رهانات الفلسفة
سعيد ناشيد
أبريل 22, 2016
على الأرجح لن يكون في وسعي اقتراح فكرة
جديدة أو استجلاء معلومة غير معروفة، غير أني سأحاول أن أبسط اقتراحاً أكثر بساطة
ووضوحاً. أقترح أن نعيد تنظيم بعض المسائل المعروفة وفق ترتيب قد لا يخلو من جدّة
وجدوى. ودعنا ننطلق من بداهة بادية لكل الأذهان: من
السهولة بمكان الفصل بين الرياضيات وتاريخ الرياضيات، من السهل أيضاً الفصل بين
الموسيقى وتاريخ الموسيقى، من السهل كذلك الفصل بين اللغة وتاريخ اللغة، لكن ليس
من السهولة بأي حال من الأحوال، ولا من الممكن في الأساس، أن نفصل بين الفلسفة
وتاريخ الفلسفة. إذا تركنا تاريخ الفلسفة جانباً فلن يبقى للفلسفة من شيء يُذكر.
لماذا؟ لأنّ تاريخ الفلسفة هو تاريخ العقل الذي يُفترض أننا نفكر به.
في التواريخ الاعتيادية (
تاريخ السياسة، تاريخ العلم، تاريخ الرياضة، إلخ) نفكر في ما تم قوله أو تم فعله
في سابق الأزمان، لكن بالنسبة لتاريخ الفلسفة، فإن كل ما سبق قوله أو فعله لا نفكر
فيه وحسب وإنما نفكر به أيضاً. إننا حين
نفكر في إحدى شذرات هيراقليطس الآن على سبيل المثال، فإن تلك الشذرة نفسها، بنحو
أو بآخر، سرعان ما تمثل جزءاً من تفكيرنا في نفس الآن. أي نعم، إذا كان تاريخ
الفلسفة يمنحنا أدوات التفكير الفلسفي في الحياة والوجود والزّمان والإنسان
والأخلاق وغير ذلك، فليست الأدوات هنا سوى المفاهيم نفسها التي نفكر بها ونفكر
فيها في نفس الآن: الحياة والوجود والزمان والإنسان والأخلاق وغير ذلك. وهذا ما
يجعل الفلسفة وتاريخ الفلسفة شيء واحد، إنه نفس الشيء تقريبا.
غير أن الاقتراح الذي أبسطه هو أن تاريخ
الفلسفة، الذي هو الفلسفة عينها، يتألف من ثلاثة خطوط
متوازية: الخط الأول، يمكننا أن نصطلح عليه باسم فن التفكير، بمعنى كيف أفكر؟ (
المنهج، المنطق، الشك، النقد… إلخ ). الخط الثاني، يمكننا أن نصطلح عليه باسم فن
العيش، بمعنى كيف أعيش؟ ( الحياة، الموت، الحب، الألم… إلخ ). الخط الثالث، يمكننا
أن نصطلح عليه باسم فن العيش المشترك، بمعنى كيف نعيش مع بعضنا البعض؟ ( الدولة،
الأخلاق، العدالة، المجتمع، الحضارة، القانون، إلخ).
الخط الأول، كيف أفكر؟ أو فن التفكير:
تروم استراتيجية هذا الخط تنمية القدرة على التفكير. هذا واضح. لكن السؤال كيف؟ أليس العقل معطى فطرياً؟ أليس التفكير ملَكة طبيعية في الإنسان؟ فهل يحتاج استعمال العقل، والذي نعتبره معطى فطريا في الإنسان، إلى جهد ودربة وتعلم وتعليم؟ وبأي معنى؟ لكن، لننتبه، ثمة منطلق متفق عليه في تاريخ الفلسفة: قدرة العقل على التفكير هشة ومهددة على الدوام. فالعقل نسّاء عند سقراط؛ تخدعه المحسوسات عند أفلاطون؛ خطاء عند ديكارت؛ والوعي معرض للاستلاب والاغتراب حسب ماركس؛ وتخدعه قوى اللاشعور حسب فرويد؛ بل الفكر العلمي نفسه قد تخدعه البداهات واللاشعور الجمعي للعلماء حسب باشلار. من هنا يحتاج تحرير العقل من الأوهام إلى جهد جهيد وذكاء استثنائي.
تروم استراتيجية هذا الخط تنمية القدرة على التفكير. هذا واضح. لكن السؤال كيف؟ أليس العقل معطى فطرياً؟ أليس التفكير ملَكة طبيعية في الإنسان؟ فهل يحتاج استعمال العقل، والذي نعتبره معطى فطريا في الإنسان، إلى جهد ودربة وتعلم وتعليم؟ وبأي معنى؟ لكن، لننتبه، ثمة منطلق متفق عليه في تاريخ الفلسفة: قدرة العقل على التفكير هشة ومهددة على الدوام. فالعقل نسّاء عند سقراط؛ تخدعه المحسوسات عند أفلاطون؛ خطاء عند ديكارت؛ والوعي معرض للاستلاب والاغتراب حسب ماركس؛ وتخدعه قوى اللاشعور حسب فرويد؛ بل الفكر العلمي نفسه قد تخدعه البداهات واللاشعور الجمعي للعلماء حسب باشلار. من هنا يحتاج تحرير العقل من الأوهام إلى جهد جهيد وذكاء استثنائي.
تقول إحدى لوحات غويا، «عندما ينام العقل
تستيقظ الأشباح». غير أن العقل ميال إلى النوم بطبعه. العقل ميال إلى الكسل
والسكينة وراحة البال والتسليم بالمعطيات الجاهزة، ومن ثمة فإنه سرعان ما يدمر
طاقته الحيوية بنفسه. يقول بعض الأصوليين الأميركيين
«العقل مبرمج على الإيمان»، بوسعنا أن نذهب أبعد من ذلك ونقول، العقل مبرمج على
التصديق والتسليم. وهذا هو أساس النقد النتشوي للعقل. لذلك يحتاج العقل إلى جهد
استثنائي (غير فطري) يحرّره من أوهامه، ويحفظ له تلك النعمة الخارقة المسماة
بالقدرة على التفكير. هذا الجهد الاستثنائي يتخذ شكل إعمال الشك في كل البداهات
والمسلمات. إذا كان سقراط هو أب الفلسفة فلأنه أوّل محاوِر في التاريخ لا يُبشر
بأي خلاص عدا أنه يبعث الشك في عقول محاوريه. الشكّ هو المضادّ الحيوي الذي
يحتاجه العقل لغاية تحرير نفسه بنفسه من أوهامه. وإذا كان النقد تجربة مؤلمة لأنها
توخز العقل وتحرمه من راحة النوم، فإن إضفاء روح المرح والسخرية على هذا الوخز
سيكون قراراً حكيماً. وهذا ما برع فيه سقراط، بل برع فيه بامتياز. لذلك كان قرار
إعدام سقراط بمثابة محاولة لأجل استئصال الوعي النقدي الذي نبت بين ثنايا العقل
ليقض مضجعه ويحرمه من راحة النوم. إنّ صفة الوعي الشقي التي أطلقها هيجل على ذلك
الوعي النقدي لهي صفة بالغة الدقة. لقد أعدم سقراط أخيراً، وواجه الحكم بشجاعة
ناذرة، غير أن الوعي النقدي استطاع أن يواصل طريق البقاء الصعب رغم تكالب الضربات.
كيف أعيش؟
الخط الثاني، كيف أعيش؟ أو فن العيش:
تروم استراتيجية هذا الخط تنمية القدرة على العيش. لكن كيف؟ ثمة اتفاق آخر في تاريخ الفلسفة على أن قدرة الإنسان على العيش هشة ومهددة على الدوام. وهذا ما يفسر ظاهرة الانتحار مثلا، (لا ننسى أن ألبير كامو يعتبر أن الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة). لكنه يفسر أيضا تدهور الطاقة الحيوية للإنسان، ما يفضي إلى انهيار الحضارة حسب نيتشه والنيتشويين.
تروم استراتيجية هذا الخط تنمية القدرة على العيش. لكن كيف؟ ثمة اتفاق آخر في تاريخ الفلسفة على أن قدرة الإنسان على العيش هشة ومهددة على الدوام. وهذا ما يفسر ظاهرة الانتحار مثلا، (لا ننسى أن ألبير كامو يعتبر أن الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة). لكنه يفسر أيضا تدهور الطاقة الحيوية للإنسان، ما يفضي إلى انهيار الحضارة حسب نيتشه والنيتشويين.
يواجه هذا الخط المسائل
الفلسفية في الحياة، من قبيل: كيف أستمتع بالحياة (الأبيقورية مثلا)؟ كيف أتحمل
الآلام (الرواقية مثلا)؟ كيف أتصالح مع فكرة الموت (أبيقور وسقراط على سبيل
المثال)؟ لا ننسى أن ديريدا في
آخر حوار قبل وفاته يقترح علينا بأن نجعل الغاية الأهم للفلسفة أن تعلمنا كيف
نموت؟ العبرة في ذلك أننا لا نستطيع أن نعيش بنحو جيد إذا لم نتصالح مع فكرة
الموت، وإذا لم نتناغم مع الحياة باعتبارها صيرورة وميتات: تعاقب الأيام، الهجرة
من مكان إلى مكان، الطلاق، الاستقالة، التقاعد، إلخ. روسو نفسه يقول مثل هذا
الكلام ببلاغته المعهودة في آخر نصوصه (خواطر المتنزه المنفرد).
يمكننا أن نستنتج بأن استراتيجية هذا الخط
تهدف إلى التقليص من دائرة الشقاء أثناء الانخراط حباً أو كرهاً في دواليب الحياة.
وعلى مسار هذا الخط نجد فلاسفة ومدارس فلسفية عديدة، منها على سبيل المثال،
الرواقية والأبيقورية والنتشوية.
كيف نتعايش؟
الخط الثالث، كيف نعيش مع بعض؟ أو فن العيش
المشترك:
تتعلق استراتيجية هذا الخط بتنمية القدرة على العيش المشترك. ودائما
نفس السؤال، كيف؟ هذه المرة أيضاً ثمة اتفاق في تاريخ الفلسفة على أن قدرة الإنسان
على العيش المشترك تبقى هشة ومهددة على الدوام. وهذا ما يفسر الحروب والعنف
والإبادة والاستبداد. وهو ما يفسر أيضا كون السلام الشامل لا يزال مطلبا بعيد
المنال.
يواجه هذا الخط المسائل النظرية المرتبطة
بالفضاء العمومي، والمصلحة العامة، والعيش المشترك: كيف نبني دولة عادلة؟ كيف ننشئ
مجتمعا حرا؟ ما هي معايير العدالة والحق والإنصاف؟
بوسعنا أن نستنتج بأن استراتيجية هذا الخط
تهدف إلى تقليص دائرة العنف بين الأفراد، بين المجموعات، وبين الجماعات. وعلى مسار
هذا الخط نجد فلاسفة كبار، على سبيل المثال، أفلاطون مؤسس الفلسفة السياسية، هيجل
مؤسس فلسفة التاريخ، ماركس مؤسس نقد الاقتصاد السياسي.
الخلاصة: ماذا عن رهانات الفلسفة؟
الفلسفة مواجهة مفتوحة ضدّ
الوهم الذي يلازم العقل، ضدّ الشقاء الذي يلازم الحياة، وضدّ العنف الذي يلازم
الحياة المشتركة. في هذه المواجهة لن
يكون هناك من نصر نهائي، لن يصل الإنسان إلى لحظة الحقيقة والسعادة والسلام. هنا
تكمن حدود رهانات الفلسفة. لكننا نستطيع على الدوام تحسين شروط المقاومة، أي تقليص
دائرة الوهم والشقاء والعنف، هنا بالذات تكمن عظمة الرهان على الفلسفة.
ثلاثة خطوط
يتألف تاريخ الفلسفة، الذي هو الفلسفة
عينها، من ثلاثة خطوط متوازية: الأول، يمكننا أن نصطلح عليه باسم فن التفكير،
بمعنى كيف أفكر؟ (المنهج، المنطق، الشك، النقد… إلخ). الثاني، يمكننا أن نصطلح
عليه باسم فن العيش، بمعنى كيف أعيش؟ (الحياة، الموت، الحب، الألم… إلخ). الثالث،
يمكننا أن نصطلح عليه باسم فن العيش المشترك، بمعنى كيف نعيش مع بعضنا بعضا؟
(الدولة، الأخلاق، العدالة، المجتمع، الحضارة، القانون، إلخ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق