يناير 2016
تجتمع الغاية النهائية للنقد الإبستيمولوجي الذي قاده هيوم في معترك الفلسفة الحديثة في إعادة تنظيم
مسألة المعتقد الإنساني، وعلى الرغم من العلاقة التي تجمع هذا النقد بالعلم، إلا أنّ تقويض ركائز الدين
يؤلف المنطلق الرئيس لهذا النقد، يبدو ذلك في بناء المعرفة على الحس، وتفكيك سلطة الميتافيزيقا، وتحرير
الضمير الأخلاقي من هيمنة العقيدة، وحوار يذهب إلى البحث فيما إذا كان الإنسان بحاجة إلى معتقد، وهل
يحمل بين جنباته إيماناً طبيعياً؟ كان لشكيّة هيوم أثرها العارم على القادم من فلسفات القرن العشرين، عبر
مسألتين أساسيتين دافع عنهما هيوم بشراسة عقلية شديدة، وهما: من ناحية أولى، الشك في بداهات العقل،
وهدم حقل الميتافيزيقا. ومن ناحية أخرى، لا وجوب من الوجود، وهي المقولة الهيومية الكبرى التي مثلت
بداهة الفلسفات الوضعية والعلماوية القادمة في أفق القرن العشرين.
الحداثة وتواري المقدس: لم تكن استفاقة العقل الغربي إلا بثورة هزّت حقل المفكّر فيه في العصور
الوسطى، فتحدّد مسار آخر لهذا العقل تجلى في ذلك العمل الدؤوب الذي أداه رجال النهضة، انطلق من
النزعة الإنسانية التي انبرت لنقد اللاهوت المسيحي، حيث سيكون السؤال عن تاريخية الكتب المقدّسة
سؤالاً راجحاً وضرورياً، فهل من الممكن أن يحافظ كلّ نص على نقائه وقد امتدّ عبر زمان سحيق؟ كما أنّ
تصور الإنسان الإله يثير حفيظة كلّ فطرة عقلية سليمة، فهل يمكن التصديق بولادة إله من تزاوج الناسوت
واللاهوت؟ فما هي ذات المسيح إذن؟ هنا تساءل الإنسانيون عن القرابة الجامعة جمعاً غريباً وغير معقول
بين الناسوت واللاهوت 1؟ كما ستتركز استفاقة العقل الغربي على ذلك الانقلاب الذي أحدثه فلاسفة وعلماء
من برونو إلى كوبورنيك وغاليلي، وقد تحققوا عبر المشاهدة الحسية والعقلية بكوسموس آخر، يتناقض كليّاً
مع ذلك الذي احتفت به الكنيسة معتمدة على تأويل لخلاصة الفهم الإغريقي للطبيعة.
حتماً سيسير منظار غاليلي على نقيض يقين الإيمان، لتتحول المركزية الكونية من مركزية الأرض
إلى مركزية الشمس، وعلى الرغم من الأحداث العنيفة التي رافقت حياة غاليلي، فقد أصرّ أمام قضاة
محكمة التفتيش على خلاصة مشاهداته الدقيقة، ملقياً بالكلام في سرّه، وقد تيقن من أنّ الأرض تدور 2، هو
الكلام الذي ستتابع بعده الانهيارات المتتالية لسلطة الكنيسة، ومن ورائها العقيدة المسيحية، لتسير في درب
النقد والإصلاح، ثم النهاية عندما يعلن نيتشه على تخوم القرن العشرين موت الإله الضعيف، وقد خلفه إله
الأرض القوي 3، إنه الإنسان وقد انفصل انفصالاً كليّاً عن الغيب.
لا ريب أنّ خلاصة نهضة العقل وانتصاراته المتتالية هي انحسار لسلطة مؤسسة الأكليروس، ليعتلي
اللوغوس مهمّة نقد المعرفة الدينية بوصفها معرفة إنسانية بحتة، فلا توجد معرفة تعلو على وظيفة العقل
الإنساني، ولذلك سيكفّ المقدّس عن أن يعتلي مقام المقدّس، وتصبح الكتب المقدّسة صحائف للقراءة الإنسانية
الناقدة، لتتعزز هذه القراءة مع النمو المنهجي للعلوم العقلية والإنسانية التي جعلت من الدين موضوع الدرس
العلمي، فانبثقت علوم من قبيل علم الدين، إنثروبولوجيا الدين، وهكذا ستتمكن خلاصة اللوغوس من تعديل
ماهية الدين، ليكون بمثابة تجميع ثقافي خالص، بدأ مساره التاريخي من تعدد الألوهية إلى حد الإيمان بالدين
الواحد 4.
كان العقل الحديث مرحلة حاسمة في مسار القراءة الناقدة للدين، لم يعد هناك إمكان لسيطرة العقيدة على
العقل، تجلى هذا في مواقف الفلاسفة والعلماء الذين تفرّقوا في دروب الإلحاد، وتوقفوا عن الحكم فيما يخصّ
العقيدة التي تسلم بوجود إله يدخل إلى التاريخ ويكلم البشر 5، ويأمرهم بالفعل والترك، وستقود الخلاصة
الإبستيمولوجية لمفهوم الطبيعة التي أقرّها العلم - بوصفه اختباراً مزدوج الأداة بين الخبرة والعقل - إلى
تأسيس بنية تفسيرية معقولة ترى نهاية سلطة الإله على الكون، وبناء نسق آخر مكّن منه القانون العلمي،
الذي بدا له الدور الحاسم في تفسير حركة الكون عبر القوانين المغناطيسية التي تسيّر حركة الكواكب 6.
أمام البرهان الدامغ الذي قدّمه العلم، لم يعد اللوغوس ليفرد مقاماً للإيمان في التصورات العقلية والعملية
للإنسان، لتؤلف التصورات العقدية الموروثة عن العهدين القديم والجديد مجرد خيالات بشرية، فقد عسر
على البشر التفسير المعقول، فاعتبروا أنّ الكون من تقدير قوى تفوق قدرة الإنسان، لينتقل هذا التفسير من
قوى الطبيعة إلى تعدد الآلهة، ثم لتنتهي بإله عليّ قدير، إله ديانات التوحيد، هو عجز الطاقة البشرية عن
تفسير معقول لمظاهر الكون، أدى بها إلى البحث عن قوى مفارقة تجعل الكون معقولاً وميسور التفسير، تتمّ
الرجعة إليه في التشريع ويؤلف مرجعية الأفعال العملية.
وعموماً فإنّ لامعقولية تصور الإلوهية في عقيدة الكتاب المقدّس، وعدم انسجامها مع تصورات العلم
الناشئ أدى بباروخ اسبينوزا إلى النبذ من الجماعة اليهودية، أي إله يعوض فيزياء نيوتن التي قدمت حقيقة
الاندماج بين العالم والقانون؛ ليمثل الإله الجديد مجموع القوانين الفيزيائية المتحكمة، هنا تتوحد العلاقة
العقلية بين الله والإنسان ليؤلفا واحداً لا ينفصم 7.
لقد خلص العقل الحديث إلى تحييد الإله من كلّ تفسير وكلّ تشريع، لم يعد هناك دور له في عالم
الظواهر الفيزيائية، فهو من العلل القديمة التي تمّ اكتشافها، وسينتهي أمرها بتبيين العلل المعقولة، «فالله كبير
بحيث إنّه ليس في حاجة إلى أن يوجد، إنّ هذه هي ماهية صيرورة العلمنة التي أثرت بعمق في المجتمع
الحديث]...[ لقد انتهى الله من أداء وظيفة تفسير نظام الطبيعة 8» ، ولذلك سيطرت نزعة طبيعانية أدّت في
نهاية المطاف إلى الشطب المتتالي لأشكال التفسير، فلم يعد هناك إلا القوانين الفيزيائية، ولا توجد علل
أخرى تفسر العالم، ويبدو أنّ هذا الموقف الطبيعاني الشامل قد سار في شكل تعميمي عندما جعل التفسير
الواقعي القائم على خلاصة المعرفة العلمية معياراً أوحد للمعرفة، ومنها المعرفة الأخلاقية 9.
يُعدّ الدين الطبيعي من المفاهيم الأكثر ترجيحاً، تعويضاً للدين القديم أمام الشك العارم الذي عمّ العقل بعد
الثورة ضد العقيدة، لم يبقَ أمام هذا العقل إلا تعويض عقيدة السماء بعقيدة إنسانية معقولة تتلاءم مع الخلاصة
المعرفية التي يقدمها اللوغوس، بعدما انتهى من نقد المقدّس؛ لذلك ستتميز الفلسفة الحديثة بقراءات مختلفة
لمفهوم دين طبيعي يتلمسه الإنسان في جنباته دون إملاء الكنيسة، إنه دين يحمل روح العقيدة الإنسانية التي
تخلصت من قهر الكنيسة، وطمأنة الفؤاد بشكل مغاير للإلوهية، هو دين يزمع على الذهاب إلى ما وراء
عقيدة السماء المتسلطة واللامعقولة.
هو الدين الذي يعبّر عن حرية الضمير، وتثبيت لقدرة الإنسان في بنائه لعقيدته الخالصة دون الرجوع
إلى سلطة المؤسسة الدينية، إنه «تعبير استخدم في القرن الثامن عشر، ويدلّ على مجموع عقائد تؤمن بوجود
الإله وخيريته، وكذلك تؤمن بالروحانية وخلود الروح، وبالخاصية الملزمة للفعل الأخلاقي، ولذلك يعتبر
الدين الطبيعي وحياً من الضمير، والنور الداخلي الذي يضيء كلّ إنسان 10» . وهكذا يعوّض الدين الطبيعي،
بوصفه خلاصة لوعي الأنسنة، مفهوم دين الوحي، وليتمكن الإنسان الذي تحرّر من سلطة الإكليروس من
بناء دينه الفردي الخاص، ليصبح الدين مسألة فردية خاصة، أمّا الفضاء العمومي فهو فضاء المواطنة
والحرية الفردية والحق الإنساني المكفول من القانون.
تجتمع الغاية النهائية للنقد الإبستيمولوجي الذي قاده هيوم في معترك الفلسفة الحديثة في إعادة تنظيم
مسألة المعتقد الإنساني، وعلى الرغم من العلاقة التي تجمع هذا النقد بالعلم، إلا أنّ تقويض ركائز الدين
يؤلف المنطلق الرئيس لهذا النقد، يبدو ذلك في بناء المعرفة على الحس، وتفكيك سلطة الميتافيزيقا، وتحرير
الضمير الأخلاقي من هيمنة العقيدة، وحوار يذهب إلى البحث فيما إذا كان الإنسان بحاجة إلى معتقد، وهل
يحمل بين جنباته إيماناً طبيعياً؟
كان لشكيّة هيوم أثرها العارم على القادم من فلسفات القرن العشرين، عبر مسألتين أساسيتين دافع عنهما
هيوم بشراسة عقلية شديدة، وهما:
1 - الشك في بداهات العقل، وهدم حقل الميتافيزيقا، فمن الأجدر بالنسبة إلى هيوم رمي كلّ التراث
الميتافيزيقي إلى اللهب، وعند الحديث عن الميتافيزيقا يكون الدين من أهمّ النصوص الميتافيزيقية التي يجب
أن يلتهمها لهيب النار الحارق، لم يعد مبدأ العليّة مبدأ عقلياً، بل هو صلة جامعة بين علة ومعلول يبدهها
التتابع في إطار التجربة الإنسانية، أمّا عن حدود العليّة فهي لن تكون البتة مبدأ عقلياً، وعند الحديث عن
العلة لا بدّ ألا نمكث في مجرد العلة القائمة في عالم الظواهر الطبيعية، بل علينا أن نتابع إلى حد العلة الأولى
للكون، فهي غير معقولة، وليست إلا تتابعاً وعادة ألفها التفكير الإنساني، هنا يعمل النقد الهيومي على تحرير
الإنسان الحديث من المعتقد.
2 - لا وجوب من الوجود، وهي المقولة الهيومية الكبرى التي مثلت بداهة الفلسفات الوضعية والعلماوية
القادمة في أفق القرن العشرين، ماذا يعني الفصل بين القضايا الوصفية والقضايا المعيارية؟ إنّه فصل بين
احتمال الوجود الإلهي والأمر الأخلاقي، هو تحوّل للأخلاق نحو الضمير الإنساني الحر، وتثبيت الأخلاقية
في التجربة الإنسانية الوجدانية، وقد تخلصت من كلّ الإملاءات الفوقية التي يقتضيها الدين، وهكذا مثلت
فلسفة دافيد هيوم نقطة تحوّل شديدة الأهمية في مسار العلمنة وتحرير الضمير الإنساني من سلطة الدين.
يُعدّ الموقف الهيومي من الدين خلاصة لمسار نقدي لطبيعة الفهم، وقد تجلى هذا المسار في نقده الحسّي
لطبيعة المعرفة، وتفكيكه لعرى البداهات العقلية التي جعلها ديكارت شرطاً للمعرفة الصحيحة، ولذلك كان
رمي هيوم لكلّ منتوج معرفي لا يمتثل لمعيار التجربة الحسّية في اللهب، تحرير للوعي الإنساني من عرى
التمثلات العقلية، ومن ثمّ ستنحصر المعرفة الإنسانية في مجرد المعرفة التي تتيحها التجربة الحسّية، فما
مصير المعارف التي يستحيل معها الإثبات الحسّي، ونعني وجود الله الذي يُعدّ غير معروف بالنسبة لوسائل
المعرفة الإنسانية؟ فهل يستطيع أيّ دليل إثبات وجود الله؟ إلى أيّ مدى يكون للدليل الأنطولوجي النجاعة في
إثبات وجود الله، وقد تفكّكت عرى مبدأ العليّة عبر النقد الإبستيمولوجي؟ هل يستطيع الدليل الطبيعي إثبات
وجود الله، وقد انتهت مهمّة العلة حتى على مستوى الأحداث الطبيعية؟ أي دين جديد يحلّ مقام الدين القديم،
وقد تمكّن الإنسان من ذاته، وبدا أنّه المسؤول الأكبر عن تحسّس الحقيقة؟
يكون التفكير حول الدين تفكيراً في البراهين على وجود الله، وهنا ترتبط مهمّة البحث بمسألة رافقت
سؤال اللاهوت في العصور الوسطى، وهو سؤال العلاقة بين العقل والإيمان، إذ يخلص هذا اللاهوت إلى
أنّ العقل يتمكن من تقديم الدليل على وجود الله 11 ، سينهدم الدليل حتماً عندما يكون العقل صفحة بيضاء فاقدة
لقدرة الدليل، فماذا عن حضور المعلم الأول حضوراً داخلياً منذ المحاورات الأوغسطينية؟
أولاً: نقد المعرفة - هيوم ونهاية سلطة اليقين:
تُعدّ فلسفة هيوم لحظة فارقة في صيرورة الأنوار، إذ لم تكن استفاقة كانط من سباته الدوغمائي إلا
خلاصة متأنية لقراءة رسالة في الفهم البشري، وهي القراءة التي حينت سؤال الفلسفة النقدية وتتابعاته التي
شملت حقولاً إنسانية أخرى، ونعني بها الأخلاق والدين، فأمام عسر التدليل على وجود الله، يحتمي فيلسوف
كوسمبرغ بالدليل الأخلاقي، وقد أصبح الدين تابعاً للأخلاق، بعدما فصله هيوم عن كلّ ممكن معرفي،
وهنا يدخل العقل الغربي في مرحلة تعميم الانفصال عن الدين، عندما يصبح الإنسان علامة على القانون
الأخلاقي.
كان هيوم قارئاً جيداً لمسار العصر، عصر انحدرت فيه المسيحية، وقد أثارت الكثير من شغب
اللاتسامح، وعلا فيه العلم ليجبّ تاريخاً طويلاً من هيمنة الروح الوثوقية، فمن الواجب إذن بناء فلسفة تتلاءم
مع العلم، وتستنهض الهمّة لإزالة اللاهوت من مجال التفسير الإنساني، وعليه سيستلهم هيوم الروحين
البيكونية والنيوتينية، لكي تجد المعرفة تماسكها الداخلي، وتنبني على خلاصة التجربة الحسية، وتستجيب
الفلسفة لتطلعات العلم، الأمر الذي يقتضي إنهاء سلطة الدين على الروح التفسيرية للإنسان.
كانت الشكيّة الهيوميّة خلاصة لانخراط هيوم المبكر في النقاش المعرفي الجامع بين فلسفات لوك
ونيوتن وبركلي، غير أنّ لوك سيعتلي مقام الريادة في أثره الحاسم على إبستيمولوجيا الأفكار الهيومية،
فكانت دراسة في الطبيعة البشرية منطلقاً للكشف عن طبيعة الفهم البشري، ولا ريب أنّ المفهوم البيكوني
للنفسانية سيقف خلف التحليل العميق للمعرفة الإنسانية، الأمر الذي سيجلي غموض اليقين، ويحين السؤال
عن حدود اليقين، فما حقيقة المعتقدات الإنسانية؟ هل هناك من سلطة للعلاقات المعرفية قد تتحصن ما وراء
الحس؟ ماذا عن أصل المعرفة؟
1 - سلطة الحس وهشاشة العقل: سيفكك هيوم ذلك التلازم القائم بين الانطباعات والأفكار، إذ لا تعدو
هذه الأخيرة أن تكون مجرد نسخ عن الانطباع، بمعنى أنّ الأفكار هي مجرد انعكاسات باهتة للأحاسيس
على مرآة الوعي الإنساني، لذلك ستفقد الأفكار حصانتها العقلية المنيعة، لتؤلف نهاية الاعتقاد بوجود
المبادئ اليقينية، هي النتيجة الضرورية للعلاقة الجامعة بين الانطباعات والأفكار 13 .
وهكذا ينكر هيوم وجود المبادئ الأولية، فالأفكار ما هي إلا تجلٍ للأشياء الجزئية يجمعها جامع اللغة، أمّا
اليقين الحقيقي فيأتي من التجربة، وبهذا ينتهي تأثير المبادئ الأولى للعقل على الصياغة اليقينية للمعارف.
إنّ التقسيمات الهيومية للأدوات المعرفية تنتهي إلى الإقرار بالمصدر الحسي البحت للمعرفة، وحينئذ
لا وجود للأفكار الفطرية أو المبادئ القبلية، إذ الانطباعات والأفكار تنقسمان إلى شكلين من الإحساسات
البسيطة والمركّبة، وفيما يتعلق بظهور هذه الإحساسات في العقل، فإنّ الانطباعات البسيطة تسبق دائماً
الأفكار البسيطة، أمّا عن الأفكار المركّبة فأصلها هي الانطباعات البسيطة، بما أنّها نسخة من الانطباعات
المركّبة، وهكذا يفرد هيوم للعقل دوراً سلبياً، فهو مجرد مشاهد حيادي لا يملك عتاد اليقين. فلا وجود لأساس
متين لكثير من الأفكار التي ظنّ الإنسان أنها متمكنة من العقل، مثل مبدأ الهويّة والجوهر ومفاهيم أخرى
تحظى بيقين العقل، وهي المبادئ التي تعني الأساس المتين للعلة الأولى، فهل الله بوصفه فكرة جوهرية
ممكن الوجود 14 ؟ كيف يمكن التصديق بالأخبار التي تؤلف مجال الدين؟ هل من الممكن بناء واجبات على
الاعتقاد بوجود الله؟ هنا تنتهي القاعدة المتينة للتخلق المرتبط بالدين، وسيمتلك الإنسان قدرة ذاتية في
الاعتقاد والعمل بالاعتقاد، فما هي إذن الديناميكية الفاعلة في مجال الأخلاق الإنسانية؟
لن يقتصر النقد الهيومي على تقويض قدرة الأفكار الفطرية، بل اتجه إلى اعتبار النفسانية الإنسانية
خاضعة لقانون الجاذبية، وهي ضرب من الآليّة التي ترتب الأفكار، ذلك أنّ الملكتين اللتين تعالجان الأفكار،
وهما الخيال والذاكرة، تكمن وظيفتهما في حفظ الأفكار وفقاً للترتيب الذي دخلت به إلى العقل 15 ، وفي
اختيار الأفكار التي تريدها، هو اختيار لا يعني الاعتباطية، بل إنّ هناك ترابطاً بين الأفكار المختارة، فكل
فكرة تجذب الأخرى المترتبة معها، ولذلك تؤلف المعرفة حقلاً من المترابطات التي تجعل كلّ الأفكار لها
مراجعها النهائية التي تعني في نهاية المطاف الخلاصة الحسيّة البحتة، فهل تكتفي فكرة وجود الله بذاتها
وتنأى عن التحليل الإبستيمولوجي الذي يقرّ بتهافتها؟
2 - اللايقين في كلّ علة نهاية اليقين في العلة الكونية: يُعدّ النص الذي وسمه هيوم ب »طبيعة الفكرة
أو المعتقد »، نصاً فاصلاً في تحليله لمسار الأفكار والمعتقدات، فنحن نؤمن بمجرد وجود الأفكار عن
الموضوعات ونربط العلاقات بين العلل والمعلولات، وستكون نتيجة التفكير لدينا خلاصة لمسار استدلالي
ينطلق من مجرد الاعتقاد بفكرة، ليصل إلى الاعتقاد بوجود موضوع من الموضوعات، «فعندما نعلن وجود
الله، فإننا نؤلف مجرد فكرة حول هذا الموجود 16» ، ففي تقصي أصلها تبدو أنها خلاصة لفكرة لا تزيد ولا
تنقص من هذا الاعتقاد، لا دليل لها في مجال اليقين الحسي المتحقق عينياً.
انتهى تفكيك قدرة الأفكار الفطرية في الإمداد بالمعرفة اليقينية إلى اعتبار العلاقة بين العلة والمعلول
مجرد تتابع بين الأحداث، يجري بسبب التوالي بينهما، أمّا عن وجود علاقة ضرورية بينهما فذلك أمر
يفتقد إلى البرهان، كما لا يمكن التدليل على العلاقة بين العلة والمعلول تعليلاً قبلياً، إنّها مجرد تتابع يعتقده
الانطباع الإنساني، ولهذه النتيجة الهيومية أثرها المباشر على تفكيك عرى العلاقة بين الاعتقاد الإنساني
والوجود اليقيني للعلة الكونية.
وهكذا تكون العليّة خطأ منطقياً، ولكن الفلاسفة اعتبروه حقيقة، إنّ فكرة العليّة تعني مجرد تتابع بين
شيئين متتاليين في الزمان والمكان، قد لا يحدثان النتائج نفسها في علاقات أخرى متمايزة. ولأنّ عقلنا قد
ألف هذا التتابع يبدو له أنها علاقة ضرورية ضرورة منطقية، «وعموماً فإنّ تجربة الأنا تتلخص في سيل
الإحساسات، بمعنى أنّ الأنا ليس جوهراً، هي حامل للانطباعات، فكلّ تحليل يبرهن على عدم وجود أسس
ميتافيزيقية، بل هناك مجرد احتمالات ترتبط بالحس المشترك 17» ، فكلّ معالم الإسناد اليقيني فقدت قدرتها،
لم يعد هناك من سند للعقل البشري ليطمئن لمعتقداته.
إذن تكون العادة هي المسؤولة عن تأليف مبدأ العليّة، فالتكرار المتواصل للأحداث، وارتباطها ببعضها
بعضاً هو الذي يخلص التصور الخاطئ عن وجود مبدأ العلة، بهذا تكون الرابطة الضرورية مجرد وجود
في العقل لا أساس له من المنطق أو الواقع.
وعموماً تنتهي الشكيّة الهيومية إلى تثبيت اللاأدرية على مستوى العلم، غير أنّ تقويض الاعتقاد في
وجود العلة الكونية يؤلف الغاية الأخيرة لفلسفة هيوم، ليكون المبدأ المرجح لمعقولية العلم مجرد تتابع
للحوادث، يفتقد للعلاقة الضرورية، إنّه عادة يعتاد عليها العقل، إنّ هذا الشك الهيومي في مبدأ العليّة وفي
جميع الاستقراءات التي يكون مبدؤها التجربة، أحدث تصوراً للاحتمالية على جميع الأصعدة.
تقف الأنا خلف تفسير العلاقات التي تبدو لأوّل وهلة على أنها موضوعية، وعليه تغادر الفلسفة ميدان
الميتافيزيقا التي تبحث في الوجود عن مصدر مبدأ العليّة، إنّ الذات التي تؤسس مبدأ السببية عند هيوم هي
الذات الطبيعية التي تستجمع في النفسانية، وبذلك ستتأسس عملية الاعتقاد على العاطفة 18 ، لتفقد متانتها
الكونية، ولأنّ الأخلاق هي أشدّ الحقول حاجة للمبادئ الكونية، فهل تتمكن الفلسفة الهيومية من تأسيس
الأخلاقية، وقد تمّ تقويض كل الأسس؟
ثانياً: الأخلاق والعواطف الطبيعية، ضرورة انفصال الأخلاق عن الدين:
كان في ترسيم الديانة المسيحية من قبل السياسة تحوّل لها من ديانة للمحبة إلى ديانة ل تّالسامح، فكان
الاضطهاد سمة القرون الأولى لامتداد المسيحية في أوروبا، اضطهاد ضد الأديان الأخرى، وضد من
يوصفون بالهراطقة، سواء أكان ذلك من طرف البابوية التي ترسم مذهباً بعينه، أم من قبل الحكام الذين
انخرطوا انخراطاً كليّاً في المهمّة الدينية السياسية، الأمر الذي أحدث حرب الكلّ ضد الكلّ، فكان أول مطلب
أمام العقل الغربي الحديث هو وجوب تجاوز حال الحروب الدينية، وبناء فضاء الحرية الدينية، وفلسفة
التسامح التي تحيّد العقيدة من حياة البشر.
لذلك ركّز الجدل الأخلاقي في الفلسفة الإنجليزية، على تخوم الزمان العلماني، على إنشاء مبادئ
أخلاقية تنفصل كليّة عن الدين، يكون موقعها التجربة الإنسانية البحتة، مركزاً بذلك على كيفية بناء مبادئ
أخلاقية إنسانية صادقة خارج حدود الدين، بما أنّ الدين قد يؤدي إلى عقائد فاسدة وسلوك فاسد تابع لهذه
العقيدة، لذلك كان النقاش الفلسفي دائراً حول وجود تجربة لتخلق إنساني مشترك، بوصفها قاعدة عامة بين
البشر، بعيداً عن الأوامر الإلهية الضاغطة.
قام الجدل الإيتيقي داخل الفلسفة الإنجليزية حول نجاعة المعايير الأخلاقية، إنّه جدل بين المنفعة الأنانية
ونظرية الأمر الإلهي، والنظرية العقلية، نقاش تحول إلى البحث عن مواقع أخرى للتجارب الأخلاقية، فهل
من الممكن أن تنكشف قدرة أخرى لقوة التجربة الأخلاقية، تستوفي شروط الأخلاقية مؤسسة للموضوعية؟
هل تتمكن المنفعة من استيعاب منطق القيم الأخلاقية؟ كيف يتمّ تعويض الدين في مجال التقنين للسلوك بعدما
بدأ يخفت تأثيره على الحياة العقلية؟
رداً على السؤال الباحث عن مركزية أخلاقية أخرى، دافع أصحاب الحاسّة الخلقية على ضرورة إخراج
مفهوم الأخلاقية من وضعه الأناني إلى ما قبل التجربة الأنانية، فالبشر يمتلكون قدرة فطرية معرفة للخير
والشر، وهو الموقف الذي مثلته نظرية الحس الأخلاقي عند كل من هاتشنسون وسفتبيري، فلن يؤلف الدين
مرجعية الأخلاق، لتنبني إذ ذاك الأخلاق على التجربة الإنسانية البحتة.
لقد انخرط هيوم في النقاش الفلسفي المُسائل عن طبيعة الأخلاق، بعدما تبيّن في نقده الإبستيمولوجي
انفصال الوجود عن الوجوب، فكان نقده للمبادئ القبلية للمعرفة مقدمة ضرورية لاستيعاب موقفه من
الأخلاق في علاقتها بالدين 19 ، خاصة أنّ المطلب الأساس هو فصل المبادئ الأخلاقية عن التعصب الديني
الذي قد يضرّ بالتسامح الإنساني، وهي الخلاصة التي انتهى إليها كتابه رسالة في الطبيعة البشرية، فكيف
يمكن بناء أخلاق خارج حدود المراجع الدينية والميتافيزيقية؟
تنفيذاً لبناء الأخلاقية على مصادر التجربة الإنسانية الخالصة، يقدّم هيوم لبناء نظريته الأخلاقية بنقد
للمعايير الأخلاقية، ومنها النظرية العقلية ونظرية الأمر الإلهي، إذ النظرية العقلية تعتبر أنّ المبادئ الأخلاقية
مبادئ عقلية قبلية سابقة على كل تجربة 20 ، في حين أنّ العقل حيادي تجاه القيم، ولا يتمكن من تصور ما يجب
أن يكون، إنّه عاجز تماماً أمام مسائل القيمة، بما أنّه لا يتمكن من ربط القيم بالوقائع، فوظيفة العقل هي الحكم
بالخطأ والصواب وليس بالخير والشر 21 ، كما أنّه لا يوقظ لدى الإنسان الدافع إلى الفعل، وبالتالي فهو خامل
إزاء القيم، كما أنّ الأفعال الأخلاقية لا يمكن أن توصف بالمعقولية وعدم المعقولية، بما أنّ الأخلاق غير
قابلة للإثبات أو للبرهان، فهي لا تنتمي إلى نظام الوقائع. فالخير والشر مجال لحركة العواطف الإنسانية 22 ،
وعليه فإنّ النظام الأخلاقي ينتمي إلى نظام العواطف وليس إلى نظام العقل، الأخلاق لا تتعقل، بل هي مجال
للحس العاطفي.
سيركز هيوم على نقد معيار الدين، بما أنّ غاياته النقدية امتثلت لإخراج مجال التصور الإنساني من
إطار التجربة الدينية المهيمنة، وهنا ذهب إلى البحث في الطبيعة البشرية عن مبادئ للتخلق، وإنجازاً لهذه
المهمة سيؤسس هيوم قانونه الذائع الصيت، فاصلاً بين أحكام الوجود وأحكام الوجوب، فليس من أمر
أخلاقي يرتبط بوجود مفترض، إنها علاقة وجود الله بالأخلاق، وهنا تخرج الأخلاق من إطار الرهانات
اللاهوتية، وتصبح في مجال التجربة الإنسانية الخالصة. وبهذا رفض هيوم إرجاع الأخلاق إلى الإرادة
الإلهية، وهو بصدد الرد على أولئك الذين يقيمون الأخلاق على الأمر الإلهي 23 .
ما هي إذن أسس الواجب الأخلاقي؟ من الواجب فصل الأخلاق عن الدين، ولذلك ينتهي النقاش إلى
ضرورة تحييد الواجب الأخلاقي عن كلّ مصدر خارجي، إذ يجب أن ترتكز الحياة الأخلاقية على حسٍّ
مشترك يؤدي إلى التعرف على الأحكام الصائبة، بما أنّه حسٌّ طبيعي يتميز بصفة التعرف المشترك على
الأحكام الأخلاقية، لقد أراد هيوم أن يجعل الأخلاق إنسانية، ففي إطار التجربة الإنسانية يمكن أن يفعل
الإنسان أخلاقياً، وبهذا فقد انتهت فلسفة هيوم إلى شكيّة فصلت فصلاً كليّاً الأخلاق عن الدين 24 ، فما هو
مجال التخلق إذن؟
-1 العاطفة الأخلاقية أساس الواجب الأخلاقي: تنبني الأخلاق على العواطف، فللإنسان عاطفة خاصة
تثار أمام القضايا التقويمية، عاطفة أساسها الاستهجان والاستحسان، ومردّ هذه العاطفة إلى ما تثيره فينا من
لذة وألم، سيؤكد هيوم أنّ الحالة القيمية ليست حالة واقعية قائمة في الشيء، بل هي عاطفة تنبعث، إذا كان
الأمر بصدد قيمة ما، فقيمة الجمال مثلاً لا تُعدّ صفة قائمة في الموضوع الجميل، ولا تنحصر في العلاقات
الموضوعية، والجمال لا يوجد إلا في من ينعت الشيء بأنه جميل. بهذا يكون الجمال ردّ فعل عاطفي
انفعالي صادر عن الطبيعة البشرية، يثار مباشرة عند اللقاء بين الإنسان وهذا الموضوع المثير للاستهجان
أو الاستحسان، والأمر ينطبق على مسائل القيم الأخرى، وخاصة الأخلاق.
هكذا لا يكون الخير والشر موضوعين قائمين في الأفعال، بل هما حالة عاطفية، لذلك تكون الأخلاق
نسبية وذاتية، والواجبات مجرد حالة من عاطفة، تنبعث أمام الأحوال التي تثار فيها العاطفة الأخلاقية، وليست
مبادئ موجودة في ذاتها. تكون إذن الأخلاق شكلاً من الذوق الإنساني المشترك الذي ينبعث من الطبيعة
الإنسانية، والعواطف بوصفها أساس المواقف الأخلاقية هي ضرب من التعاطف الإنساني الطبيعي 25 .
وعموماً فإنّ القانون الأخلاقي ليس إلا عاطفة إنسانية تنبعث من الطبيعة البشرية، فلا يمكن لنا أن نقيس
قيمة الفضيلة على قانون أخلاقي يتحصن خلف مبادئ قبلية صارمة، بل إنّ الفضيلة تتحدد حسبما يحيل إليه
الذوق الأخلاقي 26 ، بهذا يؤسس هيوم الأخلاق بمنأى عن الدين، ويجعلها قائمة في الخبرة الإنسانية، ترتهن
بالميول والعواطف والأذواق الفردية.
ثالثاً: جدل الشك الهيومي والدين الطبيعي:
لقد تركت تربية هيوم على مبادئ المسيحية المتشددة أثراً شديداً على مساره الفلسفي، إذ تربى دافيد
الطفل على يد عمّه القس المتعصب للمسيحية، ممّا أورثه بعد ذلك كرهاً شديداً للمسيحية 27 ، ليكون مسيحيا
مخلصاً للمسيحية في طفولته، بينما سيفقد إيمانه بالتدريج، وهو يطلع على العلم والفلسفة، خاصّة كتاب
كلارك برهان على وجود الله الذي جاء بعكس غايته المرجوة.
تميزت إنجلترا في بداية العصر الحديث بسجال عنيف بين المذاهب الدينية، الكاثوليكية والبروتستانتية،
وهو صراع تأجج بتزايد الصراع السياسي في البلاد، منذ استتباب نظرية الحق الإلهي، تمثل خاصة في
حدث انفصال هنري الثامن عن البابوية، وإدخاله للبروتستانتية إلى إنجلترا، فقاد التعصب الديني إلى العنف
بين المذاهب الدينية عامة، وإلى حرب الكلّ ضد الكلّ، تمكيناً لمذهب على آخر، ولذلك جاءت صيحات
الدعوة إلى التسامح بداية من القرن السادس عشر، لكنّ الحروب الدينية اشتعلت في أوروبا، واستدعت
ضرورة بناء فكر حر يتجاوز إملاءات الكنيسة، وكذلك فصل الدين عن السياسة، وإنشاء تشريع إنساني
يلائم الحداثة القادمة.
ويُعدّ جون لوك من أهمّ الفلاسفة الداعين إلى الخروج من حال حرب الكلّ ضد الكلّ، وأنّ ذلك لن
يكون إلا بتحوّل الدين إلى دين فردي، إذ «الدين الحق شيء آخر، لم يوجد للفخفخة المظهرية، ولا لسيطرة
الإكليروس ولا للعنف، بل وجد لتنظيم حياة الناس وفقاً للفضيلة والتقوى 28» ، سيرتبط الدين بالضمير
الفردي، ويخرج من معركة السجال السياسي، ومن ثم ينزوي في ركن غير مؤثر على سير الأحداث.
لقد تميز موقف هيوم من العقلانية اللاهوتية والمسائل الدينية بالموقف النقدي الشديد، بل تبدو الفلسفة
الهيومية محاولة عميقة لفصل الدين عن عرش سلطته المتحكمة، ففي كتابه حوارات حول الدين الطبيعي
يرصد هيوم دلائله الشكية لتفنيد الدليل الطبيعي على وجود الله، وهنا يرتكز على موقفه السابق من وجود
علاقة العليّة 29 ، لتسعفه الفلسفة القديمة في إزالة الاعتقاد بوجود علة حكيمة تدبر الكون، إنه الدليل الأبيقوري
حول وجود الشر في العالم، يقوض وجود علة التدبير الحكيم لهذا الكون، كما أنّ الشك هو نهاية استدلالاتنا
على وجود هذه العلة، مهما أراد العقل إجهاد نفسه في البحث عنها 30 .
إنّ الاعتقاد الإنساني بوجود الإله يعود بجذوره إلى النفسانية الإنسانية، ففي كتابه التاريخ الطبيعي للدين
يرجع هيوم أصل الدين إلى عاطفة الخوف التي تهزّ الإنسان بما أنّه جاهل بأسباب الظواهر الطبيعية، مثل
المرض والكوارث الطبيعية، إنّ الدين يُعدّ بالنسبة للإنسان إجابة عن كل هذه المخاوف التي يشعر بها، وهو
عاجز عن أداء مهمة التفسير الصحيح، وهنا ارتهن تفسيره بالمسار الثقافي للمجتمعات البشرية، فتجلى في
تعدد الآلهة حيث لكلّ إله مهمة تفريج كربة من كرب الإنسان، إلى حد حصول الفهم التوحيدي بإله واحد.
بهذا يُعدّ كتاب حوارات حول الدين الطبيعي خلاصة لمسار فلسفي شكي، وبياناً فاصلاً عن الموقف
الهيومي من الدين، وهو موقف يتميز بعدم الوضوح، بما أنّه لم يبيّن إذا كان الفيلسوف ملحداً أو هرطقياً
أو لا يؤمن بدين على الإطلاق، سواء أكان ديناً سماوياً أو طبيعياً، بل سار في الاستدلال الشكي دون بيان
نتيجة مرجوة.
سيسير هيوم ناقداً للدلائل على وجود الله، وعلى رأس هذه الدلائل الدليل الكوسمولوجي الذي يركز على
النظام السائد في الكون بوصفه علامة فاصلة، تدلل على وجود علة أولى له، ثم ينتهي إلى تفنيد جميع الحجج
التي تبرهن على وجود الله، ليخلص إلى أنّ الإيمان بوجود إله ليس أمراً طبيعياً في الإنسان 31 . ويبدو أنّ هيوم
قد بنى موقفه من الدين على نتائج نظريته في المعرفة بالشك في مبدأ العليّة، بل يكون هذا تجلياً إبستيمولوجياً
لتفنيد كلّ دليل على وجود الله، ونفي التسلسل العليّ على وجود علة كونية لهذا العالم.
أمّا في كتابه التاريخ الطبيعي للدين، فقد خلص هيوم إلى أنّ التدين ليس فطرة وغريزة في الإنسان،
ودليل ذلك أجناس كثيرة لا دين لها، ففي جميع الأحوال لم يكن الناس يؤمنون بالإله الواحد، بل كانوا
مشركين يعبدون الأوثان، ولم تكن لديهم فكرة عن العلة الأولى العاقلة المدبرة للكون 32 ، لذلك ينتهي هيوم
إلى الإقرار باحتمال وجود إله، ولكنه احتمال لن يرقى إلى مستوى قوة الدليل العلمي، منطلقاً في ذلك من
فكرته حول استحالة الانتقال من الوجود إلى الوجوب.
وعموماً فقد قرّر هيوم أنّ الإيمان بوجود الله ليس شيئاً فطرياً وطبيعياً في الإنسان، والدليل على ذلك
هو وجود شعوب بأكملها لا تؤمن بوجود الله، ولا تملك فكرة عن وجود الإله، «وإن كان هيوم في محاورات
في الدين الطبيعي، يرى أنه لا مانع من احتمال أن يكون هناك إله]...[، كما أنّ هذا الإله لا يشبه إله الأديان،
إلا من بعيد جداً، ولذلك رأى أنّ العناية الإلهية وخلود النفس وسائر صفات الله، وكلّ قصة الخلق كما
تؤمن بها المسيحية وكلّ الأخرويات هي في رأيه مجرد خرافات 33» ، فهناك الدين الصحيح والدين الفاسد،
فبالنسبة للأول يتميز بالندرة، أمّا الثاني فهو السائد، وهو متميز بالخرافة والحماسة، ويثير الكثير من الشغب
والقلاقل، بينما الدين الصحيح يشيع النظام وروح الاعتدال، ويؤدي إلى الاستقامة، وهو نادر الوجود 34 ،
سيكون هو الدين الملازم للإنسان وقد تخلص من قهر الكنيسة، دين الإنسان الحر والملتزم بحق المواطنة.
يُعدّ التأويل الذي أفرده هيوم للدين في حوارات حول الدين الطبيعي تأويلاً غامضاً، إذ لا يوضح موقفه
إذا ما كان ملحداً أو معتقداً بوجود إله Déiste ، لكن تبدو العقائد الدينية بالنسبة إليه صعبة المأخذ وغير
معقولة في ذاتها، إذ يبذل العقل جهداً كبيراً لفقه المراد من العقيدة، وعلى خلاف العلم والأخلاق يبدو الدين
فاقداً للضرورة في حياة الإنسان، فهو لا يمدّه بالمعرفة، ولا يمكن البتة أن يوجّهه عبر أوامره غير المعقولة
والمقوضة للحرية الإنسانية، باختصار فإنّ موقف هيوم من الدين هو موقف العصر الذي عمل على إزالة
الدين من الحياة 35 .
خاتمة عقل الأنوار والدين الإنساني البديل:
مارس فكر هيوم أثراً هائلاً على وعي الأنوار، فخلال زياراته المتكررة إلى فرنسا، عقد الفيلسوف
علاقات مع فلاسفة الموسوعة، ليروا فيه الفيلسوف المستنير، الذي تمكن من فتح نقاش عقلاني رصين
حول المعرفة، فدخل في مراسلات مع مونتسكيو والموسوعيين، واشتركوا جميعهم في تقويض أركان الدين
القديم، وتعويضه بدين إنساني بديل يمكن من التطلعات الإنسانية التي استقدمها زمان الإنسان المتحرر من
عقدة الاعتقاد.
تشترك روح الأنوار في اعتبار الدين في حدّ ذاته غير معقول، إذ للإنسان في قرارة نفسه عقيدة لا
تملى من السماء، بل هي طبيعية فيه، وفي تحليله لنشوء وتطور فكرة الدين، يعود عقل الأنوار إلى التفسير
المعقول الذي يركز على عجز العقل في عهوده الغابرة عن تفسير راجح للوجود بأسره، فكان إحداث أشكال
من التفسير الذي يجعل الكون إلى حد ما يمتلك علة وجوده.
أمام هذا العجز عاد البشر إلى القوى الطبيعية ليؤلّهوها، ثم اخترعوا ذواتاً يعبدونها، وهي الآلهة، تفسيراً
لما يحدث من حوادث، وسمّوها بأسماء وربطوها بقدرات، وترجّوها عند حلول الكوارث، وهي مرحلة تعدد
الآلهة، ويخلصون بعد ذلك إلى نمو التفسير البشري الذي سيحتفظ بصورة الإله الواحد إله السماوات، وإله
ديانات التوحيد، لكن ألا تنتهي مهمة الدين من حياة هؤلاء وقد أنار العلم دربهم وتمكنوا من تفسير شديد الدقة
لما يحدث من حوادث في الكون؟ بل تمكنوا من الطبيعة وأصبحوا قادرين على السيطرة عليها، ألا يحق
للبشر أن يمكنوا لأنفسهم ديناً آخر يتلاءم مع قدرة الإنسان الفائقة؟
إنّه دين إنساني خالص يعمل على التمكين لمركزية الإنسان وعلوه، ولذلك سيركز فولتير على ضرورة
أن نفصل الدين عن الدولة، فالدين الصحيح هو ذلك الدين البسيط الذي يعلم الكثير من الأخلاق والقليل من
العقائد، ويهدف إلى المساواة بين البشر، هي الديانة التي لا تأمر الناس بالعقائد غير المعقولة والمستحيلة،
وتقوم ضد الإنسان مضطهدة إياه، هي الديانة التي لا تؤدي إلى اختلال الحسّ المشترك، فلا تحافظ على
نفسها بواسطة الجلاد، وتريق دماء الأبرياء مداً لسلطتها، إنه دين إلهه لا يجعل الملك تحت سلطة الكاهن،
دين لا يعلم إلا حبّ الإله، والعدالة وتسامح الإنسانية 36 .
فيكون الدين متناسباً تماماً مع روح الحريّة التي يكفلها العقد الاجتماعي، لذلك لن تكون من مهام الدولة مراقبة
دين المواطنين، «وعليه يهمّ الدولة أن يعتنق كلّ مواطن ديناً يحببه بواجباته، لكنّ معتقدات هذا الدين لا تهّم
الدولة ولا أعضاءها إلا بمقدار ارتباطها بالأخلاق وبالواجبات المترتبة على معتقداتها تجاه الآخر 37» .
هكذا لا يهمّ الدين إلا بالقدر الذي يؤديه في تنمية شخصية الحق التي تميز المواطن، ذلك أنّ كلّ دين
هو شأن شخصي لا يعني صاحب السيادة، بما أنّه يخرج من مجال اختصاصه. ولذلك سيتحول الدين عند
روسو إلى عقيدة مدنية خالصة تختلف عن العقائد الدينية، بل هي مشاعر اجتماعية تكمل شخصية المواطن
الصالح، لينحصر الدين المدني في أداء مهمّة التسامح والرفق بالمواطن.
ينجلي التأثير المزدوج لهيوم وروسو في بناء قواعد الفلسفة النقدية، بذلك التزاوج بين فهم حدود الفهم
البشري، وبنية العقيدة الأخلاقية التي تؤلف قمّة الرشد الإنساني في التشريع للواجب، لقد أصبح الدين
موضوعاً للنقد في الفلسفة الكانطية، بما أنّه يتجاوز حدود العقل الخالص، ففي كتاب نقد العقل المحض تكون
مسألة وجود الله مسألة شديدة الارتباط بالمعرفة، فلا يمكن للعقل المحض معرفة الله، بما أنّ كل معرفة لا
تتأسس على التجربة هي معرفة غير معقولة، ليقع الله خارج حدود المعرفة العقلية، ولن يكون موضوعاً
من موضوعات العلم، إنما هو بداهة تابعة لمفهوم الخير الأسمى، لا إمكان لمعرفة الله، بل يتجلى في بداهة
الإرادة الخيّرة الإنسانية 38 ، وهكذا يبيّن كانط استحالة التدليل على وجود الله داخل إطار التجربة، ليكون الإله
بداهة تتبع القانون الأخلاقي، ومن ثم سيؤلف الدين حقلاً تابعاً للأخلاق، فما يهمّ هي واجبات الإنسان، وقد
استكمل مسار رشده فأصبح مشرّعاً من ذاته.
وعموماً استجمع العقل الحديث غايته النقدية، في بناء إنسانية جديدة تحرّرت من عقيدة عبادة الإله
الإنسان، واستكملت وجودها من فلسفة الإنسان الحر، لقد ذهب هيوم إلى ما وراء دين الكنيسة الذي عاث
في الأرض فساداً، ليبحث في طبيعة المعرفة الإنسانية عن حدود اليقين، فارتهنت خلاصة المعارف البشرية
بالتجربة الإنسانية الخالصة، وقد تجاوزت كلّ إملاء من خارجها، لقد أصبحت بداهات الإيمان مجالاً خصباً
للنقد الإبستيمولوجي، فتبيّن أنّ العقل الإنساني صفحة بيضاء، لا يحمل فكرة يقينية.
هناك تعليق واحد:
[ملاحظة: لقد تحاشى البحث مناقشة النقطة الأساس وهي نظرية هيوم في تأسيس الأخلاق على العاطفة الفطريّة، وحتى عرضُها لم يكن كافياً (محمد)]
إرسال تعليق