ميشال أونفري: الشعب
دفن حيا واستبدل بالغوغاء وأوروبا تحتضر
يعدّ ميشيل أونفري من بين أولئك الذين
يعتقدون أنه لا وجود للفلسفة دون الاستفادة من علم الاجتماع، والعلوم الإنسانية
والعلوم، بما في ذلك التحليل النفسي، يقول "الفيلسوف يفكر وفق الأدوات
المعرفية المتوفرة لديه، وإلا فإنه سيفكر خارج الواقع". تأثر بباروخ سبينوزا،
البارون دي هولباخ، نيتشه، ألبير كامو، بيير هادو، ديوجين سينوب، شارل ديغول،
وغيرهم، وألف "سطوة البقاء" و"بطن الفلاسفة" الذي صدر عن دار
غراسيه ـ 1989 و"الحقيقة الشرهة" ـ غراسيه، 1995 ومن مؤلفاته أيضا
"على خطى أبيقور، نيتشه وكامو". و"أفول صنم ـ الفرية
الفرويدية" عن دار ـ 2010 والذي اعتبر فيه أن التحليل النفسي هذيان طائفي ـ
فكان "قنبلة" في الأوساط الفلسفية بفرنسا.
الأحد 2015/05/10
أسس أونفري الجامعة الشعبية، التي تدرّس
الفلسفة لتنتشر بسرعة في كل أنحاء فرنسا، كونها تمنح مقاعد لكل الفئات العمرية
ودون شروط. وعرف بفكره المضاد للتاريخ الفلسفي، حيث تستند منهجيته على الرؤية
التوّقعية. إذ يعتبر أن كل شيء موجود مسبقا حتى قبل وقوع الحدث. هذه الرؤية، سمحت
له أن يؤكد الأشياء “المبتذلة”، كأن يقول أن إيمانويل كانط كان “العقل الملهم”
لأدولف آيخمان.
ومن خلال كتابه، “ميثاق الإلحاد” الصادر في
العام 2005، اعتبر أونفري أن الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية والمسيحية
والإسلام) كانت ديانات للإبادة الجماعية، وأن المبشر جون ألهم هتلر و”يسوع″
هيروشيما، وأن المسلمين فاشيون ودمويون. وفي كل الأحوال، مثلما كسب ميشال أونفري
المعجبين، فقد كسب أيضا الأعداء، خاصة من المؤسسات الأكاديمية “المحكمة” التي رأت
في نصوصه “الشطط” الذي يبحث عن التميز والبروز.
محبوب الشعب
يواصل أونفري صنع المفاجآت. مبررا كل مرة
الكثير من “اللغط” الذي يتبع بعض تصريحاته “بعدم الفهم”، وهو ما حدث في أعقاب
أحداث فرنسا الأخيرة عندما اتهم بانحرافه عن مبادئه. حينها قال في مقابلة
تلفزيونية إنه يوجد في فرنسا مشكلة عويصة اسمها “المشكل الإسلامي”، معتبرا أن
“القرآن نفسه يحث على الاقتتال والعنف وأنه دموي”، استغرب الكثير من الكتاب
والمثقفين الفرنسيين، تصريحات ميشال أونفري، معتبرين أن انقلابه عمّا كان يروج له
سابقا من أفكار هو بمثابة انحراف خطير نحو الأفكار اليمينية “المتطرفة” وأنه أصبح
يستعين بأيديولوجية اليمين الحاقد على الإسلام والمسلمين.
لكن تصريحات أونفري “المستنيرة” حول مقتل
رسامي شارلي آيبدو وما تبعه من حملة إعلامية مضادة للإسلام بمثابة شرارة هيجت
الصديق قبل العدو… صراحة أونفري وشجاعته في القول بأن المشكل ليس مشكل إسلام بل هو
مشكل عنصرية الفرنسيين، موجها لومه للحكومة الفرنسية التي شجعت الإعلام والصحافة
الفرنسية بالاستمرار في الإساءة للمسلمين ولنبيهم محمد، لم تشفع له أمام الإعلام
الفرنسي رغم ما يقال عنه بأنه مدلل هذا الإعلام.
عندما تحدثنا إليه عن فحوى الحوار رحب
بالفكرة ولم يتحفظ عن أيّ سؤال، وفي كل مرة كنا نستفزه فيها، كان يرد “بعصبية”
مكنونة مستعينا بنصوص من القرآن أو من التوراة في محاولة منه للإجابة عن تساؤلاتنا
وإقناع قرائه من خلالنا، كان في كل مرة يؤكد “لم أكن لأجرح المسلمين في دينهم ولكن
أطالب بالقراءة الصحيحة لكتابهم”، وكلما احتدم الخلاف معه أثناء الحوار، حول نقاط
مختلفة يعود ليهدئ الوضع بلطافة ولباقة، ويواصل في الإجابة عن الأسئلة بلباقة
ورصانة.
تمكن أونفري من أن يصنع لنفسه مكانة في
فرنسا وخارجها واستقطب اهتمام الشعب، حتى لقب ـ “بمحبوب الشعب” مؤسساً لأفكار
فلسفية جديدة، يواصل من خلالها عرضه للأديان وما تحتويه نصوصها مشيرا إلى أن
القرآن والإنجيل، على حد سواء، يحتوي كل منهما على آيات تدعو إلى الجريمة والعنف
والقتل وأخرى تدعو إلى التسامح والمحبة، مؤكدا على أنه يجب على كل فرنسي مسلم أن
يحدد العيش وفق إسلام علماني وجمهوري. مؤكدا أن الإسلاموفوبيا الحقيقية، حسب
منظوره، ليست في استعراض عمليات إرهابية من قبل شباب لون بشرتهم سمراء ويدينون
بالإسلام.
أنا لست من أولئك الذين يتخذون من
العلمانية ديناً عقائديا راسخا يقع خارج حدود الزمن
ولكن الإسلاموفوبيا هي في ذلك القصف
المتكرر لمسلمين أبرياء، عزّل في العراق وليبيا وسوريا وأفغانستان وأماكن أخرى من
قبل القوى الغربية بحجة أنهم يهددون أمنهم.
نشأة يتيم
ولد أونفري في العام 1959 في الفاتح من
يناير بشونبلوا بالنورماندي بفرنسا، لأب مزارع وأم تعمل منظفة، وبعد وفاتهما انتقل
إلى مدرسة داخلية كاثوليكية تعنى بالأيتام، ليعيش طفولته مع المعاناة و يكافح من
أجل البقاء والاستمرار. ومنذ بداية الثمانينات أخذ أونفري يدرّس الفلسفة، ليقدم
أطروحته للدراسات العليا، في العام 1986 بعنوان “الآثار الأخلاقية والسياسة
للأفكار السلبية لشوبنهاور” بمركز الفلسفة السياسية والقانونية بجامعة كون بجنوب فرنسا.
بعدها تعرض إلى سكتة قلبية عندما كان عمره 28 سنة، تجاوزها بأعجوبة.. وبعد عودته
إلى حياته الطبيعية، بدأ يتنقل بين البلدان الشمال إفريقية، فتعرض أثناء وجوده
بموريتانيا إلى عدوى قاتلة عرضته إلى جلطة دماغية وأقعدته السرير لبضعة أسابيع،
ومنعته من الكتابة لفترة طويلة.
"الجديد" أجرت حوارا واسعا مع أونفري ساءلته خلاله حول جملة من
الافكار والموضوعات، وفتحت في الوقت نفسه باب السجال مع أفكاره أمام عدد من الكتاب
والمثقفين العرب مما شكل ملفا فكريا مهما.
"الجديد" أعطت "العرب" حق نشر هذا الملف الفكري القيم
ليظهر في صفحات الثقافة هذا الأحد والأحد القادم.
◄الجديد: "ميثاق الإلحاد" كتاب تنتقد فيه الأديان الثلاثة
الإسلام، الكاثوليكية والمسيحية. وأنت تقول إنه يجب أن لا "يحتقر"
الإسلام، في حين تلوح في المؤلف ذاته بأن المسلمين "برابرة وهمج" وأنكم
أنتم المتحضرون، في إشارة منك إلى بعض الآيات القرآنية وسيرة النبي محمد (ص). هل
اطلعت على الإسلام في عمقه بما يكفي لتصدر أحكاما "قيمية" كهذه، علما
أنك سبينوزي الطرح، وسبينوزا عارض كل حكم قيمي أو وهم خاص يقع على دين أو معتقد؟
* أونفري: الإسلام، مثله مثل الديانة اليهودية، أعلم اليسير عنه، أقل من
المسيحية، وهي الديانة التي علمني إياها والداي وقالا لي إن هذه الديانة هي التي
ولّدت الحضارة التي أنا ثمرتها.
ولكن، مثلما قرأت التلمود، قرأت بعناية،
والقلم بيدي، القرآن والأحاديث النبوية، بالإضافة إلى بعض السير الذاتية لمحمد،
إلى جانب عدد من الكتب حول تاريخ الإسلام، لذلك فإنني أعرف التاريخ الإسلامي بشكل
أقل من التاريخ المسيحي، كذلك سافرتُ إلى البلدان التي يوجد فيها الإسلام مثل
الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا، مصر، مالي، موريتانيا ولبنان. وقد رأيت تعدّد
مفاهيم الإسلام في التطبيق، وأعلم أن الكثير من المسلمين يكونون أكثر مرونة حينها
يستدعي الأمر التركيز على البعد الروحي والعالمي، وبعضهم يكونون أكثر صرامة لأنهم
يختارون البعد الديني والسياسي. أما بالنسبة إلى مفهوم "البربرية"، فمن
الواضح أنه حكم قيمي، قد يبدو الفعل همجياً عندما يُذبح أشخاصٌ، ذنبهم الوحيد أنهم
مواطنو الدول الغربية التي تقصف هذا البلد الإسلامي أو ذاك، لكن أجد الهمجية على
قدم المساواة عندما يقتل المدنيون الأبرياء، النساء والأطفال والعجزة، بأسلحة
تكنولوجية متطورة (الطائرات الشبح، الطائرات دون طيار والقنابل)، في أفغانستان
ومالي وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي، تحت غطاء أنها تشكل تهديدا لنا على أرضنا،
في حين نحن من أنشأ الإرهاب من خلال زعمنا أننا أردنا تجنب تصديره.
لا يجب أن ننسى أن الحروب تصنع ثروة
الشركات الأميركية التي هي على خلاف ذلك الممول للحملات الانتخابية للديمقراطيين
والجمهوريين المرشحين للبيت الأبيض.
سيف الكلمة
◄ الجديد: "الكلمة سيف على رقاب أصحابها". لطالما رددتً هذه
العبارة، مؤكدا في كل مرة على "إلحادك" لتقول حتى "أكون حرا"،
فهل معنى أن تكون ملحدا حر الفكر والتفكير، يمنحك الحق في أن تضرم النار في
معتقدات غيرك؟ علماً أن العلمانية أصبحت تقدّم منظوراً جديدا في الفلسفة الجديدة؟
*أونفري: يجب أن نتفق أولا على مفهوم العلمانية. أنا لست من أولئك
الذين يتخذون من العلمانية ديناً عقائديا راسخا يقع خارج حدود الزمن. لا أعتقد على
سبيل المثال أن قانون 1905 الشهير الذي فصل بين الكنيسة والدولة كان خلاصة عقيدة
تقول "أؤمن بالتاريخ وبتسجيل التشريعات في التاريخ".
صور 1905 ليست صور العام 2015، ففي بداية
القرن الماضي، كان الإسلام على الهامش وكانت المسيحية هي المهيمنة. اليوم، الإسلام
هو الديانة التي تنتشر بشكل مطرد، ومتعافية وقوية على شاكلة ما سماه نيتشه
"بالصحة العظيمة". علينا أن نفكر بالعلمانية بالمفهوم أو التصور الجديد
الذي صار يفرض نفسه، وعلينا أن نكون براغماتيين وليس أيديولوجيين. وما أقصد هنا
بالبراغماتية أي أننا يجب أن نتعامل بها مع ما هو موجود، حيث أن الأيديولوجي يعتقد
بأفكار منفصلة عن الواقع.
يسوع المتسامح ويسوع الغاضب
◄ الجديد: تدافع عن العلمانية بشكل أو بآخر. لكنك تعتقد أنه لا بد
للأشخاص أن يفهموا أن ما على الأرض الفرنسية، هي "السيادة شعبية"، وأن
الأديان يجب أن تتأقلم مع مبادئ الجمهورية وتتخطى الحاجز الروحاني. هل يجب تبني
إسلام يتوافق مع الجمهورية، بينما الإسلام يقدّم نفسه صالحا لكل زمان ومكان،
معززاً بوجود مسلمين ومؤسسات إسلامية مثلا على أراضي الجمهورية الفرنسية منذ قرن
من الزمن وعلى مر الجمهوريات الخمس؟
*أونفري: أنا أتحدث هنا عن الإسلام الذي يدعو قرآنه للسلم. ولكن مرة
أخرى، وتتمة لما قلته للتو، الإسلام الذي من شأنه أن يكون سلميا عندما يمكن أن
يكون في موقع الغزو المهيمن؟ خصوصا في جوهره، والقرآن هو كلام الله، ونحن لا
يمكننا استبعاد أو التحكم في ما قال الله.
إذن التناقض هنا موجود في النص، فأولئك
الذين يتغنون بالإسلام التنويري، هم على حق، لأن ذلك موجود في القرآن. ولكن أولئك
الذين يعلنون الإسلام العدائي والعنيف هم أيضا يعتبرون أنفسهم على حق، لأن ذلك
موجود في القرآن.
دعيني أضرب لك أمثلة من القرآن. أي شخص
يرغب في السلام، من البداهة عليه أن يتوجه إلى سور قرآنية تتحدث عن السلم لتبرير
ما يرغب. لكن من البدهي أيضا أن تُعرض سور قرآنية تبرر الحرب لأشخاص يقومون بالحرب
لتبرير ما يقومون به.
التناقض ذاته موجود في العهد الجديد. ففي
الإنجيل، يقول يسوع المسيح "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". (متّى ولوقا XXII.21 XX.25). لكن في
رسالة روما (13-1) يقول بولس الرسول "ليس هناك سلطة إلا من الله".
الإسلاموفوبيا، كما يقولون، هي كلمة صاغتها
إيران الخميني لنبذ أيّ معارضة لنظامه
إذا ما نظرنا إلى الأمر من ناحية يسوع
المسيح، فالعلمانية هي مع الفصل بين الروحاني والزماني، ومن ناحية أخرى، إذا ما
اعتمدنا على ما قاله بولس، فإننا ندرك العلاقة الحميمة للروحاني والزماني، لأكثر
من ألف سنة، وبعيداً عن يسوع السلام، التسامح والحب، اعتمدت الكنيسة والفاتيكان،
والحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، والإبادة الجماعية للسكان الأميركيين الأصليين،
على روح يسوع الغاضب في المعبد وعلى عبارة بولس الرهيبة.
تحديث الإسلام
◄الجديد: هل تعني أن الإسلام يحتاج إلى "تحديث شامل في
العمق"، رغم أنك تعترف أنه لا يفصل بين الروحي والزماني والمكاني؟
*أونفري: لا يوجد
في القرآن، كما يبدو لي، سورة واحدة تفصل بين الصفتين: الروحية من جهة، والزمانية
من جهة أخرى. فبالإضافة إلى كونه حميميا روحانيا وشخصيا، وشريعة خاصة، إلا أن
الإسلام هو دين الدولة السياسي لأنه ثيوقراطي بطبيعته، والديمقراطية ليست جزءا من
المثالية الإسلامية.
قراءة جديدة
◄ الجديد: هل ينبغي أن نكافح من أجل العلمانية؟
* أونفري: العلمانية
تمثل مفهوماً حياً وليست عقيدة ميتة، وعلينا التفكير في إعادة إحيائها. هناك وقائع
لا يمكن أن نفعل شيئاً حيالها، هناك جالية مسلمة في فرنسا تقدر بالملايين. وحسب
الأصول، لا يمكن تحت أيّ ذريعة كانت، أو بحجة "التغيير الجذري"،
"إعادتهم إلى أوطانهم" لأنهم عملياً في أوطانهم وفي بيوتهم، إما لأنهم
ولدوا هنا، أو لأن آباءهم ولدوا في فرنسا. أنا ضد أيّ سياسة تنادي بالطرد، سواء
كانت تعاملا بالمثل أو دعاية إعلامية. وضد النفي الجماعي والذي يحدث غالبا في
الدول الشمولية. لذلك يجب علينا أن نتعامل مع الواقع. الواقع يقول إن الملايين من
المسلمين يعيشون اليوم في فرنسا. ونحن إذا كنا علمانيين ونتلو التعاليم المسيحية
فعلينا ألا نرقّي أو نحدّث أيّ معتقد أو دين مهما كان، وفي هذه الحالة لن يبقى إلا
المعتقدات التي تستغل من قبل الدول الأجنبية التي من مصلحتها أن تجعل من الإسلام،
مثلاً، دينا محاربا ضد الغرب، والأكيد، أنه لا يتم بناء المساجد بالمال العام،
وهنا تصبح العلمانية خالصة، في معناها، بغض النظر عن النتائج، ولكن بطريقة أو
بأخرى سوف تصبح المساجد، أماكن للدعاية المعادية للجمهورية.
أما إذا رفضنا وشكّكنا في الأيديولوجيات،
فإن الجمهورية تستولي على هذا الواقع، بعيداً عن أيّ خيال، وبالتالي يمكن ترقية
وتحديث الإسلام الجمهوري، الذي يستند إلى السور القرآنية السّلمية. ومن ثمّة من
الضروري إعداد الأئمة ومراقبة أماكن العبادة، حتى لا تتحول إلى مواقع للدعاية
الإرهابية، والأهم من ذلك، الكفاح ضد أولئك الذين لا يؤمنون إلا بالسور القرآنية
التي تدعو إلى العدوانية والتعصب للدين.
الكلمات أسلحة
◄الجديد: الآية القرآنية تقول بصريح العبارة "يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا". والشعوب هنا، تعني في
ما تعني، العرب والعجم. ألا ترى بأن القراءة السطحية للقرآن، تستهدف المسلمين في
عقيدتهم وترهن فكرة التعايش التي ينادي بها القرآن، وترسخ لاستحالة تأقلم وتفاعل
أصحاب الديانات المختلفة مع بعضهم. ألا تعتقد أنه انهيار ذاتي وفكري، بحيث أن
الأسباب تتعلق مباشرة بهكذا تفكير وهكذا بيئة؟
*أونفري: دعينا
نتفق أولاً على أن القول بوجود آيات في القرآن تدعو إلى الحرب وقتل الكفار وإلى
الذبح، وتذكر أن محمداً نفسه كان أحد قادة الحرب الذين ساهموا شخصيا في القتال، لا
ينبغي أن ينظر إليه باعتباره كرها للإسلام، إلا إذا أنكر أحدٌ أن هذا القرآن هو
القرآن ذاته، أما إذا توافقنا على أنه القرآن فلا شك أن هناك العديد من السور التي
تضفي الشرعية على أعمال العنف باسم الإسلام.
أيضاً هناك آيات أخرى أقل عددا ولكنها
موجودة، تدعو إلى المحبة والرحمة والرأفة، وترفض الإكراه. يمكن للمرء أن يستدل
بهذه أو تلك. وحينها سنحصل على طريقتين لنكون مسلمين. طريقتان متناقضتان تماما.
ماذا عن الآية التي تدعو إلى "إبادة الكفار عن آخرهم" أو ماذا عما هو
مستخرج من السيرة "أي يهودي يقع بين يديك، اقتله". وأيضا "وقاتلوا
المشركين كافة، حيثما وجدوا"؟ (الترجمة خاصة بأونفري ولا يوجد سند أو أرقام
للسور والآيات المذكورة ـ المحرر)
هي آيات تحث على القتل وهي موجودة في
القرآن. بينما هناك آيات تدعو للسلم كأن نستدل بمثل هذه الآية: "لا إكراه في
الدين" البقرة (II.256) أو الآية
التي تقول: "ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعا"(V.32). وهنا أذكر أن نفس هذه الدعوة، المتمثلة بهذه الكلمات، موجودة عند
اليهود (ميشنا، سفر التثنية، 4:5).
في الآيات الأخيرة، يمكن القول حقا إن
الإسلام هو دين السلام والتسامح والحب، ولكن على حساب الآيات الأولى، والتي بدورها
تجعل من الممكن أن يكون الإسلام دين حرب وتعصب وكراهية.
ونجد الأمر ذاته في المسيحية، حيث يدعو
المسيح في اليوم الآخر إلى غفران الخطايا، ويردّ على الكراهية بالحب، ويدعو إلى
محبة القريب وغفران الخطايا. ينادي بالمسيحية السلمية المتسامحة. إلا أنها أيضا
على غرار الديانتين اليهودية والإسلامية، حملت في طياتها الدعوة للتعصب والعنف
والحرب، وأشير هنا إلى أناجيل يسوع، الذي كان يضرب زوار المعبد بالسياط، و
بالمناسبة هذا هو المقطع المفضل لأدولف هتلر في الأناجيل.
نجد أيضاً ذاك الذي قال "لا تظنوا أني
جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا" (متى 10. 34 - 36)،
سيف سيصبح رمز القديس بولس الذي بنت عليه المسيحية الرسمية أيديولوجيتها، ولم تبن
على يسوع السلام والتسامح والحب، الذي كان بإمكانه تجنب الحروب الصليبية، ومحاكم
التفتيش، ومؤشر الاستعمار والإبادة الجماعية للشعب الأميركي.
◄ الجديد: أنت تقدّم النبي محمداً على أنه "رجل حرب"؛ بنقلك
لبعض السور القرآنية. في حين نعلم عن طريق الروايات التاريخية الأشهر أن الإسلام
لم يحتلّ قلوب الذين يسعون للبحث عن اتجاه لحياتهم على حد السيف. ألا ترى أن
مكانته تأسست من تواضع عظيم، وإيثار لنبي كريم اكتسح دينه المعمورة لصفاته؟
*أونفري: أذكرّك
بالحديث الذي رواه البخاري (4.73) وهو صحيح، لم يأت بالصدفة ويقول فيه محمد
"اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". إذا اكتفينا فقط بالسيرة المحمدية،
على حد علمي، ليس هناك مسلم واحد، نظر إلى محمد على أنه كان وهماً. الجميع يعترف
بأنه كان يأتي بالوقائع وأفعاله أفعال نبي. أقدم لك ما هو موجود ومعلوم للتفكير
فيه، فبعد عودته إلى المدينة، قال محمد لنجله إنه التقى بين المقاتلين شيوخاً من
دون شعور، فذبحهم. ثم هذا عقبة (يقصد عقبة بن أبي معيط) الذي سأله قبل أن يُقتل:
"يا محمد، من سيطعم أولادي؟ فأجابه محمد "النار" وأمر بقطع رأسه (I. 643-646). ( يقول أونفري هنا إن النبي محمداً قال لنجله كذا...ومعلوم أنه لم يكن
لديه ابناء ذكور وأن أكبر أبنائه إبراهيم مات طفلاً بعمر السنتين، فالظاهر أن
أونفري يستند إلى قصة خرافية وليس إلى سيرة مثبتة موثقة من سير النبي ـ المحرر).
وأيضا: بأمر من محمد، طعن الشاعر اليهودي
كعب بن الأشرف حتى الموت، لأنه هجا محمداً بعد قتل ذويه في بدر (II.51-58).(لم يكن كعب بن الأِشرف يهودياً، ولكنه من طيء وأمّه من بني النضير
يهودية من يثرب، وكان قد قال شعراً يشبب فيه بنساء النبي والمسلمين ـ المحرر)
وبالمثل، ذاك الذي رفض الإفصاح عن مكان كنز
كان يخفيه، فقام المسلمون بتعذيبه، ثم قطع رأسه (II.336-337). (لا يُعرف عن أي حادثة يشير أونفري هنا! ـ المحرر)
أخيرا، في غزوة الخندق التي ألّبت اليهود
على المسلمين، اعتزم محمد إنهاء ثلاث سنوات من الحرب غير المعلنة مع اليهود في
تحديد المعركة. ويذكر أن جميع الرجال من قبيلة بني قريظة تم قطع رؤوسهم ورؤوس
زوجاتهم تباعا جنبا إلى جنب مع أبنائهم. ما يقرب من ألف يهودي قطعت رؤوسهم واحدا
تلو الآخر على حافة مقبرة جماعية.(الخندق لم تكن غزوة بل معركة دفاعية اضطر النبي
والمسلمون في المدينة إلى حفر خندق حولها ليحموا أنفسهم من هجوم قريش مع قبائل
متحالفة معها، فنقض يهود بني قريظة عهداً مكتوباً بينهم وبين النبي وحاربوا ضده مع
أعدائه، فطلب من سعد بن معاذ حليفهم أن يحكم فيهم، وكان رجلاً مثقفاً يقرأ في
التوراة، فطبّق سعدٌ في بني قريظة حكماً من الاحكام الواردة في في التوراة ضد من
يخون المعاهدات ـ المحرر)
إذن، إما أن هذه النصوص الموجودة في القرآن
خاطئة في الترجمة، ومن ثمة لا بد من التذكير على الفور بخطورة هذا التزوير بعد
إثبات أنه كان مزورا وتقديم البرهان المقنع.
هؤلاء هم المذنبون
◄ الجديد: حروب الإسلاموفوبيا والتي بدأت تكسب نوعا من الشرعية وأصبح
يشار إليها بالبنان ويلقى عليها اللوم والاتهام من قبل شخصيات مختلفة بذريعة أنها
جعلت من الخوف من الإسلام ومعاداته ممكنين. هل شاركت تلك الشخصيات برأيك، في بناء
تلك الشرعية للإسلاموفوبيا مع الزمن؟
*أونفري: الأكيد
أنك توافقينني الرأي أن الإسلاموفوبيا، أو كلمة "فوبيا" تحيلنا بالضرورة
إلى الخوف من الإسلام وليس كره الإسلام، وهو ما يمكن أن يقال أيضا على عبارة
"ضد الإسلام" أو "mislamique" بالتعبير المستحدث. الإسلاموفوبيا، كما يقولون، هي كلمة صاغتها إيران
الخميني لنبذ أيّ معارضة لنظامه. هناك نشطاء حقيقيون يدعون إلى كراهية الإسلام،
وينشطون تحت أشكال متعددة. ولكن هناك أيضا أناس يفضلون سلمية الإسلام وسوره
القرآنية التي تدعو للسلم والمحبة والتسامح ويحاولون إبرازها، عكس أولئك الذين
يجهرون بالسور الداعية للحرب: فهل معنى أن يكون الإنسان إسلاموفوبيّاً، أنه يفضّل
السلام عن الحرب؟ أنا شخصياً لا أعتقد.
أما بالنسبة إلى أولئك الذين نصفهم
بالإسلاموفوبيين والذين أعلنوا عن ذلك سواء، في شكل فلسفي، سياسي أو روائي، أو
تأليفي، أو فكري. وتجدينني، أفكر هنا على التوالي، في رينو كامو، إيريك زمور،
ميشال ويلبك، فلا يمكن جعلهم مسؤولين عمّا أعلنوا عنه أو ما احتوته مؤلفاتهم.
وكما أنه من السخافة بمكان أن نرفع شكوى ضد
طبيب الأشعة الذي عاين صور الأشعة واكتشف أننا نعاني من مرض السرطان، فنحمّله وزر
مرضنا، لا يجب البحث عن أسباب ما حدث بالرجوع إلى أولئك الذين قالوا منذ سنوات إن
ما حدث سيحدث، ولكن يجب النظر فيما قدمه سياسيو اليمين واليسار الليبرالي الذين
تداولوا على السلطة ولم يأتوا بالحلول، بل خلقوا في فرنسا البؤس والفقر والبطالة
والأمية وانعدام الثقافة.
منذ سنوات، لم تعد المدرسة هي المكون
للضمائر والعقول. بل أكثر من ذلك، تحولت المدرسة إلى صف جديد، وبيعت في الأسواق
وللمنظرين
أولئك الذين احتفوا بجمع المال والنجاح
عديم الأفق، الذين صنعوا مأساة الأخلاق والروح. هؤلاء الذين قادوا سياسة
الإسلاموفوبيا على كل أرجاء المعمورة بحجة خوفهم من التطرف الديني، فقادوا الحرب
ضد دول كالعراق وأفغانستان مرورا بمالي. نعم، هؤلاء هم المسؤولون والمدانون، وليس
الفلاسفة والمفكرون والأدباء والروائيون الذين اكتفوا بكشف الحقائق ورفع الحجاب عن
المستور دون زيف أو رياء.
هناك شبهة
◄ الجديد: ألا تعتقد أن مثل هذا الحكم التعميمي على المسلمين الفرنسيين،
في هذا الوقت، هو عنف مشبوه تجاه جميع المواطنين الفرنسيين الذين يدينون بالديانة
الإسلامية؟
*أونفري: بالفعل
هناك شبهة. لكن الشبهة في أن نعرف من هو المسلم الحقيقي ومن يدعي أنه مسلم ولا
ندري ما يضمر بداخله، وإن كان كذلك، فمن يدعو للسلم من خلال الآيات التي جاءت في
القرآن، ومن يوظف الآيات التي تدعو للعنف والحرب؟
اللحية والملابس والحجاب تترك الانطباع أن
هذا الإسلام المطالب به والجليّ يقع في معسكر أنصار الإسلام المحارب والغازي.
فتوريط هذا الإسلام المحارب، إلى جانب بعض أنواع الجرائم صالح لتمويل عمليات منظمة
(كتهريب الأسلحة وتهريب المخدرات والسطو..) وبالتالي وبسهولة ينصهر المنحرفون في
الضواحي كلصوص سرقة السيارات ويتحول واحدهم إلى إرهابي إسلامي خطير.
توصيف أيّ شخص من لون أو من أصل مغاربي
بالمنحرف والإرهابي الإسلامي الخطير يكفي لجني باقي التوابع. إذن نحن نسبح في فلك
الارتباك الذي هو عدو التحليل الدقيق أو التفكير المجرد. إذن الهذيان المنمّط
والعرقي يفرض، للأسف، القانون.
المشكلة في أوروبا
◄ الجديد: أنت تقدّم الإسلام كدين يستدعي التوجّس منه أكثر من أيّ دين
آخر، (وأعني المسيحية الكاثوليكية) وتختصر ذلك بالقول إن الإسلام هو دين "قطع
الرؤوس". ألا تعتقد أنها رؤية إسلاموفوبية، خاصة ونحن نعلم أننا في بلد
كاثوليكي، عانى من المقصلة التي لم تُوضع جانبا إلا قبل 30 عاما مضت فقط؟
*أونفري: لا.. ليس
أكثر من ذلك، ولكن بنفس القدر. أنا مناضل شرس لإلغاء عقوبة الإعدام بجميع أشكالها:
كمقصلة روبسبير، وقد كتبت بما فيه الكفاية ضده، إلى قنابل الجيش الفرنسي التي
أسقطت على الشعب الأفغاني أو السوري أو العراقي، وصولا إلى قتل رسامي كاريكاتير
مجلة شارلي إيبدو والشرطة واليهود الذين كانوا يتسوقون في سوق الكاشير.
الفكر الملحد الذي أنا عليه، لا يجعلني في
سباق لارتكاب الفظائع العقائدية. أنا ضد كل وحشية، بما في ذلك تلك التي ترتكب باسم
الدين ومهما كان هذا الدين. ولن أبرر أو أدافع عن محاكم التفتيش أو الحروب
الصليبية، والمقصلة أو الحروب التي مرت عبر التاريخ. كما أن إلحادي لا يدفعني لأن
أغفر الجرائم التي ترتكب باسم الإلحاد.
علاوة على ذلك، المقارنة هنا غير واردة،
والإسلام في أوروبا هو دين في تصاعد قوي. وهو ما يسميه نيتشه "الصحة
الكبرى". هذا ما أشرت إليه آنفا، حيث يشكل العدد الكبير من المؤمنين في جميع
أنحاء العالم، جيشا من الرجال والنساء على استعداد للقتال والموت في سبيل دينهم،
وهو ما يشكل ديناميكية حتمية.
المشكلة ليست في المسيحية، لكنها في
أوروبا، التي هي في مرحلة انهيار بعد أكثر من ألف سنة من وجودها، وما ستفعله حيال
هذه الحرب المعلنة ضدها باسم قيم أخرى ليست قيمها. الخوف من الإسلام، الذي تحدثت
عنه ليس هو السبب، إلا إذا اهتممنا بأصل الكلمة: يسعى الإرهاب للتخويف وهو أحد
أسلحته، والتي تعني أيضا أنه لا يخشى القتل في هجوم في مترو الأنفاق أو طائرة، في
الشارع أو في مظاهرة، وهو مارّ أمام كنيسة أو إن وجد في موقع هجوم إرهابي، في حين
أن هذا الذعر تم تهديدنا به، وأصبح في واقعنا؟
أوروبا تحتضر
◄ الجديد: هناك من يقول إن "الليبرالية الغربية الجديدة، تبدو
سياسيا وأخلاقيا إباحية، مدنسة ومتعالية" لكن هناك من يعتقد أنه رغم ذلك لا
بد من خلق "تحالف" بين الحضارتين: حضارة الشرق وحضارة الغرب لإنقاذ ما
تبقى؟
*أونفري: أولئك
الذين يعتقدون هذا لم يخطئوا، الغرب هو في نهاية السباق، أوروبا تحتضر، لن تعيش
مرة أخرى، ومثل أيّ حضارة تكون في مرحلة انهيار، فإنها تظهر علامات الانحطاط:
المال مهيمن، فقدان كل المعايير الأخلاقية والمعنوية، إفلات الأقوياء من العقاب،
وعدم قدرة السياسيين، السوق الذي يجعل القانون في كل مكان، الأميّة الجماعية وأمية
أولئك الذين يحكموننا، وفقدان الأسرة أو المجتمع والوطنية لمصلحة القبلية
والمحلية، وأصبحت السطحية قاعدة عامة، الاغتراب عن الواقع وانتشار الحرمان،
وانتشار التهكم، كل إنسان يفكر في نفسه.
التحالف غير ممكن أو غير وارد. عندما تنهار
حضارة في حين تظهر أخرى في أوج عافيتها وتبدأ في اكتساحها للمعمورة، فإن ذلك يخلق
علاقة الضعيف بالقويّ، ولم يحدث أبدا أن أصبحت الحضارة القديمة الضعيفة قوية من
جديد، فالغرب الآن وصل إلى هذه الحالة.
فرنسا اللامحبوبة
◄ الجديد: بعض القضايا جاثمة على عقولنا وأمام أعيننا. ولا نملك حيالها
الحلول، مع أن حلولها ممكنة "كالسلوك المتطرف"، هل اندماج أو عدم اندماج
بعض الجاليات المسلمة في فرنسا هو عامل بارز في "السلوك المتطرف"؟ وكيف
يمكن التعامل معه فكريا في ظل فشل السياسات؟
*أونفري: نعم،
بالطبع، فرنسا لم تقدم الرغبة في أن تكون محبوبة. كأننا لم نولد على أراضيها، ولا
نحن جئنا في وقت لاحق، ولا أننا ننتمي إلى هذه الأرض أبا عن جدّ، ولا أن أسلافنا
الذين سبقونا بجيلين أو ثلاثة أجيال كانوا فرنسيين.
منذ العام 1983 لم يعد اليسار يسارا، أصبحت
فرنسا ليبرالية وأوروبانية، وصنعت من منتهز الفرص المالية برنارد تابي نموذجا
اجتماعيا ناجحا، وكافأته بمنصب وزاري. ومنذ أن برز هذا اليسار، أصبحت، صحيفة
"ليبيراسيون"، Libération في المقدمة، لتدريس "عيش الأزمة" بشكل رهيب.
منذ أن أصبح اليمين واليسار الليبرالي
يؤديان سياسة اقتصادية مماثلة ويصوتان على جميع الحروب ضد الإسلام منذ العراق إلى
غاية "الدولة الإسلامية" مرورا بأفغانستان ومالي، وفرنسا لم تقدم صورة
لها تجعلك تحبها. البعض لا يحب فرنسا هذه، وأنا أتفهمهم، لأنها ليست أيضا فرنسا
التي أحب.
أفهم أولئك الشباب الذين يفكرون بمغادرة
فرنسا من أجل البحث عن المغامرة المثالية والالتزام والعمل، خاصة وأن الجمهورية لم
تعد قادرة على منحهم المغامرة المثالية والعمل والالتزام، وتواصل في طرح نماذج
بائسة سواء كانت هذه النماذج أبطال مسلسلات، أو منشطين تلفزيونيين، لاعبي كرة
القدم البلهاء، أبطال السينما، والمغنين وأصحاب المواهب.
تعريف وسائل الإعلام هو
"التكتل"، فهي تحوّل الشعوب إلى حشود، ونحن نعلم أن الحشود لا تعتقد، لا
تفكر، لا تحلل، ولكن تنخرط في الوضع وتمضي كرجل واحد نحو الشعار
بضاعة للبيع
◄ الجديد: فرنسا شهدت في شهر يناير عمليات إرهابية، أفضىت إلى تقارب في
مجرى الأحداث، إذ عادت بنا تلك الأحداث إلى حالة خوف وترقب مشابهين لمرحلة ما بعد
تفجيرات 11 سبتمبر 2001. هل ينبغي علينا التفكير في تعاطف مزدوج، يجمع بين الترقب
والمفاجأة؟
* أونفري: العاطفة هي مسألة خاصة وشخصية. من جهتي، أشعر أنني
"سبينوزي". سبينوزا كتب، كما نعلم يقول "لا تضحك، لا تبكِ، لكن
افهمْ". أنا لا أريد الوقوع في الرأفة، والتي هي وقود وسائل الإعلام ورجال
السياسة والمسيسون الذين يبحثون عن أصوات لانتخابهم أو لإعادة انتخابهم.
لا تحتاج وسائل الإعلام إلى أن نفكر، ولكن
تحتاج منا أن نشاهدها عندما ترسل الإعلانات التي تدعمها. وهذا يتطلب أقصى عدد من
المشاهدين أمام الشاشة الصغيرة. الوضع نفسه رأيناه عندما حدث ما حدث في باريس،
ارتفعت المشاهدات لوسائل الإعلام، لأن الوقود متوفر أو كما نسميها اليوم بالدعاية
الاستهلاكية. ليشد انتباه أكبر عدد من الناس أمام الشاشة الخاصة بهم، يجب إثارة موضوع
حول فضيحة، أو حول الجنس أو العنف، والعاطفة، أو بعض الأخبار الأخرى المتفرقة،
وليس هناك مجال للتفكير والتحليل. ما حدث في "7 يناير" لا ينبغي أن
يتناول بنوع من الشفقة والرأفة، وهو الأمر الذي جُعل لعبة لوسائل الإعلام
والسياسيين الليبراليين يوظفونه ويرفعون شعارات ضد الهمجية المعادية للحضارة،
وحرية التعبير وضد الظلامية. إذ لا رغبة لديهم في بيع بضاعتهم الاستهلاكية ولكن
باستهلاك العقل.
الغوغاء بدل الشعب
◄ الجديد: في أعقاب هجومات 7 يناير، انتشرت عبارة "أنا
تشارلي" بشكل سريع في كل أقطار العالم. ألا يعطي هذا الانطباع لصورة
"عالمية كاذبة" تسعى لنشر شعار "التكتل" المزيف؟
* أونفري: الشعب
دفن حيا، واستبدل بالغوغاء التي صنعتها وسائل الإعلام. منذ سنوات، لم تعد المدرسة
هي المكون للضمائر والعقول. بل أكثر من ذلك، تحولت المدرسة إلى صف جديد، وبيعت في
الأسواق وللمنظرين. وأصبحت المدرسة هي التلفزيون، الأنترنت والتويتر. تعريف وسائل
الإعلام هو "التكتل"، فهي تحوّل الشعوب إلى حشود، ونحن نعلم أن الحشود
لا تعتقد، لا تفكر، لا تحلل، ولكن تنخرط في الوضع وتمضي كرجل واحد نحو الشعار.
"أنا تشارلي" كان الشعار الذي منع التفكير، وهو مبتغى وسائل الإعلام
التي تعرف أن الشعب الذي لا يفكر ولا يحلل يمكن تحويله إلى كتلة سهلة التسيير
والتوجيه والتحكم.
والدليل أن هولاند، اقتطع 20 نقطة لصالحة
في عملية سبر الآراء. الفكرة استوحيت من قِبله، وربما هي مستوحاة من مستشاره
الاعلامي، ويقول إنه كان في الصفوف الأولى لـ "أنا تشارلي"، في حين أنه
جاء يتظاهر من أجل وسائل الإعلام في شارع، كان يغص بالمراقبة والحراسة المشددة، مع
قادة العالم، هؤلاء الذين تنتهك حقوق الإنسان لديهم يوميا.
الأكذوبة الرهيبة
◄ الجديد: نستمر في معارضة الإرهاب بقوة ولكن هل قمنا بتحليل الأسباب
لنجد الاختلاف أو نحتاج فقط إلى مراجعة المصادر من أجل تشخيص المسببات ومن ثمة
إيجاد الحلول؟
*أونفري: الأمر
يستدعي سياسة قوية، وسياسيونا ليسوا أهلا لذلك. فرنسا لم يعد لديها الوسائل
الاقتصادية والمالية، ولا حتى العقائدية لقيادة هذه السياسة الدولية الأقرب إلى
الاستعمار الجديد.
لماذا إذن ندعي محاربة الإرهاب على
أراضينا، هل نذهب لقصف القرى الأفغانية التي لم تشكل تهديدا لنا، في حين نتجنب
بلداناً نعرف جيدا أنها تشارك بشكل واضح في تمويل الإرهاب الدولي.
إننا نرى أنه ليس هذا هو الإرهاب الذي يجب
أن نقاتل ضده، ولكن نقاتل ضد بلد صغير أعزل يمكن قصفه بسهولة لجعل تجارة الأسلحة
ممكنة ودعم الذين يتاجرون بها ويصنعون قانونا خاصا بهم في الولايات المتحدة، وعلى
المعمورة.
فرنسا لن تشذ عن القاعدة في بيع الأسلحة:
لا يمكننا أن نصنع أسلحة حربية دون استخدامها يوما ما. وبالتالي شن الحروب ضد
بلدان لا تملك الأسلحة الحربية ودون مجد وهي بائسة. ماذا فعلت الحكومات، بما في
ذلك فرنسا، بعد أن ذهبت إلى الحرب ضد باكستان التي استضافت بن لادن لسنوات؟ لا شيء
طبعا. صحيح أن باكستان لديها قنبلة ذرية. لكن المثالية، هي أن تفكر فرنسا في تغيير
جذري لسياساتها وتكف عن فرض قانونها على هذا الكوكب باسم حقوق الإنسان، في حين
أنها تتحرك بدافع المصالح الاقتصادية والمالية والاستراتيجية والجيوسياسية.
لقد حان الوقت لبلد صغير مثل بلدنا أن
يتخلى عن الإمبريالية الكونية لبناء الحياد الذي يفرض الانخراط عسكريا فقط عندما
يكون أمن الأمة مهدداً، ولن يتم ذلك إلا بالاستفتاء. لقد كنا نحن المعتدين في عام
1991 في العراق، هؤلاء الناس لم يشكلوا خطرا أمنيا علينا. ومع ذلك، احتاج مختلف
رؤساء الولايات المتحدة إلى كسب أعداء يهددون أمنهم، وكل ذلك من أجل بيع أسلحتهم.
دعيني أذكرك بتلك الأكذوبة الرهيبة لكولن
باول عندما أطل علينا من قاعة هيئة الأمم المتحدة في عام 2003 وهو يحمل أنبوب
اختبار فيه الأدلة التي كانت تبرهن على أن صدام حسين يمتلك أسلحة الدمار الشامل
الكيميائية.
ما نريد وما لا نريد
◄ الجديد: ألا تعتقد أن المسلمين لا يمكنهم المطالبة بحقوقهم نتيجة
الإسلاموفوبيا المؤسساتية؟
*أونفري: المسلمون!
هم غير متحدين، وبالإضافة إلى ذلك فهم مشتتون غير ممثلين تمثيلا قويا، لا يتكلمون
بصوت واحد. مسألة مصالح الأمة، المجتمع المسلم منفي، أيّ مجتمع ينبغي إعادة النظر
فيه. الجمهورية هي مجتمع قد ينبثق عن مجتمع آخر، روحي وديني. سابقا، اليهود، وهو
ما لا يرقى إليه شك، كانوا مجتمعا روحيا ودينيا والمعروف بالنسبة إلى البعض أيضا
أنهم مجتمع جمهوري. هنا تحيلينني إلى التفكير في فكرة ريمون آرون: "أفضل
طريقة لمحاربة الإسلاموفوبيا هي المؤسسية وبناء الإسلام الجمهوري".
المثقف والنص
◄ الجديد: هل يمكن أن نقول إن المثقفين صاروا يخلطون بين تسييس الإسلام
والإسلام المسّيس؟
*أونفري: الخطأ في
أننا لا نعترف بما هو موجود. وليس هناك خطأ أن نقول ما هو موجود في القرآن.
والقرآن لم يفصل الإسلام والسياسة، والدين والدولة. الشريعة هي أيضا القانون
القرآني والتي تُفرض منطقيا، وهو أمر ضروري، عندما تريد أن تعيش وفقا للقرآن بشكل
كامل.
المثقف الذي يقول ذلك، لا يقول إلا ما يجده
في النص. المسألة تكمن في قراءة المثقف للنص، وكيف يقرأه، وماذا يريد أن يفعل
بالنص، وكيف يوظفه، أحسب روح النص أم حسب حروف النص. العيش وفق روح الإسلام يستوجب
استخراجه من القرآن والحديث والسيرة، الذي يريد السلام؛ أي الذي لا يريد العيش وفق
الرسالة التي تدعو إلى نبذ من يريدون الحرب بتوظيف هذه النصوص المقدسة من قبل جميع
المسلمين.
يجب أن نكون قادرين على قراءة التوراة
والإنجيل والقرآن كما يقرأ المرء جمهورية أفلاطون أو الميتافيزيقيا لأرسطو
هذا وذاك
◄ الجديد: تتحدث عن القرآن وكأن هناك نوعين من القرآن الكريم "قرآن
روحي" و"قرآني زماني"، في حين أنه ليس هناك إلا قرآن واحد؟
*أونفري: لا. أنا لا أقول إن هناك نوعين من القرآن، ولكن القرآن ذاته،
تظهر فيه النصوص غير متجانسة، حيث أن بعضها يقول أشياء، وبعضها الآخر يقول أشياء
أخرى. وهذا ما قلته قبل قليل. أريد أن أذكرك باقتباساتي للسور السلمية والسور
الحربية. السور المتسامحة وغير المتسامحة. ماذا نفعل بهذه التناقضات؟ وماذا
ستفعلون بالسور غير المتسامحة والتي تدعو للحرب؟ هذه السور موجودة في القرآن ولم
أخترعها.
أما أن تكون ترجمتها سيئة فهذه هي الحجة
التي يقدمها المشككون، وأن الصهاينة هم من ترجموا القرآن ونشروه، أكرر هنا، القرآن
فيه ما يكفي لتبرير الأفضل والأسوأ، وأعتقد أنه يجب إعادة قراءته بعناية.
الكراهية والعقل
◄ الجديد: الفلاسفة ورجال الدين يعترفون على حد سواء أن جسارة العقل
تقابلها قوة الإيمان أي تكافل المعرفة الفلسفية والوحي الديني وتكاملهما، سواء كان
الفيلسوف متفقا مع كلام الله أو معارضا له. هل يمكن أن يقع الفيلسوف في ما أسماه
بولس الثاني "المطب الإيمانوي" إذا أنكر عقله الفلسفي الحقائق
الإيمانية؟
*أونفري: من جهتي
أنا لا أنكر وجود العقل، ولكن أتحدث عن تناغمه وتناسقه. حان الوقت لنعترف أن
الميتافيزيقا، علم الوجود والروحانية، والفلسفة يمكن أن تكون مادية لنتمكن من
العيش كفلاسفة وليس كمؤمنين لإله غير مرئي. أنا لا أحكم على عقائد الناس ولا أحكم
على الإسلام عن طريق الشائعات والافتراءات، ولكن من خلال القراءات التي لا تضمر
الكره للإسلام، لأن مصادري هي نفسها مصادر الإسلام. الفلسفة ليس لديها تفضيل
للحقيقة، أو حتى الخطأ. الخيال يحمل في بعض الأحيان الحقيقة أكثر من الواقع. هناك
حقائق نجدها في التفكير الفلسفي قد تتعلق بالسياسة كما بالدين.
الديانات الثلاث نبذت القيم، فالتوراة
والإنجيل والقرآن تشترك في الكراهية: كراهية الجسد والنساء، والحياة الجنسية
والرغبات والمشاعر والأحاسيس. نبذت العقل والذكاء الحر والتفكير المستقل، نبذت
الحياة الحرة. بينما استندت الأخلاق دائما على الفرضيات الدينية. الأخلاق أصبحت لا
تخضع لأيّ قانون أو لاهوت. أما الفكر الإلحادي فيعتبر الأخلاق لعبة ضرورية لأصحاب
المصلحة، للمتعاقدين، من أجل علاقة قانونية لي ولكم وللآخرين. أخلاقيات جوهرية
يؤسسها الرجال للرجال (الرجال والنساء، بطبيعة الحال) تحت أنظارهم، وليس تحت أنظار
إله افتراضي، لأن الأخلاق قابلة للتطبيق وليست تعجيزية أو غير إنسانية.
لا يجب أن نفكر بأن الملحد لا يمكن أن يكون
فاضلا، أو أنه يعيش من دون روحانية، الروحانية ليست من اختصاص الروحيين. الروحانية
تتعلق بالحياة وأنشطة العقل وكيف يفكر.
حرية القراءة
◄ الجديد: "يجب أن نكون قادرين على قراءة التوراة والإنجيل والقرآن
كما يقرأ المرء جمهورية أفلاطون أو الميتافيزيقيا لأرسطو". أنت تعتبر هذا
المطلب ليس "خطيئة" إلا بالنسبة إلى أولئك الذين لا يحبون الحرية ولا
ممارسة العقل، ولا الذكاء العلماني. هل يمكن أن نفهم من دعوتك أنه علينا مراجعة
الأفكار المكتسبة كقراءتنا مثلا للنقوش الحجرية لعصور ما قبل التاريخ أو لآثار
ستونهنج أو مدافن المنهير والدولمن؟
*أونفري: كان هناك
مئات الآلاف من الديانات منذ أن وجد الإنسان. ومن بينها ما لم تترك معظمها أيّ
أثر. أقدمها تركت بعض الآثار لكنها غير مقروءة، وغير مفهومة وغامضة: كيف نقرأ
اليوم اللوحات والنقوش الحجرية؟ كيف نفهم ونفسر آثار ستونهنج ومدافن المنهير
والدولمن؟
يمكننا أن نتحدث فقط عن الأديان التي تركت
آثارا والتي تشمل: شامبليون وحجر روزت، يمكننا فك الكتابة الهيروغليفية وفهم معنى
النصوص التي خلفها المصريون.
لدينا كتاب الأموات، وهو كتاب ديني، لأنه
يحافظ على العالم الآخر، بالنسبة إليّ، لا يوجد دين، إلا عند شرح هذا العالم من
خلال عالم آخر، بمنحه معناه. وعليه، فإن الكتب التي تقوم عليها الأديان نادرة، وهي
قلة في تاريخ الأديان.
في تلك المئات من الديانات المتنوعة
والمتعددة، التي تناولت الإحيائية، الطَوطَمية، ووحدانية الوجود، الشركية، التوحيد
ونصوصه، اتضح أنها متأخرة للغاية على ضوء الإنسانية، إذا اعتقدنا بما جاء به جان
سولير، فإن التوراة لم تفرض على موسى من الله في القرن الثالث عشر قبل الميلاد،
ولكن مكتوبة على فترة طويلة أي بين حوالي 620 إلى الجنين من سفر التثنية، والكتاب
الخامس من أسفار موسى الخمسة الحالي وبداية القرن الرابع حتى النهاية.
لذا يمكننا القول إن التوراة معاصرة على
نطاق واسع لسقراط وأفلاطون. وقد أعيدت صياغة النص، لذلك فهو في نهاية المطاف، عمل
من العهد الهلنستي: وبالمثل مع العهد الجديد وكتابات الأناجيل، وعن الفرضيات
القديمة، في نهاية القرن الأول من العصر المشترك، وبالنسبة إلى الحديثة في منتصف
القرن الثاني. وبالنسبة إلى القرآن، فهو النص الأخير في كوكبة النصوص التوحيدية:
أي في القرن الثامن من العصر المسيحي.
وسائل الإعلام لا تريد منا أن نفكر إنها
تريد أن يكون قراؤها، جمهورها، مشاهدوها لا يفكرون بتاتا، لأن كل مقترحاتها هي
للتفكير بدلا عنهم
وعلى الرغم من أننا نرى أن النص، كتب بأمر
من الرب لموسى، كما يعتقد اليهود، في إلهام روح القدس، كما يعتقد المسيحيون، أو
بأمر من الله إلى النبي، كما يؤكده المسلمون: حيث يعتبر تاريخا مهما بالنسبة إلى
المكان: جبل سيناء لليهود أو جبل حراء للمسلمين، لذلك العصر.
وهكذا، يعتقد المؤمن، أن الملاك جبرائيل،
(جبريل)، التقى النبي في 610 بجبل حراء الشهير، على بعد عدة كيلومترات من مكة، ومن
هذه اللحظة، وعلى مدار ثلاثة وعشرين عاما، كان يلقّن القرآن لمحمد. هذا القرآن
الذي نقله أصحابه عنه، حسب ما ذكره المؤرخون. والنص الكامل جمع بأمر من الخليفة
عثمان: أقدم نص يعود تاريخه إلى 776، أي حوالي مئة وأربعة وأربعين بعد وفاة محمد،
التي وقعت في 8 حزيران 632.(تم جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان في مجلد واحد سمّي
مصحف عثمان. هذا الخليفة تم اغتياله في العام 656 للميلاد، أي بعد 23 عاماً من
وفاة النبي، والمصحف موجود اليوم في طشقند، ومكتوب بالخط الكوفي، وهناك عدة نسخ
منه، منها المصحف الإمام والمصحف الشامي، وغيرها. وأونفري هنا يخلط في التواريخ
بشكل واضح ـ المحرّر).
ويتكون النص الأول من 114 سورة مع عدد
متغير من الآيات. في ذلك الوقت، الكتابة العربية لم تكن تعرف علامات حروف العلة
القصيرة. حيث لم يتسن ذلك إلا في القرن التاسع، إذ تم تحقيق ما لا يقل عن سبعة
إصدارات مختلفة من القرآن، ومعظمها من أصل إيراني. ( لم يوضح أونفري ما علاقة إيران
بمصحف عثمان بن عفان وقد جمع المصحف في المدينة في قلب الجزيرة العربية ـ المحرّر)
الأكيد أن المؤمن يمكن أن يتجاهل ما يذكره
المؤرخ. يمكن أيضا أن يتصور أن ما تقترحه الآثار عن هذا النص هو جريمة و خطيئة أو
بعبارة أقوى من ذلك هو كفر. لكن ذلك لن يمنعنا من النظر للنص في هذا السياق، سواء
من كاتب واحد أو أكثر، وأنه مكتوب في بعض الظروف، وفي مناسبات معينة.
يمكننا أن نقرأ جمهورية أفلاطون دون أن
نكون أفلاطونيين أو دون أن نكون ضد الأفكار الأفلاطونية، ودون احتقار أفلاطون.
يمكننا أن نجهر بما نجده في النص وما يعتقده الفيلسوف حقا وهذا ما درّس فعلا في
المدارس العالمية.
يجب أن نتفق هنا على الحد الأدنى: يجب أن
نتفق على الحد الأدنى هناك: الظروف التاريخية لإنتاج هذا النص وهو أبعد من نزاع
محتمل حول "الاعتقاد" في حد ذاته.
وبعد ذلك، يمكننا تحقيق عمل آخر، يتعلق
بالحوار، انطلاقا من النص. يجب على المرء أن يكون قادرا على قراءة النصوص المقدسة
لجميع الديانات بعين المؤرخ، مثلما نفعل مع النصوص الفلسفية والروحية والسياسية،
خاصة وأن النصوص التوحيدية الثلاثة هي أيضا نصوص فلسفية وروحية وسياسية.
◄الجديد: الإلحاد هو مذهب أو عقيدة من لا يتصور وجود أو من يؤكد عدم
وجود إله، خلافا للربوبية والإيمان بالله التي تدعم هذا الوجود. هل يمكن أن نتفق
على أن تكون هناك قاعدة، تسمح بالإيمان بالأخلاق، نقل القيم وضرورة عدم اختراق
القوانين الكونية؟
* أونفري: بالطبع.
أنا ملحد، أنا أناضل لسنوات لتعزيز القيم الأخلاقية التي أفصلها عن الأخلاق
الدينية التي استمرت لعدة قرون. فمنذ أن أصبح لدينا نصوص أخلاقية، وأشير هنا إلى
الكتب التي جاءت في حكمة مصر القديمة، من طرف باسكال فيرنو(Pascal Vernus)، صرنا نعلم أن الأخلاق تستند إلى التسامي، على الألوهية، على
الإله. لقد سمحت أعمال كل من لودفيغ أندرياس فيورباخ ونيتشه وماركس وفرويد عن
الإله والأديان برؤية الأمور بطريقة أقل لاهوتية وبفلسفية أكثر. نحن لسنا في حاجة
لإله لنتمتع بالأخلاق.
ودعيني أضيف هنا، أن شعب الله كثيرا ما ذبح
باسم إلههم، بدءا بـكاثوليكية (اقتلوهم كلهم، والله سوف يعترف بقتلاكم) حيث دعا
أرنو أموري في 22 يوليو 1209 إلى مذبحة البيجان بالكامل، ووصولا إلى "قتلنا
تشارلي" وتلاه أن رفع منفذو جريمة تشارلي إيبدو "انتقمنا لرسول
الله". ناهيك عن مذبحة اليهود والمسلمين من قبل الصليبيين عام 1099 في القدس،
دون أن ننسى تبرير قصف فلسطين من قبل بعض الحاخامات باسم الإله.
كثيرا ما تسفك الدماء باسم الإله. وكأن
الاعتقاد في الله ليس ضمانة أخلاقية للأخلاق. أود أن أضيف أن الإلحاد الذي أنا
عليه، لا يؤمن أن الإلحاد سيكون بطبيعته فاضلا. فقط يكفي الاستشهاد بالاتحاد
السوفيتي، والدول الشرقية، والصين الماوية، وبول بوت (وأشير هنا لزعيم الخمير
الخمر)، وهم جميعا أنظمة ملحدة، ولكنهم للأسف أكبر الأنظمة التي عرفت مجازر ضد
الإنسانية. أنا لا أوافق على أيّ أخلاق، إلا تلك التي تحظر على الإطلاق، وليس على
سبيل الحصر، القتل، والجريمة، وعقوبة الإعدام في جميع أشكالها: من الانتقام الشخصي
إلى قصف الدول للمدن المسكونة من طرف الأبرياء، مرورا بعقوبة الإعدام، مهما كان
مصدر تنفيذها سواء الدولة أو الإرهاب.
وهذا هو السبب الذي يجعلني لا أجد نفسي في
النصوص المقدسة، لأنها تبرر القتل، أو في غيرها من النصوص، غير المقدسة والوثنية
منها التي تبرر أيضا القتل. وأيضا مبرر اليهود لمذبحة الكنعانيين والفلسطينيين،
اليوم، نجده في التوراة (سفر التثنية 20.16، العدد 31.17 )، وإضفاء الشرعية على
قتل اليهود، الكفار الملحدين من قبل المسلمين في القرآن الكريم (V .33، VIII.7، IX.30، XVII.58)
وإضفاء الشرعية على العنف في ما تسرده
المسيحية على لسان المسيح: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. لم آت
لإحلال السلام، بل سيفا" في إنجيل متى (10.34)، كل هذا يمنعني من جعل هذه
النصوص مصادر روحانيتي.
أخلاقي تستند على الوصية القديمة "لا
تقتل. نقطة" فلا حاجة للقيام بذلك مناشدة لمبرر متسام إلهي ومقدس. وهذا يتعلق
باللجوء إلى مجرد قاعدة بسيطة والتي دونها تصبح الحياة مع الآخرين مستحيلة. لنتفق
على هذا الحد الأدنى من الأخلاق: لا يوجد سبب وجيه لقتل إنسان. لا شيء عندي يبيح
ذلك. وهذا يكفي، في مجال الأخلاق للبدء.
أنا أناضل لسنوات لتعزيز القيم الأخلاقية
التي أفصلها عن الأخلاق الدينية التي استمرت لعدة قرون
روحانية لا دينية
◄ الجديد: لو سلمنا بما تقول، فنحن نعلم أن المفاهيم الفلسفية تذكرنا
بأن العقيدة السائدة في الفلسفة القديمة من القرن الخامس قبل الميلاد، تدعو إلى
"التجرد من كل الأوهام والمعتقدات"، التي تجعل الحياة ممكنة؛ لكن هل هذا
التجريد إن طبّق، سيفضي بنا إلى حياة ممكنة، وفق نظرية تؤسس للأخلاق والمفاهيم
الأخلاقية بعيدا عن روحانية تستند إلى الخالق؟
*أونفري: بالنسبة
إليّ، عمل الفيلسوف يتمثل في عدم الاستناد على الأساطير والخرافات والخيال
والأوهام والقصص التي تحكى للأطفال، مع أن البالغين ما زالوا يعتقدون بذلك، أعلم
أن هذا ينطبق على الطبيعة البشرية، حيث يفضل الإنسان القصص التي تمنحه الأمن، أكثر
من الحقائق التي تقلقه، وتعكره، وتربكه.
وهي قصة تحكى لنا أننا بعد الوفاة سنعيش.
والحقيقة تقول إنه بعد وفاة الإنسان، تجري الأمور بنفس الوتيرة بعد وفاة ثدييات
أخرى. كل من ينكر هذه الأدلة يجب أن يخترع نفسا خالدة، وبالتالي فإن الخيال
المستحيل لإثبات أنه كائن من الإيمان والعقيدة، ولكن أبدا ليس سببا للعيش مع أفق
جديد أمام أعيننا. فقط العقول القوية تستطيع أن تواجه الموت. الآخرون ليسوا ملامين
عن هذا كله، يخترعون الحياة بعد الموت حيث يجدون أولئك الذين فقدوهم وأحبوهم،
والديهم وأصدقاءهم وأزواجهن وزوجاتهم، مما يسمح بعيش حياة صعبة العيش.
ويعرض الدين كحقيقة سياسية ويقين روحي من
قبل معظم الدول التي تدرك أنه مع مساعدة من المتواطئين مع السلطات، يمكن التذرع
بالله لقيادة الشعوب بسهولة أكبر. وكفيلسوف، فإنني أطرح بديلا ديمقراطيا للموقف
الثيوقراطي. وأقدم في كتبي، في دروسي، وفي ندواتي، وفي محاضراتي بجامعة الشعب من
كاين البديل الفلسفي للمقترح الديني.
في الواقع، أؤمن أن روحانية غير دينية
وحدها قادرة على تهدئة النفوس والقلوب للذين عليهم مواجهة الفراغ فقط بحقيقة واحدة
هي ذكاؤه. الفلسفة القديمة، اقترحت عددا من الاتجاهات لعيش حياة فلسفية خالية من
القلق والمخاوف، والذهول، وكثير من السلبيات التي تنمي المعتقدات التي هي الأدوات
الإنشائية الأسطورية، الخرافية.
وكانت هذه المقترحات اقتصادا للإله، لم
تنكر ذلك وترجئ ذلك لتقدير كل واحد، ولكنها تؤكد أننا يمكن أن نكون مستقلّي
الأخلاق عن الإله، وربما قد نكون دون إله.
الإعلام والممولون
◄ الجديد: أتعتقد أن هذا الخلط بين مسلمي فرنسا والإرهاب الإسلامي
الدولي، يشكل "وقود" وسائل الإعلام، التي تحوّل التاريخ، دون خجل، لتكيل
أسوأ الاتهامات لشعوب، من الواضح، أنها تجهل حتى تاريخها؟
* أونفري: قلت إن
وسائل الإعلام لا تريد منا أن نفكر. إنها تريد أن يكون قراؤها، جمهورها، مشاهدوها
لا يفكرون بتاتا، لأن كل مقترحاتها هي للتفكير بدلا عنهم، وسائل الإعلام تعيش على
المال: هناك حاجة إلى المال لإنشاء ودعم وسائل الإعلام، للحفاظ على ديمومتها
واستمرارها.
ما يصنع القانون عندهم ليس الحقيقة
والعدالة والإنصاف، ولكن القراء وحضور المشاهدين، لا يلزمهم جمهور صغير، ذكي
ومستنير، ولكن أكبر عدد ممكن من الناس، أي: الحد الأقصى للمستهلكين الذي يمكن
تصوره. وسائل الإعلام تطيع أولئك الذين يمولونها. الذين لديهم المال لتمويلها، ومن
هنا فهي تطيع أيديولوجية الأغنياء الذين يمولونها والذين يدافعون عنها.
الليبرالية التحررية، تأييدا لأوروبا
ولعولمة عالمية، استهلاكية، ومذهب المتعة المبتذلة، والتاجر والنزعة العدمية،
الخالية والمتخلصة من كل أخلاق وقيم روحية. هذه الوسائل الإعلامية تريد فقط إرضاء
المعلنين أو الجهات المانحة للإعلانات.
معالجة المعلومات لا تحتاج إلى أن تكون
ذكية، لا بد لها أن تكون مذهلة، بمعنى اشتقاقي، لذا يجب خلق المشهد. للقيام بذلك،
يكفيها عرض الجنس، والعنف، والرياضة، والألعاب، والترفيه بما فيه الكفاية.
أعتقد أن قضية الإسلام العالمي ودمج جريمة
7 يناير في منطق الجغرافيا السياسية الدولية والمنطق الجغرافي الاستراتيجي
العالمي، من خلال إعادة مسألة صدام الحضارات إلى الواجهة وطرح الحضارة الإسلامية
بوصفها مضادة للحضارة الغربية، هو استخفاف بالعقول، مثل القول بأن ما حدث، هو
استجابة الضعيف للقوي، الذي يظهر بأن الضعيف أصبح قويا وأصبح القوي ضعيفا. لأن
كلاوزفيتز، سماها "الحرب الصغيرة"، أي تلك العصابات التي لا تملك وسائل
الدولة ضد أولئك الذين لديهم وسائل الدولة وهي الإمكانيات الفكرية التي تدير هذه
الوسائل الإعلامية.
في منطقهم، بث مشاهد قطع الرؤوس التي بعثت
بها "الدولة الإسلامية"، قصد تقديم القتلة على أنهم برابرة في مواجهة
الغرب المتحضر، أو إظهار مهدّمي التماثيل والمنحوتات البوذية أو الحضارة ما قبل
الإسلامية وهم يحطمون التماثيل ووسمهم بالهمجية. دون أن تظهر نفس وسائل الإعلام في
أيّ وقت مضى صور الأطفال والنساء وكبار السن الذين قتلوا جراء قصف قوات التحالف
الأميركي (ومن ضمنها فرنسا التي انضمت منذ سنوات عندما يتعلق الأمر بقصف بلدان
إسلامية مثل العراق في عام 1991).
وسائل الإعلام تلك، لم تظهر يوما أن مواقع
التراث العالمي المصنفة لدى اليونسكو قد دمّرت عن عمد من قبل الأميركيين عندما
قصفوا العراق، مهد الحضارات البابلية وبلاد ما بين النهرين. مقاتلو الدولة
الإسلامية، يقومون بوسائل بدائية بما فعلته أميركا على نطاق أوسع وبكثير من
التكنولوجيا المتقدمة. إذن من دمّر أكثر التراث الحضاري؟
هذا المنظور يسمح لنا أن نوضح للكثير من
الناس أننا لا نعارض جبهة الخير والشر، وجبهة البرابرة وجبهة الحضارة، حيث تشهد
إحداهما، منذ زمن الإذلال والاستغلال، سيطرة من قبل البعض.
وقت تحقيق النصر من جانب واحد لإمبريالية
الولايات المتحدة، وحتى الغربية، قد مضى وانتهى. ما يحدث لا يمكن أن يفهم إلا
عندما يوضع في الواجهة مع فترات طويلة من التاريخ، لفترات تجاهلتها وسائل الإعلام
التي لا تعرف سوى الوقت القصير الذي يمتاز بالتأثير العاطفي لا أكثر.
أسما كوار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق