نيتشه والميتافيزيقا.
بقلم : خاليد القاسمي
قبل الخوض في موضوع فلسفة (نيتشه) وموقفها من الميتافيزيقا، تواجهنا مسألة منهجية، تتعلق بتعريف مصطلح "ميتافيزيقا"، وعلى الرغم من صعوبة الإحاطة بشبكة الدلالة الواسعة للمصطلح، وما يتصل بذلك من إشكالية ترجمته أو تعريبه أو تتبع دلالته المفهومية، فإننا سنحاول تعريفه بما يخدم الدراسة. وعليه يمكن القول إن الميتافيزيقا هي مبحث من مباحث (فلسفة الوجود)، التي برزت في الفكر الأوروبي، في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي. والكلمة تحمل معنى مغايرا تماما -عند معظم الفلاسفة- للمفهوم التقليدي الذي يشير إلى الغيب. إن هؤلاء الفلاسفة يطلقون اسم (الميتافيزيقا) على نظرية الوجود من حيث هو وجود، وهو يجتهدون في تفصيل القول في هذه النظرية بوسائل عقلانية، وهم بهذا يتعدون بطبيعة الحال، معطيات العلوم الطبيعية، وهم متفقون على أن ذلك ضرورة لازمة .وقد كان الفيلسوف الألماني (هايدجر) "يسلم بالقول الذي يعتبر الميتافيزيقا إلى حدود ما قبل نيتشه، جهة من جهات الفكر أو فرعا من فروع البحوث الفلسفية يحمل اسم (مبحث الوجود)" .
لكن مدلول الميتافيزيقا سيتسع في سياق فلسفات ما بعد الحداثة، ليشير بشكل عام إلى ميتافيزيقا الحضور (حضور الموجود)، وهو المصطلح الذي يقصد به دريدا، المفاهيم والتصورات والمعاني أو المدلولات العقلية، التي يجب أن تستبعد لصالح الحضور"الفيزيائي". فالمعنى المقصود هو "المفهوم النظري" مقابل الوجود المادي .
من هذا المنطلق سيتركز البحث في الميتافيزيقا عند فلاسفة ما بعد الحداثة، باستقصاء الأسس الفلسفية والفكرية التي ألفنا أن نقيم عليها الحقيقة والمعنى والكتابة.
لقد وجه نيتشه نقدا رياديا وعنيفا للميتافيزيقا التقليدية الغربية، ضمن فلسفته التي حملت عنوان الشك - في النصف الثاني من القرن التاسع عشر- و التي عمدت إلى قراءة تاريخية نقدية للميتافيزيقا كما تأصلت منذ سقراط الأخلاقي، راصدة كل أسسها ومبادئها الرئيسية، " ولم يكن لنقده هذا من هدف إلا القضاء على ما تدعيه تلك الميتافيزيقا لنفسها من ترفع عن هذا العالم وعلو عليه، والحملة على العالم المفارق الذي تخلقه وتضفي عليه من الفضائل ما تأباه على عالمنا الأرضي." و هو النقد الصادر عن قناعته الراسخة بأن الميتافيزيقا، تلخص في رأيه كل ما خلفه ماضي العقل الإنساني من أخطاء ، تغلغلت في آليات التفكير وتصوراته للطبيعة والعالم والوجود، حتى غدت من المسلمات البديهية التي يصعب الخروج عن قداستها. ويمكن القول، إن التفكير الثوري الذي اجترحه (نيتشه) ، سيحدث تغييرا في " مسار العقلانية الأوربية من خلال فتح المجال أمام اقتحام (الخطوط الحمراء) في كل شيء، فلم يعد هناك شيء مقدس، ولم يصمد الفكر الموروث والكلاسيكي أمام التظاهرة الفلسفية النيتشوية، ولهذا لم يتجاوز الفكر الغربي الحديث أفكار نيتشه بل وضعها في ميدان التطبيق.." .
لا شك إذن، أن " المعطيات النيتشوية مغرية بالتبني بالنسبة للنهج النقدي المعاصر، لأنها تمثل نظرية في القيم، فاللاحقيقة التي أشاعها نيتشه تحمل قيمة أكثر مما تحمله الحقيقة نفسها-بالنسبة للنقد الحديث- لأن الإنسان هو الذي يخلع القيمة على الأشياء ويحددها ويضفي عليها المعنى" . وهذا التوجه التشككي هو ما يفسر رفض (نيتشه) الشرس للأفلاطونية والكانتية والهيجلية والفكر الديني و الميتافيزيقيا بشكل عام، والدعوة في مقابل ذلك، إلى تبني قيم جديدة تحقق مبدأ الإنسان الحر الأعلى، لذلك خصصت أعماله لتبيان أخطار القيم السائدة، عبر الكشف عن آليات عملها عبر التأريخ، ثم العمل على قلبها وتحريرها من كل قيود المعايير الأخلاقية والدينية والمعرفية المتداولة.
نيتشه ونقد القيم الأخلاقية :
تذكر كتب التاريخ والفلسفة أن سقراط في لحظات احتضاره، نطق بعبارة صادمة: "ليست الحياة سوى مرضا عضالا". والحق أن كلام سقراط، لم يكن هلوسة لسكرة الموت، أو قاصدا به، الانقلاب على النظام الأخلاقي الصارم، الذي أرسى قواعده وقيمه العليا، بوصفه منبع الشر والقمع في حياة البشر. بل كان كلامه إمعانا، وتعبيرا فطريا عن قناعة فلسفية راسخة، مفادها إدانة الحياة نفسها، ولكن منظورا إليها من جانبها القذر المنحط، والمغرق في الخطيئة والزلل، ذلك الجانب المرتبط بالحواس والغرائز والجسد، والذي ما برحت تكشف دنسه، أخلاقيات سقراط المثلى، كما قعد لها في فلسفته. من هذا المنطلق، ستواصل الفلسفة الأوروبية مشروعها الأخلاقي المبني على العقل، مع أفلاطون وأرسطو وغيرهما، وسيكون ذلك على أرضية صلبة من الميتافيزيقا، في شكل مبادئ وقيم متعالية قيدت معرفة الإنسان بذاته وعالمه وبمسألة الوجود عموما.
في مقابل ذلك، سيعرف المشروع الجينيالوجي عند الفيلسوف الألماني ( نيتشه nietzsche) أوجه، من خلال كتابه (عن أنساب الأخلاق of morals on the genealogy) الذي صدرت ترجمته إلى الأنجليزية عام 1969م ، وقد ضمنه فلسفة مغرقة في نقد ميتافيزيقا القيم الأخلاقية العليا، وطرح بذلك أفكارا بديلة للتعاطي مع مفهوم القيم. إن نيتشه "ينظر إلى القيم على أنها بمعزل تماما عن طبيعة الأشياء: فمكانها الحقيقي في ذهن الإنسان الذي خلقها، أما العالم، فليس موافقا أو مخالفا لها، وإنما هو مستقل عنها فحسب. وهكذا نرى القيم لا تؤثر في الواقع الطبيعي أي تأثير، ولا الواقع يؤثر في القيم. وبعبارة أخرى، فلن يزيد الشيء صفة جديدة إذا اكتسب قيمة، وستظل جميع صفاته العقلية في صلة ببقية الأشياء وبالنظام العام للكون كما هي دون أدنى تغيير" ، ووفق هذا التحليل يستطيع نيتشه أن يجري فصلا حادا بين القيمة وموضوع القيمة، طالما أن الرابط القائم بينهما اعتباطي تواضع عليه البشر، يذكرنا بالعلاقة بين الدال والمدلول كما رصدا (سوسير)، وبالتالي فهو قائم في الذهن من خلال المعنى الذي يضفيه العقل البشري على الشيء. وهو معنى ميتافيزيقي وجب تفكيكه ومحاربته.
لقد أرجع نيتشه موضوع القيم إلى الإنسان، وأطلق دعوة صريحة لهذا الإنسان كي يمارس فاعليته على أوسع نطاق ممكن. "فلن يقف في وجه هذه الفاعلية شيء إذا تبين أن العالم لا يحمل معنى ثابتا، وأن في وسع الإنسان أن يضفي عليه بمجهوده الخاص، من المعاني ما يشاء، مثلما أضفى عليه من قبل معناه القديم، دون وعي منه ثم ثبته وقدسه." والقيم الأخلاقية تصير وفق هذا التحليل ضربا من العدمية، رهن نيتشه مشروعه للتحرر من ربقتها، لأن الميتافيزيقا – في تصوره- "محكومة بما يميز العدمية في موقفها من الحياة وتفسيرها للعالم وللتاريخ" . ويصل الحال بنيتشه في بعض الأحيان إلى أن يصف الأخلاق العدمية، بأنها (غريزة القطيع) في الفرد، وذلك لتحكم الشعور بالطاعة فيها، وتجانس سلوك الجميع في ظل قواعدها العامة .
إن العدمية بهذا المفهوم هي مبدأ متغلغل في التاريخ، يقوم على قمع البشر باسم عالم مافوق حسي، من أسوأ تداعياته –كما يرى نيتشه- أن انشطر الوجود بين الحياة والفكر، فوقع انقلاب غريب تحدد من خلال موقف سقراط، الذي يحط من قيمة الجسد وغرائزه وحواسه، ويعلي من شأن الفكر ومثله، معتبرا إياه أصل الإبداع والحقيقة. فأضحى الإنسان الحق هو إنسان الفكر . في ضوء ذلك سيكون الإنسان البديل عند نيتشه، الثائر على قيم العدمية الأخلاقية، هو الإنسان الأرقى الذي يمتلك مصيره وقيمه الخاصة متجردا من إرادة العبيد. إنه إنسان إرادة القوة.
نيتشه وفلسفة إرادة القوة :
إن الإنسان الأرقى لا يعترف بالثنائية الهرمية الميتافيزيقية، التي تقسم" الوجود إلى عالمين، عالم الآيديا الذي يمثل الحقيقة المثلى، والعالم السفلي حيث الشر والضلال والمظاهر أو الصور المحرفة" . وهو لا ينفك يؤمن بفكرة موت الإله، بوصفه إلها رمزيا يشير" إلى عالم الآيديا، وعليه فلا يمكن إقامة عالم ميتافيزيقي جديد معاصر مخالف لما أسسته الميتافيزيقا الغربية إلى حدود الآن بوصفه عالما حقيقيا، من دون فعل التهديم هذا، أي من دون فلح الأرض لعالم جديد يقوم على قيم مبدءها الأساس هو مقولة الحياة، حياة (الإنسان الأعلى)" . وعليه، إذا كان الإنسان العدمي، قديم ومتجاوز، فإن الإنسان البديل هو –كما ينعته نيتشه- " إنسان المستقبل الذي سيخلصنا في آن واحد من المثال الأعلى الحالي ومما لا بد أن ينشأ عنه بالضرورة، من القرف العظيم، من إرادة العدم والعدمية.." .
وإذا كان إنسان العدمية محكوما بنظام أخلاقي واهم، فإن البديل الذي يطرحه نيتشه، هو" الإنسان الأرقى، الذي تسود حياته (الغرائز) أي القوى الحيوية التلقائية، لا العقل المجرد." وهكذا يصير "المقصود في نهاية الامر بإرادة القوة هو أن تحل محل الأخلاقية. فحين يأبى الإنسان أن ينحصر في نطاق نظام من الأوامر والنواهي، وأن يقيد نفسه بقيم ثابتة، أيا كانت، فعندئذ سيتخذ لنفسه هدفا آخر، هو المزيد من العلاء بحياته، والسعي إلى إثرائها وتركيزها سعيا لا يقف عند حد، وهذا السعي هو إرادة القوة." يقول (نيتشه) مبشرا بعظمة هذا الإنسان المستقبلي: " ذلك الإنسان المخلص، إنسان الحب العظيم والاحتقار العظيم، تلك الذهنية الخلاقة التي ستزجي بها قوة اندفاعها دائما نحو ما هو أبعد وأبعد عن جميع (المطارح القريبة) وعن جميع (الحدود الماورائية)، ذلك الانسان الذي ستتنكر الشعوب لعزلته كما لو كانت هروبا من الواقع : بينما لا يزيده ذلك إلا تصميما على الغوص في الواقع، على الاستغراق والاندفاع فيه، لكي يعمد ذات يوم، عندما يعود لتخليص هذا الواقع وإنقاذه، إلى تحريره من تلك اللعنة التي أنزلها عليه المثال الأعلى القائم حاليا."
نيتشه ونقد المنهج الفلسفي :
إن تأمل (نيتشه) في فلسفات ميتافيزيقا الحضور، سيقف به على آليات تغلغلها في اللغة والفكر، وستصبح قضايا من قبيل المنهاج والمنطق والعقل، في مرمى نيرانه الشرسة. لقد فضل (نيتشه) أن يعيش طريدا في صقيع الشك، على أن يقيم في قصور المفاهيم والنظريات الصلبة، رغم دفء يقينها وحقيقتها الكاملة.
وهكذا، سيخضع مسألة المنهاج الفلسفي لنقد معمق، وكل ما يعنيه ذلك من قدرات عقلية كالتحليل والتركيب والفهم والقول المنطقي، باعتبارها أدوات مشكلة للمعرفة الإنسانية. وستكون النتيجة أن " كل ما ينتجه العقل من مفاهيم وأنظمة فلسفية وعلمية هو –حسب نيتشه- مجرد تأويلات وأوهام تتحول تدريجيا إلى أصنام (idoles)، وأن (إرادة القوة) هي الكفيلة بالتصدي لتلك الأصنام وتحطيمها" .
ووفق هذا التشكك، شيد (نيتشه) فلسفته في أفق نظرة أخرى مغايرة للمعرفة، أغفلتها في اعتباره، نظرتنا التقليدية اتجاه المعرفة الفلسفية. ما يراه (نيتشه) أن "مسألة المعرفة لا ينبغي أن تختزل إلى مجرد فعل حصر عقلي تجريدي للموضوعات، تقرر فيه الذات العارفة بحسب إرادتها، وإنما هي قضية سياسية أخلاقية، تكون تابعة لمعنى ما نتصوره ولقيمة ما نعتقده. فقوى الفكر التي تشترطه وتمكنه من القدرة على الكلام وتسمح له بالتفكير في هذا بدلا من ذاك، هي التي تدبر أمر الحقيقة في المجتمع، وتعين الخطاب المسموح به والمقبول تداوله . يفهم من هذا الكلام، أن الإشكال الذي خلفه الفكر الفلسفي، هو إضفاء قيمة و عملية شرعنة مغرضة للحقيقة الفلسفية، عن طريق ألاعيب المنهاج الفلسفي وآلياته العقلية، مما أوقع الفلسفة الغريية في وهم مضاعف، و هو أنها آمنت بالمنهاج على علته الاستعارية التي سنأتي على ذكرها لاحقا، وكذا نسيان السياسة والقيم السلطوية التي تتحكم في توجيه هذا المنهاج. ونتلمس هذا الطرح النيتشوي، فيما كتبه الدكتور (محمد عناني) في كتابه (المصطلحات الأدبية الحديثة): "نيتشه يقول إن التفسير بطبيعته يعتمد على المنظور الشخصي perspectival وهو يقع دائما خارج تخوم الموضوعيةpost objective بل لا يمكن الفصل بينه وبين مصالح الذين يملكون زمام الأمور في ثقافة من الثقافات، ومن ثم يمكن الإشارة إلى هذه المصالح باسم مصالح السلطة power interests،ولا يمكن إماطة اللثام عن هذه المصالح التي تكمن وراء كل تفسير إلا بالبحث عن أنسابها، أي بتتبع جذورها في التاريخ والمجتمع" .
ويبدو لكل متأمل في هذا الطرح النيتشوي، أنه على الرغم من جرأته وثوريته، ظل سجينا لجدران الذات، إن لم نقل لجدران الميتافيزيقا. فهو برفضه قيما أخلاقية معينة نابعة من العقل الفلسفي الغربي، يستدعي التفكير في نسق قيمي بديل، إذ يستحيل تصور إنسان يعيش خارج القيم. وهو برفضه للعقل ودعوته لإحلال الغرائز، يكون قد ثبت طرفا ميتافيزيقيا على حساب الآخر. يشير إلى ذلك الدكتور (محمد طواع) بقوله: "النقد النتشوي لم يتجاوز مفهوم الذات، إذ أنه انتقدها بوصفها (أنا عاقلا ومنطقيا) ولم يرفضها من حيث هي إرادة قوة .
نيتشه ونقد اللغة الفلسفية :
إن المتأمل في لائحة الاتهام التي يوجهها نيتشه للغة الخطاب الفلسفي، سيقف على نقد آخر. يتعلق الأمر هذه المرة، بإدانتها بالتخفي وراء بلاغة خادعة ترتدي حلة العقل والمنطق، لتزكي الأفكار والقيم الأخلاقية. وهو ما حذا بنيتشه إلى "الاهتمام بأصول الكلمات وتاريخ اللغة باعتبار أن اللغة تلعب دورا رئيسيا في تكوين ما يمكن اعتباره حقيقة" . فرجوعه بالفلسفة إلى أصلها كان الهدف منه تفكيك الاستعارات الأساسية للعقل نفسه، محاولا بذلك خلع تلك الطبقات من المعاني البلاغية، التي تكلست على سطح اللغة، والقبض على الدلالة الأولى المتحررة من قيود الفكر، والعمل على تثبيتها.
إن جينيالوجيا (نيتشه) كما يرى (عبد العزيز حمودة) تختلف عن تفكيك(ية) دريدا، فبينما فلسفة نيتشه"كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى البحث عن المعنى الأول أو الدلالة الأولى ثم تثبيتها، بينما تهدف بينصية (دريدا) إلى تتبع المعنى الأول لتفتيته وتدميره بصفة مستمرة." . وفي هذا السياق، تبلورت نظرة نيتشه الاستعارية للغة، إذ ستفاقم من موقفه التشككي اتجاه المعرفة الموروثة، وكذا القمع الذي تعرضت له الاستعارة باسم الفلسفة، كما فعل أفلاطون في نقده لللمحاكاة، وطرده الشعراء من مدينته الفاضلة، جاعلا من الشعري والأسطوري والتخيل أوهاما تضيع الحقيقة، وفي مقابل ذلك أسس فلسفته على المنطق. إن الحقيقة التي باسمها حارب الفلاسفة البلاغة في لغة الشعر والأدب، سيوظفها نيتشه كعنصر إدانة لهؤلاء الفلاسفة، بحجة أنهم حافظوا على هذه الحقيقة، عن طريق تحييدهم للاستعارة التي أوجدتها . فمن منطلق أن اللغة استعارية الأساس وبنية معقدة من الشبكات، يصبح الفكر -بحسب نيتشه- مضللا وواهما في بحثه عن الحقيقة الكامنة وراء اللغة. أو كما تقول الدكتورة أمينة غصن، يصبح الفكر بمفاهيمه بلاغيا بصورة نهائية وحاسمة، حتى إن الحقيقة فيه تبدو كجمهرة من الاستعارات والانزلاقات اللاإرادية في المعنى .
لقد زرع (نيتشه) بذرة شك في اللغة، ستعطي أكلها في تفكيك(ية) دريدا، وهي تحت شعار: يستحيل التفكير خارج البلاغة، وكل عمله بهذا الخصوص، الذي "يبرز الطابع المتناقض والمأزقي للظواهر اللغوية والميتافيزيقية يجعل منه رائدا لجاك دريدا في مهماته التفكيكية" . ويمكن القول بهذا الصدد، إن ما يتحراه ويستقصيه (نيتشه) ومن بعده (دريدا) "ليس شكلا من أشكال المنطق (البديل) للغة المجازية وإنما تعدد مفتوح للكلام تذوب معه كل تلك الأولويات في (المناورة الحرة) للإشارات" . فاللعب الحر للمعنى هو خصيصة لغوية، وإن تعلق الأمر بلغة الفلسفة والمنطق، بل إن مفهوم الاستعارة سيتطور عند (دريدا) ليصبح هو ذاته استعاريا. "هكذا يحبط دريدا مفهوم الاستعارة، يفككه: يطور كتابة (بلاغية) تُحل محل المفاهيم الماورائية صورا مثل (أثرtrace ) أو (بعثرة dissémination)" . فالقول بإمكان أن تنقل اللغة واقعة في ذاتها، سواء كانت هذه الواقعة لغوية أو خارجية، يعني الدخول في التمركز حول العقلlogocentrism - والذي تشكل القسط الأكبر منه (ميتافيزيقا الحضور) .
في ضوء ماسبق، نخلص على لسان (الدكتور عصام عبدالله) إلى نتيجة مهمة مفادها، أن المفهوم الفلسفي والاستعارة، لا يخرجا بدورهما عن نمط الثنائيات الميتافيزيقية التي كرسها العقل الغربي، وأعطى لأحد أطرافها أفضلية على حساب الطرف الآخر، من حيث كون الأول أصلا والثاني هامشا .
وبموجب هذا المرتكز الذي أرساه نيتشه، سيتم سحب معنى الوجود من أرضية اللغة القائمة على المنطق والعقل، ليصبح تائها في مهب الاستعارة، رهينا بتوالد المعاني والقيم المتحركة. وعليه فنيتشه "حين يندد بالفلسفة كمجموعة (استعارات ميتة) يفعل ذلك من خلال اللغة وباسم اللغة" . من هذا المنطلق سيهيئ الشكاك الأكبر الأرضية اللازمة، للاحقيه من فلاسفة الشك، وأهمهم (دريدا)، للارتماء في لعبة البلاغة بهدف تفكيك معاني اللغة، بعيدا عن التمركزات الميتافيزيقية التي تكرست عبر تاريخ الفلسفة فيما قبل (نيتشه). أو كما تقول الدكتورة (أمينة غصن) " لإحلال مفهوم لعبة الدلالات المتعددة المعاني في مفهومي الكون (Etre) والحقيقة (vérité) الماورائيين" .
وخلاصة القول، أن الطرح النيتشوي قد أسس لمرحلة ما بعد البنيوية من خلال تبني نقادها له، لا سيما جاك دريدا الذي استمد صورة تفكيكه من الهدم النيتشوي، وحمل الجهاز الدلالي له. ولا يختلف اثنان، أن نيتشه دشن فجر التفكيك بتحطيمه صنمين جبارين هما الإله والعقل بمقتضى إرادة الحياة والقوة، وكذلك كان النقد المعاصر الذي اتجه صوب إزالة بعض المفاهيم المرتبطة بمحيط النص والانتقال من الخلاف حول وظيفة الدليل المتحصل من التحليل النقدي للنص، وعلاقته بالدال والمدلول إلى تفعيل الدال وتعدد المدلول-مع بارت- وإلى تفعيل الدال وتوالده مع غياب المدلول –عند دريدا- ضمن ما يصطلح عليه بنظرية اللعب الحر .
.............................................................
- عبد العزيز خمودة،المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك،عالم المعرفة ،ع232، الكويت،1998، ص99
- نفسه، ص97
- عبد الله ابراهيم، التفكيك الأصول والمقولات، منشورات عيون المقالات، ط1، الدار البيضاء، 1990، ص39
- الفلسفة المعاصرة في أوروبا، إ.م.بوشنسكي،ت. عزت قرني ، عالم المعرفة،ع165، الكويت، سبتمبر1992، ص 264
- محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء،2002،ص 25
- عصام عبد الله،حاك دريدا: ثورة الاختلاف والتفكيك،مكتبة الانجلو المصرية،ط1، القاهرة،2008،ص17
- فؤاد زكريا، نوابغ الفكر الغربي:نيتشه،دار المعارف،ط2، مصر، ص76.
- نفسه، ص70.
- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، محمد سالم سعد الله، دار الحوار للنشر والتوزيع،ط1، اللاذقية،2007،ص91.
- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، محمد سالم سعد الله، دار الحوار للنشر والتوزيع،ط1، اللاذقية،2007، ص94و95.
- محمد عناني،المصطلحات الأدبية الحديثة،الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان، ط3،مصر، 2003، ص 126
- فؤاد زكريا، نوابغ الفكر الغربي:نيتشه،دار المعارف،ط2، مصر، ص57.
- نفسه، ص58.
- محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء،2002،ص 185
- فؤاد زكريا، نوابغ الفكر الغربي:نيتشه،دار المعارف،ط2، مصر، ص101.
- محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء،2002، ص 186
- نفسه، ص 187و188
- نفسه، ص 195
- فريدريك نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها،ت. حسن قبيسي،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت، ص90-91.
- فؤاد زكريا، نوابغ الفكر الغربي:نيتشه،دار المعارف،ط2، مصر، ص52
- فؤاد زكريا، نوابغ الفكر الغربي:نيتشه،دار المعارف،ط2، مصر، ص104-105..
- فريدريك نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها،ت. حسن قبيسي،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت، ص90.
- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، محمد سالم سعد الله، دار الحوار للنشر والتوزيع،ط1، اللاذقية،2007،ص93.
- محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء،2002،ص 190
- محمد عناني،المصطلحات الأدبية الحديثة،الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان، ط3،مصر، 2003، ص 126.
- محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء،2002، ص 197
- عبد العزيز خمودة،المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك،عالم المعرفة، ع232،الكويت،1998،ص103
- نفسه، ص103
- كريستوفر نوريس، التفكيكية النظرية والممارسة،ت.صبري محمد حسن،دار المريخ للنشر،الرياض،1989، ص131
- أمينة غصن، جاك دريدا في العقل والكتابة والختان،دار المدى للثقافة والنشر، ط1،دمشق،2002، ص44
- نفسه، ص44
-كريستوفر نوريس، التفكيكية النظرية والممارسة،ت.صبري محمد حسن،دار المريخ للنشر،الرياض،1989، ص136
- بيير زيما، التفكيكية:دراسة نقدسية، ت. أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت،1996، ص72
- عصام عبد الله،حاك دريدا: ثورة الاختلاف والتفكيك،مكتبة الانجلو المصرية،ط1، القاهرة،2008،ص49
- عصام عبد الله،حاك دريدا: ثورة الاختلاف والتفكيك،مكتبة الانجلو المصرية،ط1، القاهرة،2008،ص54
- نفسه،ص46
- أمينة غصن، جاك دريدا في العقل والكتابة والختان،دار المدى للثقافة والنشر، ط1،دمشق،2002، ص45
- الأسس الفلسفية لنقد ما بعد البنيوية، محمد سالم سعد الله، دار الحوار للنشر والتوزيع،ط1، اللاذقية،2007،ص96و97.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق