الاثنين، 29 مارس 2021

 



ميشال فوكو ومفهوم الإبيستمي ـ

 تقديم وترجمة: أحمد رباص

 

29 تشرين2/نوفمبر 2017 

 

https://www.anfasse.org/2010-12-30-16-04-13/2010-12-05-17-29-12/7717-%D9%85%D9%8A%D8%B4%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%88%D9%83%D9%88-%D9%88%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%85%D9%8A-%D9%80-%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85-%D9%88%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%B5

 

 

كتب جوينيي باتريك (Juignet Patrick) هذا البحث ورأى النور على صفحات موقع "philosciences.com" يوم ثاني أبريل 2015. فمن هو جونيي باتريك، يا ترى؟
ولد في باريس عام 1952، درس الطب في نيس واهتم بعلم النفس والفلسفة في نفس الوقت. بعد عام من العمل في طب المستعجلات، تخصص في الطب النفسي وتابع تكوينا في التحليل النفسي. أطروحته لنيل الدكتوراه في الطب ورسالته في الطب النفسي التي تلتها، كلتاهما تناولت التحليل النفسي وعلم النفس المرضي، فضلا عن مختلف الكتب والمقالات التي نشرت بعد ذلك. كطبيب نفسي متحرر، بدأ ممارسة العلاج النفسي للأطفال والبالغين منذ عام 1986.
بموازاة ذلك، قام بتدريس علم النفس المرضي في مدارس الممرضين والمساعدين الاجتماعيين، كما قدم محاضرات لطلبة دبلوم الدراسلت العليا في الطب النفسي وطلبة الدراسات المعمقة في علم النفس الكلينيكي..وبعد أن توقف نشاطه كممارس في عام 2015، يكرس الآن نفسه وجهده لتاريخ الأفكار والفلسفة.
تتخلل عمل ميشال فوكو قطائع عديدة. وسوف نركز هنا على الفترة التي يمكن تحديدها تقريبا بين عامي 1965 و 1975، وهي الفترة التي طور واستخدم فيها مفهوم الإبيستيمي. وكان لهذا المفهوم حضور استغرق مدة قصيرة؛ ظهر في "الكلمات والأشياء" في عام 1966، تم التخلي عنه بعد عشر سنوات، لأن ميشيل فوكو اعتبر أن استخدامه أدى إلى طريق مسدود.

1.    تعريف أولي لمفهوم الإبيستيمي
كلمة إبيستيمي تأتي من الجذر اليوناني
επιστήμη، وهو ما يعني العلم أو المعرفة. وبشكل عرضي، خلال مناقشة مع نعوم تشومسكي في عام 1971، كشف ميشيل فوكو عن نيته بهذه الطريقة: أسعى إلى "فهم تحولات المعرفة في كل من المجال العام للعلوم وأيضا ضمن المجال العمودي إلى حد ما الذي يشكله مجتمع وثقافة وحضارة في لحظة معينة ". يشير إبيستيمي عصر ما إلى طريقة في التفكير، في تمثل العالم، من شأنها أن تمتد على نطاق واسع إلى جميع الثقافات.
أصل هذه الفكرة عن الإبيستيمي يأتي من الجمع بين مساهمتين معاصرتين في الابستيمولوجيا الفرنسية: فكرة القطيعة الابسيمولوجية التي تقدم بها غاستون باشلار (المستعادة والمؤكدة من قبل لويس ألتوسر) ومنهج جورج كانغيليم الذي كان يصبو إلى إيجاد التماسكات الإبسيمولوجية في فترة معينة، لأنه لم يكن يؤمن بالتطور المستمر للعقل والعلوم .
في "الكلمات والأشياء" (1966) و"أركيولوجيا المعرفة" (1968)، وصف ميشيل فوكو ثلاثة إبيستيميات متعاقبة: إبستيمي عصر النهضة، إبستيمي العصر الكلاسيكي، وأخيرا إبستيمي العصر الحديث. يجمع البحث الذي أجراه فوكو بين الفلسفة العامة والتاريخ والإبستيمولوجيا. ضمن مسعى بنيوي، حاول النظر بعين الاعتبار للمنظومة المفاهيمية التي أنتجت معارف عصر معين. ولكن مع "أركيولوجيا المعرفة" (1968)، تغير الموضوع بالفعل وركز فوكو على "الخطاب"، على حساب الفكر والممارسة.
في "الكلمات والأشياء"، كتب ميشال فوكو: "لن يتعلق الأمر بمعارف وصفت ضمن تقدمها نحو الموضوعية التي يستطيع علمنا اليوم أن يتعرف فيها أخيرا على ذاته؛ ما نود أن يشمله النور، هو الحقل الابستيمولوجي، الإبيستيمي [...] الذي يصف الشروط الممكنة للمعرفة: بدلا من التاريخ بالمعنى التقليدي للكلمة، بل الأمر يتعلق بالأركيولوجيا ".
أظهر هذا المسح الأركيولوجي انقطاعين رئيسيين في الثقافة الغربية: الأول الذي افتتح العصر الكلاسيكي (نحو منتصف القرن السابع عشر)، والثاني حدث في بداية القرن التاسع عشر، على أعتاب الحداثة (الكلمات والأشياء ، ص 13). في مقابلة معه جرت عام 1972، أوضح ميشال فوكو: "ما أسميته في "الكلمات والأشياء"، بالإبيستيمي ليس له علاقة بالمقولات التاريخية. أعني به كل العلاقات التي كانت موجودة في وقت واحد بين مختلف مجالات العلوم [...]. كل هذه الظواهر (الخاصة) بالعلاقة بين العلوم أو بين الخطابات المختلفة في مختلف القطاعات العلمية التي تشكل ما أسميه إبيستيمي عصر ما" (مقابلة 1972).
في وقت لاحق، سوف يعطي تعريفا جديدا للإبيستيمي "باعتباره الجهاز الاستراتيجي الذي يجعل من الممكن فرز، من بين جميع البيانات الممكنة، تلك التي سوف تكون قادرة على أن تكون مقبولة ليس داخل نظرية علمية، ولكن داخل حقل العلمية، الذي بموجبه يمكننا أن نقول: هذا صحيح أو خاطئ. هو الجهاز الذي يجعل من الممكن فصل، ليس الصحيح عن الخاطئ، ولكن ما ليس علميا عن ما هو علمي "(مقابلة عام 1977). الأمر يتعلق بتوضيح وفهم كيف تمارس القاعدة المعرفية، الضمنية من جهة أخرى، تأثيرها على الفكر العلمي في وقت معين.
2- لمفهوم الابستيمي جانبان
تسليط الضوء على أي إبيستيمي هو بحث عن شبكة "من خلال تقنية شاقة وبطيئة" تتطلب تبحرا عميقا ودقيقا. لقد ظل فوكو غامضا بشأن أسلوبه الذي نقترح إعادة تشكيله، مع كل التحفظات، لأنه سوف لن ينال موافقته إلى الأبد. وقد تم تشكيل هذه الفكرة من خلال الجمع بين وجهة نظر بنيوية ووجهة نظر أركيولوجية.
أ-    وجهة النظر البنيوية
يدافع فوكو عن فكرة أن ما يحدد إنتاج المعارف إنما هو نظام غامض، بنية تتحكم في مختلف المعارف. يتعلق الأمر بالشفرات الأساسية للثقافة التي نشارك فيها، تلك التي تتحكم في لغتها، في خطاطاتها الإدراكية، في تراتبية ممارساتها. هذه الشفرات تحدد المحتوى التجريبي الذي يمكن للمشاركين في هذه الثقافة الوصول إليه. وتشكل هذه البنية نظاما صوريا غامضا يستعصي على الأفراد إدراكه ويجسد "شبكة غير مدركة من الإكراهات". هذه القواعد والبنيات غير معروفة للعلماء في كل مجال من مجالات المعرفة، فهي لاشعورية، غير صريحة.
ب-    وجهة النظر الأركيولوجية
الطريقة التقليدية في تصور تاريخ الأفكار وضعت بحزم موضع تساؤل. لقد انتقلنا من مسلك زمني إلى رؤية من خلال عصور إبستيمية متقطعة. ففي لحظة معينة، يتشكل نظام مستقر، إبيستيمي، يتحول لاحقا إلى إبستيمي آخر. هذا هو السبب في أن فوكو فضل مصطلح الأركيولوجيا على مصطلح التاريخ. إنها ليست مسألة إعادة رسم مسار، وإنما هي نبش أشكال دفينة، أساسات. يقول ميشال فوكو، في مقابلة مع الفيلسوف فونس إلديرس في عام 1971، إنه استخدم في "الكلمات والأشياء" الطريقة الأركيولوجية المتمثلة في المقارنة بين مجالات مختلفة من المعرفة (بيولوجيا، اقتصاد، لسانيات من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر ) وفي إبراز كيف تخضع هذه المجالات لقوانين أو قواعد مشتركة تجعلها تتواصل فيما بينها.
تصف الأركيولوجيا الأحداث الثقافية وفقا لحالتها الظاهرة: تقول لنا كيف يتم تعديل التكوينات الداخلية لكل معرفة، تحلل تحولات المراجع التجريبية، تدرس وضعها (التكوينات) مقارنة بغيرها، تبرز المبادئ الأساسية المنظمة لفضاء المعرفة العام,
الأركيولوجيا هي: "الفكر نفسه وقد عاد مجددا الى جذور تاريخه" ( الكلمات والأشياء، ص. 230).
إجمالا، كل عصر ثقافي يمكن تحديده، وفقا لميشال فوكو، من خلال إبيستيمي؛ أي من خلال مجموعة من الإشكاليات والفرضيات وطرق البحث، التي تشكل ثابتا في هذا العصر. مثلا، البحث عن "التشابه" هو ما قاد الفكر الذي يمتد من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي، في حين أن البحث عن "النظام" هو ما ينظم العصر الحديث. بالنسبة لميشال فوكو، ليس هناك "تقدم" في السيرورة الثقافية على مر التاريخ، حيث أن التغييرات تنتج عن المرور من إبيستيمي إلى آخر. هذه الاجتيازات لا تتم بفضل اكتمال المعارف، ولكنها تتوقف على أحداث ثقافية غير محددة إلى حد ما، انقطاعات غامضة ( الكلمات والأشياء، ص 299).
"تحليل كهذا [...] لا ينتمي إلى تاريخ الأفكار أو العلوم: بل هو دراسة تحاول أن تكتشف انطلاقا من ماذا كانت المعارف والنظريات ممكنة" (الكلمات و الأشياء، 13). ميشيل فوكو، بعيدا عن تاريخ الأفكار أو العلوم، يبحث عن شروط إمكانها والمصفوفة الثقافية اللامفكر فيها التي شكلتها. وفقا له، الإبيستيمي يحدد المعرفة ونمط وجود ما ينبغي معرفته. (الكلمات والأشياء، صفحة 68).
2.    اللحظات الإبستيمية الثلاث في الغرب
يصف فوكو ثلاثة إبيستيميات في الغرب: إبستيمي عصر النهضة، الإبيستيمي الكلاسيكي، وأخيرا الإبيستيمي الحديث. كما هو الحال في "تاريخ الجنون" الصادر قبلا، نجد قطيعتين إبسيمولوجيتين؛ هما الانتقال من عصر النهضة إلى الكلاسيكية ومن العصر الكلاسيكي إلى الحداثة.
بالنسبة لفوكو، فإن فكر عصر النهضة تهيمن عليه رؤية كوسمولوجية (كونية) للعالم ضمنها ينتظم كل شيء. في هذا الفكر يهيمن البحث عن المحاكاة، عن التشابه وعن التماثلات. في الكتاب الكبير للطبيعة تظهر المؤشرات التي تشير إلى نظاميته، لمن يعرف كيفي يقرأها.
في الإبيستيمي الكلاسيكي، ليس هناك غير الهوية والاختلاف من أجل الوصول الى تصور للعالم. منطق بور - رويال، ديكارت، هوبز، لابنيتز، كل ذلك ساهم في تشكيل بنية من الرموز والعلامات. إضفاء الطابع الرياضياتي على الطبيعة ومكننتها ساهما في ترتيب علامات (اللغة) التي من خلالها يمكن اقتراح تصور معين. "كانت موهبة اللغة الكلاسيكية دائما (تتلخص) في رسم صورة: سواء كان الخطاب طبيعيا، تحصيلا للحقيقة، وصفا للأشياء، عينات من المعارف الدقيقة، أو معجما موسوعيا" (الكلمات والأشياء، 332).
إنما مع كانط افتتح عصر الحداثة. في هذا الإبستيمي الأخير، أصبح العمل، الحياة واللغة مواضيع للدراسة. انتقلنا من التاريخ الطبيعي إلى البيولوجيا، من تحليل الثروات إلى الاقتصاد، من فقه اللغة إلى النحو و اللسانيات. موضوعات جديدة للمعرفة تم تحضيرها: الإنتاج حل محل التبادل (بالنسبة للاقتصاد)، الحياة محل الكائنات الحية (بالنسبة للبيولوجيا) واللغة محل الخطاب (بالنسبة لفقه اللغة). ظهر الإنسان، من خلال العلوم الإنسانية (التي هي جزء من الإبيستيمي الحديث)، كموضوع للمعرفة. كل هذه العلوم الجديدة تغيرت في طبيعتها وشكلها، وهناك قطيعة مع تلك التي سبقتها.
في الحداثة، يظهر الإنسان كموضوع للدراسة وهذا هو التحدي المعرفي الجديد والكبير. الإنسان كموضوع للمعرفة يقدم نفسه في شكل غامض من "أنثروبولوجيا"، مفهومة كتفكير عام، نصف موضوعي، نصف فلسفي، حول الإنسان (الكلمات والأشياء، ص. 15)، الشيء الذي لخصه في هذه الصيغة الصادمة: "في تحليل التناهي، الإنسان هو زوج غريب تجريبي - ترنساندانتالي" (الكلمات والأشياء، 329).
تماما كما جرى تصوره في الفلسفة، اقتيد الإنسان، خلال دراسته الموضوعية، إلى أن يتحول إلى موضوع، وأن يتوزع بين موضوع ترنساندانتالي وموضوع تجريبي.
بالنسبة لفوكو، تحتل العلوم الإنسانية المضمار الذي تخلت عنه الفلسفة. ميشيل فوكو يعين لها ثلاثة مجالات: المنطقة النفسية، والمنطقة الاجتماعية ومنطقة الأدب والأساطير.ولكن في وقت لاحق، اتهم فوكو العلوم الإنسانية بارادة التحكم التي من شأنها أن تكون قناعا للقوة. ثم سيطور فكرة تبعية المعرفة إلى السلطة، الأمر الذي سيؤدي به إلى التخلي عن مفهوم الإبيستيمي.


4- الإبيستيمي ليس حقبة ولا حضارة
مفهوم الإبيستيمي هو بالتأكيد قابل للنقد، ولكنه أقل إثارة للجدل من مفهوم "روح العصر" المستخدم كلاسيكيا. كلمة الروح، حتى ولو استعملت من قبيل المجاز، تحمل دائما شبهة مثالية، ما يجعلها قابلة للنقد. مصطلح "الحقبة" هو مصطلح تاريخي يميز فترة من الزمن من خلال ربط المظاهر الاجتماعية بقيام نظام سياسي معين. العصور التاريخية لا تتطابق بالضرورة مع تطور الفكر. روح العصر عبارة فضفاضة ذات طابع سوسيوثقافي. مصطلح حقبة مهم لتحديد لحظة في التاريخ، ولكن كلمة الروح هي من الغموض بحيث تبدو عديمة الفائدة في تاريخ الفكر.
الإبيستيمي ليس لحظة حضارية (على الرغم من أن فوكو يشير إلى ذلك)، وهو مفهوم له معنى أوسع من معنى حقبة تاريخية. بالنسبة إلى نوربير إلياس، "تتمثل سيرورة الحضارة في تعديل الحساسية البشرية والسلوك في اتجاه محدد" (دينامية الغرب، ص.181). وستأتي هذه السيرورة من حقيقة أن الاعتماد المتبادل بين الناس يولد نظاما محددا. وتقتصر المعرفة، من جانبها، على طريقة التفكير، بقدر ما تأخذ شكلا محددا في وقت معين. وهي مدرجة في السيرورة الحضارية، لكنها تتجاوز ذلك. يمكننا مقارنة أقوال فوكو مع أقوال الفيلسوف وعالم الاجتماع نوربرت إلياس الذي بحسبه يجب أن يكون الفكر المجرد مؤرخنا، لأنه يشارك في المجتمع ككل. وهذا يعيدنا إلى الحذرالابيستيمولوجي المتمثل في استعادة السياق الحضاري الذي يتشكل فيه الفكر الفلسفي والعلمي في حقبة ما.


5- نقد نتائج ميشال فوكو
يمكننا تقديم ثلاثة انتقادات:
- ظل فوكو غامضا بشأن البنية التي ادعي أنه حددها، كما هو الحال بشأن أصلها (لا اجتماعية، لا بيولوجية، لا ترنساندانتالية ). إن الطريقة التي يبرز بها الإبيستيمي الجديد "غامضة"، كما يقول فوكو (الكلمات والأشياء، ص. 113). حديثه وصفي، دون تقعيد، هو بالتالي مجموعة ثقافية متجانسة وليس بنية مجردة.
- المجموعات الثلاث (عصر النهضة، العصر الكلاسيكي، العصر الحديث) التي وصفها فوكو تشكلت في مقابل تشوهات في الواقع. إن تعريف الإبيستيمي، كما هو محدد من قبل فوكو، يصعب توحيده تماما، إلا بليّ عنق المعطيات، لأن بعض مظاهر الثقافة العالمة لا تندرج في الإطار الزمني والمفاهيمي المحدد هكذا.
- في "الكلمات والأشياء"، يصف فوكو الانتقال من إبيستيمي إلى آخر باسم "الانقطاع"، "الطفرة"، "الحدث الراديكالي"، "القطيعة". هذه المصطلحات تم فرضها من قبل الفكر البنيوي الذي يريد أن نقفز من بنية إلى أخرى، كل واحدة تشكل كلا متجانسا. إذا كانت الإبيستميات متمايزة، فهي ليست عازلة والمرور من أحدها إلى الآخر عن طريق قطيعة مفاجئة، كما قال المؤلف، من الصعب إثباته.
بعد تقديم هذه التحفظات، لا يتعين عليها أن تحجب عنا الفائدة من هذا الإجراء. يمكن توجيه النقد للطريقة التي وصفت بها الإبيستيميات المختلفة، لكن يجب تمييز المحتوى المشكوك فيه عن الفكرة العامة للإبيستيمي أو للقاعدة الابستيمية. إنها مسألة إضفاء الطابع الفردي على قاعدة مكوِّنة (بكسرة مضعفة على الواو)، ليس فقط من وجهة النظر التاريخية والوصفية، ولكن من خلال البحث عن بنية الخلفية (متماسكة، لكن ليست صريحة) التي تطبع المعرفة. هذه الاجراء يعطي معقولية للطفرات الثقافية (أو، على الأقل، يدفع للبحث لها عن معقولية). إنه يسلط الضوء على الطابع الجماعي والمشترك للمعرفة.
بعد العمل الذي قام به ميشال فوكو، يبدو واضحا أنه في لحظة معينة من التاريخ وفي ثقافة معينة، تكون طرق التفكير متجانسة نسبيا، ثم تتغير ليعاد تشكيلها بطريقة أخرى في الحقبة المقبلة. فالطريقتان للنظر في تطور الأفكار، إما كتقدم غائي بحكم وضعهما النهائي، أو من منظور مثالي من خلال تأمل - تحقيق الأفكار الأبدية، تظهران بعد عمل ميشال فوكو، غير مناسبتين. ومن المؤكد أنه من عصر إلى آخر، لا نفكر بنفس الطريقة، لأن رؤية العالم تتغير بقوة. ويلاحظ جورج كانغيليم "أنه لا شيء ينقص من جدارتها، إذا كانت قراءة السيد فوكو تزرع في قلب تاريخ العلوم الخوف المعمم من المفارقة التاريخية" ("موت الإنسان أو نفاد الكوجيتو"، 1967).
هل يمكننا استخدام وتطوير مفهوم الإبيستيمي على الرغم من أنه تم التخلي عنه من قبل ميشال فوكو؟ ربما نعم وبطرق مختلفة. سوف نقدم بعض الاقتراحات الموجزة التي تحتاج إلى تطوير.
6- استخدام آخر للمفهوم الإبيستيمي ممكن
قد يبدو من المفيد تركيز مفهوم الإبيستيمي على المظاهر الفلسفية والعلمية، لأن الظاهرات الأدبية والفنية هي أكثر تعددا في الأشكال وتستجيب بشكل أقل لفكرة الإبيستيمي. المظاهر الاجتماعية، والعادات، والفنون، والأزياء، ليست بالضرورة متجانسة ومتوافقة ومن الصعب أن تظهر أنها تستجيب لبنية مشتركة كامنة. من خلال التقليص من توسع هذا المفهوم، يصبح من السهل استخدامه .ومع ذلك، والحالة هاته، فإن أي إبيستيمي ليس بالضرورة متجانسا، ويحتوي على جوانب متناقضة مع المبادئ التي يهيمن عليها.
فكرة البنية مثيرة للاهتمام، بمعنى أنه يمكن أن ترتبط مع وجهة نظر شمولية في نظرية المعرفة، أي أن كل مفهوم هو جزء من الكل الذي ضمنه يأخذ معناه. على خلاف ذلك، فإن وجهة النظر البنيوية تقتضي، إذا تم تطبيقها بدوغمائية، الانقطاعات الجذرية بين الابيستيميات، وهو أمر مشكوك فيه. وباعتراف الجميع، يبدو أنه يمكن للمرء أن يحدد من وجهة نظر تجريبية فترات متميزة خلالها تنتشر مجموعة من الأفكار، حتى وإن لم يتقاسمها الجميع،، تفرض ذاتها، وتظهر نفسها بوضوح وبقوة في المجتمع وفي تطوره. ولكن هناك قيود وانتقادات تفرض ذاتها:
- هناك إشكاليات تعبر كل العصور.
على سبيل المثال، السؤال "ما هو الإنسان؟ هو سؤال حاضر دائما في الفلسفة منذ أرسطو. ولا يمكن أن ندعي أن الإنسان هو "اختراع تبين أركيولوجيا فكرنا بسهولة تاريخه الحديث، وربما نهايته القريبة" (الكلمات والأشياء، ص.398). التساؤل عن الإنسان يجتاز كل العصور. وسيكون من الأفضل القول أنه وفقا للمعيار الحالي، سنجيب على سؤال الانسان عن طريق تعبئة الموارد المفاهيمية المختلفة والموضوعات البحثية. ما يظهر مع الحداثة هي موضوعات جديدة من المعرفة تتعلق بالإنسان.
- هناك تيارات فكرية غير متجانسة مع إبيستيمي عصرمن العصور. هذا الاعتراض صحيح بالبداهة، لكنه غير مبطل. هناك أيضا تجانس وأصالة إبيستيمية في فترة من الزمن ضمن الثقافة الغربية. معظم المؤلفين في فترة وثقافة محددتين يفكرون وفقا لمفاهيم تشكل نوعا من القاعدة الفكرية. تشكل هذه المجموعة تيارا مهيمنا (حتى لو كانت متنازعة، لأن بعص المؤلفين، وأحيانا مؤلف واحد، يشاركون في التيار المهيمن وفي الذي يعارضه).
يعني الإبيستيمي أن أي مؤلف عالم في فترة محددة يفكر، عن وعي أو بدونه، انطلاقا من مفاهيم ومن رؤية للعالم تحدد إشكاليات ضرورية. وصف إبيستيمي ما هو إلا إعادة اكتشاف وتلخيص تماسك هذه الطرق في التفكير التي تغذي الفضاء الفكري في لحظة معينة من التاريخ. إن الإبيستيمي بهذا التصور يربط مجموعة منظمة من المبادئ التي يمنحها شروط إمكانها بالمعرفة الفلسفية والعلمية في تلك اللحظة التاريخية.
من أجل استعمال صيغة عامة جدا من يورغن هابرماس، الذي يؤكد على الجانب الأنطولوجي، يمكن لنا أن نقول إن الإبيستيمي هو شكل من المعرفة يحدد "للعلوم، أفق المقولات الذي لا يمكن تجاوزه في كل مرة، يمكن لنا أيضا أن نقول: هو ما يحدد بشكل قبلي تاريخ فهم الوجود "(الخطاب الفلسفي للحداثة، ص. 305).
- خاتمة
يكمن أحد أدوار الفلسفة في التساؤل حول الكيفية التي تكون بها الفكر والمعرفة. وفي هذا السياق، يقدم فوكو اقتراحا مثيرا للاهتمام، وهو تقديم مجموعات إبيستيمية متجانسة وبناءة بالنسبة لمختلف المعارف، التي أسماها بالإبيستيمي. هذا المفهوم يدعو إلى التفكير في الفكر مع وضمن المجموع الذي ينتمي اليه.
مفهوم الإبيستيمي يفرض مبدأ الحذر الابيستيمولوجي الذي مؤداه ألا نسند بسذاجة معاني حديثة لكتابات الماضي. إذا كان هناك العديد من الإبيستميات المتميزة، فهذا يقتضي أن نفس المفهوم لا يعني نفس الشيء في العصور القديمة، في عصر النهضة وفي الوقت الحاضر. وهذا يعني أنه من غير المنصف تفسير خطابات الماضي وفقا لمفاهيم الحاضر، بل على العكس من ذلك، يجب علينا أن نتعلم التفكير مثل أولئك الذين سبقونا في إطار إبستيميهم. إن الموقف الفوكوي يقتضي تاريخانية المفاهيم، وأكثر من ذلك البحث عن بنية أو على الأقل عن تماسك بينها (المفاهيم).
لا تشذ الفلسفة عن هذه القاعدة، و يندرج تطورها بالتالي ضمن الإبيستيميات المتعاقبة. ومن شأن أخذ هذا بالحسبان أن يجعل من الممكن تفادي التقاط التفسيرات النكوصية التي تشوه محتواها (الابيستيميات) بصورة منتظمة. ولا ينبغي علينا أن نسقط طريقتنا في المعرفة على مؤلفات الماضي أو فلسفات الثقافات الأخرى. بل على العكس من ذلك، يجب علينا أن نسعى إلى إعادة استخدام المفاهيم من خلال استرجاعها في إطار بإستيميها. هذا ما حمله آلان دي ليبيرا على عاتقه، لما اقترح مقاربة أركيولوجية للفكر الفلسفي ضمن دروسه في الكوليج دو فرانس التي بدأت في عام 2013..
إنها تاريخانية خاصة، من نوع بنيوي، تلك التي يقترحها ميشال فوكو. هي تنضم، بشكل غير مباشر، الى وجهة نظر التاريخية في الابيستيمولوجيا التي تريد لكل مفهوم أن يكون جزء من مجموعة ضمنها يأخذ معناه. إذا قمنا بتغيير مجموعة (من الإبيستيميات)، تؤدي عندئذ المفاهيم أدواراً مختلفة. إن الكشف عن الطابع التاريخي لمفهوم ما لا يعفي مناقشته. أن يكون هذا المفهوم أو ذاك ثمرة بنية إبستيمية مرتبطة بالزمن والسياق الاجتماعي التاريخي لا ينفي الحكم على مدى صلاحيته وفائدته.
المقال الأصلي:
JUIGNET Patrick: Michel Foucault et le concept d'épistémè

 


الثلاثاء، 2 فبراير 2021

جورج قنواتي: تراث الإسلام (الفلسفة وعلم الكلام والتصوف)

 



إلى جانب القرآن، والحديث الذي يبيّن ما لم يرد في القـرآن، الـتـقـى الفكر الإسلامي في أول الأمر بالفكر الديني المسيحي في دمشق، وبالفلسفة اليونانية في بغداد. وكانت دمشق مدينة

قديمة للثقافة، كما كان التأثير اليوناني فيها قويا. وقد استقرت المسيحية فيها من العصور الأولى ونمت فيها بسرعة. ونجد مع بعض الاستثناءات، أن الأسماء الكبـيـرة فـي تـاريـخ المسيحية الدمشقية ترجع إلى العصر الإسلامي، أمثال القديس سرفرونيوس والقديس أندريا الأقريطشي، والقديس يحيى ـ يوحنا ـ الدمشقي، ولم تقتصر أوجه الاتصالات بين المسلمين والمسيحيين على التجارة والإدارة وحسب، بل وجدت أوجهاً أخرى من التبادل الديني والفكري. وكانت هناك اقتباسات أدبية (مصطلحات في مسائل الدين والزهد) وتشابه في تصور تكوين الأشياء (مثل تصورات الجنة والنار وأساليب محاسبة النفس)، وتبادلات فكرية مثمرة. وكان المتصوّفون المسلمون يتحدثون مع رهبان النصارى في مسائل الدين. ولدينا ابتداء من القرن الثاني الهجري ـ الثامن الميلادي فصاعداً شواهد جليّة، وخاصة في ما يتعلق بيحيى الدمشقي وتلميذه ثيودور أبو قرّة تشير إلى قيام نشاط جدلي بين المفكرين النصارى والمسلمين. وكان هناك مسألتان دار حولهما النقاش أكثر من غيرهما، وهما مسألة القدر ومسألة خلق القرآن. ويبدو أيضاً أن تدخل المدافعين عن المسيحية هو الذي جعل مسألة صفات الذات الإلهية موضوعاً للبحث.

 

 

ولكن أهم حادث في تكوين الفكر الفلسفي الإسلامي كان دون شك لقاء بالفلسفة اليونانية في بغداد أيام حكم الخليفة المأمون في الـقـرن الـثـالـث الهجري/ التاسع الميلادي. ولابد من القول ابتدا إن الفلسـفـة الـيـونـانـيـة التي تلقاها العرب لم تكن هي فلسفة أفلاطون وأرسطو فحسب9 بل كانت أيضا تلك الفلسفة التي صيغت خلال عدة قـرون عـلـى أيـدي مـن واصـلـوا

فلسفتهما وشرحوها. وكان هناك إلى جانب الفلسفة الأفلاطونية وفلسفة أرسطو9 الفلسفة الرواقية والفيثاغورية وقبل كل شيء الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة التي أنشأها أفلوطين وبرقلس. وقد بدت الفلسفة في صورة الحكمة الفريدة التي أسهمت كل العقول الكبيرة في تكوينها. وكان الفلاسفة المسلمون، بل حتى المفكرون المتصوّفون المتأخرون، مقتنعين بذلك اقتناعاً عميقاً، لدرجة أنهم جعلوه أساس نظرتهم إلى الكون. كما كان المسيحيون وخاصة السريان في أنطاكية قد مهدوا الطريق لذلك بإذفاء الصبغة النصرانية على فقرات معيّنة للكتاب القدامى أو على الأقل جعلوها أكثر قرباص للدين. وكان تكييف هذه الكتابات (لكي تتفق مع الدين) قد تم بحكمة وحذر إلى درجة أن المر لم يتخطَّ مرحلة اللاهوت الطبيعي، الذي يتماشى بالضبط مع ما كان يمكن للمفكرين المسلمين أن يقبلوه.

..

وقد بدأ الفكر الإسلامي من الوحي الديـنـي الـذي تحـدثـنـا عـنـه آنـفـاً، وتأثر بعوامل شتى أشرنا إليهـا، ثـم أخـذ هـذا الـفـكـر يـشـق طـريـقـه بـقـواه الخاصة. وفعل الفكر الإسلامي ذلك في حركة دفاعية ضد الآراء المعادية التي كانت تهدد العقيدة الإسلامية قليلا أو كثيرا. وأراد نفر من المفكرين المسلمين الذين أحاطوا بالفلسفة اليونانية أن يضعوا قوى العقل في نصرة عقيدتهم، وبذلك انتزعوا تلك الأسلحة من أيدي خصومهم ووجهوها إليهم.

وهذا المنزع الفكري المناضل يميّز أولئك الذين يُعرَفون في تاريخ الفكر الإسلامي باسم "المعتزلة". ومهما كان أصل هذه التسمية، فإن المعتزلة كانوا يتألفون من عدد من المفكرين، كانوا يقيمون في البصرة أو في بغداد، وحاولوا بشجاعة أن يقدموا مبادئ العقيدة الإسلامية في صورة يقبلها العقل، وغامروا بتعريض أنفسهم لاستهجان أهل السنّة والجماعة وإثارة سخطهم. وتناول المعتزلة خمسة أصول أساسية هي:

أولا: القول بالتوحيد في صورة بالغة القوة وفقا لمبدأ التنزيه. وذهـبـوا في هذا القول إلى أقصى حد حتى كان ذلك على حـسـاب نـفـي الـصـفـات الحقيقية للذات الإلهية.

ثانيا: العدل، وقالوا إن الخير خير في ذاته، والشر شر في ذاته، قبل أن تأتي الشريعة بتحديد ذلك (أو بعبارة أخرى قبل ورود الـوحـي، كـمـا يـقـول المتكلمون) وأنه يجب في حق الله أن يفعل الخير والصلاح لعباده. ولما كان الله لا يريد الشر، فهو كذلك لا يأمر به، والإنسان هو الذي يخلق الشر.

ثالثاً: الأصل الخاص بمصير المؤمن والعاصي والكافر.

رابعاً: المنزلة بين المنزلتين، أي منزلة الإيمان ومنزلة الكفر، وتلك هي منزلة المؤمن العاصي الذي يرتكب الكبيرة، فيكون مصيره في الآخرة أن يخلد في النار (ولكن عذابه أقل من عذاب الكافر). أما في الحياة الدنيا فيظل رغم ارتكابه الكبيرة عضواً في الجماعة الإسلامية.

والأصل الخامس والأخير الذي يقول به المعتزلة، هو الذي يضع قاعدةً للسلوكالعملي للمؤمن في المجتمع الإسلامي، فإذا واجهه شرٌّ كان عليه أن ينكره بقلبه أو لسانه أو يده. فإن لم يكن ذلك كافياً فلا بدّ من إعادة الحق إلى نصابه بالسيف.

ومن الواضح أنه قد يكون من الخطأ اعتبار هؤلاء المفكرين الأولين في الإسلام "مفكرين أحراراً"، إذ لم يكونوا كذلك، لأنهم عندما أصبحت السلطة تحت أيديهم، ظهر منهم تشدّدٌ لا هوادة فيه، وأصرّوا على فرض معتقداتهم بالقوّة. لكن سلطانَهم كان مؤقتاً، فلم يلبثوا أن اضطُهِدوا بدورهم وحُرِقَت كتبُهم. ومع ذلك فإن أثرهم ظل عظيماً عند أولئك الذين كانوا يرغبون في دين بحسب معايير العقل، وهم على وجه الخصوص الذين مهدوا السبيل للفلاسفة، وكانوا مثلهم يحلمون بالتوفيق بين حكمة الإغريق والوحي المنزل. (43)

..

الفلسفــة

 

لخصت في الصفحات السابقة الخلفية التي يقف فيها الفكر الفلسفي الإسلامي، وسنكتفي فـي الـصـفـحـات الـتـالـيـة بـعـرض مميزات الـفـلـسـفـة الإسلامية في مجموعها، وفي أثناء ذلك سنبرز الدور الذي قام به هذا أو ذاك من ممثّليها.

وأول ما يلاحَظ هو أن تلك الفلسفة تمثّل وحدة لا سبيل إلى إنـكـارهـا على الرغم من اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها، والمؤلفات التي صنـفـت فيها.

كما أن نفس الملامح الأساسية الموجودة عند فلاسفة المسلمين في الشرق هي بعينها الموجودة عندهم في الغرب.

ونقطة البداية عندهم واحدة هي الحقائق القرآنية وتعاليم الإسلام المتعلقة بالحياة الـيـومـيـة، ولـم يـكـن بينهم من يبلغ به التهور أن يشك فيهـا. وأقـصـى مـا فـي الأمـر أنـهـم كـانـوا يلجأون إلى التأول المجازي في موضوعات معيّنة( مثل الخلق في الزمان وبعث الجسد) وكان لديهم أيضاً نفس الأساس العقلي الذي كان للفلسفة الهيلينستية: منطق أرسطو، والإيمان بالعقل باعتباره العيار الأعلى، والنظر إلى الله تعالى على أنه وجود محض، محرك

أول غير متحرك، وفي الغالب القول بضرورة خلق العالم في الأزل. ويتميز أولئك الفلاسفة بنفس التكوين المدرسي (الاسكولائي) المستمَدّ من النشأة الدينية العامة لهم، وهم توصلوا إلى نفس النتائج في النقط الأساسية، وهم يشتركون في ظروف الحياة من ازدهار ونموّ، وهي الظروف التي كان يتسم بها المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى.

ويلاحَظ ثانياً أن هذه الفلسفة جزءٌ من تيار الفكر الإغريقي. وهي تستند بصورة دائمة إلى كبار حكماء العصر القديم، مع الاعتقاد الراسخ بوحدة الحكمة، وبوجود نوعٍ من الإلهام عند الفلاسفة القدماء، وأن الوحي الإسلامي ما هو إلا استمرار لذلك الإلهام.

وكان فلاسفة المسلمين يرغبون في أن يظلوا مخلصين لذلك التراث من الحكمة. وبلغ من قوة اعتقادهم بوحدة الفلسفة اليونانية أن الفارابي كتب رسالة خاصة يدلل فيها على أن أفلاطون وأرسطو يذهبان، من حيث الجوهر، مذهباً واحداً ولكن بحكمين مختلفين، وهو يبيّن أيضاً أنهما يتفقان في تصورهما للحياة: فأفلاطون قد جسّد هذا التصور بصورة عينيّة، في حين أن أرسطو يوضحه في كتاباته المدوّنة. وهذا يصدق أيضاً على طريقة التعليم عند كلٍ منهما: فأفلاطون يستخدم أسلوب القصة، بينما يستعمل أرسطو لغةً مبهمة. لكن كلاً منهما يحب أن يجعل تلاميذه "يكتشفون" الحقيقة بالبحث عنها وراء الظواهر السطحية. ومذهبهما واحد كما يقول الفارابي، وهو يبيّن أن كلاً منهما يذهب المذهب نفسه في نظرية المثل ومسائل المعرفة والطبائع والوراثة وغيرها. وبسبب هذه الصلات التي تربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية تقترب الفلسفة الإسلامية كل الاقتراب من الفلسفة الغربية، وذلك حتى عصر النهضة على الأقل.

ويلاحَظ في المقام الثالث أن الفلسفة الإسلامية تنزع إلى أن تكون "حكمة". فقد كان الفارابي (ت 339هـ/ 950م)، وابن سينا (ت 428هـ / 1037م) وابن رشد (ت 595هـ / 1198م) مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات. والفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" يحصي العلوم المتنوعة ويتكلم عنها، ويذكر الفلسفة في النهايرة على أنها رأس العلوم، لأنها تتضمّن اليقين في المعرفة التي يُحصَل عليها بالبرهان. وابن سينا في كتابه الكبير الجامع "الشفاء" (والمقصود به شفاء النفس من الجهل)، يحيط بجملة العلوم بحسب الخطة التالية:

1ـ المنطق، 2ـ الطبيعيات، 3ـ الرياضيات، 4ـ الإلهيات. ويدخل ابن سينا في نطاق الإلهيات جميع ما جاء به الوحي في القرآن الكريم. ويبيّن أن الله، وهو واجب الوجود والذي لا واجب وجود سواه، خير، قادر على كل شيء، وخالق كل شيء وقدير حكيم. وهو يحل مشكل الشر بأن يميّز بين العلل بالذات، والعلل بالعرَض، بل هو يعالج المشكلة الدقيقة الخاصة ببعث الجسد، ويتناول ذلك بالطريقة الفلسفية، ويرجع إلى العلوم الدينية الخاصة بالموضوع من أجل وضع أسس العقيدة في هذه المسألة. وإلى جانب ذلك ـ وهو ما يدل على طابع الشمول في الحكمة الإلهية لدى الفلسفة ـ يحاول ابن سينا أن يتبيّن من جديد عن طريق الاستدلالالفلسفي صحة أوامر القرآن الخاصة بأمور الجماعة، وهي الخلافة، وبناء الأسرة، وبيان حكمة تعدد الزوجات، والطلاق، وما إلى ذلك.

ويذهب ابن رشد إلى أبعدَ من ذلك. إذ قال بوجود ثلاثة أنواع من العقول بحسب أنواع الأدلة الثلاثة التي بيّنها أرسطو. فالنوع الأول هو العقول البرهانية القادرة على متابعة دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيّنة ضرورية، وربد هذه الأدلة هو الذي يكون الفلسفة. لكن هذا لا يتسنى إلا لقلّة من العقول (الخواص) الموهوبة بالقدر الذي يجعلها تكرّس نفسها لها. والنوع الثاني عقول منطقية تكتفي بالبراهين الجدلية. أما النوع الثالث فهو العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيّأة لاتباع الاستدلال المنظم. والعقول الأخيرة نجدها عند جميع الناس العاديين، وهم السواد الأعظم الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة وحسب.

على أن أحد وجوه الإعجاز في القران، كما يقرر ابن رشد، هو أنّ فهمه ميسّر لهذه الأنواع الثلاثة من العقول، فكل منها يتبيّن الحق فيه بما يتفق مع قدرته العقلية. فليس هناك مشكلة بالنسبة للآيات القرآنية المحكمة التي لا لبس في معناها. فالجميع يفهمونها ويدركون معناها على نحو واضح. وهناك آيات متشابهة لأن فيها أمثالاً ومجازات. ولهذه الآيات معنى حرفي وآخر خفي أعمق. والفلاسفة وحدَهم، وهم صفوة العقول، هم الذين يستطيعون أن يدركوا التسلسل الدقيق للاستدلال، وأن يفهموا المعنى الأعمق. أما الجمهور فإنهم يفهمون النصوص بمعناها الحرفي. وينبغي الحذر من السماح لهم بالنظر إلى المعنى العميق الخفي الذي تخفيه تلك الآيات، لأنهم لن يفهموا فيتزعزع إيمانهم. أما الذي يحدث الفوضى ويبذر الاضطراب فهو تشغيب المتكلمين الذين لم يستطيعوا إدراك الدليل البرهاني، فلجأوا إلى الأدلة الجدلية التي لا تثبت شيئاً. وابن رشد لا يخفي استهزاءه بأولئك المفسدين, ولا يتردد في اللجوء إلى السلطان لكي يمنعهم من الاستمرار في أعمالهم الخاطئة.

على أن نوع هذه الحكمة التي تحاول الفلسفة الإسلامية أن تأخذ بها، كانت من حيث القصد على الأقل حكمةً دينية، وهذه هي خاصيتها الرابعة. فهي تشتمل على عناصرَ دينيةٍ مأخوذة من القرآن الكريم، ولكنها بدلاً من اقتباسها كعاصر دينية، تسعى في إخلاص إلى "التوفيق" بين الدين والعقل بقصد إعطاء الدين صفةً علمية. وهي تطبق بناء هيكل السفينة اليونانية على مبادئ الدين وبذلك تضفي على الفلسفة اليونانية صبغةً لم تكن لها عند الأقطاب من الإغريق. وهكذا استطاعت أن تصل إلى العقول المؤمنة، أو على الأقل تلك العقول التي ترغب في التوفيق بين عقيدتها وبين العقل والعلم. وهذا يفسر لنا النجاح الذي حققته إلهيات ابن سينا وكتابه "في النفس" في العصور الوسطى المسيحية.

وأخيراً فإن الفلسفة الإسلامية تبدي ولعاً بمسألة المعرفة وأسسها المتعلقة بالنفس والوجود. ونحن نجد في الرسائل التي كتبها حول العقل كل من الكندي والفارابي وخاصة ابن سينا تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لقوى النفس المختلفة والمراحل التي يجب أن تمرَّ بها، بما في ذلك طهارة الخلق حتى تصل إلى الاتحاد مع مصدر الموجودات كلها. وهكذا فإن الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تجد نفسها مؤيّدة بأضواءٍ معيّنة آتية من القرآن.

وعلى هذا حاول الفلاسفة أن يتمثلوا مادة الوحي بإدخالها في إطار الفلسفة اليونانية. ولم تخلُ محاولتُهم من إثارة تشكك المؤمنين المتمسكين بطريقة السلف، بل إنها أثارت استنكارهم، حتى إن الغزالي صاحب العقل المنفتح الذي كان على اتصال وثيق بمذاهب الفلاسفة أحصى عشين مسألة استخرجها من مؤلفات الفلاسفة وخطّأهم فيها، فبدّعهم في سبع عشرة مسألة منها، وكفّرهم في الثلاث الباقية، وهي قولهم بقدم العالم، وبعدم معرفة الله الجزئيات، وإنكارهم بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان. وأدى الموقف الهامشي للفلاسفة إلى جعل مركزهم غير مريح، واضطرهم في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى السرّية. ومن هنا فمن الخطأ مقارنة أقوالهم بفلسفة القديس توما الأكويني أو دانس سكوتوس؛ فهذان الأخيران، إذا توخينا الدقة في التعبير لم يكونا فيلسوفين بمعنى الكلمة، وإنما كانا لاهوتيَين قبل كل شيء. فإذا أردنا، ولو إلى حدٍّ ما على الأقل، أن نجد لهما نظراء في عالم الإسلام، فإننا يجب أن نتجه إلى المتكلمين الذين يسميهم توماس الأكويني (المتكلمين في شريعة العرب)، وهذا ما سنفعله. (47)

الفلسفــة

 

لخصت في الصفحات السابقة الخلفية التي يقف فيها الفكر الفلسفي الإسلامي، وسنكتفي فـي الـصـفـحـات الـتـالـيـة بـعـرض مميزات الـفـلـسـفـة الإسلامية في مجموعها، وفي أثناء ذلك سنبرز الدور الذي قام به هذا أو ذاك من ممثّليها.

وأول ما يلاحَظ هو أن تلك الفلسفة تمثّل وحدة لا سبيل إلى إنـكـارهـا على الرغم من اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها، والمؤلفات التي صنـفـت فيها.

كما أن نفس الملامح الأساسية الموجودة عند فلاسفة المسلمين في الشرق هي بعينها الموجودة عندهم في الغرب.

ونقطة البداية عندهم واحدة هي الحقائق القرآنية وتعاليم الإسلام المتعلقة بالحياة الـيـومـيـة، ولـم يـكـن بينهم من يبلغ به التهور أن يشك فيهـا. وأقـصـى مـا فـي الأمـر أنـهـم كـانـوا يلجأون إلى التأول المجازي في موضوعات معيّنة( مثل الخلق في الزمان وبعث الجسد) وكان لديهم أيضاً نفس الأساس العقلي الذي كان للفلسفة الهيلينستية: منطق أرسطو، والإيمان بالعقل باعتباره العيار الأعلى، والنظر إلى الله تعالى على أنه وجود محض، محرك

أول غير متحرك، وفي الغالب القول بضرورة خلق العالم في الأزل. ويتميز أولئك الفلاسفة بنفس التكوين المدرسي (الاسكولائي) المستمَدّ من النشأة الدينية العامة لهم، وهم توصلوا إلى نفس النتائج في النقط الأساسية، وهم يشتركون في ظروف الحياة من ازدهار ونموّ، وهي الظروف التي كان يتسم بها المجتمع الإسلامي في العصور الوسطى.

ويلاحَظ ثانياً أن هذه الفلسفة جزءٌ من تيار الفكر الإغريقي. وهي تستند بصورة دائمة إلى كبار حكماء العصر القديم، مع الاعتقاد الراسخ بوحدة الحكمة، وبوجود نوعٍ من الإلهام عند الفلاسفة القدماء، وأن الوحي الإسلامي ما هو إلا استمرار لذلك الإلهام.

وكان فلاسفة المسلمين يرغبون في أن يظلوا مخلصين لذلك التراث من الحكمة. وبلغ من قوة اعتقادهم بوحدة الفلسفة اليونانية أن الفارابي كتب رسالة خاصة يدلل فيها على أن أفلاطون وأرسطو يذهبان، من حيث الجوهر، مذهباً واحداً ولكن بحكمين مختلفين، وهو يبيّن أيضاً أنهما يتفقان في تصورهما للحياة: فأفلاطون قد جسّد هذا التصور بصورة عينيّة، في حين أن أرسطو يوضحه في كتاباته المدوّنة. وهذا يصدق أيضاً على طريقة التعليم عند كلٍ منهما: فأفلاطون يستخدم أسلوب القصة، بينما يستعمل أرسطو لغةً مبهمة. لكن كلاً منهما يحب أن يجعل تلاميذه "يكتشفون" الحقيقة بالبحث عنها وراء الظواهر السطحية. ومذهبهما واحد كما يقول الفارابي، وهو يبيّن أن كلاً منهما يذهب المذهب نفسه في نظرية المثل ومسائل المعرفة والطبائع والوراثة وغيرها. وبسبب هذه الصلات التي تربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية تقترب الفلسفة الإسلامية كل الاقتراب من الفلسفة الغربية، وذلك حتى عصر النهضة على الأقل.

ويلاحَظ في المقام الثالث أن الفلسفة الإسلامية تنزع إلى أن تكون "حكمة". فقد كان الفارابي (ت 339هـ/ 950م)، وابن سينا (ت 428هـ / 1037م) وابن رشد (ت 595هـ / 1198م) مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات. والفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" يحصي العلوم المتنوعة ويتكلم عنها، ويذكر الفلسفة في النهايرة على أنها رأس العلوم، لأنها تتضمّن اليقين في المعرفة التي يُحصَل عليها بالبرهان. وابن سينا في كتابه الكبير الجامع "الشفاء" (والمقصود به شفاء النفس من الجهل)، يحيط بجملة العلوم بحسب الخطة التالية:

1ـ المنطق، 2ـ الطبيعيات، 3ـ الرياضيات، 4ـ الإلهيات. ويدخل ابن سينا في نطاق الإلهيات جميع ما جاء به الوحي في القرآن الكريم. ويبيّن أن الله، وهو واجب الوجود والذي لا واجب وجود سواه، خير، قادر على كل شيء، وخالق كل شيء وقدير حكيم. وهو يحل مشكل الشر بأن يميّز بين العلل بالذات، والعلل بالعرَض، بل هو يعالج المشكلة الدقيقة الخاصة ببعث الجسد، ويتناول ذلك بالطريقة الفلسفية، ويرجع إلى العلوم الدينية الخاصة بالموضوع من أجل وضع أسس العقيدة في هذه المسألة. وإلى جانب ذلك ـ وهو ما يدل على طابع الشمول في الحكمة الإلهية لدى الفلسفة ـ يحاول ابن سينا أن يتبيّن من جديد عن طريق الاستدلالالفلسفي صحة أوامر القرآن الخاصة بأمور الجماعة، وهي الخلافة، وبناء الأسرة، وبيان حكمة تعدد الزوجات، والطلاق، وما إلى ذلك.

ويذهب ابن رشد إلى أبعدَ من ذلك. إذ قال بوجود ثلاثة أنواع من العقول بحسب أنواع الأدلة الثلاثة التي بيّنها أرسطو. فالنوع الأول هو العقول البرهانية القادرة على متابعة دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيّنة ضرورية، وربد هذه الأدلة هو الذي يكون الفلسفة. لكن هذا لا يتسنى إلا لقلّة من العقول (الخواص) الموهوبة بالقدر الذي يجعلها تكرّس نفسها لها. والنوع الثاني عقول منطقية تكتفي بالبراهين الجدلية. أما النوع الثالث فهو العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيّأة لاتباع الاستدلال المنظم. والعقول الأخيرة نجدها عند جميع الناس العاديين، وهم السواد الأعظم الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة وحسب.

على أن أحد وجوه الإعجاز في القران، كما يقرر ابن رشد، هو أنّ فهمه ميسّر لهذه الأنواع الثلاثة من العقول، فكل منها يتبيّن الحق فيه بما يتفق مع قدرته العقلية. فليس هناك مشكلة بالنسبة للآيات القرآنية المحكمة التي لا لبس في معناها. فالجميع يفهمونها ويدركون معناها على نحو واضح. وهناك آيات متشابهة لأن فيها أمثالاً ومجازات. ولهذه الآيات معنى حرفي وآخر خفي أعمق. والفلاسفة وحدَهم، وهم صفوة العقول، هم الذين يستطيعون أن يدركوا التسلسل الدقيق للاستدلال، وأن يفهموا المعنى الأعمق. أما الجمهور فإنهم يفهمون النصوص بمعناها الحرفي. وينبغي الحذر من السماح لهم بالنظر إلى المعنى العميق الخفي الذي تخفيه تلك الآيات، لأنهم لن يفهموا فيتزعزع إيمانهم. أما الذي يحدث الفوضى ويبذر الاضطراب فهو تشغيب المتكلمين الذين لم يستطيعوا إدراك الدليل البرهاني، فلجأوا إلى الأدلة الجدلية التي لا تثبت شيئاً. وابن رشد لا يخفي استهزاءه بأولئك المفسدين, ولا يتردد في اللجوء إلى السلطان لكي يمنعهم من الاستمرار في أعمالهم الخاطئة.

على أن نوع هذه الحكمة التي تحاول الفلسفة الإسلامية أن تأخذ بها، كانت من حيث القصد على الأقل حكمةً دينية، وهذه هي خاصيتها الرابعة. فهي تشتمل على عناصرَ دينيةٍ مأخوذة من القرآن الكريم، ولكنها بدلاً من اقتباسها كعاصر دينية، تسعى في إخلاص إلى "التوفيق" بين الدين والعقل بقصد إعطاء الدين صفةً علمية. وهي تطبق بناء هيكل السفينة اليونانية على مبادئ الدين وبذلك تضفي على الفلسفة اليونانية صبغةً لم تكن لها عند الأقطاب من الإغريق. وهكذا استطاعت أن تصل إلى العقول المؤمنة، أو على الأقل تلك العقول التي ترغب في التوفيق بين عقيدتها وبين العقل والعلم. وهذا يفسر لنا النجاح الذي حققته إلهيات ابن سينا وكتابه "في النفس" في العصور الوسطى المسيحية.

وأخيراً فإن الفلسفة الإسلامية تبدي ولعاً بمسألة المعرفة وأسسها المتعلقة بالنفس والوجود. ونحن نجد في الرسائل التي كتبها حول العقل كل من الكندي والفارابي وخاصة ابن سينا تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لقوى النفس المختلفة والمراحل التي يجب أن تمرَّ بها، بما في ذلك طهارة الخلق حتى تصل إلى الاتحاد مع مصدر الموجودات كلها. وهكذا فإن الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تجد نفسها مؤيّدة بأضواءٍ معيّنة آتية من القرآن.

وعلى هذا حاول الفلاسفة أن يتمثلوا مادة الوحي بإدخالها في إطار الفلسفة اليونانية. ولم تخلُ محاولتُهم من إثارة تشكك المؤمنين المتمسكين بطريقة السلف، بل إنها أثارت استنكارهم، حتى إن الغزالي صاحب العقل المنفتح الذي كان على اتصال وثيق بمذاهب الفلاسفة أحصى عشين مسألة استخرجها من مؤلفات الفلاسفة وخطّأهم فيها، فبدّعهم في سبع عشرة مسألة منها، وكفّرهم في الثلاث الباقية، وهي قولهم بقدم العالم، وبعدم معرفة الله الجزئيات، وإنكارهم بعث الأجساد ورد الأرواح إلى الأبدان. وأدى الموقف الهامشي للفلاسفة إلى جعل مركزهم غير مريح، واضطرهم في بعض الأحيان إلى اللجوء إلى السرّية. ومن هنا فمن الخطأ مقارنة أقوالهم بفلسفة القديس توما الأكويني أو دانس سكوتوس؛ فهذان الأخيران، إذا توخينا الدقة في التعبير لم يكونا فيلسوفين بمعنى الكلمة، وإنما كانا لاهوتيَين قبل كل شيء. فإذا أردنا، ولو إلى حدٍّ ما على الأقل، أن نجد لهما نظراء في عالم الإسلام، فإننا يجب أن نتجه إلى المتكلمين الذين يسميهم توماس الأكويني (المتكلمين في شريعة العرب)، وهذا ما سنفعله. (47)

 

أما الجويني الذي يلقب أيضا «بإمام الحرمين» فإنه يذكر في مناسبات عدة التقسيمات الكبرى لمادة البحث. وهو في أحد المواضع يميّز بين ما يجب لله من الصفات وما يجوز عليه. أي ما قد يجوز أن يفعله وما لا يجوز. وفي موضع آخر يميّز بين الأِياء التي يمكنالتوصل إليها بالعقل، وتلك التي لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق النقل السمعي، لكن ليس من السهل أن يميز شيئاً من ذلك في "الإرشاد". أما الجويني الذي يلقب أيضا «بإمام الحرمين» فإنه يذكر في مناسبات عدة التقسيمات الكبرى لمادة البحث. وهو في أحد المواضع يميّز بين ما يجب لله من الصفات وما يجوز عليه. أي ما قد يجوز أن يفعله وما لا يجوز. وفي موضع آخر يميّز بين الأِياء التي يمكنالتوصل إليها بالعقل، وتلك التي لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق النقل السمعي، لكن ليس من السهل أن يميز شيئاً من ذلك في "الإرشاد".

التـصـوف

عندما نتكلم عـن الـتـصـوف أو مـذهـب الـصـوفـيـة (Sufism(9 ندخل فـي ناحية من أروع نواحي الفكر الإسلامي بل الحضـارة الإسـلامـيـة. ذلـك أن كلام الكثيرين الذين كتبوا فيه يحرك نفوسنا، كما أن براعة أوصافهم تثير إعجابنا. غير أنه لا يمكن أن نكوّن فكرة حقيقية عن غزارة هذا الميدان إلا إذا تعرفنا على النصوص.

ولقد قدمت نظريات متـعـددة حـول أصـول هـذه الحـركـة فـي الإسـلام:

فقيل إن أصلها من الرهبانية السريانية، أو مـن الأفـلاطـونـيـة المحـدثـة، أو الزرادشتية الفارسية أو الفيدانتا الهندية.

لكن أمكن إثبات أنه لا يمكن التمسك بالافتراضات التي تذهب إلى اقتباس المسلم التصوف عن أصول أجنبية، إذ إنه منذ بداية الإسلام أحس نفر من المؤمنين المتحمسين  بالدافع إلى التأمل في القرآن عن طريق المداومة على تلاوته أو «التعمـق» في روحه إذا صح هذا التعبير. فالقرآن يتضمن كما بينا آنفا عددا من العناصر المتعلقة بالزهد والتصوف. وبعض الآيات القرآنية تذكر الناس مرة بعد أخرى بأن الله حاضر معهم، وبالخوف من الحساب، وزوال كل الأشياء الإنسانية، وجمال الفضيلة وما إلى ذلك. وهـنـاك آيـات أخـرى تعطي النفس المتدينة الفرصة للوصول إلى لب العقيدة. وهكذا نجد سلسلة من الآيات التي تذكر الإنسان برسالته وتؤكد على حاجته إلى أن يقيم في قلبه صرحا عامرا بالتقوى والإيمان، منها الآية :

{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أم من أسس بنيانه عـلـى شـفـا جــرف هــاوٍ، فـانـهـار بـه فـي نـار جـهـنـم، والـلــه لا يــهــدي الــقــوم الظالمين.

وعلى أساس هذه الأفكار نستطـيـع أن نـتـبـيّن بـوجـه عـام ثـلاث فـتـرات كبيرة في التاريخ العام للتصوف:

- الأولى تغطـي القـرون الـثـــلاثـة الأولـــى مـن تـاريـــخ الإســـلام (أي مـن القـرن السـابع إلى القرن التاسع للميلاد). وهـي فتـرة يمكن أن ندعـوها فتـرة الصراع من أجل البقاء. وكان التصـوف خلالها يبحث عن حقه في الوجـود وفـي التغـلب علـى بعـض الأحكام المسبقـة التـي كانت تعارضه بتشـجيع من السـلطات الرسمية التي يغلب عليها الحسـاسية والتشكك.

- والفترة الثانية تتميز بمحاولة التوفيق بين التصوف وخصومه، وانتصاره انتصارا يرجع قبل كل شيء إلى رجل عبقري هو الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي.

- والفترة الثالثة تتميز بانتشار المؤلفات الكبرى في التصوف (وتـشـمـل الفترة الواقعة بين القرن السادس والتاسع للهجرة/ الثاني عشر والخامس عشر للميلاد) كما تتميز بدخول التصوف في عـصـر الـتـدهـور ابـتـداء مـن القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، وسنتحدث عن هذه الفترات بإيجاز شديد.

أحد تلامذة الجنيد، وهو من أصل فارسي، وقد أنكرته مدرسة بغداد بسبب غلوه في آرائه. ذلك أن تصوره للاتحاد باللـه ـ حـيـث تكمل النفس وتتقدس وتصبح ربانيـة كـأنـهـا إرادة حـرة حـيـة فـي يـد الـلـه ـ وكذلك أفكاره عن الرسالة من أنها لابد أن تنطبق في رأيه على كل إنسان، بالإضافة إلى الكرامات التي كان يظهرها وربطته في نظر تلامذته بالأنبياء; كل هذه الآراء جعلت الأوساط الصوفية والفقهية والسياسية تدينه، فسجن وحوكم وقطعت رأسه في الرابع والعشرين من ذي القعدة عام ٣٠٩هـ الموافق للسابع والعشرين من مارس ٩٢٢م. وقد خـصص لـوي ماسـينون مجلدين كبيرين لحياة الحلاج هما من أحسن ما كتب عن التصوف المقارن في هذا القرن.

وطريق التصوف يجمع بين الزهد والتصوف في آن واحد. وهو يتطلب تصفية النفس التي تهيئها للاتحاد مع الحقيقة الإلهيـة. ومـن يـسـلـك هـذا الطريق يمر في ثلاثة مقامات أساسية: مقام الطالب، ومقام السالك، ومقام المريد. وهنانجد الأقسامالكبرى للزهد المسيحي في الشرق. ويتم سلوك طريق التصوّف خطوة فخطوة. فالمتصوّف لا يترقى  إلى مقـام أعلى من مقامه إلا بعد أن يكون قد مر بالمقامات السابقة عليه. وقد ذكر أبو نصر السراج سبعة من هذه المقامات وهـي: الـتـوبـة، ويـضـعـهـا مـعـظـم المؤلفين في التصوف في رأس القائمة علـى اعـتـبـار أنـهـا المقام الأول، ثم الورع، وهو ينبغي أن يزيد (عند الصوفي) على ما لدى المؤمن الـعـادي مـن هذه الصفة، ثم الزهد التام في خيرات هذه الدنيا حتى في الحلال الموجود منها، ويأتي بعد ذلك الفقر ثم الصبر على المكاره والبلايا، والتوكل أي الثقة بالله، والرضا أي تقبل (العبد) لكل ما يحدث متمثلا فـي ذلـك لإرادة الـلـه تعالى.

والسعي إلى الكمال، وهو مجاهدة النفس، يقوم به الإنسان بإشرافٍ لا غنىً عنه من قبل مرشد روحي. وينبغي أن يكون الطالب أو المبتدئ بين يديّ شيخه الذي يرشده "كالميت بين يدي الغاسل". وعلى المرشد أن يراعي نزعات الطالب ومزاجه حتى يروّضه على التواضع والتوبة والصمت والصوم وما إلى ذلك من أنواع الرياضات. وكان الراغب في سلوك طريق الصوفية يقضي نهاره في التفكير والدعاء بلسانه وإدامة الذكر لعبارات بعينها ومحاسبة النفس وغير ذلك من أنواع الرياضة على التقوى.

وعلى حين أن المقامات أو المنازل تُنال بالمجهود الشخصي أي بالاكتساب، فإن الأحوالَ مواهبُ من الله تعالى. وقد ذكر السرّاج عشرة من هذه الأحوال وهي: المراقبة، والقرب، ولامحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والاطمئنان، والمشاهدة، واليقين. لكن ترتيب هذه الأحوال يختلف بحسب المؤلفين، فالمحبة توضع أحياناً بين المقامات المكتسبة، وفي أحيانٍ أخرى تعتبر أساس الاتحاد. (62)

الغزالي حجة الإسلام:

يعتبر الغزالي (ت ٥٠٥هـ/ ١١١١م) الرجل الذي أسهم بأكبر نصيـب فـي جعل التصوف مقبولا لدى أصحاب السلطة في الإسلام كل التشككات والظنون المسبقة حول التصوف عند علماء المسلمين المتشددين في أحكام الشريعة.

 ويعرف الغزالي في العصور الوسطـى الـغـربـيـة بـاسـم «الغازل» (Algazel(9 لكن الغرب لم يعرفه مع ذلك إلا عن طريق بعض مؤلفاته في الفلسفة، وخاصة كتابه «مقاصد الفلاسفة»، ولذلك لم يستطع الغرب حق قدره، على حين يمكن اعتبار الغزالي بالنسبة للفكر الإسلامي شبيهاً بالقديس توما الأكويني مع أخذ الاختلافات بين الحالتين بعين الاعتبار.

وللغزالي ترجمة ذاتية مؤثرة، هي كتابه "المنقذ من الضلال" الذي تذكّر بعضُ ملامحِه باعترافات القديس أوغسطين. وفي هذا الكتاب يصف الغزالي تطوّر حياته العقلية والروحية، ويقرّر أنه لم يجد السكينة إلا في اتباع "طريق الصوفية". ولا شك في أن الغزالي واحدٌ من أعظم المفكرين المسلمين، فقد كان متمكناً كل التمكن من علوم الدين، كما استوعب كل ما كان الناس في العالم العربي يعرفونه في عصره عن الفلسفة اليونانية، وتأثر تأثراً قوياً بالأفلاطونية المحدثة. وأتيحت له علاوةً على ذلك عدة فرص ليعرف المسيحية، فقرأ بصورة خاصة إنجيل يوحنا، وكتب عليه رداً.

الغزالي حجة الإسلام:

يعتبر الغزالي (ت ٥٠٥هـ/ ١١١١م) الرجل الذي أسهم بأكبر نصيـب فـي جعل التصوف مقبولا لدى أصحاب السلطة في الإسلام كل التشككات والظنون المسبقة حول التصوف عند علماء المسلمين المتشددين في أحكام الشريعة.

 ويعرف الغزالي في العصور الوسطـى الـغـربـيـة بـاسـم «الغازل» (Algazel(9 لكن الغرب لم يعرفه مع ذلك إلا عن طريق بعض مؤلفاته في الفلسفة، وخاصة كتابه «مقاصد الفلاسفة»، ولذلك لم يستطع الغرب حق قدره، على حين يمكن اعتبار الغزالي بالنسبة للفكر الإسلامي شبيهاً بالقديس توما الأكويني مع أخذ الاختلافات بين الحالتين بعين الاعتبار.

وللغزالي ترجمة ذاتية مؤثرة، هي كتابه "المنقذ من الضلال" الذي تذكّر بعضُ ملامحِه باعترافات القديس أوغسطين. وفي هذا الكتاب يصف الغزالي تطوّر حياته العقلية والروحية، ويقرّر أنه لم يجد السكينة إلا في اتباع "طريق الصوفية". ولا شك في أن الغزالي واحدٌ من أعظم المفكرين المسلمين، فقد كان متمكناً كل التمكن من علوم الدين، كما استوعب كل ما كان الناس في العالم العربي يعرفونه في عصره عن الفلسفة اليونانية، وتأثر تأثراً قوياً بالأفلاطونية المحدثة. وأتيحت له علاوةً على ذلك عدة فرص ليعرف المسيحية، فقرأ بصورة خاصة إنجيل يوحنا، وكتب عليه رداً.

التصوف العقلي:

نشأ عن تنوع العناصـر الـتـي جـاء بـهـا الـغـزالـي أن صـار لـه تـأثـيـر فـي اتجاهين متمايزين: أحدهما عقلــي أدى إلـــى تـصـــوف يمكـن أن نـســـمـيـه تصوفاً ميتافيزيقيـا أو عرفانيا (Gnostic(9 والآخر ذو اتجاهات شعبية اتخذت شكلا ملموسا يتمثل في الطرق الصوفية.

والأمر الذي يميّز الاتجاه الأول هو الاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى ما وراء العالم الملموس الذي هو مجرد مظهر لبلوغ عالم الحقائق المعقولة والروحانية، وذلك من طريق حدس وجداني (emotional) وهو ما يسمى بالمعرفة. واستخدام أولئك الصوفية (من أصحاب المعرفة) التحليلات الميتافيزيقية عند كبار الفلاسفة، وخاصة ابن سينا الذي تأثر بالأفلاطونية المحدثة وبعناصر إيرانية وهرمسية، فتكلموا في الأنبياء ورسالتهم وفي صدور الكثرة عن الواحد، وفي علاقة المخلوقات بخالقها، وفي تركيب العالم، وحلول الإله في نفس الصوفي أو الوحدة بين "الأنا الإنساني" و"الأنا الإلهي" كما تكلموا في الإشراق وفي وحدة الوجود. وقد صاغوا خلاصة آرائهم نثراً أو في قصائد مطوّلة يُعتبَر بعضُها من أجمل ما في الأدب العربي أو الفارسي. (64)

التصوف العقلي:

نشأ عن تنوع العناصـر الـتـي جـاء بـهـا الـغـزالـي أن صـار لـه تـأثـيـر فـي اتجاهين متمايزين: أحدهما عقلــي أدى إلـــى تـصـــوف يمكـن أن نـســـمـيـه تصوفاً ميتافيزيقيـا أو عرفانيا (Gnostic(9 والآخر ذو اتجاهات شعبية اتخذت شكلا ملموسا يتمثل في الطرق الصوفية.

والأمر الذي يميّز الاتجاه الأول هو الاعتقاد بأنه يمكن الوصول إلى ما وراء العالم الملموس الذي هو مجرد مظهر لبلوغ عالم الحقائق المعقولة والروحانية، وذلك من طريق حدس وجداني (emotional) وهو ما يسمى بالمعرفة. واستخدام أولئك الصوفية (من أصحاب المعرفة) التحليلات الميتافيزيقية عند كبار الفلاسفة، وخاصة ابن سينا الذي تأثر بالأفلاطونية المحدثة وبعناصر إيرانية وهرمسية، فتكلموا في الأنبياء ورسالتهم وفي صدور الكثرة عن الواحد، وفي علاقة المخلوقات بخالقها، وفي تركيب العالم، وحلول الإله في نفس الصوفي أو الوحدة بين "الأنا الإنساني" و"الأنا الإلهي" كما تكلموا في الإشراق وفي وحدة الوجود. وقد صاغوا خلاصة آرائهم نثراً أو في قصائد مطوّلة يُعتبَر بعضُها من أجمل ما في الأدب العربي أو الفارسي. (64)

وسوف نتناول من صوفية أهل االمعرفة Mysticism Gnostic هذه موضوعين رئيسيين هما: موضوع الله نور السماوات والأرض، وموضوع الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه ألوهية الكون وثراؤه.

والرجل الذي كان أكبر من تكلم في  الموضوع الأول من هذين الموضوعين كان

أحد صوفية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وقد ولد في فارس ثم قتل في حلب بسبب آرائه الـتـي اعـتـبـرت إلحـاديـة،

..

انتشار التصوف العملي والتراث الشعبي

وعلى هذا النحو انتشرت [بعد الغزالي] الطرق الصوفية بين الجماهير بعد أن كانت في الأصل مجموعات يتألف كل منها من شيخ ومريديه. وساعد على انتشار هذه الطرق تلك السهولة التي كان دعاة الإسلام يقبَلون بها الراغبين في اعتناق الدين الجديد. إذ كان كل ما يطلبونه منهم هو إظهار الرغبة في الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين بإخلاص. وكانوا يغضون الطرف عن العادات السابقة (عند من يدخل في الإسلام) إذا لم يكن الشرك ظاهراً فيها تماماً، وكان من شأن هذا التسامح أن يغيّر وجه الإسلام كله في بضعة قرون تغييراً ملحوظاً. فحتى ذلك الحين كانت سلطة العلماء التي يعترف بها الناس هي وسيلة المحافظة على وحدة الجماعة الإسلامية. فلما زال تأثيرهم في المحافظة على تلك الوحدة، صارت كل منطقة دخلها الإسلام حديثاً أو تحوّلت إلى الإسلام منذ زمن بعيد تبدو عليها مسحةُ تراثِها الشعبي وآثار عادات أسلافها. واقترن ظهور هذه الإقليمية في عالم الإسلام بعصر الجمود في العلوم الدينية وكل أوجه الثقافة العربية والإسلامية.

...

إن الطرق التي كانت في الأرياف وانتشرت في القرى فقد كانت أكثر تعرضاً للمؤثرات المحلية. وهناك حالات نجد فيها أن الأسرة الواحدة من التنظيمات الصوفية التي لها فروع في المدن ظلت وثيقة الصلة بالتعليم الإسلامي الحقيقي، في حين ظلت في فروعها الريفية آثار لفكرة حيوية الطبيعة الجامدة، وهذا كان شأن الطريقة الشاذلية الكبرى في الشمال الإفريقي. (69)

 

[إن جلال الدين الرومي]، إذ يستعمل الحكايات والأساطير شبه التاريخية والتأملات والمجازات والأمثال، فإنه يلتزم دائماً بالموضوع الوحيد الذي يدور حول كل الديوان، وهو محبة الله والسعي إلى ذلك الحب. وهذا هو الشيء الوحيد الذي له قيمة. ويعتقد جلال الدين الرومي أنه لا بد للإنسان من أن ينسى نفسه حتى يفنى في الله. (70)

وسوف نتناول من صوفية أهل االمعرفة Mysticism Gnostic هذه موضوعين رئيسيين هما: موضوع الله نور السماوات والأرض، وموضوع الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه ألوهية الكون وثراؤه.

والرجل الذي كان أكبر من تكلم في  الموضوع الأول من هذين الموضوعين كان

أحد صوفية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وقد ولد في فارس ثم قتل في حلب بسبب آرائه الـتـي اعـتـبـرت إلحـاديـة،

..

انتشار التصوف العملي والتراث الشعبي

وعلى هذا النحو انتشرت [بعد الغزالي] الطرق الصوفية بين الجماهير بعد أن كانت في الأصل مجموعات يتألف كل منها من شيخ ومريديه. وساعد على انتشار هذه الطرق تلك السهولة التي كان دعاة الإسلام يقبَلون بها الراغبين في اعتناق الدين الجديد. إذ كان كل ما يطلبونه منهم هو إظهار الرغبة في الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين بإخلاص. وكانوا يغضون الطرف عن العادات السابقة (عند من يدخل في الإسلام) إذا لم يكن الشرك ظاهراً فيها تماماً، وكان من شأن هذا التسامح أن يغيّر وجه الإسلام كله في بضعة قرون تغييراً ملحوظاً. فحتى ذلك الحين كانت سلطة العلماء التي يعترف بها الناس هي وسيلة المحافظة على وحدة الجماعة الإسلامية. فلما زال تأثيرهم في المحافظة على تلك الوحدة، صارت كل منطقة دخلها الإسلام حديثاً أو تحوّلت إلى الإسلام منذ زمن بعيد تبدو عليها مسحةُ تراثِها الشعبي وآثار عادات أسلافها. واقترن ظهور هذه الإقليمية في عالم الإسلام بعصر الجمود في العلوم الدينية وكل أوجه الثقافة العربية والإسلامية.

...

إن الطرق التي كانت في الأرياف وانتشرت في القرى فقد كانت أكثر تعرضاً للمؤثرات المحلية. وهناك حالات نجد فيها أن الأسرة الواحدة من التنظيمات الصوفية التي لها فروع في المدن ظلت وثيقة الصلة بالتعليم الإسلامي الحقيقي، في حين ظلت في فروعها الريفية آثار لفكرة حيوية الطبيعة الجامدة، وهذا كان شأن الطريقة الشاذلية الكبرى في الشمال الإفريقي. (69)

 

[إن جلال الدين الرومي]، إذ يستعمل الحكايات والأساطير شبه التاريخية والتأملات والمجازات والأمثال، فإنه يلتزم دائماً بالموضوع الوحيد الذي يدور حول كل الديوان، وهو محبة الله والسعي إلى ذلك الحب. وهذا هو الشيء الوحيد الذي له قيمة. ويعتقد جلال الدين الرومي أنه لا بد للإنسان من أن ينسى نفسه حتى يفنى في الله. (70)