الخميس، 22 نوفمبر 2018

انتقاد كارل بوبر للوضعية المنطقية؛ أنس ناصري.




انتقاد كارل بوبر للوضعية المنطقية
أنس ناصري
الخميس، 13 أغسطس 2009



تمهيد:  حظي المنهج الاستقرائي بمكانة خاصّة لدى التصوّر "التجرباني" التجريبي حيث اعتبر الأساس الفعلي في تمييزه العلم والفيصل الحاسم بين العلم واللاعلم « فاستخدام المنهج الاستقرائي يعتبر معيارا للتمييز بين العلم واللاعلم وبذلك تتعارض العبارات العلمية القائمة على أدلّة ملحوظة تجريبيا ـ أي القائمة باختصار على حقائق ـ مع أيّة عبارات من نوع آخر، سواء قامت على النفوذ أو العاطفة أو التقاليد أو التأمّل أو على أي أساس آخر» 1 
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاستقراء هو الانتقال من ملاحظة عدد معيّن من  الظواهر أو الوقائع المنفصلة إلى قانون عام يسمح لنا بأنّ ننشئ كثيرا من القضايا العامة ونستخلص منها قضية أخرى أكثر تعميما أي أنّ الاستقراء هو ارتقاء من ملاحظات جزئية إلى ما هو كلّي وعام بحيث يصبح قانونا كلّيا وعاما وهذا ما يفترضه الباحث مسبقا أثناء تكرار الملاحظات في مجال معيّن ما كالفيزياء أو الطبيعيات. لكنّ هذا الارتقاء هو ارتقاء عبر تعميم حيث اعتبر هذا الأخير وسيلة منهجية للوصول إلى حقائق صادقة انطلاقا من فرضيات مصحّحة يتمّ بها الحصول على قوانين عامة أي إنّ الارتقاء كان من العامّ إلى الخاصّ. هكذا أصبح المنهج الاستقرائي الأداة الفعلية لتأسيس معرفة موضوعية تعمل على التمييز بين العلم واللاعلم «والالتزام بالمنهج العلمي في أيّة دراسة أي اتّباع الموضوعية والاستناد إلى الملاحظة الدقيقة والاعتماد على الاستقراء السليم وإجراء التجربة المنظّمة يجعل الدراسة بحقّ علما» 2 أي أنّ السّمة المميّزة للعلم هو المنهج الاستقرائي رغم تلك التعميمات التي طبعت المنهج إلاّ أنّ الاستقراء أصبح الأداة المنهجية في العلم ممّا جعله يحظى بثقة العلماء أثناء القيام بتجارب وملاحظات لها علاقة بميدان علمي معيّن ومن ثمّة يغتني المنهج عبر الانتقال من ملاحظات جزئية تجريبية وصولا إلى ملاحظات أعمّ يتمّ تقديمها في شكل قانون عام.
 لكن رغم تميّز القانون بالكلّية والشمولية إلاّ أنّ هذا القانون في حاجة إلى تنقيح وتعديل. وهذا ما دفع الباحث إلى التساؤل عن مدى مشروعية المنهج الاستقرائي، ومن ثمّة أصبحت تطرح مشكلة الاستقراء وخصوصا مع دايفيد هيوم وبرتراند راسل حيث قدّما تصوّرهما للمشكل دون تبرير المشكل أو حلّه، الشيء الذي سيدفع بالعلماء إلى البحث عن معايير جديدة تقدّم معرفة موضوعية بالعلم وتميّز العلم عن اللاعلم. إلاّ أنّ ذلك يدفع بنا إلى التساؤل عن طبيعة المعرفة الموضوعية. وبداية نتساءل: كيف تجسّدت موضوعية المعرفة؟ هل في معيار الوضعية المنطقية؟ أم في الانتقادات التي وجّهها بوبر للوضعانيين؟
 1 ـ الوضعية المنطقية ومعاييرها: شكّلت الوضعية المنطقية الأساس الفعلي في فلسفة العلم حيث اعتبرت إحدى المعايير التقليدية في تمييز العلم عن اللاعلم، هذا بالإضافة إلى أنّ الوضعانيين المناطقة قدمّوا مجموعة من المبادئ التي ميّزت فلسفتهم وذلك بالقول: «إنّ الفلسفة تحليلية حيث تقتصر على التحليل في خصائصها الأربعة (لغوية، تفتيتية، معرفية، بينذاتية). كما أنّ الفلسفة علمية حيث جعل الوضعانيون المناطقة العلمَ النشاط العقلي الأوحد واعتبروا الميتافيزيقا لغوا، لعلّ اعتبار أنّ الهدف الاستراتيجي لدائرة فيينا هو إثبات أنّ الميتافيزيقا لغو ما دامت قضاياها لا هي تحليلية ولا هي تركيبية،... أي ليس لها ما يقابلها في الواقع المحسوس فهي ألفاظ مبهمة ليس لها معنى»3 كما تجدر الإشارة إلى أنّ ما ميّز دائرة فيينا هو أنّ فلاسفتها ضاقوا ذرعا بما تصوّروه من عقم المشاهد الميتافيزيقية زاعمين أنّها بقيت ثلاثة وعشرين قرنا كما خلّفها أرسطو وذلك في استخدام ألفاظ غير مفهومة ويعبّر عن هذا الرأي الفيلسوف الألماني هانس رايشنباخ في كتابه نشأة الفلسفة العلمية في عبارة مأخوذة لفيلسوف مشهور حيث يقول: «العقل هو الجوهر فضلا عن كونه قوّة لا متناهية، إذ إنّ مادته اللامتناهية الخاصّة تكمن من وراء الحياة الطبيعية والروحية كلّها. فضلا عن الصورة اللامتناهية التي تبعث الحركة عن تلك المادة، فالعقل هو الجوهر الذي تستمدّ منه كلّ الأشياء وجودها»4 
هذا بالإضافة إلى أنّ الوضعانيين المناطقة قدّموا مجموعة من المعايير التي هي بمثابة الفيصل الحاسم بين العلم واللاعلم والأساس الفعلي لركائز الوضعانيين هي: أ ـ معيار التحقّق:  يعتبر معيار التحقّق من بين المعايير التي تجسّد مبادئ الوضعانيين، حيث أنّ كلّ حقيقة تركيبية تستمدّ من الملاحظة وأنّ كلّ ما يسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية كان مضمونه بالجملة ليس بتحليلي «فلكي تكون ذات معنى لا بدّ وأن تعبّر عن واقع حسّي تجريبي وأنّ الجملة التي لا يمكن تحديد صدقها من ملاحظات حسّية ممكنة هي جملة لا معنى لها»5 حيث أنّ المعنى هو العلم واللاعلم هو اللامعنى كما تجدر الإشارة إلى أنّ معيار التحقّق تجسّد بالأساس مع ج. ألفريد آير حيث ميّز بين نوعين من التحقّق، تحقّق عملي وتحقّق مبدئي «فالتحقّق العملي يغيب وجوده عند غياب الظروف المواتية له»6 كما أقام آير تفرقة بين نوعين من التحقّق: تحقّق قويّ وتحقّق ضعيف. والتحقّق الضعيف هو ما حاول آير الدفاع عنه «لأنّه لا يكفي لكي تكون العبارة ذات معنى أن يكون في إمكان التجربة إثبات احتمالاتها.»7 لكن رغم دفاع آير عن مبدأ التحقّق الضعيف لم ينتبه إلى أنّ هذا المبدأ «يستبعد الكثير من الأحكام الجاهزة والزائفة، كالحكم القائل مثلا عن عالم الحسّ لا واقعي. وشتّى الأحكام التي تدور حول الواقع»8 رغم كلّ هذا اعترف آير في الطبعة الثانية من كتابه "اللغة، الصدق والمنطق" بأنّ تعريفه السابق للتحقّق «قد يفتح السبيل أمام أيّة عبارة ميتافيزيقية أو أيّة جملة فارغة من المعنى لأن تكون مبدئيا قابلة للتحقّق» 9 وذلك لأنّ ج .أ. آير كان قد ذهب من قبل إلى أنّه من الممكن لأيّة عبارة أن تكون قابلة للتحقّق إذا كانت هناك بعض العبارات قائمة على الملاحظة يمكن استخلاصها من تلك العبارة ولو كان ذلك عن طريق الاستعانة ببعض المقدّمات الإضافية. ولكن، لم يلبث آير أن تحقّق من عدم كفاية هذا المبدأ من مبادئ التحقّق وسرعان ما قدّم بعض الشروط لتلافي الاعتراضات التي يمكنها أن تواجه معياره. ومن جملة هاته الشروط: 10 أ ـ تكون العبارة قابلة للتحقّق بطريقة مباشرة إذا كانت هي نفسها قضية قائمة على الملاحظة أو إذا توفّرت قضية أو أكثر ب ـ تكون العبارة قابلة للتحقّق بطريقة غير مباشرة إذا توافر فيها شرطان أساسيان: * إذا ترتّب عليها ـ بالاشتراك مع بعض المقدّمات الأخرى ـ عبارة أو أكثر قابلة للتحقّق بطريقة مباشرة على شرط ألاّ تكون هذه العبارة أو العبارات مستخلصة من تلك المقدّمات الأخرى وحدها. * ينبغي ألاّ تشمل هذه المقدّمات الأخرى على أيّة عبارة تكون إمّا تحليلية، وإمّا قابلة للتحقّق بطريقة مباشرة، وإمّا قابلة للإثبات في استقلال تامّ عمّا عداها بوصفها تقبل التحقّق غير المباشر. فكلّ هذه الشروط التي أضافها آير تهدف إلى استبعاد العبارات الفارغة من المعنى من دائرة إمكانية التحقّق. لكن، رغم كلّ هاته المجهودات لقي المعيار مجموعة من الاعتراضات حتّى من داخل الفلسفة نفسها حيث رفضوا هذا المعيار لكون أنّ القضايا الجزئية والمفاهيم لا يمكن أن نتحقّق منها تحقّقا كاملا. هذا بالإضافة إلى أنّه لا يستطيع التمييز بين العلم واللاعلم، ممّا دفع بالجماعة إلى التفكير في معيار آخر يحاول التمييز بين العلم واللاعلم. ب ـ معيار القابلية للتأييد و الاختبار: إنّ معيار القابلية للتأييد Confirmability « يقدّم قضية ذات معنى وتكتسب هذا الشرط إذا أمكن تأييدها وذلك باشتقاق قضايا صادقة منها كما ارتبط معيار القابلية للتأييد بالقابلية للاختبار Testability وتكون الجملة قابلة للاختبار إذا كنّا نعرف «الإجراءات المعينة التي من شأنها أن تؤيّد الجملة أو تؤيّد نفيها لدرجة ما. بينما تكون الجملة قابلة للتأييد إذا أمكن منطقيا لأيّ نوع من الأدلّة التجريبية أن يؤيّدها حتّى ولو كنّا نعلم المسار المعين لإجراءات الحصول على هذه الأدلّة أمّا القابلية للاختبار هي مجرّد صورة قويّة وفعلية من قابلية التأييد المضاعفة، فالفارق بينهما يطابق الفارق بين التحقّق بالمعنى أي المباشر أو القوي كما تصوّره ج.ألفريد آير والتحقّق بالمعنى الضعيف، وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أنّ معيار القابلية للتأييد هو الأوسع في مصداقيتها. والجدير بالذكر أنّ كارل هامبل رفض معيار التحقّق لكونه يرفض المنهج الاستقرائي فهو بالضرورة يرفض المعيار. لكن، رفضه هذا أدّى به على الإعلان أنّه لا يمكن اعتبار النظرية علمية ما لم تكن قابلة للاختبار التجريبي والتأييد ببيّنات تجريبية. فحسب كارل هامبل أنّه «إذا تحققّت شروط الاختبار "ح" يحدث الناتج "ه" »13 هذا بالإضافة إلى أنّ هامبل طرح خرافة الاستقراء جانبا رغم أنّ فكرة المعنى من الأسس المميّزة للوضعية المنطقية، لكن رغم هذا التصريح الذي قدّمه  هامبل بخصوص معيار القابلية للتأييد كان معجبا ومؤيّدا لمعيار بوبر في تمييزه للعلم عن اللاعلم. رغم أنّ معيار القابلية للتكذيب مضادّ لمعيار الوضعانيين.

وهذا ما يؤكّد على أنّ الوضعانيين أنفسهم لم يتّفقوا على المعايير التي أسندوها لفلسفتهم، الشيء الذي أدّى بكارل بوبر إلى مواجهة معاييرها وتقديم الاعتراضات حول معيارهم من أجل تأسيس معيار يميّز العلم عن غيره. فما هي إذن هذه الاعتراضات؟ وكيف تمّت مواجهة هذا المعيار؟ هل هي اعتراضات منطقية؟
 3 ـ كارل بوبر و انتقاداته: أ ـ  خرافة الاستقراء:  اعتبرت فلسفة كارل بوبر فلسفة ضدّ الاستقراء (اللاستقراء) وهذا ما يتّضح من كتابته ومقالته، والدليل على ذلك إحدى المراسلات التي دارت بين بوبر و بريان ماجي: 14 بريان ماجي : إنّك ـ  أي بوبر ـ  تنادي بمبدأ مخيف إذ تقول ليس هناك شيء اسمه الاستقراء، وأنّك لا تتصوّر أنّ الاستقراء لا يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا هو يصف ما يجب أن يفعلوه
كارل بوبر: نعم.. وجهة نظري كانت ولا تزال مختلفة، وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أنّ الفيلسوف اتّخذ موقفا مخالفا لما تمّ اعتياده والاتّفاق عليه أي أنّ موقف بوبر إزاء هذا الموضوع كان مخيفا إلى حدّ ما وذلك بإثبات خرافته رغم تشكّك الفيلسوف في البداية من موقفه الذي يدعى بالخرافة «فقد تشكّك في أوّل الأمر في أن يكون مخلصا وصادقا في إنكار ما لا يستطيع أحد البتّة أن يشعر بأدنى شكّ فيه، ما يأخد بمثل هذا الانتشار الواسع و اليقين الثابت» 15 لكن، رغم تشكّكه هذا كان مصرّا على موقفه بفضل إثباتاته الحجاجية التي تبرز مدى خرافة هذا المنهج. وبداية ينطلق الفيلسوف من كون أنّ الملاحظة هي الأساس الفعلي للوصول إلى فروض، غير أنّ بوبر يعتبر أنّ البدء بالملاحظة لا يفضي إلى أي شيء وهذا هو سبب الخلاف مع الاستقرائيين. حيث يؤكّدون على أنّ الملاحظة الحسّية هي نقطة البدء التي توصلنا إلى فروض. أمّا بوبر فيقول العكس «فالفروض قبل الملاحظة على اعتبار أنّ الفرضية تتكوّن في ذهن العالم قبل إجراء عملية الملاحظة.» 16 هذا بالإضافة إلى أنّ البدء بالملاحظة الخالصة فقط وتعميم نتائج الملاحظة للوصول إلى نظريات علمية من غير أي تصميم ذهني مسبق هو من باب المستحيل. وما يوضّح استحالة هذه الفكرة «إحدى الروايات التي تحكي عن رجل كرّس حياته للعلم الطبيعي وأخد يسجّل كلّ ما استطاع أن يلاحظه ثمّ أوصى بأن تورّث هذه المجموعة من الملاحظات التي لا تساوي شيئا إلى الجمعية الملكية للعلوم بانجلترا كي تستعمل كدليل استقرائي. ومن الواضح أنّ هذه المجموعة من الملاحظات لا يمكنها أن تبرهن على أيّ شيء أو تفضي إلى أي شيء آخر» 17 كما أكّد بوبر فكرته هاته في إحدى محاضراته التي أقامها في فيينا مع طلبة الفيزياء حيث قال: «أمسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقّة. وسجّل ما تلاحظه »18 وبالطبع تساءل الطلاّب عمّا يريدهم بوبر أن يلاحظوه. فعبارة لاحظ فحسب لا تعني شيئا وهي من باب المحال. ويقودنا الحديث السابق إلى القول إنّ العالم لا يلاحظ فحسب بل يبدأ بالحصيلة المعرفية التي تمّ اكتسابها من الخارج. ومن هنا تصبح الفرضية مضاءة بنور الملاحظة، على اعتبار أنّ الملاحظة هي التي تؤوّل الفرضية. وهذا على العكس ممّا تمّ إثباته لدى التجربانيين حيث تمثّل الاستقراء في فكرة التعميم وتكرار الملاحظات، وعلى ضوء هاته المقارنة تمّ إثبات استحالة البدء بالملاحظة وخرافة المنهج الاستقرائي لأنّ الفروض سابقة على الملاحظة التجريبية ومن ثمّ ليس مستقرأ منها على الإطلاق. كما تمّ تأكيد خرافة المنهج انطلاقا من مواقف معاصرة للفيلسوف حيث يؤكّد سير بيتر أحد العلماء الحاصلين على جائزة نوبل يقول: "إنّ الاستقراء الذي انشغل به هيوم لا بدّ وأن يكون محض خرافة» 19 كما نجد أحد العلماء الرياضيين  ج. برونفسكي j. Bronoviskt   يقول: «ما زالت نظرياتهم ـ أي نظريات فلاسفة العلم ـ الاعتقاد بأنّ العلم جمع تراكمي للواقع، وأنّ التعميم ينمو بذاته من تكديس أمثلة منفردة في مجال واحد ضيّق وهم يظنّون أنّ العالم يقتنع بأنّ الضوء يصل إلى العين في كميّات متلاحقة، لأنّ هذا العالم يجري تجربة ويكرّرها لكي يتأكّد. ولكن، هذا للأسف الشديد ليس على الإطلاق ما يفعله العالم، إنّه بالفعل قد يكرّر التجربة مرتين أو ثلاثا، إذا كانت نتيجتها تصدمه بغرابته ومخالفتها لما هو متوقّع أي أنّ هناك توقّع سالف ننتظر على أساسه نتيجة التجربة» 20 كما يؤكّد عبد الرحمان بدوي في كتابه "مدخل جديد إلى الفلسفة" حيث يعتبر أنّ «جوهر المنهج التجريبي هو الفكرة وأنّ الفكرة تكون بالنسبة للمجرّب نوعا من الاستباق Anticipation  وأنّه إذا ما تبيّنت الفكرة يمكن فقط أن نقرّر كيف ينبغي إخضاعها لتعليمات محدّدة وقواعد منطقية دقيقة ليس في وسع أي مجرّب أن ينحرف عنها. لكن، ظهورها كان تلقائيا تماما وطبيعتها فردية لا استقرائية »21 وبعد ذكر هذه المواقف يمكن القول إنّ خرافة المنهج الاستقرائي كان لها أساس فعلي في تبنّي هذه الموقف وأنّ خرافة المنهج الاستقرائي كانت نتيجة انطلاق التجربانيين من ملاحظات للوصول إلى فرضيات تصبح بمثابة قوانين كلّية. هذا البناء الذي انطلق منه التجربانيون هو بناء خاطئ لا أساس له من الصحّة، ومن ثمّة يسقط المنهج في دائرة الخرافة لا سبيل للخروج منها. وهذا ما دفع بالفيلسوف كارل بوبر إلى القول بخرافة المنهج الاستقرائي والتفكير في معيار يضمن استمرارية العلم. ب ـ بطلان معيار الوضعانيين:  أسسّ بوبر معيار القابلية للتكذيب بنقد مبادئ الوضعانيين المناطقة وهذا ما دفعه إلى القول إنّ «محاربة الوضعية المنطقية كان وبلا جدال أحد اهتماماتي الأساسية»22 هذا بالإضافة إلى أنّ الفيلسوف حطّم ركائز وأسس الوضعانيين ألا وهي محاربة الميتافيزيقا، فكان تصوّر بوبر على خلاف ما تصوّره الوضعانيون حيث اعتبر أنّ الميتافيزيقا يستحيل أن تكون لغوا على اعتبار أنّ هناك أفكاراً ميتافيزيقية ساعدت على تقدّم العلم بل وكانت ضرورية له «فكثيرا من نظرياتنا العلمية قد تطوّرت عن أساطير مرحلة ما قبل العلم وعن نظريات كانت في وقت ما غير قابلة للاختيار(أي لا علمية أو ميتافيزيقية) فيمكن أن نتتّبع تاريخ نظرية نيوتن إلى الوراء حتّى أنكسمندر وهيزيود، والنظرية الذرّية كانت غير قابلة للاختبارـ أي أقرب إلى الميتافيزيقا ـ حتّى سنة 1905 تقريبا. بل وأنّ كثيرا من الأفكار الميتافيزيقية قد أوحت بصورة مباشرة بنظريات علمية»23 
وهكذا و بعد أن انتقد بوبر أحد المبادئ التي أسست للوضعانية ألا وهي الميتافيزيقا، هذا بالإضافة إلى نقد مَنْحَاهُم اللغوي ومنحاهم التحليلي. والأهمّ من هذا نقد المعايير التي أقام عليها الوضعانيون بنيانهم ويتعلّق الأمر بمعيار التحقّق ومعيار القابلية للتأييد. حيث بدأ بوبر انتقاده بمعيار التحقّق وهذا المعيار في تصوّر الفيلسوف غير قابل للتحقّق وهو أمر مرفوض. لأنّ هذا المعيار بمثابة ظلّ المنطق الاستقرائي ولا فرق بين التحقّق والاستقراء. كما أنّ ضرورة التحقّق من الكلمات كي تكون ذات معنى، تعني أن نحدّد بدقّة الدلالات الحسّية للكلمة قبل أن نستعملها. ومعنى ذلك أنّ الاستعمال الذي أكّده كلّ من آير وموريس شليك خاصّة سيفضي بحسب الفيلسوف إلى تحصيل حاصل لا وجود لأيّة قضية تركيبية وبالتالي فإنّ التحقّق من المفاهيم لا يستقيم فيه القول ولا يميّز فيه العلم عن اللاعلم 24 وعلى هذا النحو فإنّ ارتباط هذا المعيار بهذا الأخير يجعل منه معيارا مفرغا من محتواه وبالتالي لا يصلح حسب تصوّر الفيلسوف كارل بوبر بأن يكون معيارا لتمييز العلم عن اللاعلم و هكذا جاء تفكير بوبر لتأسيس معيار القابلية للتكذيب. فما هو إذن هذا المعيار ؟ وعلى ماذا يتأسّس؟ هل تمّ تأسيسه على بنيان منطقي؟
 منقول عن موقع تفلسف
الهوامش:

 1- Bryan Magee, Karl Popper, edited by Frank kermod,Viking press,New york second edition , 1973,b12 2- ستانلي بيك: بساطة العلم، ترجمة زكريا فهمي، ص 161
 3- زكرياابراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ص ص 281 -284 4- هانس رايشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، ص 16 5- هانس رايشنباخ: نفس المرجع، ص 227 6 – A. J.Ayer:« Language,Trurh and Logic » 1964,p.p.37-38 7- Ibid , Introduction,p.p 11- 12 8- North White : « The Age of Analysis,20 th century philosophers» p206 9- A.J.Ayer : « Language,Trurh and Logic » p 12 10 – Ibid , p 13 11- يمنى طريف الخولي : فلسفة كارل بوبر ، ط2 ، 2002 ، ص 224 12- Victor Kraft : « Popper and the Vienna circle »p.p 189-190 13- كارل هامبل: فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة جلال محمد موسى، ص 45 14- Bryan Magee: « Modern British Philosophy »p 12 15- Karl Popper « Conjectures and Refutation »p 46 16- Ibid , pp 46 – 47 17- Ibid , p 47 18- Ibid , p 48 19– Peter Msdwar : « Hy Polydesis and Imagination » p 270 20– ج. برونوفسكي: وحدة الانسان، ترجمة فؤاد زكريا، ص 60 21- عبد الرحمان بدوي: مدخل جديد الى الفلسفة، ص 97 22- Karl Popper « Conjectures and Refutation »p 49 23- Ibid , p 261 24- Ibid , p 264 25- Peter Msdwar : « Hy Polydesis and Imagination » p 274



ما هي الفلسفة الوضعية المنطقية؟؛ شادي عبد الحافظ .




ما هي الفلسفة الوضعية المنطقية؟
شادي عبد الحافظ (محرر علوم)


خلال القرن العشرين، سيطرت على فلسفة العلم اتجاهات ثلاثة رئيسة، تفرع منها فيما بعد وتطور عنها عدد أكبر من الفلسفات التي (تفسر/تنتقد) العلم، هذه الاتجاهات هي: الوضعية المنطقية، فلسفة كارل بوبر، فلسفة توماس كون، بدأت الوضعية المنطقية عقب الحرب العالمية الأولى متأثرة بالانتصارات العلمية التي حققتها النظرية النسبية على يد ألبرت أينشتين؛ لكن بحلول العام الخامس والخمسين من نفس القرن كان الأمر قد انتهى تقريبا بالنسبة لها.
 يبدأ الأمر دائما حينما نقوم بإلقاء سؤالين غاية في الأهمية على طاولة النقاش: "كيف نعرف؟"، ما هي الطريقة التي تمكنك من معرفة أن الحديد يتمدد بالحرارة، أو أن الشعر الجاهلي حلو، والسؤال الثاني هو "ما هي حدود المعرفة؟"، عند أي نقطة يمكن لنا التوقف؟، هل بالفعل يمكن التعرف على العالم خارج ذواتنا أم أن هناك حدودا لذلك تتعلق بحواسنا؟
 شوكة هيوم
لكي نفهم ما يعنيه اصطلاح "الوضعية المنطقية" دعنا نبدأ بشوكة هيوم (Hume's Fork) (1)، وهو تعبير أطلقه الفلاسفة فيما بعد على تقسيم هيوم للمعرفة إلى فئتين منفصلتين، تتعلق الأولى بـ"مسائل الواقع والوجود الحقيقي"، وتعني الأمور المتعلقة بالواقع وقدرتنا على اختبار وجوده، كأن أقول "الحديد أقوى من الخشب"، هنا كل ما نحتاجه هو إحضار قطعة حديد وقطعة خشب واختبار قوة كل منهما لمعرفة مدى صحة تلك الجملة.
الفئة الثانية تتعلق بـ"العلاقات بين الأفكار"، أي أمور لها علاقة بعالم الفكر فقط، ولاحاجة لنا أن ننزل لأرض الواقع كي نختبر صحّتها، كالعبارات الرياضياتية أو المنطقية، مثل 1+1=2، و"أحمد" هو "أحمد"، و"العزّاب غير متزوجين"، بالطبع هم العزّاب غير متزوجين، تلك العبارات لا تحتاج للتحقق منها تجريبيا في أرض الواقع؛ لكنها فقط صحيحة بتعريفها.
 دعنا -لكي نفهم ذلك التقسيم بشكل أفضل- نختبر معًا بعض العبارات لنرى قدر المعرفة الذي يمكن أن تقدمه لا، عبر فكرة هيوم:
1- أحمد في غرفة المكتب
2- القطط بثلاثة أرجل
3- أشعار نزار قبّاني رائعة
4- 5+6=11
5- كل البجع أبيض اللون
6- الغروب عظيم

يتضح هنا أن العبارة الأولى تخضع لتقسيم هيوم فهي شيء يمكن اختباره حينما نذهب لغرفة المكتبة ونرى إن كان أحمد هناك، لاحظ كذلك أن العبارة الثانية يمكن اختبارها؛ لكننا نعرف أنها غير صحيحة، هنا يجب أن نفرق بين كون الجملة ذات معنى وكونها صحيحة، لا يهم إن كانت صحيحة أو خاطئة فتلك ليست المشكلة، المشكلة هو أن تكون العبارة ذات هدف، معنى، يمكن لها تقديم قدر من المعرفة.
العبارات رقم 3 و6، بطريقة هيوم أعلاه، لا تعبر عن شيء، فكلمة "رائعة" هي أمر لا يمكن اختباره، ولا يمكن تحقيق اتفاق حولها، سوف يقرأ ألف رجل أشعار نزار قباني؛ ولن يتفق أي منهم مع الآخر حول درجة روعة أشعاره أو عظمة الغروب، هنا يرفض ديفيد هيوم كل ما يمكن اعتباره ميتافيزيقا، أو جمل غير ذات هدف، فوجود الشياطين مثلا بالنسبة له هو أمر لا يمكن اختباره، وليس جملة منطقية، سوف يعامله إذن بنفس الطريقة التي يعامل بها عبارات كـ "الشعر حلو".
 
ازدهار الوضعية المنطقية
ظهرت مدرسة الوضعية المنطقية  حينما اجتمع مجموعة من الفلاسفة المهتمين بالعلم والعلماء المهتمين بالفلسفة بعد الحرب العالمية الثانية (2)، في العشرينيات، للتحاور حول إنشاء منهج بحث فلسفي جديد، متأثرة بالحرب، والحاجة لتجاوز ضبابية الفلسفة السابقة، هيغل وهايدغر، والتطور الرهيب للعلوم في تلك الفترة التي مثّلت انطلاقة للعلم الحديث، وعرفت فيما بعد تلك الاجتماعات باسم حلقة فيينا، ضمت الحلقة كلا من: مورتس شيليك، أوتو نيوراث، هانز هان، فيليب فرانك، ورودولف كارناب.

أسست تلك المجموعة فلسفتها على أفكار هيوم ثم كتاب لودفيغ فيتغنشتاين الأشهر "رسالة منطقية فلسفية" والذي أشار فيه إلى أن اللغة هي طريقة لـ"تصوير" العالم في أذهاننا؛ أي أنها تعطينا صورا عن العالم الحقيقي، وهذه الصور هي نموذجنا الذي نعرفه عن الواقع، وبذلك تتعلق كلماتنا بحقائق، فأنا أقول إن "الكتاب في غرفة الجلوس" بينما أتصور وجود الكتاب -تجريبيا- في غرفة الجلوس، يقول فيتغنشتاين:
 "تهدف الفلسفة إلى التوضيح المنطقي للأفكار، وليست الفلسفة علمًا إنما هي نشاط. حصيلة الفلسفة ليست عبارات فلسفية وإنما توضيحا للعبارات، يجب أن تعمل الفلسفة على توضيح الأفكار وتحديدها تحديدا قاطعا، وإلا ظلت تلك الأفكار مبهمة وغامضة".
 قسمت الوضعية المنطقية العبارات في هذا العالم إلى ثلاثة أنواع، تقترب كثيرا مما أشار إليه هيوم منذ قليل:
1- عبارات تحليلية (Analytic): وتعني تلك الجمل ذات المعنى الصوري، المنطقي، التي يصح معناها بتعريفها، كما قلنا منذ قليل "كل العزاب متزوجين" أو "2+2=4"، فلو افترضنا أن هذا العالم قد خلا تماما من البشر، سوف تظل "2+2=4".
 2- عبارات تركيبية (Synthetic): جمل يمكن التحقق منها تجريبيا، كأن أقول إن "المعادن تتمدد بالحرارة"، أو أن "الماء يغلي عند 100 درجة"، تعني تلك الجملة أنه حينما أضع الماء على النار سوف يبدأ في الغليان حينما يقرأ ترمومترا ما 100 درجة.
 3- عبارات غير ذات معنى: أي لا تتعلق بالتقسيم السابق مثل: الشعراء أحرار، روايات أحمد مملة، الأشباح مخيفة، ما أجمل الربيع.. إلخ.

كانت الوضعية المنطقية هي الصورة الأكثر تطورا لمبادئ التجريبية القائلة -بتعبير لوك- إنه يجب على الفيلسوف تصفية الأرض المفاهيمية من تلك الأفكار غير ذات المعنى. 
الوضعية المنطقية إذن هي محاولة للدمج بين المنطق الرياضي "أعمال ديفيد هيلبرت ثم برتراند راسل"، وفلسفة اللغة "لودفيغ فيتغنشتاين"، والتطور العلمي الأخير في النظرية النسبية وقتها، حتى إن برتراند راسل بعد أن تابع تجربة أرثر إيدنغتون التي أكدت صحة النسبية العامة باهتمام وانفعال بالغين، قال إنه يرى أن أي شيء بخلاف النسبية لا يستحق اهتمامًا.
كانت الوضعية المنطقية هي الصورة الأكثر تطورا لمبادئ التجريبية القائلة -بتعبير لوك- إنه يجب على الفيلسوف تصفية الأرض المفاهيمية من تلك الأفكار غير ذات المعنى، والوضعية التي أسسها أوغست كونت، والتي تقول إن العالم يتقدم باتجاه "موجب" (Positive) لكشف الحقائق في النهاية، ثم في النهاية نصل إلى القول إن "العبارات ذات المعنى هي فقط تلك التي يمكن لنا التحقق من صحتها أو عدم صحتها"، أو كما يقول شليك "إن معنى فرض ما هو قابليته للتحقق".
 يعني ذلك أن محتوى المعنى من العبارة يتطابق تماما مع الخطوات التي تحتاجها لإثباتها، وهو ما نعرفه باسم "مبدأ التحقق" (Principle of Verification)، حينما -إذن- نتحدث عن التحقق من "معنى جملة ما"، لا يهم إن كانت تلك الجملة مكتوبة بالعربية "أحمد في المدرسة" أو بأي لغة أخرى، يقف المعنى فقط عند القدرة على التحقق منه؛ لذلك لا يتحدث مبدأ التحقق عن "حقائق"، أو عن "صواب" و"خطأ"، لكن فقط عن معنى اللغة.
دعنا هنا نقارن بين ما تعنيه الجملتين "أنا أرى بيتًا"، و"هذا المفتاح مصنوع من الحديد"، تتعلق الجملة الأولى بحالة تحقق مباشر؛ حيث يمكن حالا أن نتأكد من أنك ترى بيتا، أما الجملة الثانية فنحتاج أثناء محاولتنا للتحقق منها أن نتحقق مما يعني "الحديد" أيضا، وهكذا نستمر في التحقق، في النهاية يبقى جانب التحقق من الادعاءات هو مهمة العلماء التجريبية؛ لكن جانب الفلسفة هو فحص الادعاء نفسه إن كان قابلا للتحقق أم لا، كونه ادعاءً صحيحا أو لا ليس هو المشكلة.
 كل قضية تركيبية لا بد أن تكون تجريبية، فأي ادعاء لا يمكن التحقق من صحته عبر ملاحظات حسّية يعتبر إنشاء بلا معنى، لا يضيف للعالم شيئا
.
لذلك، تعامل الوضعيون المناطقة إذن مع العلم على أنه النشاط العقلي الأوحد (3)، والذي ينقسم بين فئتين فقط من الباحثين، العلماء الذين يقومون بجمع البيانات وعمل التجارب، والفلاسفة الذين يقومون بتحليلات منطقية تساعد على تقدم العلم وتطوره، يؤدي ذلك إلى مفهوم غاية في الأهمية وهو أن الفلسفة بذلك تصبح بالكامل علمية، تنطلق من العلم وللعلم، أما عن الميتافيزيقا، الجماليات، الأخلاقيات، الفضائل، السياسة، كل تلك العبارات الانفعالية الوجدانية التي تمثل عوالم السبح الطويل في التأمل، فلا معنى لها.
يعتبر معيار التحقق هو مركز انطلاق فكرة الوضعية المنطقية للتمييز بين العلم واللاعلم، وبالتالي بين المعنى واللامعنى، فكل قضية تركيبية لا بد أن تكون تجريبية، فأي ادعاء لا يمكن التحقق من صحته عبر ملاحظات حسّية يعتبر إنشاء بلا معنى، لا يضيف للعالم شيئا.

يمكن إذن حصر الوضعية المنطقية في عدة نقاط أساسية:
1- الفلسفة تحليلية: مهتمة فقط باللغة وتحليلاتها للتخلص مما يشوب التعبيرات اللغوية من لبس وغموض وخلط وزيف.
2- الفلسفة علمية: ولكي تكون كذلك يجب أن تلتزم بحدود المنطق وتعمل بأدواته، وهي علمية لأنها تقصر التحليل المنطقي على العبارات العلمية فقط.
3- القضايا إما تحليلية أو تركيبية: التقسيم السابق أعلاه.
4- الميتافيزيقا لغو: لا يمكن التحقق من صحتها.
5- معيار التحقق يفصل بين العلم واللاعلم.
 
سقوط الوضعية المنطقية

يبدأ نقد الوضعية المنطقية من وضع مبدأ التحقق تحت الاختبار، فحينما نسأل: هل يمكن لنا أن نخضع "مبدأ التحقق" للتحقق؟ تقع الوضعية المنطقية في مأزق لأننا بالفعل لا نعرف طريقة للتحقق منها، فيبدو الأمر كأن هناك ثعبانا يأكل ذيله، يستكمل ذلك الضغط على الوضعية المنطقية عبر مبرهنة عدم الاكتمال لكورت غودل والتي -بتبسيط مخل- تقول إن هناك عبارات في النظام لا يمكن التأكد من صحتها، كالعبارة التي تقول "هذه العبارة خاطئة"، فإذا قلنا إنها "خاطئة" يعني ذلك أنها صحيحة، وإن قلنا إنها "صحيحة" يعني ذلك أنها خاطئة، كل محاولات التحقق منها لا يمكنها إعطاء قرار فيها.

رغم ذلك، يعد أكثر الانتقادات تأثيرا في الوضعية المنطقية، والذي كان رسميا سبب وقوعها، هو مقال الفيلسوف الأمريكي ويلارد فان أورمن كواين "عقيدتان في التجريبية"(Two dogmas of empiricism) (4)، المنشور في 1951، وخلاله يضرب كواين واحدة من القواعد المركزية للوضعية المنطقية، وهي الفصل بين "القضايا التركيبية والتحليلية" (Analytic Synthetic Distinction). 

يجادل كواين في أن القضايا التحليلية هي الأخرى يمكن أن تخضع للفحص، ويعيد تعريف معنى القضية التحليلية ليقول إن جملة "كل العزّاب غير متزوجين" لا تكون صحيحة فقط بتعريفها دون حاجة إلى تجربة؛ بل يضع معنى كلمة "عزّاب" و"كل" و"متزوجين" تحت المجهر، في كوكب آخر قد تعني كلمة "عزّاب" شيئًا مختلفًا، حتى القضايا التركيبية كأن نقول "الماء أزرق" قد لا تصلح في عالم تعني فيه كلمة "أزرق" و كلمة "ماء" أشياء أخرى. يضيف كواين أن القضايا التركيبية يمكن اختزالها للتحليلية والعكس؛ بطريقة لها علاقة بالمعنى ومدى إدراكنا للمرادفات.

ثم يمتد الأمر بكواين بعد ذلك ليتساءل عن مبدأ التحقق وقدرتنا على التأكد من صحة جملة ما، فيقول إن هناك شبكة من الفرضيات المترابطة التي لا يمكن اختبار أي منها بمعزل عن بعضها البعض، ويضم لها قناعاتنا وتصوراتنا عما تعني الأشياء، بدءًا من خبرتنا بأكثر الموضوعات عرضية في الجغرافيا والتاريخ حتى أكثر القوانين عمقًا في الفيزياء الذرية أو حتى الرياضيات البحتة والمنطق، بحد تعبير كواين، كواين إذن لا يسأل فقط عن صحة العبارات "س" و"ص" فحسب؛ بل تمتد أطروحته لتختبر صحة القضايا التحليلية المتعلقة بها، وما تعنيه الكلمات، حينما نحاول اختبار فرضية "الماء أزرق" قد نضم تساؤلات مثل: ماذا نعني حينما نقول ماء؟ أو أزرق؟

لذلك يضيف كواين أن "وحدة الدلالة التجريبية هي العلم كله" (
The unit ofempirical significance is the whole scienceفالعلم كله شبكة مترابطة من الفرضيات والقضايا والمعاني، حين تكذيب أحدها لا يمكن أن نعرف أين حدث الخطأ، حينما نحاول اختبار فرضية واحدة فنحن بذلك نختبر العلم كله، هنا ظهر مبدأ الكلّية (Holism).
 
بعد ذلك يجيء دور كارل بوبر الذي ينتقد معيار القابلية للتحقق قائلا إنه لا يمكن أن يكون هذا المعيار فقط هو الفاصل بين العلم واللاعلم (5)، فبعض العبارات قد تكون قابلة للتحقق؛ لكن رغم ذلك تظل غير علمية، تلك النقطة قمنا بمناقشتها بشكل أكثر تفصيلا حينما تحدثنا عن مبدأ القابلية للتكذيب والذي يعد قلب فلسفة كارل بوبر النابض، فوجهة النظر التجريبية القائلة إن العلم يبدأ من الملاحظة أثبتت فشلها.

كانت الوضعية المنطقية هي محاولة شجاعة لصنع فلسفة قائمة على العلم، رغم ذلك تم انتقادها من كل حدبٍ وصوب، كان الأمر أشبه بهجوم كاسح تحاول خلاله كل فلسفة أو توجه معرفي أن تثبت صحتها من خلال الهجوم على الوضعية المنطقية، يقول الفيلسوف الأمريكي لاري لاودن (6): إن جزءا كبيرا من أسباب سقوط الوضعية المنطقية لم يكن فقط بسبب التناقضات المنطقية التي واجهتها؛ بل في تعارضها مع مذاهب فلسفية ودينية واجتماعية، تلك المجموعة من الاعتقادات المقبولة على نطاق ثقافي واسع، لقد رفضت الوضعية المنطقية كل شيء تقريبا، الدين، التاريخ، الفن، الأدب.. إلخ.

هل يمكن في مرحلة ما أن تعود تلك الفلسفة بقواعد جديدة لتبني فلسفة تنطلق من المنهج العلمي؟ من يدري!


حوار بين إدغار موران وجان ميشيل بلانكير: كيف نغير المدرسة؟ ترجمة سعيد بوخليط




حوار بين إدغار موران وجان ميشيل بلانكير: كيف نغير المدرسة؟
ترجمة سعيد بوخليط




تقديم :أي مدرسة نريد؟كيف نكيفها مع التحديات الراهنة؟وعبر أية مسالك نقود التغيير ضمن مؤسسة ينظر إليها غالبا باعتبارها جامدة؟تستحق هذه الأسئلة الجوهرية نقاشا متجددا،جماعيا.لقد تغير كل شيء،منذ حقبة جول فيري :الأفراد،المجتمع، الاقتصاد، ثم سبل النفاذ إلى المعرفة.أما الوزير الحالي جان ميشيل بلانكير،لشؤون التربية الوطنية،الذي سيوضح لمجلة العلوم الإنسانية فلسفته عن المدرسة وكذا مفهومه عن دورها الحقيقي،عبر هذا الحوار العميق مع السوسيولوجي إدغار موران،المدافع عن تربية أكثر تجددا.ضمن إطار أساسه التقدير،ومع كثير من نقط الاتفاق لكن أيضا بعض التباينات،يرسم العالِم والسياسي حدود مدرستهما المثالية.
*إدغار موران : ولد سنة(1921)،عالم اجتماع وفيلسوف ومدير بحث شرفي في المركز الوطني للبحث العلمي.دشن العديد من الأوراش الأنتروبولوجية،بدراسته حول الموت،وعلى مستوى السوسيولوجيا اهتم بثقافة الجمهور،والشباب،وأعد سوسيولوجيا للحاضر. قبل انكبابه على مشروعه المتعلق بنظرية العقل المُركّب.فقد تمحورت كتاباته حول سؤال ثابت اتجه إلى إشكالية المعرفة :شروطها،طبيعتها، وقصدياتها.إذن حسب هذه الزاوية أولا،عالج الرهانات الكبرى للتربية،لاسيما من خلال عناوينه :عقل منظم (1999)،إعادة ارتباط المعارف(1999)،تعليم الحياة(2014).
* جان ميشيل بلانكير :هو وزير التربية الوطنية في فرنسا حاليا منذ 17 مارس2017،أيضا مهتم بأسئلة الشباب وحياة العمل الجمعوي.قبل ذلك،شغل رئيسا لأكاديمية غيويانا وكرتايل،ثم مديرا عاما للتعليم المدرسي،ومديرا عاما لمجموعة إيسيك.حاصل على شهادة الأستاذية في الفلسفة(جامعة باريس1)،مبرز في القانون بعد إنجازه لأطروحة(معهد الدراسات السياسية،باريس) .أصدر خاصة عمليه :مدرسة الحياة(2014) ،ومدرسة الغد(2016).          
س- تشتركان في كونكما قد أوضحتما على التوالي من خلال مؤلفاتكما عن تطلعكما إلى”مدرسة للحياة”.هل تتقاطع لديكما نفس الفلسفة التربوية؟
*إدغار موران : يلزم على المدرسة التوفيق بين ثلاث مهام أساسية :أنتروبولوجية، مدنية، ووطنية.أنتروبولوجية،مادام لا يجدر فقط بالثقافة إكمال تهذيب الطفل،بل أيضا تطوير أفضل ما لديه،نظرا لقدرة الكائن الإنساني على القيام بالأفضل والأسوأ،أن يتهاوى أو يتسامى.المدرسة مدنية،لأنها ملزمة بتكوين مواطنين قادرين في الآن ذاته على التمتع باستقلالية ذاتية ثم اندماجهم في مجتمعهم. أما أن تكون المدرسة وطنية،فينبغي لها المساهمة في تطوير خاصية الحياة والتفكير للمجتمع الفرنسي.حقا،على المدرسة أن تسمح لكل واحد بإمكانية تحقيق تطلعاته،لكن دائما بين طيات جماعة.لذلك أقول بأنها تشغل تماما وظيفتها حينما يتأتى أن تلقن في ذات الآن فكرة المسؤولية الشخصية والتضامن مع الآخر.صيغة روسو “تعلم أن تعيش”،هو التهيؤ كي يجابه المرء مشكلات حياته الشخصية والمدنية،ويدرك بوعي مجازفات الخطأ والوهم،ثم يصل بين الشك والاحتمالات واللامنتظر.
جان ميشيل بلانكير :أتبينه تعريفا تاما بما يكفي.أضيف أن مجموع هذه العناصر تبدو لي مرتبطة بسؤال الحرية.كل تربية هي أولا تربية على  الحرية،ويأخذ كل فعل حر معناه من خلال إضافة بُعْد الحرية الذي يخوله للطفل،والمراهق ثم الشخص البالغ.هذه الحرية ليست مقررة،بل حرية/ بناء، تنتقل عبر الاكتساب التدريجي والمبنية وفق المعارف والقيم :معارف تمكن من الارتقاء،وأن تجد حقلها بامتياز،ومسارها غير الجامد أبدا،وقيم تؤسس قوام المجتمع.يعتبر كل فصل دراسي بمثابة جمهورية صغيرة،بحيث يتمرن الطفل داخله على الحياة في المجتمع.

س-ماهي مرجعياتكم الفكرية بخصوص المجال التربوي؟
*إدغار موران :بديهيا،يلهمني مونتين ،الذي أكد بأن :”رأسا وُضب بكيفية جيدة يبقى أفضل من آخر جد ممتلئ”،ثم جان جاك روسو. يحضر لدي الأدب كثيرا.مثلا، دوستوفسكي الذي لا علاقة له بالبيداغوجيا،علمني بطريقة غير مباشرة شيئا ما أود تعليمه لتلاميذ الوقت الراهن : دلالة المعاناة الإنسانية، الرحمة، الصفح، إلخ.أعرف طبعا ماريا مونتيسوري، سيليستين فريني، باولو فريري،لكن بخصوص مادة التربية،فما يسعفني كمرجعية يكمن في مجموع ثقافتي.
*جان ميشيل بلانكير :تبقى المرجعيات القديمة بالنسبة إلي غير قابلة للتجاوز.حينما شرح أفلاطون بأن الدهشة صفة أولى للفيلسوف،فقد حدد لنا شيئا يذهب فعلا أبعد من تعريف الفلسفة.الدهشة بمثابة عنصر أساسي للوضع الإنساني. إنه المؤسس الأول.يأتي الطفل إلى الحضانة مفعما باندهاش خاص به،ومنبع فضول وسعادة،بحيث ينبغي معرفة توظيف ممارسة بيداغوجية.يعتبر أرسطو كذلك جوهريا بخصوص موضوع التربية ومجالات أخرى،لأنه الأول الذي اتجه تفكيره إلى الحرية باعتبارها هدفا نهائيا للتربية،مما خلق توازنا لدى أفلاطون وفق مظاهر أخرى.أما رابليه  Raelais فيجسد انقلابا في الفكر الغربي،يعتبر مونتين وريثه المناسب : لقد سوغ الاثنان إصلاحا عميقا للتربية. أخيرا،لا يمكنني عدم الاستشهاد ب كوندورسيه condorcet،في اللحظة المعاصرة،صاحب الفكر المُهَيْكَل.لقد رسم منذ الوهلة الأولى،خطا لازال غاية الآن خطنا،أي الارتقاء بالفرد والمجتمع من خلال الثقافة.

س-هذا المثال الأعلى،المستلهم من الأنوار،يُعترض عليه أكثر فأكثر : يُؤاخذ عليه أنه ينكر تنوع التلاميذ وكذا الحالات،تحت مبرر ما هو عام. هل لازال نموذجا ملائما في الظرف الحالي، بينما تتجلى مطالب أخرى أكثر واقعية :تسمح لكل فرد بالعثور على طريقته،ثم يتألق ويندمج في سوق العمل؟
*جان ميشيل بلانكير : أعتقد بضرورة الاحتراس كي لانفرط في مناوأة المهام التاريخية للمدرسة.إنها هنا مادمت أساسية.في المقابل، يلزم مأسستها حسب الزمان. المرحلة الأولى للتمدرس، من الحضانة إلى نهاية المرحلة الثانوية،عليها أن تمكن كل واحد من اكتساب قاعدة المعارف تلك،والكفاءات وكذا ثقافة غير نفعية تسمح بكل بساطة على ممارسة الحياة.يتعلم الطفل القراءة، الكتابة، الحساب، ويتعلم أيضا احترام الآخر.من الممكن طرح بعض التباينات ،لكن دون أن يغيب عن بصرنا السعي المهم جدا،أي تمكين الجميع من هذه الثقافة العامة،تلك الإنسانيات الكلاسيكية وكذا الرقمية باعتبارهما أساسيتين قصد التوجه نحو الحضارة التي نساهم فيها. بعد هذا، أن يتأتى للثانوية، توجه نفعي وظيفي،فلا يظهر لي بتاتا مثيرا للصدمة،بل على العكس.بالتالي، لن يأخذ هنا التمييز معناه، سوى لأن الطموحات تختلف من مراهق لآخر.أفكر حاليا في مستقبل الثانويات المهنية والتعلم،على نحو يؤدي إلى تجديدها ويمنحها كثيرا من الجاذبية وفق فلسفة للتكوين على امتداد الحياة.يكمن الخطأ في احتجاز التلاميذ وسط أروقة،بل ينبغي بخلاف ذلك،مضاعفة الجسور بين التخصصات المختلفة للتكوين الموجود في الثانوية،والجامعة،بناء على تكوين مستمر.
إدغار موران :لا يتعلق الأمر بالاختيار بين معرفة تنهل من الإنسانيات وأخرى نفعية / أداتية، لكن يلزم التوفيق بينهما طيلة أسلاك سنوات الدراسة.أضيف،لا ينبغي فقط للمدرسة التكيف مع الاحتياجات المهنية والتقنية للمجتمع،بل كذلك حاجات المجتمع إلى الثقافة.الانتماء إلى حقبة مهم(ولما لا الاعتراض عليها)لكن يجدر بها دائما الموازنة بين النفاذ إلى ثقافة متعددة يضرب عمق جذورها في القرون وآلاف السنين،تنتقل بين الإنسانيات،والأدب ،والتاريخ و كذلك اللغات القديمة.بالمناسبة،ابتهجت لكون جان ميشيل بلانكير أقر إمكانية تدريس اللاتنية واليونانية في الثانوية.

سهل تطمحون إلى رؤية تطور في المقررات المدرسية،مثلا بإدخال معارف واختصاصات جديدة؟
*إدغار موران :إذا تناولت بجدية هذه الفكرة المنصبة على التعلم من أجل ممارسة الحياة،أعتقد بوجود ثغرات مفصلية تهم البرامج.بشكل خاص،نفتقد إلى تعليم حول ماهية المعرفة،حيثياتها،عاهاتها،صعوباتها.ليست المعرفة بصورة شمسية موضوعية التقطت للواقع،جاهزة للاستعمال،لكنها سيرورة تترجم وتعيد البناء،مجازفة دائما بالخطأ.هكذا تحديدا،تقع معرفة الأصول المحتملة لأخطائنا وأوهامنا،خلال كل أحقاب الحياة، ضمن الحاجات الأولى لكي نعيش،خلال كل أحقاب الحياة.ثقابة الفكر، معركة ينبغي من أجل تفعيلها تسليح العقول. ليس جسيما أن يخطئ الفرد داخل المدرسة. لكنه سيغدو بنتائج أكثر مأساوية،حينما يتعلق الأمر باختيار المهنة،والصداقة،والعلاقة العاطفية،والسياسة.المجازفة بالخطر وكذا الانخداع وضع لم تتخلص منه البشرية أبدا.يتبدى موضع آخر أظن من المهم استحضاره : ذاك المتعلق باستيعاب الآخر. حمولته كونية.نحن باستمرار في تماس مع ثقافات مختلف بلدان العالم ويلزمنا استيعابها.داخل كل عائلة،وكل تنظيم تتعدد ظواهر اللا-فهم.هما إذن فجوتان معاصرتان :المعرفة والفهم الإنساني.تجنب قدر مايكون ذلك الأخطاء،التي بوسعها أحيانا أن تكون قاتلة،ثم فهم الآخر دون احتقاره،وإدراك أن هذا الآخر يعتبر في الوقت نفسه مماثلا للذات، ومختلفا عنها.
جان ميشيل بلانكير : أستعيد فكرة لإدغار موران :يبدو لي مثمرا توضيح رهانات الحياة المستترة وراء التعلُّمات،لاسيما خلال بداية كل مرحلة كبيرة،يتهيأ الطفل لها.توجد مثلا في الحضانة تجارب مختلفة لأوراش فلسفية، يبدأ الطفل بفضلها في اكتساب نوع من الوعي بالحياة،فن أخذ مسافة نحو الأشياء والانفعالات.يظهر حماسته مع اكتشاف الثقافة،والفن، والموسيقى… إنها إبستمولوجيا لاواعية غالبا،حاضرة سلفا داخل الأقسام الدراسية لكن ينبغي توضيحها بامتياز.يتأقلم أيضا الصف السادس مع هذا النوع من التفسير،لأن الأمر يتعلق بلحظة توجيهية.يدرك الطفل مرحلة ماقبل المراهقة،بحيث يشعر”أنه صار ناضجا”.تحتاج مجتمعاتنا الدنيوية إلى إعادة بعث ماعرفته مجتمعات قديمة :صيغة للتلقين بهدف الدخول إلى المراهقة.الإبستمولوجيا، بمعنى معرفة المعرفة،وفق المنحى الذي قصده إدغار موران،يمكنها المساهمة بهذا الخصوص.

س-إدغار موران،لقد كرستم في كتابكم : enseigner à vivre،فصلا لتاريخ فرنساكيف ترشدون نحو هذا التاريخ دون الاصطدام بصخرة تحويله إلى رواية قومية وطنية مخادعة؟
*إدغار موران : أعتقد من جهتي بضرورة مواصلة تدريس تاريخ فرنسا على نحو متسلسل.هذا التاريخ روائي بما يكفي ومؤثر في ذاته، بحيث لن يحتاج كي يخلق صيغة “رواية وطنية”. يبدو لي بأن العمل على التعريف به يعتبر أساسيا خلال هذه الفترة المتسمة بأزمة الاندماج،لأنه يخول فهم تطور فرنسة الإقليم.يمكننا قراءة  كل تاريخ فرنسا كتشكل  تدريجي لوحدة متعددة الثقافة، انطلاقا من منطقة “إيل دو فرانس “خلال فترة “هيو كابيت” Hugues capet : اقتضى الأمر إدماج شعوب متعددة،بروتون، ألزاس،أوكستانيين، كاطالان، فلامون،مع لغات وثقافات مختلفة.حدث هذا الإدماج بفظاظة لكن أيضا عن طريق الزيجات المختلطة،والاتصال ثم التبادل.هو تاريخ متفرد،مختلف تماما،عن التاريخ الأمريكي مثلا.
*جان ميشيل بلانكير :يستهويني ما أدلى به إدغار موران عن التاريخ. إنه سديد جدا.يبدو لي من المهم تمثل هذا المدار للبناء الوطني قصد التمكن من الانخراط ،وإمكانية الاندماج فيه.

*س-يبدو أنكما لا تتفقان بخصوص إشكالية تعددية الاختصاص.بالنسبة إليكم إدغار موران،تمتدحون منذ مدة التوظيف البيداغوجي.بينما،أنتم ميشيل بلانكير،فتظهرون تحفظا أكثر.هل يلزم الاعتناء بتنظيم التعليم من خلال التخصص أو التطور نحو مقاربات أخرى تشغل محاور عدة؟
*إدغار موران :لامستم نواة قضية المدرسة.تتمثل إحدى المقتضيات الملحة في العثور ثانية على معنى القضايا الكبرى.والحالة هذه،هل هو نعمة أم نقمة،فجل التيمات الكبرى متعددة التخصصات،وقد انتهت فعلا بأن استُبعدت من المقررات !تناولوا مثلا إشكالية الكائن البشري،من هو الكائن البشري؟الجواب لايدرّس في أي مكان،بينما يمس بشكل أكثر عمقا هويتنا.بحيث يجد السؤال نفسه جليا، في البيولوجيا،والسيكولوجيا،والسوسيولوجيا، والأدب،والتاريخ،إلخ.نجزئ المعارف عبر تخصصات،ونشكل خبرات متخصصة،لكننا نغض من شأن الكفاءة كي نربط ثانية هذه المعارف ونأخذ بعين الاعتبار القضايا في شموليتها.لذلك أعتقد بأنه ينبغي القيام بتوظيف أكثر تآلفا عن تشارك الاختصاصات بيداغوجيا.حينما ندرس جاليلي،فيلزم التماس أستاذ الفيزياء والتاريخ وكذا الفلسفة….أزمة 1929 تهم سواء الاقتصاديين والسوسيولوجيين والمؤرخين.ويمكننا الحديث عن أمثلة عديدة.
جان ميشيل بلانكير :ما قصده إدغار موران ممتاز،لكني أحترس ضد التأويلات التي نجعلنا نسقط في الهاوية.تتجلى مجازفة إذا أضفينا امتيازا بأي ثمن على تعدد الاختصاص، أي أن تستغرقنا كليانية تؤدي إلى تمييع المعرفة. تحتاج الأخيرة إلى مَحَاور للولوج كي تصير ملموسة.حينما كان إدغار موران طفلا، استطاع قراءة مئات الكتب.أيضا، أبدى اهتماما كبيرا بالسينما.هكذا،تشكلت لديه ثقافة عامة.لكني أخشى أن تتم اليوم بعض المقاربات التيماتيكية على حساب التسلسل التاريخي أو قواعد اللغة الفرنسية.إذا لم نفهم ماهو الفاعل،والفعل، والمفعول،فلن نستوعب قط الأفكار الدقيقة لرواية من تأليف دوستويفسكي.دراسة الكتّاب ضمن نسق منطقي شيئا ما يسمح بفهم سبب تطور لغتهم مع تاريخ الإنسانية.الكلمتان المفصليتان،بالنسبة إلي،هما الصياغة والتوضيح.ففي اعتقادي،يمثل تلقي ثقافة مهيكلة وواضحة،تهيئة ضرورية لفكر التداخل العلائقي كما الشأن مع فكر إدغار موران.

س-هل ينبغي عمليا،احتفاظ البرامج المدرسية في الثانوية على الأنشطة المتعددة الاختصاصات،أو ينبغي حذفها؟
*جان ميشيل بلانكير :أعتقد بأنه ينبغي الاحتفاظ بها،لكن ينبغي كذلك الاشتغال على تعدد التخصصات بالنسبة لكل تخصص .يفترض ذلك في اللغة الفرنسية،دراسة الكتّاب،ثم اقتحام التاريخ،والسوسيولوجيا، والعلم،إلخ.لذلك أنحاز لصالح مقاربة كرونولوجية للأدب بهدف نسج صلات مع التاريخ.أضيف بأن المدرسة الابتدائية الفرنسية تعتبر أصلا”مورانية” moranienneجدا مادم أن الفصل الدراسي ينشطه معلم تلقى تكوينا يخول له إرساء جسور بين المعارف.والتاريخ والجغرافية، مثلا،يشكلان  فعلا تخصصان متصلان بأستاذ واحد.أيضا يمكننا بمناهجنا التقويمية أن نحث طبيعيا  نحو تعدد الاختصاصات، مقترحين مثلا في امتحان شهادة “البريفيه” اختبارا يتعلق بتاريخ الفن.
* إدغار موران :يفترض تعدد الاختصاصات انتظاما.ليس الغموض لكنه التوصل العلائقي.أن تكون متعدد التخصص ،لا يعني اللانظام. بل العمل على محاورة مختلف التخصصات،وتغذية العقل  ثم تركيب الفكر.التخصصات خصبة جدا حينما تنفتح.بالتالي،هناك موضوعات مشتركة التخصصات،وأخرى ليس كذلك،وأكرر تتجلى أمام بصري موضوعات كبيرة مثل” ماهو الإنسان في هذا العالم؟”،والتي تقتضي تكوينا جديدا متعدد التخصصات. هذا ما بادر إليه جان فرانسوا دورتيي حينما أصدر مجلته هاته أي العلوم الإنسانية.فعلوم مثل الإيكولوجيا،وعلوم الأرض،والفيزياء الفلكية تبقى مشتركة التخصصات .

س-إن طفلا قضى خمسة عشر سنة في المدرسة  عاين حتما أساتذة،وسبورات، ودفاتر.يلزمه القيام باختيار توجيهي في حياته. وينبغي له أيضا أن يتهيأ كي يتدبر ميزانية،ويمتلك أسباب صحته،ويتعايش مع الغيرية الإنسانية. إلى أي حد سيتماهى هدف ”تعليم أن تعيش”مع الصيغة المدرسية؟
جان ميشيل بلانكير :مدرسة الحياة،مفهوم مشترك،لا يمكنه التبلور دون كفاءة نستلهمها برانيا.المدرسة محراب،ينفتح.يبدو لي مهما جدا تطوير كفاءة المدرسة بالنظر إلى الخارجي. يوجد اليوم تلاميذ لم يروا البحر قط أو مركز المدينة لأنهم يعيشون في إحدى الضواحي.مستقبلا،سأعمل على القيام بمبادرات من أجل منهجة الرحلات المدرسية.ينبغي أيضا إعطاء مكانة أكبر إلى المعارف التطبيقية،وتثمين أحسن للأعمال اليدوية،دون مواجهة أو تصنيف تراتبي بين الذكاء اليدوي والنظري. بناء على وجهة النظر هذه،مقنع جدا توحد اليد مع العجين،المدرسة الابتدائية بالثانوية:التدرب على المسار العلمي من خلال استعمال اليد والتجريب،ثم إعادة ربط الفكر العلمي بالرهانات الحالية ضمن أفق متعدد التخصصات. أخيرا،أومن بالتداول الفني والثقافي كي ترتبط المدرسة ثانية بالحياة.الأدب مدرسة للحياة.أيضا الفن والموسيقى.ما اقترحناه من خلال”الدخول على وقع الموسيقى”لم يكن مجرد حكاية.يتعلق الأمر بإظهار أنه حينما نلج المدرسة مبتهجين ،فالثقافة، على ضوء الموسيقى، بمثابة خيط مرشد لما يجدر حدوثه بعد ذلك :ينبغي أن تكون المدرسة سندا للشخص كي يعبر عن نفسه ويتفتح.
*إدغار موران : الدعوة إلى التعلم من أجل الحياة،ليست بتقديم لوصفات.تلعب الإنسيات دورا.الأدب،منفذ ملموس للغاية نحو معرفة الكائن البشري.الفلسفة،تمرن على القدرة لتأمل الذات،إنها آلية للتفكير قصد الاقتناع  بممارساتنا في الحياة. أيضا، المسرح ،الشعر، الفن والموسيقى،تجسد الشغف والإحساس الذي تمر عبرهم المعرفة.مع العلم،أن الأفكار لاتنتقل سوى عبر الشغف.إن انعدم الأخير،يصاب الفكر بالهزال، ويحكم علينا بتجزئة معارف جافة.إحدى كبرى اكتشافات علوم الدماغ،التي نجدها عند “جان ديديي فانسان” أو “انطونيو دامازيو”،تكمن في عدم وجود مركز للعقل الخالص. فما إن تتم إثارة بؤرة عقلانية،حتى يحدث نفس الأمر مع بؤرة عاطفية.بمعنى ثان،نحن في حاجة إلى جدلية العقل/ الشغف.يجب استعادتها بقوة،لأن تدريس الإنسيات ينحو صوب أن تقصيه الثقافة العلمية والتقنية،بينما يلزم تحاور هذين الثقافتين بشكل مستمر.يمثل وجود عقل جامد،وضعا مرعبا،كذلك الشغف بدون عقل، سيكون هذيانا.ومثلما قال أفلاطون،يحتاج التعلم إلى الإيروس.حب المعرفة وحب التلاميذ يتحتم تلازمهما.

س-حاليا من السهل بلوغ المعرفة في كل مكان بفضل الهاتف المحمول، اللوحات الاليكترونية، أو الحاسوبكيف تتصورون دور التعليم على ضوء التكنولوجيات الجديدة؟
*إدغار موران : لقد تغيرت وظيفة المدرس،وأقول بأنها تنزع نحو الارتقاء. غاية الوقت الحالي،يعرض المدرس المعارف،ثم يلتمس تأملها في مرحلة ثانية. لكن اليوم،لا يحتاج أستاذ التاريخ إلى الخوض في تفصيل واقعة واترلو،فبوسع التلاميذ الوقوف على ذلك بأنفسهم.يصبح المدرس موجها للمعارف يرشد التلاميذ وسط محيط غامض وسديمي لمعارف يوفرها الأنترنيت.سيضفي عمقا على الموضوع اعتمادا على معرفته الأكثر رحابة والمتخصصة.
*جان ميشيل بلانكير :يتعلق الأمر تحديدا بإعادة اكتشاف تاريخي لتعريف الأستاذ.يستفيد الأستاذ راهنا من شروط تجعله تقريبا،مربيا جماعيا.لكن بالنسبة إلي،يلح سؤال كبير على حقبتنا يتمثل في معرفة إن كان بوسع العالَم وقد اكتسى طابعا تكنولوجيا أكثر فأكثر،أن يصير إنسانيا أكثر فأكثر.كيف يمكننا استثمار جل الممكنات بطريقة إنسانية؟في حالة المدرسة،يمر الجواب عبر الخاصية المركزية للخزانة،بالمعنى المادي وكذا الرمزي.عليها أن تمنح القدرة على قراءة الكتب والمقالات،بصمت وتركيز،وهو رهان مهم جدا بالنسبة لأنتروبولوجية المراهقة الحالية.في ذات الوقت،يلزم هذا الفضاء أن يمنح مساحات جماعية، ورقمية أكثر،تسمح للتلاميذ كي يبحثوا عن المعارف،والانتقال بها إلى الحصة الدراسية قصد الاستفسار بخصوصها.يلزمنا تشجيع كفاءات الاستكشاف والتركيز والتي قد يضر بها النزوع المعاصر نحو ما يعرف ب ”زابينغ”.

سبين توجهات الاليزيه،والإكراهات القاعدية كيف تتطلعون على نحو واقعي إلى إصلاح المدرسة :من خلال القانون،التجريب، الضغط على الفاعلين الميدانيين؟
*إدغار موران :يمكن أن يتغير جانب بأكمله من طرف وزارة التربية الوطنية نفسها،لاسيما ماتعلق بإدخال موضوعات جديدة إلى المقررات المدرسية.حينما تبدأ جيوب المقاومة في الاشتغال،يلزم تطبيق الروائز والسعي إلى الإقناع :يمكن لتجارب مرشدة التبلور كي تبرهن على جودتها.أقتنع كثيرا بسلطة التجارب المحلية الصغيرة قصد تغيير المجتمع.يمر التغيير أيضا بتكوين أساتذة حتى يتمكنوا من تدريس التيمات الجديدة التي أدافع عنها.يبقى أخيرا،أن وزيرا لا يمكنه القيام بكل شيء،بحيث توجد أشياء خارج المدرسة.مثلا،لا يمكن معالجة قضية الفوارق المجتمعية عن طريق المدرسة وحدها،لأنها تتعلق بالمجتمع نفسه وكذا السياسات العامة للدولة.
*جان ميشيل بلانكير :لا أعتقد أننا في حاجة إلى قانون قصد تغيير المدرسة، بل ولا إصلاح بالمعنى الكبير للكلمة، يقرر فوقيا. نحتاج بداية إلى خلق شروط مجتمع الثقة.حينما أتابع المجتمعات الإسكندنافية،أكتشف بأن الثقة تخلق حلقات صالحة.لقد وثق الأفراد في مدرستهم،ثم العودة إلى المدرسة تخلق الثقة :الثقة في الفاعلين،الثقة المشتركة،وأخيرا ثقة التلاميذ في أنفسهم.تتجاوز هذه الإشكالية المدرسة،في فرنسا،لا يملك الأفراد مايكفي من الإيمان ببعضهم البعض.لذلك أتكلم عن جوهر الأشياء،ولا أقف عند حدود إشارات ،حول مسارات أو معايير،وحول فلسفة في أفق خلق تدريجي لشروط استعادة المجتمع لثقته في المدرسة،ثم المدرسة داخل المجتمع.تعود إلي مهمة بعث خطاب إيجابي اتجاه المدرسة،والقيام بذلك من خلال بلورة مقاييس ملموسة تغير اليومي ويكون لها مفعول رافعة.مثلا،تقسيم مستوي (CP ;CE1) إلى مكونين بهدف تفعيل التربية الأولوية التي تعتبر عند مقدمة كل نجاح للتلاميذ كي يكتسبوا معارف أساسية.هنا تكمن مهمتي باعتباري وزيرا.

س- لكن الثقة لا ترتبط بقراركيف تتطلعون إلى إرسائها وإشاعتها؟
*جان ميشيل بلانكير : أعتقد بأن الثقة تمر عبر خطاب تدعمه الأفعال.لذلك جاء خطابي الأول باعتباره خطاب ثقة. أقول، لكل المنتسبين إلى المنظومة،لاسيما المدرسين : نثق فيكم،ثم استشعروا دعم المؤسسة.أنتم، الأكثر قربا من المشاكل التي تواجهكم.ألتمس من رؤساء المؤسسات والموجهين أن يثقوا فيهم،وألتمس في المقابل من الأساتذة وضع ثقتهم في التلاميذ،وعلى الأخيرين احترام المدرسين،مثلما ألتمس من الأسر الإيمان بالمدرسة.ما أتوخاه على امتداد هذه المتوالية،ثقة التلاميذ الفرنسيين في أنفسهم أكثر،بمعنى تطويرهم لهذه القدرة على التعبير كتابة وتكلما،ثم الدخول إلى غمار الحياة بثبات أكثر مستندين على المعارف والقيم التي اكتسبوها :لا أريد بهذا إلغاء الاشتغالات العملية المرتبطة بوزارة كهذه :توظيف الأساتذة،تكونهم المبدئي ثم المستمر وكذا تحسين ظروف عملهم وفق أجواء مريحة.سأقترح أيضا مقاييس لتطوير علاقة الأسرة-المدرسة،التي تمثل نقطة فرنسية ضعيفة :سيمكن تعضيد الحقيبة اليدوية للآباء من تنظيم اجتماعات مع فرق صغيرة،مما يسمح بتوضيح أفضل للتوقعات الدراسية والتربوية : لماذا الطفل هنا؟ماهي الرهانات؟لماذا هناك واجبات يلزم القيام بها؟ماهي أوقات النوم الأساسية؟لماذا الإتيان بكتب إلى المنزل؟حول كل هذه الموضوعات،يلزم أن يشتغل التحالف أسرة/مدرسة قصد تجنب الاختلالات.من الأفضل أن يكون لنا آباء لم يذهبوا إلى المدرسة،لديهم إمكانات قليلة لكنهم يؤمنون بالمدرسة،بدل آباء ميسورين ومثقفين لكنهم يحتقرون المدرسة ولا يهتمون بتمدرس الطفل.الثقة،على جميع المستويات،تعتبر قوة ترياق ضد كل الحتميات المجتمعية.