بالله؟"
فقلت "نعم". قالت "هل تجد الأمر مجدياً؟". قلت
"أجل"
ـ "هل
تصلّي؟"
ـ "أجل".
ـ "هل تنشد
الترانيم؟"
ـ "أجل"
قالت "إن كنت
تجد جميع هذه الأمور مرضية ومجدية" بدت مثل باسكال العصر الحديث، قالت
"بالنسبة إليك الله موجود، أما بالنسبة إليّ، فأنا لا أجد أيّ معنى في
العبادة أو الترانيم أو الصلاة.. فهذه الأمور تضجرني وهي لا تهمّني. لا أشعر بأيّ
حاجة نفسيّة إليها. إذاً، بالنسبة إليّ، الله غير موجود". فقلت "أنا لا
أكلّمك عن الدين ووقعه العاطفي عليّ أو عليك. أنا أتكلّم عن مسألة وجود كائن موجود
بمعزل عنك وبمعزل عنّي، وإن لم يكن يوجد كائن مماثل في الواقع فجميع صلواتي وجميع
ترانيمي واكتفائي العاطفي المتعلّق بالأمر لا تملك القدرة على خلق كائن مماثل.
كذلك أيضاً، إن كنتِ غير مبالية تجاه ذلك الكائن، أو باردةً تجاه ذلك الكائن،
ورفضتِ الصلاة والترنيم وما إلى ذلك، فإن موقفك الشخصي تجاه هذا الكائن لا يقدر أن
يدمّره".
في مرحلة معيّنة
علينا التطرّق إلى السؤال "هل الله موجود أم لا؟". "هل توجد حقيقة
موضوعيّة نسمّيها الله؟". لوك يفهم ما أقوله هنا. إنه يقول إن الحقيقة ليست
مسألة تفضيل. ليست الحقيقة مسألة ميلٍ ذاتيّ في قلب الفرد، بل الحقيقة هي كل ما هو
واقعيّ بمعزل عنّي.
مجدّداً السؤال هو
كيف نتوصّل إلى الحقيقة؟ كيف نتوصّل إلى معرفة الحقيقة؟ الجملة اللاتينيّة الوحيدة
المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجون لوك، وهي مألوفةٌ لدى أناسٍ كثر حتى ولو لم يدرسوا
أبداً تاريخ الفلسفة، لكنهم ربما سمعوا هذه العبارة البسيطة "تابولا
راسا" ما ترجمتُه "لوحة فارغة أو قائمة فارغة".
إليكم ما قصده لوك
بمفهوم القائمة الفارغة. كل إنسان يولد بذهنٍ خالٍ من المعلومات. إنه قائمة فارغة،
لوحة فارغة لم يُكتَب شيء عليها. باختصار، لا توجد مثُلٌ فطريّة، فالمثال الفطري
هو مثالٌ وُلدت به.. أتذكرون أفلاطون؟ هو يقول إن النفس تنقل إلى هذا التجسّد
المجموع الكامل لكلّ معرفة، كل معرفة هي فطريّة، وعمليّة التعلّم برمّتها هي
ببساطة محاولة تذكّر أو استرجاع ما هو موجود فعلاً. إنها فطريّة في النفس والعقل
عند الولادة.
وفق لوك لا توجد
مُثُل فطريّة ولا حقائق متأصّلة في الذهن. أتذكرون ديكارت؟ أراد إيجاد تلك المثل
الواضحة والمتميّزة، حيث كان يقول إن فكرة تضمّن المثلّث ثلاثة جوانب هي مثال
فطريّ، إنها بديهيّة [قبليّة]، أي أنها تأتي قبل الاختبار. لكن لوك يعترض على كون
الأمر بديهياً، ويصرّ على كون الأمر استدلالياً [بعدياً]، أي أن كل معرفة تأتي بعد
الاختبار. كل شيئ يستند إلى هذه اللوحة الفارغة أنت ولدت بها، ومن ثم لديك الإدراك
الحسي. هذه هي المعطيات الأولى: أنت ترى أمك أو ترى كلباً فينتابك شعور ما أو
تصوّر ما، أو أنك تشعر بشيئ ما أو تتذوّق شيئاً ما أو تسمع شيئاً ما، فيتم تسجيل
هذه الاختبارات في ذهنك، وكل المعرفة التي تكتسبها في حياتك، تكتسب هذه المعرفة
كلّها من خلال هه السلسلة المتواصلة من الاختبارات. في هذا الصدد، أنت تتعلّم في
كل ثانية أنت متيقّظ فيها في حياتك، أنت تتعلّم ما إذا كنت تريد أن تتعلّم أو ألا
تتعلّم، أنت لا تتوقّف أبداً عن ارتياد مدرسة الاختبار. وحتى إن تخرّجت في الجامعة
أو غير ذلك، لا تنتهي مسيرة التعلّم لديك، فكل اختبار جديد هو اختبار تعلّم جديد
بعد إدخال معطياتٍ جديدة إلى الذهن.
إذاً، وفق لوك كل
معرفة تأتي مع تفاصيل معطيات اختبار فرديّة، والمفاهيم النظريّة التي نسمّيها
المسلّمات أو العموميّات، حين نتكلّم عن البشريّة أو مفهوم السنجاب أو الكرسي هي
ببساطة نتيجة مجموعة من الاختبارات الفرديّة الخاصّة بنا. وفق لوك لا يتمتّع الذهن
بمعرفةٍ فطريّة، لكنه يتمتّع بقدرةٍ فطريّة. فلنقم بهذا التمييز: لا توجد معرفة
فطريّة في ذهنك، لكن الذهن كجهازٍ عضويّ يتضمّن قدرةً فطريّة ومدمجة. قدرة على
تلقّي معطيات تلك الانطباعات أو الأحاسيس من اختبارك الحسّي، لكن الذهن لا يتلقّى
اختبارات بسلبيّة، فالذهن أيضاً يملك القوّة أو القدرة على أن يكون فاعلاً. بإمكان
الذهن اختيار ودمج وتجريد وربط مختلف الاختبارات. وكما قلت منذ قليل، أنا أختبر
المعطف الأحمر، ثم أختبر الشعر الأحمر ثم أختبر محرّكاً ناره حمراء فأكوّن مثالاً
عن اللون الأحمر. وأقوم بالدمج والتجريد والربط للتوصّل إلى فكرة الاحمرار التي
يمكنني أن أضيفها إلى الدب القطبي غبر الخيال. هذه هي قدرة الذهن على أخذ وحدات
اختبار بسيطة والجمع بينا وتجريدها وتوليفها والتوصّل إلى شتّى أنواع الأفكار
المركّبة. لكن النقطة الأساسيّة هنا هي أن المعرفة تأتي أساساً من خلال الحواس
وليس من خلال الذهن. إنها مسألة الدجاجة والبيضة، وهي تصبح بالغة الأهمّية خلال
السنوات المائة المقبلة بدءاٍ من وقت تحليل لوك إياها كما سنرى في محاضراتٍ لاحقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق