إلى
جانب القرآن، والحديث الذي يبيّن ما لم يرد في القـرآن، الـتـقـى الفكر الإسلامي
في أول الأمر بالفكر الديني المسيحي في دمشق، وبالفلسفة اليونانية في بغداد. وكانت
دمشق مدينة
قديمة
للثقافة، كما كان التأثير اليوناني فيها قويا. وقد استقرت المسيحية فيها من العصور
الأولى ونمت فيها بسرعة. ونجد مع بعض الاستثناءات، أن الأسماء الكبـيـرة فـي
تـاريـخ المسيحية الدمشقية ترجع إلى العصر الإسلامي، أمثال القديس سرفرونيوس
والقديس أندريا الأقريطشي،
والقديس يحيى ـ يوحنا ـ الدمشقي، ولم تقتصر أوجه الاتصالات بين المسلمين
والمسيحيين على التجارة والإدارة وحسب، بل وجدت أوجهاً أخرى من التبادل الديني
والفكري. وكانت هناك اقتباسات أدبية (مصطلحات في مسائل الدين والزهد) وتشابه في
تصور تكوين الأشياء (مثل تصورات الجنة والنار وأساليب محاسبة النفس)، وتبادلات
فكرية مثمرة. وكان المتصوّفون المسلمون يتحدثون مع رهبان النصارى في مسائل الدين.
ولدينا ابتداء من القرن الثاني الهجري ـ الثامن الميلادي فصاعداً شواهد جليّة،
وخاصة في ما يتعلق بيحيى الدمشقي وتلميذه ثيودور أبو قرّة تشير إلى قيام نشاط جدلي
بين المفكرين النصارى والمسلمين. وكان هناك مسألتان دار حولهما النقاش أكثر من
غيرهما، وهما مسألة القدر ومسألة خلق القرآن. ويبدو أيضاً أن تدخل المدافعين عن
المسيحية هو الذي جعل مسألة صفات الذات الإلهية موضوعاً للبحث.
ولكن أهم حادث
في تكوين الفكر الفلسفي الإسلامي كان دون شك لقاء بالفلسفة اليونانية في بغداد
أيام حكم الخليفة المأمون في الـقـرن الـثـالـث الهجري/ التاسع الميلادي. ولابد من
القول ابتدا إن الفلسـفـة الـيـونـانـيـة التي تلقاها العرب لم تكن هي فلسفة
أفلاطون وأرسطو فحسب9 بل كانت أيضا تلك الفلسفة التي صيغت خلال عدة قـرون عـلـى
أيـدي مـن واصـلـوا
فلسفتهما
وشرحوها. وكان هناك إلى جانب الفلسفة الأفلاطونية وفلسفة أرسطو9 الفلسفة الرواقية
والفيثاغورية وقبل كل شيء الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة التي أنشأها أفلوطين
وبرقلس. وقد بدت الفلسفة في صورة الحكمة الفريدة التي أسهمت كل العقول الكبيرة في
تكوينها. وكان الفلاسفة المسلمون، بل حتى المفكرون المتصوّفون المتأخرون، مقتنعين
بذلك اقتناعاً عميقاً، لدرجة أنهم جعلوه أساس نظرتهم إلى الكون. كما كان المسيحيون
وخاصة السريان في أنطاكية قد مهدوا الطريق لذلك بإذفاء الصبغة النصرانية على فقرات
معيّنة للكتاب القدامى أو على الأقل جعلوها أكثر قرباص للدين. وكان تكييف هذه
الكتابات (لكي تتفق مع الدين) قد تم بحكمة وحذر إلى درجة أن المر لم يتخطَّ مرحلة
اللاهوت الطبيعي، الذي يتماشى بالضبط مع ما كان يمكن للمفكرين المسلمين أن يقبلوه.
..
وقد
بدأ الفكر الإسلامي من الوحي الديـنـي الـذي تحـدثـنـا عـنـه آنـفـاً، وتأثر
بعوامل شتى أشرنا إليهـا، ثـم أخـذ هـذا الـفـكـر يـشـق طـريـقـه بـقـواه الخاصة.
وفعل الفكر الإسلامي ذلك في حركة دفاعية ضد الآراء المعادية التي كانت تهدد
العقيدة الإسلامية قليلا أو كثيرا. وأراد نفر من المفكرين المسلمين الذين أحاطوا
بالفلسفة اليونانية أن يضعوا قوى العقل في نصرة عقيدتهم، وبذلك انتزعوا تلك
الأسلحة من أيدي خصومهم ووجهوها إليهم.
وهذا المنزع الفكري المناضل
يميّز أولئك الذين يُعرَفون في تاريخ الفكر الإسلامي باسم "المعتزلة".
ومهما كان أصل هذه التسمية، فإن المعتزلة كانوا يتألفون من عدد من المفكرين، كانوا
يقيمون في البصرة أو في بغداد، وحاولوا بشجاعة أن يقدموا مبادئ العقيدة الإسلامية
في صورة يقبلها العقل، وغامروا بتعريض أنفسهم لاستهجان أهل السنّة والجماعة وإثارة
سخطهم. وتناول المعتزلة خمسة أصول أساسية هي:
أولا:
القول بالتوحيد في صورة بالغة القوة وفقا لمبدأ التنزيه. وذهـبـوا في هذا القول
إلى أقصى حد حتى كان ذلك على حـسـاب نـفـي الـصـفـات الحقيقية للذات الإلهية.
ثانيا:
العدل، وقالوا إن الخير خير في ذاته، والشر شر في ذاته، قبل أن تأتي الشريعة
بتحديد ذلك (أو بعبارة أخرى قبل ورود الـوحـي، كـمـا يـقـول المتكلمون) وأنه يجب
في حق الله أن يفعل الخير والصلاح لعباده. ولما كان الله لا يريد الشر، فهو كذلك
لا يأمر به، والإنسان هو الذي يخلق الشر.
ثالثاً:
الأصل الخاص بمصير المؤمن والعاصي والكافر.
رابعاً:
المنزلة بين المنزلتين، أي منزلة الإيمان ومنزلة الكفر، وتلك هي منزلة المؤمن
العاصي الذي يرتكب الكبيرة، فيكون مصيره في الآخرة أن يخلد في النار (ولكن عذابه
أقل من عذاب الكافر). أما في الحياة الدنيا فيظل رغم ارتكابه الكبيرة عضواً في
الجماعة الإسلامية.
والأصل
الخامس والأخير الذي يقول به المعتزلة، هو الذي يضع قاعدةً للسلوكالعملي للمؤمن في
المجتمع الإسلامي، فإذا واجهه شرٌّ كان عليه أن ينكره بقلبه أو لسانه أو يده. فإن
لم يكن ذلك كافياً فلا بدّ من إعادة الحق إلى نصابه بالسيف.
ومن
الواضح أنه قد يكون من الخطأ اعتبار هؤلاء المفكرين الأولين في الإسلام
"مفكرين أحراراً"، إذ لم يكونوا كذلك، لأنهم عندما أصبحت السلطة تحت
أيديهم، ظهر منهم تشدّدٌ لا هوادة فيه، وأصرّوا على فرض معتقداتهم بالقوّة. لكن
سلطانَهم كان مؤقتاً، فلم يلبثوا أن اضطُهِدوا بدورهم وحُرِقَت كتبُهم. ومع ذلك
فإن أثرهم ظل عظيماً عند أولئك الذين كانوا يرغبون في دين بحسب معايير العقل، وهم
على وجه الخصوص الذين مهدوا السبيل للفلاسفة، وكانوا مثلهم يحلمون بالتوفيق بين
حكمة الإغريق والوحي المنزل. (43)
..
الفلسفــة
لخصت في الصفحات السابقة الخلفية التي يقف فيها الفكر الفلسفي الإسلامي،
وسنكتفي فـي الـصـفـحـات الـتـالـيـة بـعـرض مميزات الـفـلـسـفـة الإسلامية في
مجموعها، وفي أثناء ذلك سنبرز الدور الذي قام به هذا أو ذاك من ممثّليها.
وأول ما يلاحَظ هو أن تلك الفلسفة تمثّل وحدة لا سبيل إلى إنـكـارهـا على
الرغم من اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها، والمؤلفات التي صنـفـت فيها.
كما أن نفس الملامح الأساسية الموجودة عند فلاسفة المسلمين في الشرق هي
بعينها الموجودة عندهم في الغرب.
ونقطة البداية عندهم واحدة هي الحقائق القرآنية وتعاليم الإسلام المتعلقة
بالحياة الـيـومـيـة، ولـم يـكـن بينهم من يبلغ به التهور أن يشك فيهـا. وأقـصـى
مـا فـي الأمـر أنـهـم كـانـوا يلجأون إلى التأول المجازي في موضوعات معيّنة( مثل
الخلق في الزمان وبعث الجسد) وكان لديهم أيضاً نفس الأساس العقلي الذي كان للفلسفة
الهيلينستية: منطق أرسطو، والإيمان بالعقل باعتباره العيار الأعلى، والنظر إلى
الله تعالى على أنه وجود محض، محرك
أول غير متحرك، وفي الغالب القول بضرورة خلق العالم في الأزل. ويتميز أولئك
الفلاسفة بنفس التكوين المدرسي (الاسكولائي) المستمَدّ من النشأة الدينية العامة
لهم، وهم توصلوا إلى نفس النتائج في النقط الأساسية، وهم يشتركون في ظروف الحياة
من ازدهار ونموّ، وهي الظروف التي كان يتسم بها المجتمع الإسلامي في العصور
الوسطى.
ويلاحَظ ثانياً أن هذه الفلسفة جزءٌ من تيار الفكر الإغريقي. وهي تستند بصورة
دائمة إلى كبار حكماء العصر القديم، مع الاعتقاد الراسخ بوحدة الحكمة، وبوجود نوعٍ
من الإلهام عند الفلاسفة القدماء، وأن الوحي الإسلامي ما هو إلا استمرار لذلك
الإلهام.
وكان فلاسفة المسلمين يرغبون في أن يظلوا مخلصين لذلك التراث من الحكمة. وبلغ
من قوة اعتقادهم بوحدة الفلسفة اليونانية أن الفارابي كتب رسالة خاصة يدلل فيها
على أن أفلاطون وأرسطو يذهبان، من حيث الجوهر، مذهباً واحداً ولكن بحكمين مختلفين،
وهو يبيّن أيضاً أنهما يتفقان في تصورهما للحياة: فأفلاطون قد جسّد هذا التصور
بصورة عينيّة، في حين أن أرسطو يوضحه في كتاباته المدوّنة. وهذا يصدق أيضاً على
طريقة التعليم عند كلٍ منهما: فأفلاطون يستخدم أسلوب القصة، بينما يستعمل أرسطو
لغةً مبهمة. لكن كلاً منهما يحب أن يجعل تلاميذه "يكتشفون" الحقيقة
بالبحث عنها وراء الظواهر السطحية. ومذهبهما واحد كما يقول الفارابي، وهو يبيّن أن
كلاً منهما يذهب المذهب نفسه في نظرية المثل ومسائل المعرفة والطبائع والوراثة
وغيرها. وبسبب هذه الصلات التي تربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية تقترب
الفلسفة الإسلامية كل الاقتراب من الفلسفة الغربية، وذلك حتى عصر النهضة على
الأقل.
ويلاحَظ في المقام الثالث أن الفلسفة الإسلامية تنزع إلى أن تكون
"حكمة". فقد كان الفارابي (ت 339هـ/ 950م)، وابن سينا (ت 428هـ / 1037م)
وابن رشد (ت 595هـ / 1198م) مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات.
والفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" يحصي العلوم المتنوعة ويتكلم عنها،
ويذكر الفلسفة في النهايرة على أنها رأس العلوم، لأنها تتضمّن اليقين في المعرفة
التي يُحصَل عليها بالبرهان. وابن سينا في كتابه الكبير الجامع "الشفاء"
(والمقصود به شفاء النفس من الجهل)، يحيط بجملة العلوم بحسب الخطة التالية:
1ـ المنطق، 2ـ
الطبيعيات، 3ـ الرياضيات، 4ـ الإلهيات. ويدخل ابن سينا في نطاق الإلهيات جميع ما
جاء به الوحي في القرآن الكريم. ويبيّن أن الله، وهو واجب الوجود والذي لا واجب
وجود سواه، خير، قادر على كل شيء، وخالق كل شيء وقدير حكيم. وهو يحل مشكل الشر بأن
يميّز بين العلل بالذات، والعلل بالعرَض، بل هو يعالج المشكلة الدقيقة الخاصة ببعث
الجسد، ويتناول ذلك بالطريقة الفلسفية، ويرجع إلى العلوم الدينية الخاصة بالموضوع
من أجل وضع أسس العقيدة في هذه المسألة. وإلى جانب ذلك ـ وهو ما يدل على طابع
الشمول في الحكمة الإلهية لدى الفلسفة ـ يحاول ابن سينا أن يتبيّن من جديد عن طريق
الاستدلالالفلسفي صحة أوامر القرآن الخاصة بأمور الجماعة، وهي الخلافة، وبناء
الأسرة، وبيان حكمة تعدد الزوجات، والطلاق، وما إلى ذلك.
ويذهب ابن رشد إلى أبعدَ من ذلك. إذ قال بوجود ثلاثة أنواع من العقول بحسب
أنواع الأدلة الثلاثة التي بيّنها أرسطو. فالنوع الأول هو العقول البرهانية
القادرة على متابعة دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيّنة ضرورية، وربد هذه
الأدلة هو الذي يكون الفلسفة. لكن هذا لا يتسنى إلا لقلّة من العقول (الخواص)
الموهوبة بالقدر الذي يجعلها تكرّس نفسها لها. والنوع الثاني عقول منطقية تكتفي
بالبراهين الجدلية. أما النوع الثالث فهو العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة
الخطابية، وهذه غير مهيّأة لاتباع الاستدلال المنظم. والعقول الأخيرة نجدها عند
جميع الناس العاديين، وهم السواد الأعظم الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة
وحسب.
على أن أحد وجوه الإعجاز في القران، كما يقرر ابن رشد، هو أنّ فهمه ميسّر
لهذه الأنواع الثلاثة من العقول، فكل منها يتبيّن الحق فيه بما يتفق مع قدرته
العقلية. فليس هناك مشكلة بالنسبة للآيات القرآنية المحكمة التي لا لبس في معناها.
فالجميع يفهمونها ويدركون معناها على نحو واضح. وهناك آيات متشابهة لأن فيها
أمثالاً ومجازات. ولهذه الآيات معنى حرفي وآخر خفي أعمق. والفلاسفة وحدَهم، وهم
صفوة العقول، هم الذين يستطيعون أن يدركوا التسلسل الدقيق للاستدلال، وأن يفهموا
المعنى الأعمق. أما الجمهور فإنهم يفهمون النصوص بمعناها الحرفي. وينبغي الحذر من
السماح لهم بالنظر إلى المعنى العميق الخفي الذي تخفيه تلك الآيات، لأنهم لن
يفهموا فيتزعزع إيمانهم. أما الذي يحدث الفوضى ويبذر الاضطراب فهو تشغيب المتكلمين
الذين لم يستطيعوا إدراك الدليل البرهاني، فلجأوا إلى الأدلة الجدلية التي لا تثبت
شيئاً. وابن رشد لا يخفي استهزاءه بأولئك المفسدين, ولا يتردد في اللجوء إلى
السلطان لكي يمنعهم من الاستمرار في أعمالهم الخاطئة.
على أن نوع هذه الحكمة التي تحاول الفلسفة الإسلامية أن تأخذ بها، كانت من
حيث القصد على الأقل حكمةً دينية، وهذه هي خاصيتها الرابعة. فهي تشتمل على عناصرَ
دينيةٍ مأخوذة من القرآن الكريم، ولكنها بدلاً من اقتباسها كعاصر دينية، تسعى في
إخلاص إلى "التوفيق" بين الدين والعقل بقصد إعطاء الدين صفةً علمية. وهي
تطبق بناء هيكل السفينة اليونانية على مبادئ الدين وبذلك تضفي على الفلسفة
اليونانية صبغةً لم تكن لها عند الأقطاب من الإغريق. وهكذا استطاعت أن تصل إلى
العقول المؤمنة، أو على الأقل تلك العقول التي ترغب في التوفيق بين عقيدتها وبين
العقل والعلم. وهذا يفسر لنا النجاح الذي حققته إلهيات ابن سينا وكتابه "في
النفس" في العصور الوسطى المسيحية.
وأخيراً فإن الفلسفة الإسلامية تبدي ولعاً بمسألة المعرفة وأسسها المتعلقة
بالنفس والوجود. ونحن نجد في الرسائل التي كتبها حول العقل كل من الكندي والفارابي
وخاصة ابن سينا تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لقوى النفس المختلفة والمراحل التي يجب أن
تمرَّ بها، بما في ذلك طهارة الخلق حتى تصل إلى الاتحاد مع مصدر الموجودات كلها.
وهكذا فإن الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تجد نفسها مؤيّدة بأضواءٍ معيّنة آتية من
القرآن.
وعلى هذا حاول الفلاسفة أن يتمثلوا مادة الوحي بإدخالها في إطار الفلسفة
اليونانية. ولم تخلُ محاولتُهم من إثارة تشكك المؤمنين المتمسكين بطريقة السلف، بل
إنها أثارت استنكارهم، حتى إن الغزالي صاحب العقل المنفتح الذي كان على اتصال وثيق
بمذاهب الفلاسفة أحصى عشين مسألة استخرجها من مؤلفات الفلاسفة وخطّأهم فيها،
فبدّعهم في سبع عشرة مسألة منها، وكفّرهم في الثلاث الباقية، وهي قولهم بقدم
العالم، وبعدم معرفة الله الجزئيات، وإنكارهم بعث الأجساد ورد الأرواح إلى
الأبدان. وأدى الموقف الهامشي للفلاسفة إلى جعل مركزهم غير مريح، واضطرهم في بعض
الأحيان إلى اللجوء إلى السرّية. ومن هنا فمن الخطأ مقارنة أقوالهم بفلسفة القديس
توما الأكويني أو دانس سكوتوس؛ فهذان الأخيران، إذا توخينا الدقة في التعبير لم
يكونا فيلسوفين بمعنى الكلمة، وإنما كانا لاهوتيَين قبل كل شيء. فإذا أردنا، ولو
إلى حدٍّ ما على الأقل، أن نجد لهما نظراء في عالم الإسلام، فإننا يجب أن نتجه إلى
المتكلمين الذين يسميهم توماس الأكويني (المتكلمين في شريعة العرب)، وهذا ما
سنفعله. (47)
الفلسفــة
لخصت في الصفحات السابقة الخلفية التي يقف فيها الفكر الفلسفي الإسلامي،
وسنكتفي فـي الـصـفـحـات الـتـالـيـة بـعـرض مميزات الـفـلـسـفـة الإسلامية في
مجموعها، وفي أثناء ذلك سنبرز الدور الذي قام به هذا أو ذاك من ممثّليها.
وأول ما يلاحَظ هو أن تلك الفلسفة تمثّل وحدة لا سبيل إلى إنـكـارهـا على
الرغم من اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها، والمؤلفات التي صنـفـت فيها.
كما أن نفس الملامح الأساسية الموجودة عند فلاسفة المسلمين في الشرق هي
بعينها الموجودة عندهم في الغرب.
ونقطة البداية عندهم واحدة هي الحقائق القرآنية وتعاليم الإسلام المتعلقة
بالحياة الـيـومـيـة، ولـم يـكـن بينهم من يبلغ به التهور أن يشك فيهـا. وأقـصـى
مـا فـي الأمـر أنـهـم كـانـوا يلجأون إلى التأول المجازي في موضوعات معيّنة( مثل
الخلق في الزمان وبعث الجسد) وكان لديهم أيضاً نفس الأساس العقلي الذي كان للفلسفة
الهيلينستية: منطق أرسطو، والإيمان بالعقل باعتباره العيار الأعلى، والنظر إلى
الله تعالى على أنه وجود محض، محرك
أول غير متحرك، وفي الغالب القول بضرورة خلق العالم في الأزل. ويتميز أولئك
الفلاسفة بنفس التكوين المدرسي (الاسكولائي) المستمَدّ من النشأة الدينية العامة
لهم، وهم توصلوا إلى نفس النتائج في النقط الأساسية، وهم يشتركون في ظروف الحياة
من ازدهار ونموّ، وهي الظروف التي كان يتسم بها المجتمع الإسلامي في العصور
الوسطى.
ويلاحَظ ثانياً أن هذه الفلسفة جزءٌ من تيار الفكر الإغريقي. وهي تستند بصورة
دائمة إلى كبار حكماء العصر القديم، مع الاعتقاد الراسخ بوحدة الحكمة، وبوجود نوعٍ
من الإلهام عند الفلاسفة القدماء، وأن الوحي الإسلامي ما هو إلا استمرار لذلك
الإلهام.
وكان فلاسفة المسلمين يرغبون في أن يظلوا مخلصين لذلك التراث من الحكمة. وبلغ
من قوة اعتقادهم بوحدة الفلسفة اليونانية أن الفارابي كتب رسالة خاصة يدلل فيها
على أن أفلاطون وأرسطو يذهبان، من حيث الجوهر، مذهباً واحداً ولكن بحكمين مختلفين،
وهو يبيّن أيضاً أنهما يتفقان في تصورهما للحياة: فأفلاطون قد جسّد هذا التصور
بصورة عينيّة، في حين أن أرسطو يوضحه في كتاباته المدوّنة. وهذا يصدق أيضاً على
طريقة التعليم عند كلٍ منهما: فأفلاطون يستخدم أسلوب القصة، بينما يستعمل أرسطو
لغةً مبهمة. لكن كلاً منهما يحب أن يجعل تلاميذه "يكتشفون" الحقيقة
بالبحث عنها وراء الظواهر السطحية. ومذهبهما واحد كما يقول الفارابي، وهو يبيّن أن
كلاً منهما يذهب المذهب نفسه في نظرية المثل ومسائل المعرفة والطبائع والوراثة
وغيرها. وبسبب هذه الصلات التي تربط الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية تقترب
الفلسفة الإسلامية كل الاقتراب من الفلسفة الغربية، وذلك حتى عصر النهضة على
الأقل.
ويلاحَظ في المقام الثالث أن الفلسفة الإسلامية تنزع إلى أن تكون
"حكمة". فقد كان الفارابي (ت 339هـ/ 950م)، وابن سينا (ت 428هـ / 1037م)
وابن رشد (ت 595هـ / 1198م) مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات.
والفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" يحصي العلوم المتنوعة ويتكلم عنها،
ويذكر الفلسفة في النهايرة على أنها رأس العلوم، لأنها تتضمّن اليقين في المعرفة
التي يُحصَل عليها بالبرهان. وابن سينا في كتابه الكبير الجامع "الشفاء"
(والمقصود به شفاء النفس من الجهل)، يحيط بجملة العلوم بحسب الخطة التالية:
1ـ المنطق، 2ـ
الطبيعيات، 3ـ الرياضيات، 4ـ الإلهيات. ويدخل ابن سينا في نطاق الإلهيات جميع ما
جاء به الوحي في القرآن الكريم. ويبيّن أن الله، وهو واجب الوجود والذي لا واجب
وجود سواه، خير، قادر على كل شيء، وخالق كل شيء وقدير حكيم. وهو يحل مشكل الشر بأن
يميّز بين العلل بالذات، والعلل بالعرَض، بل هو يعالج المشكلة الدقيقة الخاصة ببعث
الجسد، ويتناول ذلك بالطريقة الفلسفية، ويرجع إلى العلوم الدينية الخاصة بالموضوع
من أجل وضع أسس العقيدة في هذه المسألة. وإلى جانب ذلك ـ وهو ما يدل على طابع
الشمول في الحكمة الإلهية لدى الفلسفة ـ يحاول ابن سينا أن يتبيّن من جديد عن طريق
الاستدلالالفلسفي صحة أوامر القرآن الخاصة بأمور الجماعة، وهي الخلافة، وبناء
الأسرة، وبيان حكمة تعدد الزوجات، والطلاق، وما إلى ذلك.
ويذهب ابن رشد إلى أبعدَ من ذلك. إذ قال بوجود ثلاثة أنواع من العقول بحسب
أنواع الأدلة الثلاثة التي بيّنها أرسطو. فالنوع الأول هو العقول البرهانية
القادرة على متابعة دليل يقيني محكم، وتصل إلى نتائج بيّنة ضرورية، وربد هذه
الأدلة هو الذي يكون الفلسفة. لكن هذا لا يتسنى إلا لقلّة من العقول (الخواص)
الموهوبة بالقدر الذي يجعلها تكرّس نفسها لها. والنوع الثاني عقول منطقية تكتفي
بالبراهين الجدلية. أما النوع الثالث فهو العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة
الخطابية، وهذه غير مهيّأة لاتباع الاستدلال المنظم. والعقول الأخيرة نجدها عند
جميع الناس العاديين، وهم السواد الأعظم الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة
وحسب.
على أن أحد وجوه الإعجاز في القران، كما يقرر ابن رشد، هو أنّ فهمه ميسّر
لهذه الأنواع الثلاثة من العقول، فكل منها يتبيّن الحق فيه بما يتفق مع قدرته
العقلية. فليس هناك مشكلة بالنسبة للآيات القرآنية المحكمة التي لا لبس في معناها.
فالجميع يفهمونها ويدركون معناها على نحو واضح. وهناك آيات متشابهة لأن فيها
أمثالاً ومجازات. ولهذه الآيات معنى حرفي وآخر خفي أعمق. والفلاسفة وحدَهم، وهم صفوة
العقول، هم الذين يستطيعون أن يدركوا التسلسل الدقيق للاستدلال، وأن يفهموا المعنى
الأعمق. أما الجمهور فإنهم يفهمون النصوص بمعناها الحرفي. وينبغي الحذر من السماح
لهم بالنظر إلى المعنى العميق الخفي الذي تخفيه تلك الآيات، لأنهم لن يفهموا
فيتزعزع إيمانهم. أما الذي يحدث الفوضى ويبذر الاضطراب فهو تشغيب المتكلمين الذين
لم يستطيعوا إدراك الدليل البرهاني، فلجأوا إلى الأدلة الجدلية التي لا تثبت
شيئاً. وابن رشد لا يخفي استهزاءه بأولئك المفسدين, ولا يتردد في اللجوء إلى
السلطان لكي يمنعهم من الاستمرار في أعمالهم الخاطئة.
على أن نوع هذه الحكمة التي تحاول الفلسفة الإسلامية أن تأخذ بها، كانت من
حيث القصد على الأقل حكمةً دينية، وهذه هي خاصيتها الرابعة. فهي تشتمل على عناصرَ
دينيةٍ مأخوذة من القرآن الكريم، ولكنها بدلاً من اقتباسها كعاصر دينية، تسعى في
إخلاص إلى "التوفيق" بين الدين والعقل بقصد إعطاء الدين صفةً علمية. وهي
تطبق بناء هيكل السفينة اليونانية على مبادئ الدين وبذلك تضفي على الفلسفة
اليونانية صبغةً لم تكن لها عند الأقطاب من الإغريق. وهكذا استطاعت أن تصل إلى
العقول المؤمنة، أو على الأقل تلك العقول التي ترغب في التوفيق بين عقيدتها وبين
العقل والعلم. وهذا يفسر لنا النجاح الذي حققته إلهيات ابن سينا وكتابه "في
النفس" في العصور الوسطى المسيحية.
وأخيراً فإن الفلسفة الإسلامية تبدي ولعاً بمسألة المعرفة وأسسها المتعلقة
بالنفس والوجود. ونحن نجد في الرسائل التي كتبها حول العقل كل من الكندي والفارابي
وخاصة ابن سينا تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لقوى النفس المختلفة والمراحل التي يجب أن
تمرَّ بها، بما في ذلك طهارة الخلق حتى تصل إلى الاتحاد مع مصدر الموجودات كلها.
وهكذا فإن الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تجد نفسها مؤيّدة بأضواءٍ معيّنة آتية من
القرآن.
وعلى هذا حاول الفلاسفة أن يتمثلوا مادة الوحي بإدخالها في إطار الفلسفة
اليونانية. ولم تخلُ محاولتُهم من إثارة تشكك المؤمنين المتمسكين بطريقة السلف، بل
إنها أثارت استنكارهم، حتى إن الغزالي صاحب العقل المنفتح الذي كان على اتصال وثيق
بمذاهب الفلاسفة أحصى عشين مسألة استخرجها من مؤلفات الفلاسفة وخطّأهم فيها،
فبدّعهم في سبع عشرة مسألة منها، وكفّرهم في الثلاث الباقية، وهي قولهم بقدم
العالم، وبعدم معرفة الله الجزئيات، وإنكارهم بعث الأجساد ورد الأرواح إلى
الأبدان. وأدى الموقف الهامشي للفلاسفة إلى جعل مركزهم غير مريح، واضطرهم في بعض
الأحيان إلى اللجوء إلى السرّية. ومن هنا فمن الخطأ مقارنة أقوالهم بفلسفة القديس
توما الأكويني أو دانس سكوتوس؛ فهذان الأخيران، إذا توخينا الدقة في التعبير لم
يكونا فيلسوفين بمعنى الكلمة، وإنما كانا لاهوتيَين قبل كل شيء. فإذا أردنا، ولو
إلى حدٍّ ما على الأقل، أن نجد لهما نظراء في عالم الإسلام، فإننا يجب أن نتجه إلى
المتكلمين الذين يسميهم توماس الأكويني (المتكلمين في شريعة العرب)، وهذا ما
سنفعله. (47)
أما الجويني الذي يلقب أيضا «بإمام الحرمين» فإنه يذكر في مناسبات عدة
التقسيمات الكبرى لمادة البحث. وهو في أحد المواضع يميّز بين ما يجب لله من الصفات
وما يجوز عليه. أي ما قد يجوز أن يفعله وما لا يجوز. وفي موضع آخر يميّز بين
الأِياء التي يمكنالتوصل إليها بالعقل، وتلك التي لا يمكن التوصل إليها إلا عن
طريق النقل السمعي، لكن ليس من السهل أن يميز شيئاً من ذلك في
"الإرشاد". أما الجويني الذي يلقب أيضا «بإمام الحرمين» فإنه يذكر في
مناسبات عدة التقسيمات الكبرى لمادة البحث. وهو في أحد المواضع يميّز بين ما يجب
لله من الصفات وما يجوز عليه. أي ما قد يجوز أن يفعله وما لا يجوز. وفي موضع آخر
يميّز بين الأِياء التي يمكنالتوصل إليها بالعقل، وتلك التي لا يمكن التوصل إليها
إلا عن طريق النقل السمعي، لكن ليس من السهل أن يميز شيئاً من ذلك في
"الإرشاد".
التـصـوف
عندما
نتكلم عـن الـتـصـوف أو مـذهـب الـصـوفـيـة (Sufism(9 ندخل فـي ناحية من أروع نواحي الفكر الإسلامي بل الحضـارة
الإسـلامـيـة. ذلـك أن كلام الكثيرين الذين كتبوا فيه يحرك نفوسنا، كما أن براعة
أوصافهم تثير إعجابنا. غير أنه لا يمكن أن نكوّن فكرة حقيقية عن غزارة هذا الميدان
إلا إذا تعرفنا على النصوص.
ولقد
قدمت نظريات متـعـددة حـول أصـول هـذه الحـركـة فـي الإسـلام:
فقيل
إن أصلها من الرهبانية السريانية، أو مـن الأفـلاطـونـيـة المحـدثـة، أو
الزرادشتية الفارسية أو الفيدانتا الهندية.
لكن أمكن
إثبات أنه لا يمكن التمسك بالافتراضات التي تذهب إلى اقتباس المسلم التصوف عن أصول
أجنبية، إذ إنه منذ بداية الإسلام أحس نفر من المؤمنين المتحمسين بالدافع إلى التأمل في القرآن عن طريق المداومة
على تلاوته أو «التعمـق» في روحه إذا صح هذا التعبير. فالقرآن يتضمن كما بينا آنفا
عددا من العناصر المتعلقة بالزهد والتصوف. وبعض الآيات القرآنية تذكر الناس مرة
بعد أخرى بأن الله حاضر معهم، وبالخوف من الحساب، وزوال كل الأشياء الإنسانية،
وجمال الفضيلة وما إلى ذلك. وهـنـاك آيـات أخـرى تعطي النفس المتدينة الفرصة
للوصول إلى لب العقيدة. وهكذا نجد سلسلة من الآيات التي تذكر الإنسان برسالته
وتؤكد على حاجته إلى أن يقيم في قلبه صرحا عامرا بالتقوى والإيمان، منها الآية :
{أفمن
أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أم من أسس بنيانه عـلـى
شـفـا جــرف هــاوٍ، فـانـهـار بـه فـي نـار جـهـنـم، والـلــه لا يــهــدي الــقــوم الظالمين.
وعلى أساس هذه الأفكار نستطـيـع أن نـتـبـيّن بـوجـه عـام ثـلاث
فـتـرات كبيرة في التاريخ العام للتصوف:
-
الأولى تغطـي القـرون الـثـــلاثـة الأولـــى مـن تـاريـــخ الإســـلام (أي مـن
القـرن السـابع إلى القرن التاسع للميلاد). وهـي فتـرة يمكن أن ندعـوها فتـرة الصراع من أجل البقاء. وكان التصـوف خلالها يبحث عن
حقه في الوجـود وفـي التغـلب علـى بعـض الأحكام المسبقـة التـي كانت تعارضه
بتشـجيع من السـلطات الرسمية التي يغلب عليها الحسـاسية والتشكك.
- والفترة الثانية تتميز بمحاولة التوفيق بين التصوف وخصومه، وانتصاره انتصارا يرجع قبل كل شيء إلى
رجل عبقري هو الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي.
- والفترة الثالثة تتميز بانتشار المؤلفات الكبرى في التصوف (وتـشـمـل
الفترة الواقعة بين القرن السادس والتاسع للهجرة/ الثاني عشر والخامس عشر للميلاد)
كما تتميز بدخول التصوف في عـصـر الـتـدهـور ابـتـداء مـن القرن العاشر الهجري/
السادس عشر الميلادي، وسنتحدث عن هذه الفترات بإيجاز شديد.
أحد تلامذة الجنيد، وهو من أصل فارسي، وقد أنكرته مدرسة بغداد بسبب
غلوه في آرائه. ذلك أن تصوره للاتحاد باللـه ـ حـيـث تكمل النفس وتتقدس وتصبح
ربانيـة كـأنـهـا إرادة حـرة حـيـة فـي يـد الـلـه ـ وكذلك أفكاره عن الرسالة من
أنها لابد أن تنطبق في رأيه على كل إنسان، بالإضافة إلى الكرامات التي كان يظهرها
وربطته في نظر تلامذته بالأنبياء; كل هذه الآراء جعلت الأوساط الصوفية والفقهية
والسياسية تدينه، فسجن وحوكم وقطعت رأسه في الرابع والعشرين من ذي القعدة عام
٣٠٩هـ الموافق للسابع والعشرين من مارس ٩٢٢م. وقد خـصص لـوي ماسـينون مجلدين كبيرين لحياة الحلاج هما من أحسن ما كتب عن التصوف المقارن في
هذا القرن.
وطريق التصوف يجمع بين الزهد والتصوف في آن واحد. وهو يتطلب تصفية
النفس التي تهيئها للاتحاد مع الحقيقة الإلهيـة. ومـن يـسـلـك هـذا الطريق يمر في
ثلاثة مقامات أساسية: مقام الطالب، ومقام السالك، ومقام المريد. وهنانجد
الأقسامالكبرى للزهد المسيحي في الشرق. ويتم سلوك طريق التصوّف خطوة فخطوة.
فالمتصوّف لا يترقى إلى مقـام أعلى من
مقامه إلا بعد أن يكون قد مر بالمقامات السابقة عليه. وقد ذكر أبو نصر السراج سبعة
من هذه المقامات وهـي: الـتـوبـة، ويـضـعـهـا مـعـظـم المؤلفين في التصوف في رأس
القائمة علـى اعـتـبـار أنـهـا المقام الأول، ثم الورع، وهو ينبغي أن يزيد (عند
الصوفي) على ما لدى المؤمن الـعـادي مـن هذه الصفة، ثم الزهد التام في خيرات هذه
الدنيا حتى في الحلال الموجود منها، ويأتي بعد ذلك الفقر ثم الصبر على المكاره
والبلايا، والتوكل أي الثقة بالله، والرضا أي تقبل (العبد) لكل ما يحدث متمثلا فـي
ذلـك لإرادة الـلـه تعالى.
والسعي إلى الكمال، وهو مجاهدة النفس، يقوم به الإنسان بإشرافٍ لا غنىً
عنه من قبل مرشد روحي. وينبغي أن يكون الطالب أو المبتدئ بين يديّ شيخه الذي يرشده
"كالميت بين يدي الغاسل". وعلى المرشد أن يراعي نزعات الطالب ومزاجه حتى
يروّضه على التواضع والتوبة والصمت والصوم وما إلى ذلك من أنواع الرياضات. وكان
الراغب في سلوك طريق الصوفية يقضي نهاره في التفكير والدعاء بلسانه وإدامة الذكر
لعبارات بعينها ومحاسبة النفس وغير ذلك من أنواع الرياضة على التقوى.
وعلى حين أن المقامات أو المنازل تُنال بالمجهود الشخصي أي بالاكتساب،
فإن الأحوالَ مواهبُ من الله تعالى. وقد ذكر السرّاج عشرة من هذه الأحوال وهي:
المراقبة، والقرب، ولامحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والاطمئنان،
والمشاهدة، واليقين. لكن ترتيب هذه الأحوال يختلف بحسب المؤلفين، فالمحبة توضع
أحياناً بين المقامات المكتسبة، وفي أحيانٍ أخرى تعتبر أساس الاتحاد. (62)
الغزالي حجة الإسلام:
يعتبر الغزالي (ت ٥٠٥هـ/ ١١١١م)
الرجل الذي أسهم بأكبر نصيـب فـي جعل التصوف مقبولا لدى أصحاب السلطة في الإسلام
كل التشككات والظنون المسبقة حول التصوف عند علماء المسلمين المتشددين في أحكام
الشريعة.
ويعرف الغزالي في العصور الوسطـى الـغـربـيـة
بـاسـم «الغازل» (Algazel(9
لكن الغرب لم يعرفه مع ذلك إلا عن طريق بعض مؤلفاته في الفلسفة، وخاصة كتابه
«مقاصد الفلاسفة»، ولذلك لم يستطع الغرب حق قدره، على حين يمكن اعتبار الغزالي
بالنسبة للفكر الإسلامي شبيهاً بالقديس توما الأكويني مع أخذ الاختلافات بين
الحالتين بعين الاعتبار.
وللغزالي ترجمة ذاتية مؤثرة، هي
كتابه "المنقذ من الضلال" الذي تذكّر بعضُ ملامحِه باعترافات القديس
أوغسطين. وفي هذا الكتاب يصف الغزالي تطوّر حياته العقلية والروحية، ويقرّر أنه لم
يجد السكينة إلا في اتباع "طريق الصوفية". ولا شك في أن الغزالي واحدٌ
من أعظم المفكرين المسلمين، فقد كان متمكناً كل التمكن من علوم الدين، كما استوعب
كل ما كان الناس في العالم العربي يعرفونه في عصره عن الفلسفة اليونانية، وتأثر
تأثراً قوياً بالأفلاطونية المحدثة. وأتيحت له علاوةً على ذلك عدة فرص ليعرف
المسيحية، فقرأ بصورة خاصة إنجيل يوحنا، وكتب عليه رداً.
الغزالي حجة الإسلام:
يعتبر الغزالي (ت ٥٠٥هـ/ ١١١١م) الرجل
الذي أسهم بأكبر نصيـب فـي جعل التصوف مقبولا لدى أصحاب السلطة في الإسلام كل
التشككات والظنون المسبقة حول التصوف عند علماء المسلمين المتشددين في أحكام
الشريعة.
ويعرف الغزالي في العصور الوسطـى الـغـربـيـة
بـاسـم «الغازل» (Algazel(9
لكن الغرب لم يعرفه مع ذلك إلا عن طريق بعض مؤلفاته في الفلسفة، وخاصة كتابه
«مقاصد الفلاسفة»، ولذلك لم يستطع الغرب حق قدره، على حين يمكن اعتبار الغزالي
بالنسبة للفكر الإسلامي شبيهاً بالقديس توما الأكويني مع أخذ الاختلافات بين
الحالتين بعين الاعتبار.
وللغزالي ترجمة ذاتية مؤثرة، هي
كتابه "المنقذ من الضلال" الذي تذكّر بعضُ ملامحِه باعترافات القديس
أوغسطين. وفي هذا الكتاب يصف الغزالي تطوّر حياته العقلية والروحية، ويقرّر أنه لم
يجد السكينة إلا في اتباع "طريق الصوفية". ولا شك في أن الغزالي واحدٌ
من أعظم المفكرين المسلمين، فقد كان متمكناً كل التمكن من علوم الدين، كما استوعب
كل ما كان الناس في العالم العربي يعرفونه في عصره عن الفلسفة اليونانية، وتأثر
تأثراً قوياً بالأفلاطونية المحدثة. وأتيحت له علاوةً على ذلك عدة فرص ليعرف
المسيحية، فقرأ بصورة خاصة إنجيل يوحنا، وكتب عليه رداً.
التصوف العقلي:
نشأ عن تنوع العناصـر الـتـي جـاء
بـهـا الـغـزالـي أن صـار لـه تـأثـيـر فـي اتجاهين متمايزين: أحدهما عقلــي أدى
إلـــى تـصـــوف يمكـن أن نـســـمـيـه تصوفاً ميتافيزيقيـا أو عرفانيا (Gnostic(9 والآخر ذو اتجاهات شعبية اتخذت شكلا ملموسا يتمثل في الطرق
الصوفية.
والأمر الذي يميّز الاتجاه الأول هو الاعتقاد بأنه يمكن
الوصول إلى ما وراء العالم الملموس الذي هو مجرد مظهر لبلوغ عالم الحقائق المعقولة
والروحانية، وذلك من طريق حدس وجداني (emotional) وهو ما يسمى بالمعرفة. واستخدام أولئك الصوفية (من أصحاب المعرفة)
التحليلات الميتافيزيقية عند كبار الفلاسفة، وخاصة ابن سينا الذي تأثر
بالأفلاطونية المحدثة وبعناصر إيرانية وهرمسية، فتكلموا في الأنبياء ورسالتهم وفي
صدور الكثرة عن الواحد، وفي علاقة المخلوقات بخالقها، وفي تركيب العالم، وحلول
الإله في نفس الصوفي أو الوحدة بين "الأنا الإنساني" و"الأنا
الإلهي" كما تكلموا في الإشراق وفي وحدة الوجود. وقد صاغوا خلاصة آرائهم
نثراً أو في قصائد مطوّلة يُعتبَر بعضُها من أجمل ما في الأدب العربي أو الفارسي.
(64)
التصوف العقلي:
نشأ عن تنوع العناصـر الـتـي جـاء
بـهـا الـغـزالـي أن صـار لـه تـأثـيـر فـي اتجاهين متمايزين: أحدهما عقلــي أدى
إلـــى تـصـــوف يمكـن أن نـســـمـيـه تصوفاً ميتافيزيقيـا أو عرفانيا (Gnostic(9 والآخر ذو اتجاهات شعبية اتخذت شكلا ملموسا يتمثل في الطرق
الصوفية.
والأمر الذي يميّز الاتجاه الأول هو الاعتقاد بأنه يمكن الوصول
إلى ما وراء العالم الملموس الذي هو مجرد مظهر لبلوغ عالم الحقائق المعقولة
والروحانية، وذلك من طريق حدس وجداني (emotional) وهو ما يسمى بالمعرفة. واستخدام أولئك الصوفية (من أصحاب
المعرفة) التحليلات الميتافيزيقية عند كبار الفلاسفة، وخاصة ابن سينا الذي تأثر
بالأفلاطونية المحدثة وبعناصر إيرانية وهرمسية، فتكلموا في الأنبياء ورسالتهم وفي
صدور الكثرة عن الواحد، وفي علاقة المخلوقات بخالقها، وفي تركيب العالم، وحلول
الإله في نفس الصوفي أو الوحدة بين "الأنا الإنساني" و"الأنا
الإلهي" كما تكلموا في الإشراق وفي وحدة الوجود. وقد صاغوا خلاصة آرائهم
نثراً أو في قصائد مطوّلة يُعتبَر بعضُها من أجمل ما في الأدب العربي أو الفارسي.
(64)
وسوف نتناول من صوفية أهل االمعرفة Mysticism Gnostic هذه موضوعين رئيسيين هما: موضوع الله نور السماوات والأرض، وموضوع
الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه ألوهية الكون وثراؤه.
والرجل
الذي كان أكبر من تكلم في الموضوع الأول
من هذين الموضوعين كان
أحد
صوفية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وقد ولد في فارس ثم قتل في حلب
بسبب آرائه الـتـي اعـتـبـرت إلحـاديـة،
..
انتشار التصوف العملي والتراث الشعبي
وعلى هذا النحو انتشرت [بعد الغزالي] الطرق الصوفية بين الجماهير بعد
أن كانت في الأصل مجموعات يتألف كل منها من شيخ ومريديه. وساعد على انتشار هذه
الطرق تلك السهولة التي كان دعاة الإسلام يقبَلون بها الراغبين في اعتناق الدين
الجديد. إذ كان كل ما يطلبونه منهم هو إظهار الرغبة في الدخول في الإسلام والنطق
بالشهادتين بإخلاص. وكانوا يغضون الطرف عن العادات السابقة (عند من يدخل في
الإسلام) إذا لم يكن الشرك ظاهراً فيها تماماً، وكان من شأن هذا التسامح أن يغيّر
وجه الإسلام كله في بضعة قرون تغييراً ملحوظاً. فحتى ذلك الحين كانت سلطة العلماء
التي يعترف بها الناس هي وسيلة المحافظة على وحدة الجماعة الإسلامية. فلما زال
تأثيرهم في المحافظة على تلك الوحدة، صارت كل منطقة دخلها الإسلام حديثاً أو
تحوّلت إلى الإسلام منذ زمن بعيد تبدو عليها مسحةُ تراثِها الشعبي وآثار عادات
أسلافها. واقترن ظهور هذه الإقليمية في عالم الإسلام بعصر الجمود في العلوم
الدينية وكل أوجه الثقافة العربية والإسلامية.
...
إن الطرق التي كانت في الأرياف وانتشرت في القرى فقد كانت أكثر تعرضاً
للمؤثرات المحلية. وهناك حالات نجد فيها أن الأسرة الواحدة من التنظيمات الصوفية
التي لها فروع في المدن ظلت وثيقة الصلة بالتعليم الإسلامي الحقيقي، في حين ظلت في
فروعها الريفية آثار لفكرة حيوية الطبيعة الجامدة، وهذا كان شأن الطريقة الشاذلية
الكبرى في الشمال الإفريقي. (69)
[إن جلال الدين الرومي]، إذ يستعمل الحكايات والأساطير شبه التاريخية
والتأملات والمجازات والأمثال، فإنه يلتزم دائماً بالموضوع الوحيد الذي يدور حول
كل الديوان، وهو محبة الله والسعي إلى ذلك الحب. وهذا هو الشيء الوحيد الذي له
قيمة. ويعتقد جلال الدين الرومي أنه لا بد للإنسان من أن ينسى نفسه حتى يفنى في
الله. (70)
وسوف نتناول من صوفية أهل االمعرفة Mysticism Gnostic هذه موضوعين رئيسيين هما: موضوع الله نور السماوات والأرض، وموضوع
الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه ألوهية الكون وثراؤه.
والرجل
الذي كان أكبر من تكلم في الموضوع الأول
من هذين الموضوعين كان
أحد
صوفية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. وقد ولد في فارس ثم قتل في حلب
بسبب آرائه الـتـي اعـتـبـرت إلحـاديـة،
..
انتشار التصوف العملي والتراث الشعبي
وعلى هذا النحو انتشرت [بعد الغزالي] الطرق الصوفية بين الجماهير بعد أن
كانت في الأصل مجموعات يتألف كل منها من شيخ ومريديه. وساعد على انتشار هذه الطرق
تلك السهولة التي كان دعاة الإسلام يقبَلون بها الراغبين في اعتناق الدين الجديد.
إذ كان كل ما يطلبونه منهم هو إظهار الرغبة في الدخول في الإسلام والنطق
بالشهادتين بإخلاص. وكانوا يغضون الطرف عن العادات السابقة (عند من يدخل في
الإسلام) إذا لم يكن الشرك ظاهراً فيها تماماً، وكان من شأن هذا التسامح أن يغيّر
وجه الإسلام كله في بضعة قرون تغييراً ملحوظاً. فحتى ذلك الحين كانت سلطة العلماء
التي يعترف بها الناس هي وسيلة المحافظة على وحدة الجماعة الإسلامية. فلما زال
تأثيرهم في المحافظة على تلك الوحدة، صارت كل منطقة دخلها الإسلام حديثاً أو
تحوّلت إلى الإسلام منذ زمن بعيد تبدو عليها مسحةُ تراثِها الشعبي وآثار عادات
أسلافها. واقترن ظهور هذه الإقليمية في عالم الإسلام بعصر الجمود في العلوم الدينية
وكل أوجه الثقافة العربية والإسلامية.
...
إن الطرق التي كانت في الأرياف وانتشرت في القرى فقد كانت أكثر تعرضاً
للمؤثرات المحلية. وهناك حالات نجد فيها أن الأسرة الواحدة من التنظيمات الصوفية
التي لها فروع في المدن ظلت وثيقة الصلة بالتعليم الإسلامي الحقيقي، في حين ظلت في
فروعها الريفية آثار لفكرة حيوية الطبيعة الجامدة، وهذا كان شأن الطريقة الشاذلية
الكبرى في الشمال الإفريقي. (69)
[إن جلال الدين الرومي]، إذ يستعمل الحكايات والأساطير شبه التاريخية
والتأملات والمجازات والأمثال، فإنه يلتزم دائماً بالموضوع الوحيد الذي يدور حول
كل الديوان، وهو محبة الله والسعي إلى ذلك الحب. وهذا هو الشيء الوحيد الذي له
قيمة. ويعتقد جلال الدين الرومي أنه لا بد للإنسان من أن ينسى نفسه حتى يفنى في
الله. (70)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق