النظريّات الكلاسيكيّة للإدراك
جون سيرل (رؤية الأشياء كما هي)؛ ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي.
سلسلة عالم المعرفة 456
الشكوكيّة والنظريّات
الكلاسيكيّة للإدراك:
قلت في بداية هذا الكتاب إن الإدراك كان
الشغل الشاغل المحوري للفلسفة الغربية منذ القرن السابع عشر. لكنّ معظم القضايا
التي ناقشتها في الكتاب لم تكن الشواغل الرئيسة للكتّات التقليديّين حول هذا
الموضوع. كان اهتمامُهم الأساسي معرفيّاً epistemic: كانوا يتفحّصون علاقة
الإثبات بين التجربة الإدراكيّة الداخليّة والعالم الخارجي، حيث سبق الاستقصاءُ
افتراض أن التجارب الإدراكيّة الداخلية، أي الأفكار أو البيانات الحسّية، هي وحدها
ما يمكن أن يُدرَك مباشرة. وعلى وجه التحديد، فبالنظر إلى أنّ كلّ ما يمكننا
إدراكُه هو بياناتنا الحسّية الخاصة، فكيف يمكن اكتساب معرفةٍ مأمونة ومؤكَّدة
بالعالم الخارجي؟ (211)
لقد رفضتُ افتراض أنّ البيانات الحسّية هي
وحدَها التي يمكن أن تُدرَك. وعلى العكس من ذلك، فالشيء الوحيد الذي لا يمكن أن
يُدرَك مطلقاً هو تجاربنا الإدراكية الداخلية، أي بياناتنا الحسّية. بمجرد أن
كشفتُ الحجّة السيّئة وتناولتُ بعض التفاصيل عن تأثيرها الفظيع في تاريخ هذا
الموضوع، صار بإمكاني مناقشة سلسلةٍ من الأسئلة التي تبدو لي أكثر أهمّية بكثير من
الأسئلة التقليديّة، والتي لا يمكن للتقليد تناولها. وبعبارةٍ أخرى، فبمجرد أن
تتقبّل الحجة السيّئة، وبمجرد أن تظن أن موضوعات الإدراك هي دائماً بيانات حسّية،
فإن الأسئلة التي أتعتقد أنها الأسئلة المثيرة للاهتمام في فلسفة الإدراك لا يمكن
حتى تناولُها.
يرتكب الفصليّون خطأً بنفس حجم خطأ التقليد
الذي يعتبرون أنفسهم معارضين له؛ لأنه من خلال قبول البنية الشكلية للحجة السيّئة
والأمل في تجنّب عواقبِها الضارة برفض فرضيّتها الأولى ـ أي الفرضيّة التي تقول
بوجود فراغٍ مشترك بين الحالة الجيّدة والحالة السيّئة، وبين الحالة الحقيقية
والحالة الهلوسيّة ـ فهم يجعلون من المستحيل تناول بعض القضايا المثيرة للاهتمام
حقاً حول الإدراك، مثل كيفية تحديد الفينومينولوجيا الخام للمضمون القصدي، وتحديد
شروط الإشباع.
في هذا الفصل، سأتناول بالتحليل بعض
الأسئلة التقليديّة. يدين أيّ كتاب عام عن فلسفة الإدراك للقارئ بتفسيرٍ لكيفيّة
ارتباط هذا التفسير بمشكلة الشكوكيّة ولكيفيّة ارتباطه بالنظريّات الكلاسيكية
التقليديّة، مثل النظرية التمثيلية، والظاهراتيّة، والمثاليّة... إلخ. وبالإضافة
إلى ذلك، ففي مرحلةٍ ما، ينبغي تناول التمييز بين الصفات الأوّليّة والثانويّة،
وسأختتم الفصل بمناقشةٍ موجزة لهذه المسألة.
عليّ أن أعترف في البداية بأنني لا آخذ
كثيراً من هذه القضايا على محمل الجِدّ مثلما يفعل كثيرٌ من الفلاسفة، ولهذا السبب
فقد أجّلت تناولها إلى نهاية الكتاب. أجد صعوبةً في أخذ مبدأ الشكوكيّة على محمد
الجِد في أيٍّ من أشكاله التقليديّة. وبمجرّد أن تكشف زيف المغالطة وراء الحجّة
السيّئة وتتقبّل تفسيراً للقصديّة الإدراكيّة يبرر الواقعيّة المباشرة باعتبارها
فلسفةً للإدراك، فإن العديد من النزاعات التقليديّة تفقد ببساطةٍ أهميّتَها. وعلى
أيّ حال، فمن أجل الاكتمال، سأتناول الموضوع في ما يلي: (212)
أولاً: مبدأ الشكوكيّة
هل يقدّم تفسير الإدراك الذي طرحتُه في هذا
الكتاب أيّ نوعٍ من الرد على شكوك مبدأ الشكوكيّة حول إمكانيّة الحصول على المعرفة
من الإدراك؟
تتخذ الحجج الشكوكيّة في الفلسفة عموماً
(بل أظنّ دائماً) الشكل نفسه: فبغضّ النظر عن الأدلة (الدافع، التعليل، المسوّغ
الأساس.. إلخ) المتوافرة لديك للادّعاء بصحّة شيءٍ ما، وبغضّ النظر عن مدى اكتمال
أساسِك المعرفي المبرّر لهذا الادّعاء، فمن الممكن دائماً أن تكون مخطئاً (يجادل
هيوم، وهو أكثر الشكوكيّين تطرّفاً، بأنك لا تمتلك أيّ دليلٍ في الحقيقة). هناك
دائماً فجوةٌ بين الدليل والاستنتاج. ومن ثمّ فأنت تظنّ أنك تمتلك دليلاً على أنّ
الشمس ستشرق من المشرق غداً (مشكلة الاستقراء). أو أنّ الآخرين واعون (مشكلة
العقول الأخرى)، أو أنّك تستطيع معرفة وجود الموضوعات عن طريق إدراكِها (مشكلة
الإدراك)، ولكن في كل حالةٍ قد يكون لديك دليل ممتاز ولا تزال على خطأ.
تجدر الإشارة إلى أنّ هناك مشكلة حقيقيّة
في التحديد الدقيق لطبيعة القاعدة المعرفيّة المفترضة. يمكن لكل واحد من المصطلحات
التي استخدمتُها: "الدليل"، "التعليل"، "المسوّغ"،
"الأساس"، وغيرها، أن يكون مضلِّلاً لأنّ كلاً منها يُلزِمنا بطريقة
معيّنة للنظر إلى هذه المسألة. إنني على ثقةٍ بأنّه من الخطأ أن تظنّ أنني عندما
أنظر إلى هذه الطاولة فإن تجربتي البصريّة هي "دليل" على وجود طاولةٍ
هناك. ولكن ما هي إذاً الطريقة الصحيحة لوصف ذلك؟ يستخدم ماكدويل تعبير
"يسوّغ"، لكنه، باعتباره مجازاً قانونياً، قد يكون مضللاً أيضاً. ما
الطريقة الصحيحة الدقيقة لوصف العلاقة بين معايشتي لهذه التجربة البصرية ومعرفتي
بوجود طاولةٍ هنا؟ أعتقد أن ذلك يمثّل شكلاً من أشكال الهوّية. لا تعدو هذه
التجربة البصرية كونها حالةً تنطوي على العلم بوجود طاولةٍ هنا. لكنّ ذلك قد يكون
خادعاً؛ لأنني قد أعايش تجربةً مشابهةً لتلك التجربة تماماً ولا أعرف بوجود طاولةٍ
هناك. قد تكون الفينومينولوجيا متماثلةً تماماً في حالتين، إحداهما جيّدة والأخرى
سيّئة. تؤدي هذه الحقيقة إلى الشكوكيّة.
على افتراض أنّ هذا هو الشكل العام للحجة
الشكوكية، هل يرد تفسير الإدراك الذي طرحتُه في هذا الكتاب عليها بخصوص الإدراك؟
حسناً، يبدو الأمر كذلك من ناحيةٍ ما؛ لأنها تقول إننا لا نمتلك أساساً
استدلاليّاً يمكِننا أن نبنيَ عليه ادعاءاتِنا حول الموضوعات الموجودة في محيطنا.
وعلى العكس من ذلك، فنحن نرى ونلمس الموضوعات من حولنا مباشرةً.
ليس لديّ دليل على وجود مكتبٍ هناك، لكنّني
أستطيع أن أراه. وتعني رؤيته العلمَ أنه موجود. لا يختلف قولي إنني "أمتلك
أدلّة" على وجود مكتبٍ أمامي عن قول إنني "أمتلك أدلّةً" على أنّ
لديّ قدمين؛ فأنا أستشعرهما مباشرةً. يكمن الخطأ الكبير في اعتقاد أن الرؤية تقدم
"دليلاً" (أو أرضيّة أو مسوّغاً أو أساساً) لا تقدّمه، وهذه الأمثلة
كلها خاطئة. الرؤية وسيلة للمعرفة.
ومن ثَمّ فباستخدام نسخة الحجّة الشكوكيّة
التي ظلّت تلازمُنا عدّة قرون، سنمتلك نوعاً من الإجابة عنها. تقول حجّة مبدأ
الشكوكية إن كل ما يمكنك إدراكه على الإطلاق هو تجاربك الخاصة، لذلك كيف يمكنك أن
تعرف وجود حقيقة على الجانب الآخر من تلك التجارب؟ وفقاً لتفسير الإدراك الذي
طرحته على هذه الصفحات، فإن علاقة الإدراك تتعلّق بالتصوير المباشرز ليست لدينا
أدلّةٌ أو استنتاجات، فنحن نرى الموضوعات والظروف المحيطة بنا بصورةٍ مباشرة. ومن
هنا فإن شكل الشكوكيّة الذي ابتلي به الفلسفة الكلاسيكيون ـ ديكارت، ولوك، وبركلي،
وهيوم، وكانط.. إلخ ـ لا يصيب هذا التفسير. بشكل عام، كان لديهم خيار بين
النظريةالتمثيلية التي اعتمدها لوك وديكارت، والتي تقول إنك لا ترى الموضوعات بل
مجرد تمثيل للموضوعات، وبين الظاهراتيّة أو المثاليّة التي اعتمدها بيركلي
وخلفاؤه. هناك تنتفي مشكلة الشكوكية؛ لأنه لا يوجد تمييز بين الدليل والاستنتاج.
إن البيانات الحسّية التي تراها هي الموضوعات التي تراها بالذات. تمثّل هذه حجة
قياسيّةً للمثالية بأيّ شكلٍ من أشكالها. ينتفي التمييز بين الدليل والواقع إذا
كانت الحقيقة الوحيدة هي الدليل في واقع الأمر.
هل ردّي على الشكوكيّة مُرضٍ؟ حسناً، من
الواضح أنه ليس كذلك معنى ما؛ لأنه لا يزوّدنا بأيّ طريقة لمعرفة ما إذا كنّا أو
لم نكن في حالةٍ إدراكيّة فعليّة، أم إننا نعايش هلوسةً غيرَ قابلةٍ للتمييز. لكنّ
شكل الشكوكية الذي يتبقّى لنا له أبعادٌ مختلفة. لا يتعلق الأمر بعدم وجود أدلّةٍ
كافيةٍ من حيث المبدأ؛ فقد انتفت مسألة الأدلّة تماماً. لست في حاجةٍ إلى أيّ
أدلّلة على وجود طاولةٍ هناك، فبوسعي أن أراها.
يمكننا مقارنة ذلك الردّ على لاشكوكيّة
المتعلّق بإدراك الموضوعات المادّية بمناقشة فيتغنشتاين للشكوكيّة المتعلّقة
بالعقول الأخرى. يشير فيتغنشتاين إلى أننا في حاجةٍ إلى التمييز بين
"المعايير" و"الأعراض". إذا رأيتُ رجلاً ممسكاً بجانبه، ويُظهر
وجهُه حركةً إجفاليةً طفيفة، فقد أستنتجُ أن لديه ألماً في جانبه؛ فهو يُظهر
أعراضَ استشعار الألم. لكنني إذا رأيت رجلاً دهسته سيارةٌ وكنت أستطيع أن أرى
ساقَه عالقةً تحت السيارة وهو يصرخ من الألم، فإن ما ألاحظه في هذه الحالة ليس
أعراض الألم؛ بل إن هذا، كما يقول فيتغنشتاين، هو موقفٌ نصِفُ فيه الرجلَ بأنه
"يعايش الألم". يمكننا الان أن نخطئ الفهم في كلتا الحالتين. قد يكون في
حالة الأعراض أنّ الرجل لم يكن في الحقيقة يُظهر الألم، وقد يكون الأمر في حالة
المعايير أن الحدث كلّه كان جزءاً من فيلمٍ سينمائيّ، وأنهم كانوا يمثّلون حالةَ
رجلٍ يعايش الألم. لكن من المهمّ في الحالى الثانية أن نرى أنّ ما يجري تمثيله هو
على وجه التحديد "رجلٌ يعايش الألم". وهذا يعني، في هذه الحالة، وكما
صاغها فيتغنشتاين، أنّ اللعبة اللغويّة لإسناد الألم هي أنّ هذه حالة من المنطقي
أن نطلق عليها اسم الألم لأنّ المعايير قد أُشبِعت؛ وحتى في الحالات التي نكون
فيها مخطئين، فإن الإسناد الخاطئ يعود، إذا جاز التعبير، على طبيعة الألم ذاتها.
على رغم أنّ هذا لا ينفي إمكانيّة ارتياب
الشكوكيّين، فهو يمكّننا من رؤية المشكلة برمّتها على هيئةٍ مختلفة. يريدنا
المتشكّك التقليدي في العقول الأخرى أن نعتقد أنه لم يكن لدينا ما يكفي من الأدلة،
كما يقول فيتغنشتاين إنك إذا ميّزت بوضوح بين الأعراض (أي الأدلّة) والمعايير،
فسيمكنك من استخدام هذه الكلمة في الحالة المعاييرية، على رغم أنه لا يوجد أيّ
ضمان ذاتيّ بخصوص المعايير. فقد نستخدمُ الكلمة في الحالة المعاييرية ونظل مخطئين
لسببٍ ما، مثل أن يكون هناك مشهدٌ سينمائيّ جارٍ تمثيلُه. والآن، بتطبيق هذا الدرس
على حالة الرؤية، فكما يمكننا القول: "هذه هي الحالة التي نسمّيها "رجلٌ
يعايش الألم"، يمكننا القول أيضاً: "هذه هي الحالة التي نسمّيها
"رؤية مكتب أمامي".
قد أكون مخطئاً، بطبيعة الحال، لكن بُعد dimension الخطأ يختلف عن غياب الأدلة أو عدم كفاية الأدلة. ومن ثَمّ فإن
النتيجة هي أنّه، على افتراض أنّ فيتغنشتاين محقٌّ بشأن حالة الألم، وعلى افتراض
أنني محقٌ بشأن إدراك الموضوعات، ففي كلتا الحالتين لا يزال من الممكن إثارة
ارتياب الشكوكيّين. لكن الارتياب الشكوكي له بُعدٌ مختلف عن ذلك الذي يطرحه علينا
المتشككون الكلاسيكيّون. لا يتمثّل هذا البُعد في غياب الأدلّة أو عدم كفايتها، بل
هو بُعدٌ مختلف تماماً من الخطأ.
ثانياً: الظاهراتيّة،
والمثاليّة، والنظريّة التمثيليّة للإدراك:
يكمن أحد الفروق الأساسيّة بين الفلاسفة
وأنواع الفلسفة، وربما كان الفرق الأكثر أهمّية، في إجابتهم عن السؤال المتعلّق
بما يعتبره الفيلسوف المستوى الأدنى أنطولوجياً. يعني هذا، بالنسبة إلى فيلسوف
مستعدٍّ لاستنتاج الآثار المترتّبة على موقفه الفلسفي، أنّ هناك إجابةً عن السؤال:
"ما الذي، إن وجِد، ينبغي تفسير كلّ شيءٍ آخر من حيث علاقتُه به، لكن الذي
ليست هناك حاجةٌ إلى تفسيره هو نفسُه من حيث علاقتُه بأيِّ شيءٍ آخر؟".
بموجب التفسير الذي طرحته عليكم في هذا
الكتاب، من الواضح أن المستوى الأدنى هو العالم كما تصفه الفيزياء الذرّية. لا
يرجع هذا إلى أنّ لديّ تفضيلاً خاصاً لمرحلة بعينها من العلوم الطبيعية؛ فعلى
العكس من ذلك، فإنني أفترض أنها ستستمرّ في التغيّر والتطوّر. لكنني أعتقد أنه
نتيجةً لتزايد المعرفة على مدى الثلاثمائة سنة الماضية، فإنّ ما نسمّيه على نحوٍ
مضلّل "الاستقصاء العلمي" يمكننا أن نستنتج بسهولة أنّ العالم المعروف
يتألّف من كيانات نجد أنه من المناسب أن نطلق عليها اسم "الجسيمات
المادّية"، على رغم أنّ ذلك ليس دقيقاً تماماً. توجد هذه الجزيئات في حقول
للقوّة، وتترتّب في أنظمةٍ، حيث تتحدّد حدود الأنظمة عن طريق العلاقات السببيّة.
تشمل أمثلة الأنظمة جيئات الماء، والرضّع،
والدول القوميّة، والمجرّات.
عليَّ أن أعترف بشعوري بالارتباك تجاه
المادة المظلمة والطاقة المظلمة. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن ارتباكي لا يشبه من قريبٍ
أو من بعيد ارتباك الفيزيائيّين وعلماء الكونيّات. فعندما يقولون
"مظلمة"، فهم لا يتحدّثون عن اللون بل عن جهلهم هم. عندما ذكرتُ
"العالم المعروف" أعلاه، تعمّدت استبعاد المادة المظلمة والطاقة
المظلمة. عليّ أن أترك للفيزيائيّين مهمة اكتشاف طبيعة هذه الظواهر.
وعلى أيّ حال، يتّضح من التفسير الذي أطرحه
عليكم أن التفسير يبلغ أدنى مستوى له فيما أعتقد أنه العالم الحقيقي الموجود
بطريقة مستقلّة تماماً عن المراقب، والموضوعية أنطولوجيا. من بين مهام الفلسفة شرح
بنية هذه الأنظمة الرفيعة المستوى، وكيف تصل إلى المستويات الأدنى وصولاً إلى
كيانات الفيزياء الذرّية.
في تاريخ الفلسفة على مدى القرون الثلاثة
الماضية، لم يكن الادعاء بأن الأنطولوجيا تصل إلى أدنى مستوياتها في الفيزياء هو
الرأي السائد دائماً.
في الواقع، إنّ الحجّة السيّئة كانت بالغة
التأثير لفترةٍ طويلة بحيث أدّت إلى شكلين من توسيع نطاق الحجّة السيّئة، ولكليهما
حقيقةٌ مطلقة تبلغ أدنى مستوى لها في الشخصانية. يتمثّل أحد الشكلين في تقاليد
المثاليّة التي تقول إنّ الواقع مثاليٌّ في نهاية المطاف؛ أيّ إنه يتألّف من
الظواهر الروحية التي تسمّى تقنيّاً "أفكاراً". فالفيزياء، وفقاً لهيغل،
ليست هي القول الفصل. وعلى العكس من ذلك، فالفيزياء هي مجرّد تعبير سطحي عن شيءٍ
أكثر أساسيّةً بكثير، وهو أنطولوجيّة العقل. أعتقد أنّ هذه المثاليّة لا تزال
باقيةً بصوَرٍ مختلفة في فينومينولوجية القرن العشرين، وتحديداً في كتابات هايدغر
وهوسّرل وميرلو ـ بونتي.
تأتي المثاليّة في العديد من الأشكال المختلفة. أمتلك فهماً جيداً على نحوٍ معقول
لمثاليّة بيركلي. فقد تربّينا جميعاً عليها، بصورةٍ ما، في تقاليدِنا الفلسفية.
وعلى الرغم أنني لا أفهم المثاليّة
الهيغليّة فهماً جيّداً بما يكفي لتكوين رأيٍ ذكيٍّ عن تفاصيلها، لكنّني أعتقد
أنّني أفهمها جيّداً على وجه العموم بما يكفي لرفض أسسِها المثاليّة. يعني هذا أنّ
التفاصيل المعيّنة للشكل الهيغلي من المثاليّة تبدو لي شديدة الغموض، لكن رفض
الجسيمات المادّية باعتبارها المستوى الأدنى من الأنطولوجيا، في اعتقادي، يبدو
واضحاً للغاية في المثاليّة الألمانيّة. ليس لديَّ مزيدٌ لأقوله عن هذا الموضوع،
لأنني، كما أسلفت، لا أفهمه بالتفصيل.
ثمّة تقليدٌ آخر، وهو الذي له نكهةٌ مختلفة
تماماً على السطح، لنه يبدو لي أنه يرتكب الخطأ نفسه بالتحديد، هو الفرع الظاهراتي
من التقليد التجريبي. وفقاً للظاهراتية التجريبيّة، وهي التي تتمثّل في الوضعيّة
المنطقيّة. يتمثّل المستوى الأدنى لكلّ شيءٍ في نهاية المطاف في التحقّق، حيث
يتألف التحقّق التجريبي من إدراك البيانات الحسّية. أعتقد أنّ الوضعيّين كانوا
سينكرون أنّ البيانات الحسّية، من منظورهم، هي المستوى الأدنى من الأنطولوجيا. وعلى
العكس من ذلك، كانوا سيصرّون على أنهم يتقبّلون الأنطولوجيا النهائية للفيزياء
النووية، لكنهم سيصرّون أيضاً على أنّ مهمة الفيلسوف تتمثل في توضيح معاني هذه
الادّعاءات. عند تحليل معنى بيانات الفيزياء الذرّية، أو أيّ بيان نجريبي على
الإطلاق، فلا بدّ من أن يتمثّل مستواه الأدنى في البيانات الحسّية، وإلا فسيكون
بلا معنى. وفقاً لتفسير الوضعيّين، فمعنى البيان هو أسلوبه في التحقّق، ويُتَحقّق
من البيانات التجريبية عن طريق التجربة، أي من خلال البيانات الحسّية. سأذكر مزيداً
عن هذه القضايا لاحقاً.
من المثير للسخرية أنّ هذين التقليدين،
المثالية والظاهراتية، على رغم كونهما شديديّ الاختلاف من الناحية السطحية، يعارض
أحدهم الآخر أيديولوجياً، فإنهما يرتكبان الخطأ نفسه في الواقع، كما أن الخطأ
يستند إلى الحجّة السيّئة في كلتا الحالتين.
ثمّة تعبير آخر عن الرغبة الكامنة نفسها
التي ذكرتها في جميع أجزاء الكتاب، وهي النظرية التمثيلية للإدراك. يتسم نقد
النظرية التمثيلية ببساطة النسبيّة، لذلك دعونا نبدأ به.
ثالثاً: دحض النظرية
التمثيلية للإدراك:
وفقاً للنظريّة التمثيليّة، نحن لا ندرك
الموضوعات بصورةٍ مباشرة في الواقع؛ وبدلاً من ذلك فنحن ندرِك البيانات الحسّية،
ويمكننا الحصول على معرفةٍ بالموضوعات من هذه البيانات الحسّية لأنها تشبه
الموضوعات التي تسبّبها من بعض الجوانب. يأتي التمثيل عن طريق التشابه. لذلك،
عندما أنظر إلى الطاولة الخضراء، يجري تمثيل شكل وحجم الطاولة في تجربتي، كما أنّ
للطاولة شكلاً وحجماً بالفعل. إنّ التشابه بين البيانات الحسّية والطاولة نفسِها
يتيح لي الحصول على معرفةٍ بالطاولة من خلال تجاربي.
في الصيغ القياسيّة من النظريّة
التمثيليّة، كما توجد على سبيل المثال في كتابات ديكارت ولوك، لا تشبه جميع تجاربي
الخصائص الفعليّة للطاولة. فاللون هو أحد خصائص تجربتي، ولكن ليس من خصائص الطاولة
نفسِها. تتألّف الطاولة نفسُها من جزيئات عديمة اللون. تقليديّاً، يميّز أتباع
النظريّة التمثيليّة بين الصفات الأساسيّة للحجم والشكل والسرعة والحركة والعدد من
ناحية، والصفات الثانوية للّون والطعم والصوت والرائحة، من الناحية الأخرى. تتمثّل
النظرية، وفقاً للوك، في أنّ الصفات الثانوية ليست حقاً صفاتٍ للموضوع، لكنّها
ليست سوى "قوى" للصفات الأساسيّة، والتي تُحدِث فينا بعض التجارب. ولذلك
فوفقاً لهذه النظريّة، فإنّ الألوان، على سبيل المثال، هي نوعٌ من الوهم المنهجي. ليست
الموضوعات ملوّنة حقّاً، لكنّ جهازَنا العصبي منظَّم بحيث نحصل على وهم اللون.
جاء الاعتراض الحاسم على النظرية التمثيلية
بالفعل من قِبل بيركلي، عندما قال إن الأفكار لا يمكنها أن تتشابه إلا مع أفكارٍ
أخرى. ما كان يعنيه بذلك، في هذا السياق، هو أنّ أفكارَنا الإدراكيّة عن موضوعٍ ما
لا يمكنها مطلقاً أن تشبه الموضوع نفسَه؛ لأنّ الموضوع غيرُ مرئيّ تماماً، ولا
يمكن الوصول إليه إلا عبر الحواسّ. لا توجد وسيلةٌ يمكن بها للأفكار التي نسيتطيع
إدراكَها أن تشبه (أو تبدو مثل، أو تكون مشابهةً بوضوح) الخصائص الفعليّة للموضوعات
لأن الموضوعات، بحكم تعريفها، يتعذّر الوصول إليها من قِبل حواسّنا. يبدو الأمر
كأنّي قلت إنّ هناك سيارتين في مرآبي، وهما تبدوان متشابهتين تماماً، باستثناء إنّ
إحداهما غير مرئيّة تماماً. يفترض مفهوم "تبدو مثل" أنّ كلتيهما مرئية،
لكن النظرية التمثيليّة ترى أنّ إحداهما ليست كذلك. ما أهمّية ذلك؟ لأن شكلَ
التمثيل المعني يستلزم التشابه. علينا التفكير في الأفكار كأنها صور للموضوعات،
لكنّ العلاقة التصويريّة لا معنى لها إذا كان الموضوع المراد تصويره غيرَ مرئيّ. أظن
أنّ هذا يمثّل دحضاً حاسماً للنظريّة التمثيلية، ولم أتمكّن مطلقاً من أخذ تلك
النظريّة على محمل الجِدّ.
رابعاً: دحض
الظاهراتيّة:
للظاهراتيّة تقاليد عريقةٌ، وهي غير قابلةٍ
للتصديق لدرجةِ أنّه يصعب عليّ أن أفهم كيف أمكن لكثيرٍ من الفلاسفة الألمعيّين
أخذها على محمل الجِدّ فترةً طويلة. تتمثّل الفكرة في أنّ كلَّ ما ندركُه هو
بيانات حسّية، لكنّ هذا هو كل ما يوجد في العالم على أيّ حال، أيّ البيانات
الحسّية الفعليّة التي ندركها والبيانات الحسّية المحتملة التي يمكننا أن ندركَها.
ومن ثَمّ، فوفقاً لهذا التفسير يمكننا أن نقول إنّ هناك شجرةً في باحة الكلّية في
حين أنه لا يوجد أحدٌ هناك ليدركَها؛ لأننا إذا توجّهنا إلى باحة الكلّية فسندرك
البيانات الحسّية ذات الصلة. ولذلك لا يلزم أن تكون البيانات الحسّية فعليّة؛ فمن
الممكن أن تكون محتملة. في أوج انتشار الفلسفة اللغوية، صيغت هذه في "أسلوب
شكليّ" بقول أيّ بيان عن الموضوعات المادّية، بل أيّ بيان عملي على الإطلاق،
يمكن أن يترجم إلى بيان أو مجموعةٍ من البيانات حول البيانات الحسّية، ويمكن لتلك
البيانات أن تكون قاطعةً categorical (أرى الآن كذا وكذا من البيانات الحسّية)، أو
افتراضيّة hypothetical (إذا أدّيت كذا وكذا من
العمليّات، فسأدرك كذا وكذا من البيانات الحسّية).
هناك كثيرٌ من
الاعتراضات على هذه النظرية لدرجة أنّ المرء لا يعرف من أين يبدأ في دحضها، لكنّ
المشكلة الأساس هي أنها تختزل أنطولوجيا العالم العام الموضوعي أنطولوجيّاً إلى
مجموعة من الظواهر الشخصانية أنطولوجياً. يتمثّل الهدف من التحليل الفلسفي للإدراك
في تحليل مفهومنا العادي والعلمي لما يعنيه الحديث عن إدراك موضوعات وظروف العالم،
وينتج عن التحليل الظاهراتي ـ المثالي أنّ كل هذا الكلام يدور في الحقيقة حول
الشخصانية الأنطولوجية. لكنّ هيذا يعني أنه إذا كان المشروع متعلّقاً بتفسير الطرق
العاديّة لتفكيرِنا وحديثِنا، فإنه قد فشل. حسناً، ما الخطأ في القول إنه ذد فشل،
إنّ كلّ ما يوجد هو تجارب بالغة الخصوصيّة في ذهنك وفي أذهان الآخرين؟ يكمن الجواب
في أنّ هذا يؤدي إلى الأنانة (وحدة الأنا) solipsism.
اتضح الآن أنّ الظاهرة الوحيدة في العالم التي تعدّ منطقيّة بالنسبة إليّ، بحيث
يمكنني أن أتحدّث عنها، هي تجاربي الخاصّة. إذا كانت لديك تجارب، فلا يمكنني أن
أعرفها مطلقا؛ لأنني [لا] أستطيع معايشتها مطلقاً، وبالفعل، إذا كنتَ أنتَ
موجوداً، فلا بدّ من أنّه يمكن اختزالك إلى تجاربي. (سأذكر مزيداً عن هذا لاحقاً)
هناك عدد من
التفسيرات الأكاديمية القياسيّة لدحض الظاهراتيّة. لغرض الاكتمال، سأعرض
لاحقاً ملخّصات موجزة عن بعض الاعتراضات
القياسيّة. وعلى أيّ حال، لا بدّ لي من القول إنّ ما يزعجني حول الظاهراتيّة
والنظريّة التمثيليّة ليس بعض المشاكل التقنيّة المتعلّقة بهما، بل لاعقلانيتهما
المحضة. فمن عواقبهما أنك لا ترى في الواقع الموضوعات والظروف الموجودة بشكلٍ
مستقلّ في العالم؛ بل إنّ كلّ ما يمكنك أن تراه على الإطرق هو تجاربك الخاصة. لا يرجع
هذا إلى بعض القلق المعرفي الذي قد يعترينا ـ فقد نعاني الهلوسة، أو قد تغوينا
العفاريت الشريرة، أو أننا أدمغةٌ في أوعية.. إلخ ـ بل لأنه حتى لوكان كلّ شيءٍ
يسير على أكمل وجه، فكل ما تراه على الإطلاق هو تجاربك الخاصة. بالمعنى الدقيق
للكلمة، لا يمكنك حتى أن تقول إنّ ما تراه يدور في الرأس؛ لأنه يمكن اختزال الرأس بطبيعة
الحال إلى مجموعاتٍ من التجارب.
قبل انتقاد
الظاهراتية، من المهمّ محاولة استعادة الحماس الذي كان مقبولاً في العقود الوسطى
من القرن العشرين. لقد اعترضت عليها لأن أنطولوجيتها الأساس تصل إلى أدنى
مستوياتها في البيانات الحسّية الشخصانية أنطولوجيا بدلاً من الواقع المادي الغاشم
للفيزياء الذرّية.
لا بدّ من أنّ هذا
كان سيصدم الوضعيّين أنفسِهم، ولكانوا قد اعترضوا عليه. لقد ظنّوا أن الواقع يصل
إلى أدنى مستوياته في الفيزياء، لكنهم اعتقدوا أيضاً أنّ مهمّة الفيلسوف هي شرح ما
يعنيه ذلك. ولا بدّ من التصريح بما يعنيه ذلك بمفردات البرهنة verificationist لأنه، وفقاً لهم، يتحدّد معنى البيان ذاتِه
بأسلوبه في البرهنة. تتمثّل الطريقة التي يمكنك أن تبرهن بها البيانات المتعلّقة
بالفيزياء في إدراك البيانات الحسّية المناسبة. وبالتالي فليس الحال أنّ هناك
أنطولوجيّتين متنافستين: الأنطولوجيا المادّية وأنطولوجيا البيانات الحسّية. تتطلّب
الأنطولوجيا المادّية الأساسُ تحليلَ البيانات الحسّية لكي تكون ذات مغزى. ماذا عن
اعتراضي القائل غنّ هذا يمنحنا أنطولوجيا أساساً تكون، مثل المذهب المثالي، عقليّة
بحتة؟ قال الوضعيّون إنّ كلّ هذا الحديث عن "الأنطولوجيا الأساس" هو
مجرد ميتافيزيقا لا معنى لها.
لا تتمثّل
مهمّتُهم في الردّ على أسئلةٍ لا معنى لها حول الطبيعة المطلقة للواقع، بل في
تحليل معنى الادعاءات التجريبيّة (ألأمبيريقية). تنقسم الادّعاءات المتعلّقة
بالعالم إلى نوعين اثنين، النوع التجريبي الاصطناعي، والنوع المنطقي التحليلي. من ناحية،
لدينا العلوم ومعظم أوجه الحسّ السليم العادي، ومن ناحيةٍ أخرى، لدينا المنطق،
والرياضيات، والإطناب؛ وكلّ ما عدا ذلك لا معنى له. ومن هاتين الفئتين من
الادّعاءات، نجد أنّ الفئة التجريبيّة، والعلوم والحسّ السليم، تنطوي على معنى
يتطلّب تحليلاً فلسفياً من حيث البياناتُ الحسّية. يفضّل الظاهراتيّون صياغة هذه
النقطة في النمط الشكلي: من الممكن تحليل أيّ بيان تجريبي إلى مجموعات من البيانات
حول البيانات الحسّية، وهي متكافئة في المعنى. قد يكون الحال، من حيث المبدأ، أنّ مجموعةَ
البيانات الحسّية يجب أن تكون طويلة بصورةٍ غير متناهية، لكن يمكننا ذكر المبادئ
النظرية التي بنيت عليها البيانات، بحيث لا يتبقّى أيّ ميتافيزيقا غير ذات مغزى.
الآن، كيف يمكنني
الإجابة عن الوضعيّين بموجب تفسيهم هذا؟ أعتقد أنك لا تستطيع تجنّب تهمة اعتماد
الأنطولوجيا الشخصانية بمجرّد التحول إلى نمط لغوي أو غير شكلي للحديث.
عليك أن تسأل
نفسَك، إلام ترمز هذه التعبيرات في الصياغات اللغوية؟ ما الذي ينطوي عليه كل هذا؟
عندما تقول إنه يمكن تحليل أيّ بيانٍ تجريبي إلى مجموعةٍ من التفسيرات المتعلّقة
بالبيانات الحسّية، فنتيجة ذلك هي أنّ أيّ حقيقة تجريبيّة تساوي الكثير من الحقائق
الموضوعية أنطولوجياً حول التجارب الشخصانية، ولا بدّ من أن توجد هذه التجارب
الشخصانية دائماً في عقول بعض البشر المنفردين. لست أرى كيف يمكن للظاهراتيّين
تجنّب الاتهام القائل بكون اعتقادهم أنانياّ ضمناً. يبدو لي أنّ هذا هو الاعتراض
الحاسم على التحليل الظاهراتي. تُنبَذ الأنطولوجيا الموضوعيّة للعالم الحقيقي لمصلحة
الأنطولوجيا الشخصانية للبيانات الحسّية. ولأنّ البيانات الحسّية غير موضوعيّة
أنطولوجيّاً، فهي توجد دائماً في عقول البشر المنفردين. لكنّ هذا يعني أنّني لا
أمتلك أيّ وصولٍ إلى بياناتك الحسّية وليس لديك وصولٌ إلى بياناتي. إذا كان معنى
تعبير ما يمثّل طريقةً للبرهنة، حيث تختزل طريقة البرهنة جميع بياناتي التجريبيّة
حول تجاربي، فإنّ معنى تلك التعبيرات يكون أنانياّ. تمثل الأنانة برهان النقيض لأي
نظرية، وتنطوي هذه النظرية على الأنانة.
كان هناك العديد
من الاعتراضات التقنية على الظاهراتية، وسأناقش اثنين منها. أولاً، إذا حاولت
تحديد العناصر الشرطية للتعبيرات الافتراضية المشروطة التي يُفترَض أن توفّر
التحليل الظاهراتي للتعبيرات التجريبيّة، فستجد أنه سيتعيّن عليك دائماً أن تشير
إلى موضوعات مادّية؛ ومن ثم لم ينجح التحليل في اختزال التعبيرات المتعلقة
بالموضوعات المادّية إلى تعبيرات متعلقة بالبيانات الحسية. إذا أردنا توصيل معنى
العبارة: "هناك شجرة في باحة الكلّية، وهي التي لا يَنظر إليها أحدٌ
الآن" عن طريق العبارة" "إذا ذهبنا إلى باحة الكلّية فسنرى
البيانات الحسّية لشجرة" ستواجهنا مشكلة؛ لأنه ينبغي علينا الإشارة إلى
الموضوعات المادّية من أجل إعداد موقف افتراضي. كان علينا أن نشير إلى أجسادنا
وإلى باحة الكلّية والتي هي، حتلى الآن، لم تُحلّل.
ثمّة اعتراضٌ
ثانٍ، وهو أنه لا يبدو أنه سيمكنك الحصول على تحليلٍ كاف؛ لأنه يحتمل تأكيد أحد
جانبيّ الثنائيّة المشروطة وإنكار الجانب الآخر من دون أن تناقض نفسك. من الممكن
دائماً أن نقول بوجود البيانات الحسّية، ولكن، مع ذلك، ليس هناك موضوع؛ أو أن نقول
بوجود موضوع، ولكن، مع ذلك، لا توجد بيانات حسّية.
عند التعامل مع
هذه الصعوبة، ذكر بعض الظاهراتيّين أنّ مجموعة البيانات التي قدمت التحليل
الظاهراتي قد تكون لامحدودة في عددها، لكنّ هذا لا يبدو اعتراضاً عليها لأنّ فكرة
وجود موضوعٍ مادّي قد تكون، كما اقترح جون ستيوارت مل، هي بالضبط فكرة وجود
مجموعةٍ لانهائيّة من التجارب الحسّية المحتملة.
لن أخوض في كثيرٍ
من النتفاصيل حول هذه الاعتراضات لأنّ الاعتراض الحقيقي، كما قلت سابقاً، ليس
مجرّد صعوبةٍ تقنيّة. يتمثّل الاعتراض الحقيقي في أنّ النظرية تبدو غير كافيةٍ فقط
بالنسبة إلى تجاربنا. ثمّة حقيقةٌ حول تجاربنا، وهي وصولُها المباشر إلى الموضوعات
والظروف القائمة بشكلٍ مستقلّ في العالم. وعلاوةً على ذلك، فإن الموضوع والظروف
التي يصل غليها توجد في عالم متاحٍ للجميع: فأنا وأنت نرى الموضوع نفسه بالضبط. لاي
مكن استيعاب أيٍّ من هذين الادّعاءين في إطار التقليد الظاهراتي. فمن منظورهم، كل
ما نراه على الإطلاق هو بيانات حسّية، والبيانات الحسّية خصوصيةٌ في جوهرها.
يمكنك أن ترى هذه
الصعوبات على نحوٍ صارخٍ إذا فكّرتَ في الشروط اللازمة للتواصل بلغةٍ عامة. كيف يمكن،
من وجهة النظر الظاهراتيّة، أن نتواصل أصلاً؟ كيف يمكننا أن نقول شيئاً عن عالم
مشترك؟ يعتقد الظاهراتي أنّ اللغة العامة التي يمكننا التواصل عبرها بعضُنا مع
بعض، والتي يُعبَّر بها عن حقائقنا العلمية، تأتي مجّاناً، إذا جاز التعبير. يمكننا
ببساطة أن نفترض وجودَها، وأن نفترض كيفيّة ارتباطها بالشخص الغيبي التجريبي
بداخلنا. لكنّني أودّ أن أجادل هنا بأنّ اللغة العامة تفترض عالماً عامّاً، ويبدو
أنّ الظاهراتي، بإنكاره الوجود عالمٍ عام، يدعنا من دون لغةٍ عامة. استخدم الظاهراتيون
طرقاً مختلفة للتعامل مع هذا. ذات مرّة، قال كارناتب، بالمعنى الدقيق للكلمة: إن
المضمون الشخصاني لأقوالينا يتعذّر إبلاغه، لكن بإمكاننا توصيل هيكل موضوعي مشترك.
من الصعب أن نرى كيف يعمل هذا على حلّ الأزمة. وعليه فإنّ اعتراضي على جميع هذه
النظريات المرتكزة على الحجّة السيّئة هو أنها تتركنا بتصوّر غير معقول لعلاقتنا
بالعالم.
خامساً: النظريات الكلاسيكيّة والمشكلة الفلسفيّة للإدراك:
من أهمّ
الاعتراضات على النظريات الكلاسيكيّة للإدراك، وهي النظريات التي تستند إلى
استنتاجات الحجّة السيّئة، هو أنها لا تفشل في تزويدنا بتفسيرٍ صحيح للإدراك فقطن
بل تجعل من المستحيل حتى أن نطرح واحداً من أهمّ الأسئلة حول الإدراك. وهذا السؤال
هو: كيف يمكن للخصائص المحدّدة للتجربة الإدراكيّة أن تحدّد شروط الإشباع كما
تفعل: الآن، لماذا تجعل تلك النظريات من المستحيل عمل ذلك؟ تقول النظرية
التمثيليّة إن الطريقة التي تحدّد بها التجربة شرط الإشباع تعمل بواسطة التشابه. إن
التشابه بين التجربة الإدراكيّة والموضوع في العالم يمكّن التجربة الإدراكيّة من
تمثيل الموضوع. والتجربة الإدراكيّة هي نوعٌ من الصور، أو فكرة تدور في الرأس،
وتلك الصورة أو الفكرة تشبه في الحقيقة الموضوعات والظروف في العالم. لقد رأينا
أنه لا يمكن خلع أي معنى على فكرة التشابه عندما يكون أحد شروط علاقة الشبه، بحكم
التعريف، غير مرئيّ. ومن هنا فإن السؤال لا يُطرح بشكلٍ كافٍ من قِبل النظرية
التمثيليّة. أما النظرية الظاهراتيّة فهي أسوأ منها. في النظرية الظاهراتيّة لا
يتعلّق أيُّ شيءٍ بالموضوع باستثناء تعاقب تجاربنا؛ فالموضوعات ليست سوى
"مجموعاتٍ من الأفكار"، على حدّ قول باركلي. من المنظور الظاهراتي، يمكن
أن يترجم أيّ بيان عن موضوع ما، بل أيّ بيان عملي على الإطلاق، إلى مجموعةٍ من
البيانات المتعلّقة بالبيانات الحسّية، التي تتسم بأنها، من الناحية الأنطولوجية،
شخصانيّة. لا يوجد أيُّ موضوعٍ على الجانب الآخر من البيانات الحسّية؛ فالبيانات
الحسّية هي السبب الحقيقي لتحليل الموضوعات. لكنّ كلّ هذه النظريات تجعل طرح ما
أعتبره السؤال المحوري: "كيف تحدّد الفينومينولوجيا الخام لتجربتنا شروط
الإشباع بحيث تكون التجارب تصويرات للموضوعات والظروف في العالم الموضوعي
أنطولوجيا؟" من المستحيل. [أو: مستحيلاً]
سادساً: الصفات الأوّليّة والثانويّة:
ثمّة تمييز تقليدي
في نظرية الإدراك، وهو الذي يحدث بين الصفات الأوّلية والثانويّة. ظهر البيان
الكلاسيكي في مقال لوك، على رغم أنّ لوك لم يخترع هذا التمييز. إن الصفات
الأساسيّة "لا تنفصل مطلقاً عن الجسد أيّاً كانت حالته". ويقول إنّ هذه
"الخصائص الرئيسة للموضوعات نفسها تمتلك القدرة على أن تُنتِج فينا أفكاراً
بسيطة، ألا وهي الصلابة، والإرشاد، والشكل والحركة أو الراحة، العدد". الصفات
الثانويّة "لا تمثّل شيئاً في الموضوعات نفسِها، لكنّها قوى لإنتاج الأحاسيس
المختلفة فينا بواسطة صفاتها الأساس"، ويقول إنها "الألوان، والأصوات،
والذوق.. إلخ". معرفيّاً، يكتسب التمييز أهمّيةً حاسمةً بالنسبة إلى لوك لأنّ
الأفكار المتعلّقة بالصفات الأساسيّة هي تشابهات فعليّة. ويقول إنّ:
"الأفكار المتعلّقة
بالصفات الأساسيّة للأجسام هي تشابهات لها، وتوجد أنماطها بالفعل في الأجسام
نفسها؛ لكنّ الأفكار التي تُنتِجها فينا هذه الصفات الثانوية لا تشبهها على
الإطلاق. ليس هناك وجودٌ لأفكارنا في الأجسام نفسِها. فما هي، في الأجسام التي
نشتق أسماءها منها، إلا القدرة على إنتاج تلك الأحاسيس فينا؛ وما هو حلو، أو أزر،
أو دافئ في فكرةٍما، ما هو إلا كتلة، وشكل، وحركة الأجزاء عديمة الحسّ في الأجسام
نفسها، والتي نسمّيها هكذا."
في المصطلحات التي
طرحتُها في الفصل الأول، فيما يتعلّق بتفسير لوك، تكون الصفات الأساسيّة مستقلّةً
عن المراقب والصفات الثانويّة متعلّقة بالمراقب. وهي تختلف عن الصفات المتعلقة
بالمراقب التي ناقشناها لأنها لا تعتمد على أيّ نشاط للفاعلين؛ بخلاف المال
والحكومات، والتي لم يصنعها السلوك القصدي البشري. لكنّ تأثير توليفة الصفات
الأوّلية في أعضائنا الحسّية، بدلاً من ذلك، هو ما يعطينا الأفكار المتعلّقة
بالصفات الثانويّة.
إنّ مما قد يجعلنا
متوتّرين قليلاً هو أنّ السلطات لا تتفق على قائمةٍ موحّدة، لكنه ليس من الصعب
بناء قائمةٍ معقولة. الصفات الأساس هي شكل وحجم الجسم (وهو ما يسميه لوك الكتلة،
والحركة، والرقم). وهو يعني بالحركة ما إن كان الموضوع يتحرك أم لا، ويعني بالرقم
عدد الموضوعات الموجودة، أي موضوعاً واحداً أو موضوعين اثنين.. إلخ. أما الصفات
الثانويّة فمن السهل سردُها، وتشمل اللون، والرائحة، والصوت والذوق. أعتقد أنّه
كان يجب أن يُدرَج أيضاً "القوام" texture،
أي ملمس سطح الموضوع، كصفةٍ ثانويّة. أعتقد أنّ هذه صفةٌ ثانويّة من منظور لوك،
لكنّه يدرجها كصفةٍ أوّلية.
من الناحية
الأنطولوجية، يُعد هذا تمييزاً مهمّاً لأنه يبدو أنّ هناك معنى تكون فيه الصفات
الثانوية غير حقيقية. فهي، إذا جاز التعبير، أوهام منهجيّة تخلقها الصفات
الأوّلية. ليست الموضوعات في الحقيقة حمراء أو زرقاء، بل تمتلك توليفةً من
الجزيئات التي تعطينا انطباعاً بأنّ لونَها أحمر أو أزرق. ومن ثَمّ فإن عزو
الاحمرار والازرقاق قد يكون موضوعيّاً من الناحية المعرفية، على رغم أنّ الألوان
هي نفسها متعلقة بالمراقب. في مصطلحات لوك، فالألوان في الحقيقة هي مجرد
"قوى" للصفات الأساسية لكي تُنتج فينا التجارب التي نسمّيها التجارب
اللونيّة. في السنوات الأخيرة، أصبح من المألوف أن نرفض التمييز بين الصفات
الأولية والثانوية، لكنّني أعتقد أن لذلك مغزىً ما، وهو الذي أودّ أن أشرحه
بالتفصيل. إذا نظرت إلى قوائم الصفات الأوّلية والثانويّة، فستلاحظ العديد من
الأمور. أولاً، تنتج كل صفةٍ ثانوية عن حاسّة واحدة فقط. فالألوان تنتج من البصر،
والأصوات من السمع، الروائح من الشم، والأذواق من الذوق. يمكن الوصول إلى الصفات
الأوّلية بواسطة حاسّتين اثنتين، ودائماً الحاسّتان نفساهما، وهما البصر واللمس. لكلٍ
من الحوس الخمس التقليديّة، توجد صفةٌ ثانويةٌ واحدة، وواحدة فقط، باستثناء حاسة
اللمس. وهذا هو سبب اعتقادي أن القوام ينبغي أن يدرَج كصفةٍ ثانويّة، على رغم أنّ
لوك لم يدرجه كذلك. ما أهمّية أن يمكن الوصول إليها من قبل حاسّتين اثنتين؟ يكمن
الجواب في أنه جزء من مفهومنا لأي موضوعٍ مادّي أنه يمتكل هذه الصفات الأوّلية وأن
تعاملاتنا الأساسية مع الموضوعات المادّية تقوم على التنسيق بين البصر واللمس. عندما
يقول لوك إنها جزءٌ لا يتجزّأ من الموضوع في أيّ حالة قد يكون عليها، فهو يدرك هذه
النقطة المفاهيمية. ثمّة جزءٌ من مفهومنا لأيّ موضوعٍ مادّي ـ كرسي، طاولة، جبل،
كوكب ـ وهو أنه ينبغي أن يمتلك الصفات الأوّلية، لكن ليس جزءاً من مفهومنا للموضوع
أنه ينبغي أن تكون له رائحة معيّنة أو أن يصدر صوتاً معيّناً. قد تظنّ أن اللون
مختلف لأنّ جميع الموضوعات المادّية ملوّنة. ولكن حتى هذا لا يبدو أنه يمثّل جزءاً
من تعريف الموضوع المادّي. على رغم أنّ الشفافية المطلقة قد تكون بعيدة المنال، قد
لا يزال لديك موضوع ليس له لونٌ لأنه شفّافٌ تماماً. ولذلك هناك بعض الخصائص
الأساسيّة لهذا التمييز، وهي التي نجت من الانتقادات. وإحداها هي فكرة لوك بأنّ
الصفات الأوّلية تبدو ضروريّة لمفهوم الموضوع. والأخرى هي أنه يمكن الوصول إلى
الصفات الأساسيّة بالحاسّتين نفسيهما دائماً: البصر واللمس.
ولكن ماذا عن
تعلّق الصفات الثانوية بالمراقب مقابل استقلال الصفات الأساسية عنه؟ حسناً، إذا
كنتُ محقاً في تفسيري لكيفيّة تحديد خصائص العالم للمضمون القصدي، فإن هذا التمييز
ليس بالوضوح الذي كنّا نعتقده؛ لأنه على رغم أن الأحمر يعرّف جزئياً باعتباره
القدرة على تسبيب أنواع معيّنة من التجارب، فإنّ كون الشيء مستقيماً أو دائريّاً
يعرّف جزئياً باعتباره القدرة على تسبيب نوعٍ معيّن من التجارب يبدو حلم الحصول
على علاقةٍ متبادلة واحداً لواحد بين الألوان وبعض الأطوال الموجيّة محكوماً عليه
بالفشل. تكفي الأطوال الموجيّة المناسبة لإنتاج تجربة الأحمر، لكنها لا تبدو
ضرورية. يككن لكل أنواع الأطوال الموجيّة المختلفة، في ظلّ الظروف المناسبة، أن
تسبّب تجربة الأحمرز ولكن حتى مع ضمان عنصر القرب من المراقب في الخصائص
الإدراكيّة الأساسية، لا يزال هناك تباين بين الصفات الأوّلية والثانوية. يمكن للمرء
صياغة هذه النقطة بالقول إن الهندسة الأساسية للموضوع تتضح بصفةٍ خاصّةٍ في
العلاقات السببية بغيره من الموضوعات بطريقة لا تُظهرها الصفات الثانوية في
العلاقات السببية بالموضوعات الأخرى إلا عن طريق الصفات الأوّلية. إنّ حقيقةَ أنّ
لهذا الحجر ذلك الشكل تؤثر في علاقاته السببية بغيره من الموضوعات. سيتوافق حجمُه
مع بعض الأماكن، في حين أنه لن يتوافق مع غيرهاز لكنّ حقيقة أنّ هذا الحجر أحمرُ
لا تظهر بهذه الطريقة في علاقاته السببيّة لالموضوعات الأخرى.
يمكن للمرء أن
يعترض على ذلك بقوله إنها لا تظهر في العلاقات السببية: إنّ حقيقة كونه أحمرَ
تمكّنه من امتصاص الضوء بطريقةٍ تؤدي معها حقيقة كونه أبيضَ إلى تمكينه من امتصاص
قدرٍ أقلَّ من الضوء. لكنّ المرء يمكنه الرد على هذا الاعتراض، حسب راي أبتاع لوك،
بالقول إنه يمكن تعريف خصائص الانعكاس المادّي المحضة من حيث الصفاتُ الأساس. ليس للصفة
الفعليّة للّون أيُّ أهمّية؛ فما يُهمّ هو الطريقة التي يمتصّ بها الموضوع مجات
الضوء ويعكسها.
يتمثل استنتاجي
المتردد بعض الشيء في أنّ للتمييز مغزى، لكنه ليس ما كان يعنيه لوك تحديداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق