(٤) المِثالية المُطلقة Absolute Idealism
زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة
(٤-١)
هجل Hegel
إنَّ سلسلة التفكير التي سار فيها «كانْت»، ثم «فخته»، ثم «شلنج» قد
بلغَتْ ذروتها في فلسفة «هجل»، إذ تناولت عناصر الفكر المختلفة: الذات والشيء،
والفردية ووحدة الوجود — تلك العناصر التي عجز الفلاسفة السابقون عن التوفيق بينها
توفيقًا تامًّا — فصهرَتْها جميعًا في وحدةٍ مُتماسِكة، ولقد عمَد «هجل» في ما قام
به من توفيقٍ بين العناصر المُتعارضة إلى نَبذِ كل المبادئ التي قرَّرتْها الفلسفة
في تاريخها الماضي قائلًا إنها وإن تكن أمورًا لا بدَّ منها لوحدة الفكر، إلا أنها
ناقصة في حدِّ ذاتها.
ولقد وضع «هجل» نُصب عينَيه أن يتجنَّب ما وقع فيه سلفاه —
«فخته وشلنج» — من تطرُّف ومُغالاة، فالأول ذاتي مُسرِف، والثاني موضوعي مُسرف، فرأى «هجل» أن يُصحِّح خطأ الاثنين فيُوحِّد بين عُنصري المعرفة
اللذين تركهما «كانْت» دون أن يوفِّق بينهما، واللَّذَين تصدَّى للتوفيق بينهما
«فخته وشلنج» ففشلا؛ لأنَّ كلًّا منهما أراد أن يتخلَّص من الإشكال بمَحو أحد
العُنصرين، فأراد «هجل» أن يصِل بينهما في وحدةٍ ساميةٍ تؤلِّف بينهما في غير
تناقُضٍ ولا تضاد.
•••
وُلِد «جورج ولهلم فريدريك هجل» Gorge Wilhelm Friedrich Hegel في ستتجارت Stuttgart في ٢٧ أغسطس سنة
١٧٧٠م، أي قبل ميلاد «شلنج» بخمسة أعوام،
وكلاهما من أبناء «فرتمبرج» Wûrtmberg، ولقد عُرِف أهل ذلك الإقليم بالبساطة ومتانة الأخلاق. وعاش «هجل»
في عصرٍ شديد الاضطراب، غير أنَّ حياته الخاصَّة سارت في طريقٍ هادئ، فلم يحدُث
بها من جسام الحوادث ما يلفِت النظر، ولسْنا نعلم عن طفولته إلَّا قليلا، فقد درَس
في جامعة توبنجن Tûbngen، ولكنه لم يَمتَزْ فيها طالبًا، ولم
تبدُ عليه حينئذٍ علائم النبوغ، ولمَّا غادر توبنجن قصد برْن Berne وفرانكفورت Frankfort، وقضى بهما ستة أعوام
يشتغل بالتدريس، وكان خلال تلك الأعوام الستة يغترِف
العِلم من الكتُب بنهمٍ شديد، وبخاصةٍ في تاريخ الفكر اليوناني، وفي سنة
١٨٠١م ذهب إلى يينا ليقِف إلى جانب صديقه «شلنج» مُدافعًا عن وجهة نظرِه، حتى إنه
نشَر كتابًا أطلق عليه اسم «الفرْق بين فلسفتي فخته
وشلنج» أخذ يدافع فيه عن رأي «شلنج» ويدحَض فلسفة «فخته»، ولقد اتَّفَق مع «شلنج» في
سنة ١٨٠٢م أن يُعاوِنه في تحرير صحيفته النقدية في الفلسفة، التي أخذا يُعبِّران
فيها عن وجهتي نظرهما، وكانا حينئذٍ على أتمِّ اتِّفاق، فكلاهما يرى أنَّ الذات
والشيء يجِب أن يتَّحِدا في وحدةٍ أعلى، وألا يقتصر اتفاقهما على ما يكون
بينهما من انسجامٍ خارجي، ولكنَّ فرقًا بينهما في الرأي نشأ، ثُم أخذ يتَّسِع
تدريجيًّا، وذلك أنَّ «شلنج» ظلَّ مُتمسِّكًا بوجود نقطة عندَها يتلاشى الفرْق بين
الذات والشيء، وأما «هجل» فرأى أن الوحدة التي يجِب أن تضمَّ كلَّ شيءٍ ليست
مجرَّد حلقةٍ متوسِّطة بين الرُّوح من ناحية، والطبيعة من ناحيةٍ أخرى، بل هي وحدة
أعلى من الذات، وأعلى من الطبيعة في آنٍ واحد،. وبعبارةٍ أخرى خالَف «هجل»
«شلنج» في أنَّ الطبيعة لا ينبغي أن تُعدَّ وجودًا آخر إلى جانب العقل، ولكنها جزء
من حياة العقل نفسه.
وفي عام ١٨٠٥م عُيِّن «هجل» أستاذًا في يينا، ولكنه لم يلبَث أن فقَدَ
منصبه هذا بسبب الكارثة السياسية التي عصفتْ بألمانيا في ذلك الحين. وشاءت المصادفة أن يُكمل «هجل» كتابه المُسمَّى «عِلم تجسد
الروح» في نفس اليوم الذي دارتْ فيه رحى الحرب في يينا. ولقد كان ذلك
المؤلَّف أول كتابٍ من كتُبه الهامة؛ إذ وضَّح فيه معالم فلسفته الخاصة. ولا بدَّ
أن يكون صدور هذا الكتاب قد ساء «شلنج» وآلَمَه؛ لأنَّ
«هجل» أخذ يسخَر منه في مُقدِّمته سخرًا رقيقًا، وقد كان ذلك موقفًا فاصلًا بين الرفيقَين الصديقَين، وموضوع
هذا الكتاب الذي يكاد يكون على غموضه أروَعَ ما كتب «هجل» هو أن يُبرهن على أنَّ
الفكر بحُكم طبيعته الموروثة يطرأ عليه عدَّة تحوُّلات متعاقبة تنتقل به من
الإدراك العادي صاعدةً إلى موقف الفكر المجرد، وأنَّ الفكر وهو في طريقه إلى تلك
الغاية يرى بجلاءٍ أنَّ المراحل المتوسطة التي يجتازها أثناء السير ضرورية لا بدَّ
منها، لا باعتبارها مواقف يستريح فيها العقل أثناء رحلته، ولكن باعتبارها مراحل
ضروريةً في حدِّ ذاتها، بغيرها لا يتمُّ التطوُّر المطلوب.
وفي سنة ١٨١٦م عُين «هِجل» أستاذًا في هيدلبرج Heidelberg، ثُم دُعي إلى برلين بعد
ذلك بعامَين، فأخذ يفِد إليه من الطلاب أفواج، وكان أثرُه في طلَّابه هؤلاء قويًّا
عميقًا، وقد أخرج في سنة ١٨١٦م كتُبه في المنطق، ثم أصدر في سنة ١٨١٧م «موسوعة
العلوم الفلسفية» التي بسَط فيها فلسفته بصفةٍ عامة.
وكان «هِجِل» أثناء إقامته ببرلين يُحاضر في كل فرعٍ من
فروع الفلسفة: في تاريخ الفلسفة، وفي فلسفة التاريخ، وفي فلسفة الحقوق، وفي
فلسفتَي الفنِّ والدين، وقد نُشِرت محاضراته بعد موته مأخوذةً من مذكِّرات
طلَّابه، وجُمِعت مؤلَّفاته كلها في ثمانية عشر مُجلدًا، ولقد ظفر «هِجِل» في الفلسفة بمكانةٍ ممتازة، وهو لم يستمدَّ شهرته من
فصاحة الإلقاء وقوة الأسلوب كما كانت الحال في «فخته وشلنج»، بل كان — على النقيض
من ذلك — ثقيل اللسان، غامض العبارة، مُرتبِك الإلقاء، وإنما جذَب طلَّابه إليه
عاملٌ واحد، هو ما في تفكيره من قوَّةٍ وعُمق.
وبينا هو في ذروة مكانته وشهرته إذ فاجأه الموت بغتةً إثر
إصابته بالكوليرا، فأسلم الرُّوح في الرابع عشر من نوفمبر
سنة ١٨٣١م.
•••
كانت فلسفة «هجل» في أول مراحلها مُتصلة أشدَّ اتصالٍ بفلسفة «شلنج»
كما رأيْنا، ولكنه يعود فيرفض الطريقة التي اتَّبعَها «شلنج» في الوصول إلى فكرة
«المطلق»،١٠ إذ فرض «شلنج» وجود المطلق فرضًا دون أن يدرُسَه أو يُقيم على
وجوده الدليل، فلقد أخرج الفكرة بغتةً كما تطلَق «رصاصة من غدَّارة»، فجاءت
مفاجِئة، لم يحاول أن يُبين فيها خطوات تطورها وتكوُّنها، هذا وإنه لينقُذ [لينقد]
فكرة «شلنج» عن «المطلق» القائلة بأنه لا حركة فيه، وتنمحي عنده كل وجوه الاختلاف،
فيعلق «هِجِل» على ذلك بقوله إنه إذن «كالليل الذي تكون فيه كل الأبقار سوداء.»
وأراد «هِجل» أن يُبيِّن أن «المطلق» لا ينبغي أن يُفرَض فرضًا، بل لا بدَّ لنا أن
نستنتِجَه استنتاجًا يقوم على أساسٍ من العقل، ثم لا ينبغي أن نُصوِّره لأنفسنا
ذاتًا مجرَّدة تنمحي فيها كل وجوه الخلاف، وعنصرًا ساكنًا لا حركة فيه، بل يجِب أن
ننظُر إليه كروحٍ حيَّةٍ مُنتجة تنبثِق منها كل الأشياء النهائية الجزئية. ويقول «هجل» في تعريف المطلق بأنه روح، واستكشاف تلك الروح
وفَهمها هو الغرض من كل فلسفةٍ وكل ثقافة، وهي النقطة التي تتلاقى عندها فروع
المعرفة جميعًا من علمٍ ودِين.
يقول «هجل»: إنَّ إدراك الإنسان للكون يُحتِّم عليه أن يبحث عن تعليلٍ
للكون، ولكن لا يجوز أن نصِل إلى حقيقة العالم عن طريق التصوُّف الذي سلَكه
«بوهمه»، ولا عن طريق البصيرة والإلهام الذي اتَّخذه «جاكوبي» إنما الوسيلة
الوحيدة لتلك الغاية هي انتقالنا من مراتب العقل الدُّنيا إلى مراتبه العُليا. ومن
هذا نرى أن «هجل» لا يرفض صورةً من صور الإدراك العقلي سفلَتْ أو علَت، بل هو يرى
أن تلك المراحل العقلية ضرورية كلها للوصول إلى معرفة الحقيقة السامية، إذ ليس
هناك صنفان من الحقيقة؛ إحداهما تُدرَك بالإدراك العادي، والثانية يُدركها العقل
السامي، فمهما يكن إدراك الرجل العادي — لنفسه وللعالم — مهوَّشًا ومحدودًا، فهو
رغم كل هذا إدراك عقلي، وليست وظيفة الفلسفة أن تُنكر ما يحتويه فكر الرجل العادي
عن الأشياء، بل واجبُها أن تُوسِّعه وتُصحِّحه، ومن رأيه
أنَّ الفلسفة لا يمكن أن تؤيد مرحلة التآلُف الأعلى الذي ينتقل بالفكر من النهائي
إلى اللانهائي إلا إذا اعترفَتِ اعترافًا تامًّا بنقطة الابتداء. ولقد وردتْ في
مُقدِّمته التي صدَّر بها فلسفته في الحقوق Right هذه
العبارة: «إنَّ ما هو عقلي
حقيقي، وما هو حقيقي عقلي.» وهذه تُعدُّ مفتاح فلسفته كلها، فالحقيقة كلها
تُعبِّر عن العقل، والكون كله يُحقِّق وجود الفكر، بل العالم هو الروح المُفكِّرة
قد تطوَّرت.
لقد كان «المطلق» في أول أمره فكرة خالصة أزلية، ثم هبط إلى
الطبيعة حيث تحوَّل إلى لا شعور، ثم عاد فاستيقظ في الإنسان، ثم أخذ يُحقق نفسَه
فيما ينشأ في العالم من نُظم اجتماعية وفنٍّ ودين وعِلم، فازداد بذلك ثروةً
وكمالًا، ثم عاد إلى نفسه آخِر الأمر مرةً ثانية.
ويجمُل بنا الآن قبل أن نتناول فلسفة «هجل» بشيءٍ من التفصيل أن
نُوجِز للقارئ المُميزات الثلاث لفلسفته، فقد يُعِين ذلك على تيسير فهمِه وإساغته:
- (١)
ولعلَّ أمْيَزَ ما تمتاز به فلسفة «هجل» رأيه القائل بأنَّ
الحقيقة النهائية التي هي أساس الحقائق جميعًا هي العقل أو الروح، الذي لا يبلُغ
مرتبة إدراك نفسه إدراكًا كاملًا إلا إذا اجتاز عدَّة مراحل سابقة واستوعَبَها في
نفسه … إنَّ قوام الحقيقة هو الفكر، والفكر وحدَه، ولا بدَّ من تفسير كلِّ
شيءٍ تفسيرًا عقليًّا، وليس هناك للحقيقة مقياس تُختبَر به سوى الفكر. لقد كانت
الحقيقة والفكر عند هِجل — كما كانا عند أرسطو — عبارتَين مختلفتَين لمدلولٍ واحد،
فالفكر هو صُلب الحقيقة، أو بعبارةٍ أخرى: الفكر كلٌّ يحوي كل الحقائق الصُّغرى …
الفكرة والشيء الواقعي حقيقة واحدة، وليست كل تلك الحقائق الواقعة إلا كشفًا عن
الفكرة وتعبيرًا لها.
- (٢)
وينشأ من ذلك مُميِّزٌ آخر لوجهة نظر «هِجل» وأعني بها رأيه بأنَّ
«الفكر وحدة عضوية» هو وحدة ذات أجزاء مُنفصِل بعضها عن بعض، ولكنها في الوقت عَينه
مُتصِلة مرتبطة، فأنت ترى الكل ممثَّلًا في كلِّ جزء، كما أن كلَّ جزءٍ موجود في
الكل، ولكنَّ هذا الكلَّ المشتمل على أجزائه يكوِّن في النهاية بهذه الأجزاء
نفسِها كائنًا عضويًّا مُتَّحِدًا، إذ لم توضَع أجزاؤه فيه وضعًا آليًّا (أي شيئًا
إلى جانب شيء)، بل هو مجموعة مُتدرِّجة متماسِكة مرتبطة الأجزاء، وكل جزءٍ من الكل
له عِلَّتُه التي تُبرِّر وجوده، بل التي تفرِض وجوده وتُحتِّمه، وكل جزء موجود من
أجل الكل وبسببه، ولكن على الرغم من أنَّ الأجزاء كلها ضرورية لا بدَّ من وجودها،
فإنها تقِف بإزاء بعضها موقِف الأرفع والأوضَع، والمراتب السُّفلى منها تنتقِل إلى
العُليا، ولكنها لا تنمحي من الوجود في عملية الانتقال، بل هي موجودة مُتَّصِلة
الحياة، وكل ما حدَث لها تحوَّل من صورةٍ سُفلى إلى صورةٍ عُليا: «إنَّ كِمَّ الزهرة يختفي إذا ما تفتَّحت الزهرة، ويُخيَّل إليك
أنَّ بين الكِمِّ والزهرة شيئًا من التضاد، ثم تجيء الثمرة بعدئذٍ فتُعلن بوجودها
أنَّ الزهرة صورة زائفة من صوَر وجود النبات، وهكذا تنتقِل حقيقة كل واحدةٍ منها
إلى حقيقة الأخرى. وليست هذه الصُّوَر مُتميزة بعضها عن بعض فحسْب، بل إنَّ
الواحدة منها لتسحَقُ الأخرى باعتبارها مضادَّةً لها، ولكن طبيعتها التي تسري فيها
كلها تكوِّن منها دقائق من الوحدة العضوية التي تتآخى فيها فلا تُعارِض إحداها
الأخرى، بل إنَّ الأمر بينها لا يقِف عند حدِّ عدَم التعارُض، ولكن كلًّا منها
يكون لوجوده من الضرورة ما للأخرى تمامًا، وهذه المساواة في الضرورة تؤلِّف حياة
الكل.» فمراتب الفكر إذن أجزاء
مُتعاونة من مجموع الحقيقة، ولا يعرف منطق الوجود تعاقبًا
في الأفكار، أي أنْ يكون بين الأفكار سابق ولاحِق، بل إنَّ كلَّ فكرةٍ تتضمن
الأخرى، وكلها معًا — السابق منها واللاحق، السافلة منها والعالية — يحوي
بعضها بعضًا … والتاريخ هو تجلِّي الحقيقة المُطلقة التي ينقطِع وجودها.
- (٣)
ويتبَع هذا مُميِّز ثالث، وهو أنَّ هذه الوحدة
في الفكر إنما هي «وحدة بين أضداد» في الحياة العادية، وبالنسبة للعقل العادي أعني
أنَّ العقل العادي يتوهَّم أن أجزاء الكل مُتناقِضة مُتعارِضة لا اتِّساق بينها
ولا انسجام، وهو يقَع في هذا الخطأ؛ لأنه يرى الجزء فيحسَبُه كلًّا في حدِّ ذاته.
ويقول «هجل»: إنَّ الناس قد درَجوا على أن يرَوا أجزاء الكل مُنفصلة، كل جزءٍ على
حِدة، دون أن يربطوا بينها برباط الوحدة الشاملة لها جميعًا، والواقع أنه ليس
ثمَّة جزء مُستقل بذاته، بل كل جزء لا بدَّ أن يتضمن في نفسه شيئًا آخر، والنظرية
الجزئية دائمًا باطلة، ولا يمكن أن يتخلَّص الإنسان ممَّا قد يراه بين الأشياء
من تناقُضٍ إلا إذا علا بنظره إلى مجموعة الحقيقة ككلٍ واحد مُرتبط الأجزاء مُتصل
الحلقات، ولكنَّنا لا نستطيع أن نسمو إلى الحقيقة في كُلِّيتها تلك إلا إذا علِمنا
بالجانبَين معًا، الجزء والكل، أما أن نُغالي في التمسُّك بأحد الطرفَين على حساب الآخر، كأن تقول إنَّ الجزء وحدَه هو
الموجود الحقيقي (أي إنَّ الفرد حقيقة مُستقلة في حدِّ ذاته دون أن تربطه بسائر
الأفراد صِلة ضرورية، بحيث تجعل وجوده لا معنى له إلا كجزءٍ من كل) نقول إذا نحن
غلَوْنا فزعمْنا أنَّ الوجود الحقيقي إنما يكون للجزء وحدَه دون الكل، أو أنَّ
الكل وحدَه هو موجود ولا أفراد هناك، فإن قوْلَنا عندئذٍ يحمِل عنصر هدمِه في
نفسه، فليس ينبغي أن نقول إنَّ الذات وحدَها أو اللاذات وحدَها هي التي تتمتَّع
بالوجود دون زميلتها، فكلاهما ضروري لتكوين الحقيقة العُليا، فلا بدَّ في رأي
«هجِل» من الصراع بين أضداد، ثُم اتِّحادها كي نُدرِك الحقيقية المُطلقة؛ إذ
المطلق هو عبارة عن الانسجام بين الأضداد.
هكذا يريد «هِجل» أن يتقبَّل الأطراف المُتناقِضة فيجمعها في وحدةٍ
شاملة، وعندَه أن الأساس الأول للوصول إلى الحقيقة هو الاعتراف باتحاد الأضداد
وانسجامها، زاعمًا أنَّ كل إثباتٍ يتضمَّن نفيًا، وكلَّ نفيٍ يتضمَّن إثباتًا …
ذلك هو قلب فلسفة «هِجِل» وصميمها، وهو يُطبِّق قانونه هذا على كل موضوع بغير
استثناء، ولو سلَّمنا به معه لانقلبَتْ نظرتنا للحياة رأسًا على عقب، فقانون التناقُض الذي يقول به المنطق الشكلي القديم، ذلك
القانون الذي يُقرِّر أنَّ الشيء يستحيل أن يكون وألا يكون في آنٍ واحد، يجِب عليه
الآن أن يزول من أجل حقيقة «هِجِل» العُليا التي تنسجِم فيها المُتناقِضات، والتي تذهب إلى أنَّ كلَّ شيءٍ يكون موجودًا وغير
موجود، فلا حقيقة إلا لمجموعة الأجزاء مُتَّحِدةً في كل، ولا بدَّ لكل جزءٍ من
الاتصال بذلك الكل لكي يكتسِب صحَّتَه؛ لأن الشيء إذا اعتزل وانفرد ضاعَتْ حقيقته،
وكل شيء مرحلة — مرحلة زائلة فانية — تُوصِّل إلى غيره.
يقول «هِجِل»: إن الفكر في عمله يجتاز خطواتٍ ثلاثًا، فهو يبدأ بذاتية
مجرَّدة، أعني بإدراكه لذاته المُفردة، ثم ينتقل إلى مجال يصادِف فيه ما يناقِضه
ويعارضه، ثم يخطو بعد ذلك إلى الوحدة التي تضمُّه، وتضمُّ معه أضداده التي مرَّ
بها في مرحلته الثانية. وليست تلك الحركة الثلاثية قاصِرة على الفكر، بل إنها
تتناول العالَم بأسرِه، وكلَّ شيءٍ يؤيد صحة هذا تؤيده الطبيعة، ويؤيده التاريخ
والفلسفة … إنَّ نجم النبات الضئيل يحمِل في باطنه الدَّوحة العظيمة، وهذه الدوحة
تنسخ ذلك النجم وتُثبته في آنٍ واحد. وإنَّ الطفل
ليتضمَّن الرجل، وهذا ينفي ويؤيد الطفل في وقتٍ واحد … وإنَّ التاريخ ليشهد كذلك بصحَّة هذا القانون بصورةٍ
أوسع، فالمدنية تتقدَّم بفعلٍ وردِّ فعلٍ بين النزعات
المُتضادَّة، فعصور السلطة يتبعها عصور إباحية وفوضى، ومن اتحاد الاثنين تنشأ
مرحلة سامية من الحرية الدستورية.
إذن فالكون عند «هِجِل» عملية نمو
وتقدُّم، هو عملية يتجلَّى بها الله ويظهر، ففي كل حركة ترى ذلك «المُطلق» كامنًا
لا يزول، لا كعنصرٍ مستقل وحدَه، بل كروحٍ سارية في كلِّ شيءٍ لتكشف عن نفسها. وليس
تقدُّم الفكر إلا ظهورًا بالفعل لما كان موجودًا بالقوة، فالله يكشف عن نفسه في
الفكرة المنطقية، ويتجلَّى في الطبيعة والعقل، ولكن إذا كان الفكر يجتاز في
تقدُّمه تلك المراحل الثلاث فليس يُدرك نفسه بدرجاتٍ متساوية في المراحل المختلفة،
ولا يمكن للإنسان بغَير النظرة الفلسفية أن يرى الله
مُتجليًا أولًا في المرحلة السابقة للوجود، أي مرحلة الكائن الخاص، وثانيًا في
العالم الطبيعي بأن تحوَّلت قواه إلى مادة ليظهر هو في صوَر الحياة المادية،
وثالثًا وأخيرًا في العالم الروحي مُمثَّلًا في روح الفرد، وفي نظام المجتمع، وفيما
يُبدِعه الفنُّ والدين والفلسفة من آيات.
فلسفة «هِجِل» مثالية وواقعية في آنٍ واحد؛ لأنها وإن تكُن تُعلن أن الفكر أسبق في الوجود،
بل تُعلن أنَّ الفكر في حقيقة الأمر هو كلُّ شيء، إلا أنها تعترِف بأن هذا الفكر
قد وجد نفسه في عالمٍ من الحقائق الواقعة التي لا يكون لها معنى لو فصلناها عن
الفكر، فليست الطبيعة عند «هِجِل» جسمًا صلبًا يُحدِّد الفكر ويُعارضه. كما كانت
عند «فخته»، كلا ولا هي كما رآها «شلنج» تسير موازيةً للعقل؛ لأنها والمُطلق
توأمان. نعم إنَّ الطبيعة والعقل قد تفرَّعا عن أصلٍ
واحد، ولكنهما ليسا فرعَين مُتساوِيَين قد انبثقا من جذعٍ بعَينه، إذ قد نشأت
«الفكرة» أولًا، ثم نشأ من الفكرة العالم الطبيعي والفكرة والطبيعة معًا يكوِّنان
العالم الروحي … فأنت ترى الفِكر أساسًا لكلِّ
حقيقةٍ [واقعٍ] في الوجود، سواء أكانت تلك الحقيقة [أكان ذلك الواقع] طبيعية أم
عقلية، ولكنه فِكر بالقوة أي أنَّ الفكر يسري في كلِّ جزءٍ من الكون، ولكنه يكون
في صوَر الوجود الدُّنيا فكرًا بالقوَّة، ثم يُصبح إدراكًا، أي فكرًا بالفعل في
الكائنات العُليا. ومعنى ذلك بعبارةٍ أخرى أنَّ الفكر هو أول المراحل وآخِرها
معًا، يبدأ الكون بالفِكر (بالقوة) وينتهي بالفكر (بالفعل).
وعمَل الفلسفة هو أن تَتبع الفكر في تطوُّره هذا وانتقاله من الوجود
بالقوة إلى الوجود بالفعل، وأن تُعين في إدراك الإنسان تلك المراحل التي سلَكَها
«المنطق» أو إن شئتَ فقُل سلكتْها الحقيقة، أو إن أردت عبارة أوضح فقل «الله».
وهذه المراحل عند «هجِل» ثلاث: إثبات الحقيقة لنفسها أولًا، ثم تبايُنها ثانيًا،
ثم انسجامها ثالثًا، ولهذا يجِب أن تُعين الفلسفة في إدراكنا تلك الخطوات الضرورية
التي اجتازها الفكر في سيرِه وتقدُّمه، وهذا ما بنى «هِجِل» فلسفته عليه وعُنِيَ
ببيانه وشرحِه.
وكما أن العقل المطلق يتبع في سيرِه هذه
الخطوات الثلاث، فيبدأ فكرةً مجرَّدة غاية ما يكون التجريد، ثم تتقدَّم الفكرة
فتُجسِّد نفسها في الطبيعة؛ لكي تبرُز وتتجلَّى، ثم تعود إلى نفسها ثانيًا في
الروح، كذلك يلزَم أن تقع الفلسفة في ثلاثة
أقسام رئيسية:
- (١)
المنطق الذي يعرض صور الفكر المجرَّدة.
- (٢)
فلسفة الطبيعة التي تبسُط صور العالم الطبيعي الخارجي الذي
تَجسَّد فيه العقل؛ لكي يصير حقيقةً مُحسَّة.
- (٣)
فلسفة العقل أو الروح التي تُعالج المراحل التي يجتازها
الفكر من أبسط الصور الفيزيقية إلى الإدراك الكامل، ثم إلى اتحاد العقل والطبيعة
كما يظهر في الفنِّ والدِّين والفلسفة.
فقد بدأت الحقيقة أول الأمر فكرًا خالصًا، ثم
أعلنَتْ عن نفسها في صورةٍ موضوعية، فبعد أن كانت فكرةً مجرَّدة أصبحت مادةً
متحركة في مكانٍ وزمان — وهنا قد يسأل سائل: ولماذا أخرجت الفكرة نفسها وبرزَت من
صورتها المجردة إلى طبيعة مُحسَّة؟ وجواب ذلك هو أنها فعلت ذلك؛ لكي تصبح حقيقة —
فالطبيعة مرحلة ضرورية لا بدَّ من اجتيازها حتى تبلُغ الفكرة مرتبةَ الإدراك، ولكن
الحقيقة إذا حقَّقت نفسها في الطبيعة تكون لا تزال ناقصة، فما الطبيعة إلا مرحلة
سابقة تتلُوها مرحلةٌ أسمى، وهي أن تُحقِّق الفكرة نفسها في روح، وذلك هو الغرض
الذي كانت تقصد إليه الفكرة منذ البداية، فالعقل إذن إنما يجسِّد نفسه في الطبيعة
لكي يكون روحًا في نهاية الأمر … إن الفكرة لا تخرُج من نفسها إلى حيث الطبيعة
المجسَّدة إلا لكي تعود إلى نفسها مرة أخرى أخصبَ ممَّا كانت وأغنى، فهذه الطبيعة
التي تراها ليست إلا عقلًا في صورةٍ مُبهمة غامضة مهوَّشة حتى لتبدو كأنها لا عقل.
ويرى «هجل» أنَّ «الحقيقة» في انتقالها من المرتبة الطبيعية إلى
المرحلة الروحية تُعبِّر عن نفسها في النظم الأخلاقية التي يقوم على أساسها
المجتمع، وهنا تبدأ فلسفة «هجل» العملية التي بلغ فيها أوْج عظمته … هي تنقسِم
ثلاثة أقسام: (١) «الحق» Right ويبحث في المِلكية والتعاقُد والعقاب. (٢) «الأخلاق» وتبحث
في القصد والنِّية والحياة الطيبة وعلاقتها بالخير والشر. (٣) الأخلاق الاجتماعية
التي تقوم على أساسها الأسرة والجماعة والدولة، ثم السياسة الدولية وتاريخ العالم
بأسرِه.
ويجمُل بنا أن نقِف عند هذه الفلسفة العملية فنبسُطها في شيءٍ من
الإسهاب والتفصيل.
- (١)
أما «الحق» أو إنْ شئتَ فسمِّه «القانون» فهو عبارة عن اعتراف بحرية
إرادة الفرد، ولو أن «هِجِل» لم يُرِد أن ينظُر إلى الفرد منفصلًا عن الحياة الاجتماعية،
إلا أنه استحسنَ أن يبحث الفرد قبلَ كلِّ شيءٍ كشخصٍ له حقوق فردية بإزاء الآخرين،
وتناول بحثُه في هذا ثلاثة أشياء: المِلكية والتعاقُد والعقوبة. أما حق الملكية
فهو المجال الذي تظهر فيه شخصية الفرد، ولمَّا كان مِلك الشخص جزءًا منه وجَب أن
يكون مصُونًا محترمًا، ولا بدَّ لصيانتِه واحترامه أن يعترِف به أفراد المجتمع
الآخرون، بحيث لا يكون لغير صاحب الملك حقُّ التصرُّف فيه. ومن الطبيعي أن حرية
تصرُّف الفرد في مِلكه تستلزم التعاقد بين الناس على ذلك، حتى لا تتعارَض إرادة
زيد مع إرادة عمرو، فإذا ما نشأ نزاع بين الإرادات بأنِ اعتدى هذا على حقِّ ذاك
ونقَضَ ما بينهما من اتفاق، وجَبَ أن نوفِّق بينهما بالعقوبة نُوقِّعها على
المخطئ، وتوقيع العقوبة كفيل بأن يُبين للمخطئ ما كان يستتبِعه عمله من تناقُض،
وأن يُلزمه بالاعتراف بمبدأ العدالة بين الجميع.
- (٢)
ويؤدي البحث في الحق القضائي إلى النقطة الثانية وهي الحق الأخلاقي
الذي لا ترعاه القوانين القضائية، بل الدوافع الأخلاقية المحْضة، وبهذا ينتقِل
الأمر من مجرَّد الحق إلى الواجب الذي يصدُر من صاحبه عن قصدٍ ونيَّة، ويلاحظ أنَّ
هذا الواجب الأخلاقي لا يتَّفِق دائمًا مع إرادة الفرد، أي أنَّ هنالك تضادًّا
دائمًا بين نِية الفرد وإرادته، أعني بين القصد والتنفيذ. والحَكَم الفصْل بين
الخير والشر هو الضمير، ولكن الضمير وحدَه لا يكفي إذ «قد أريد الخير، ولكن لا
يُتاح لي أن أعلَم ما هو الخير. فقد يأمُرني الضمير أن أعمل ما تستحِثُّني رغبتي الخاصة
أو رأيي الشخصي أن أعمله.» وقد يكون العمل الذي ينبعث عن غريزةٍ عمياء سيئًا مهما
كانت نِية عملِه خيِّرة، إذن لا يكفي للفرد أن يكون له دافعٌ شخصي، ولكنه يُريد
إلى جانبه مقياسًا خارجيًا، كذلك يجب أن يكون ثمة نقطة أسمى تتَّحِد عندها الدوافع
الأخلاقية للعمل مع شرعية العمل.
- (٣)
هذه النقطة السامية التي تلتقي عندها أخلاقية العمل مع شرعيته هي:
الأخلاق الاجتماعية، التي لا نشعُر معها بأن الدافع الأخلاقي مجرَّد غريزة شخصية
ودافع ذاتي، بل أمْر عام يأتينا من الخارج، وهنا يتنازل الفرد عن فرديته الخالصة،
وعن حُكمِه الشخصي لكي يعترِف بسلطة الجماعة القائمة … وليست
تتحقَّق حياة الفرد وحُريته الصحيحتان إلا في علاقته بالأُسرة، والمجتمع، والدولة؛
ففي الجماعة وحدَها يتبيَّن الإنسان نفسه، ويُوجَد وجودًا حقيقيًّا، وفي الأخلاق
الاجتماعية يُصبح عمل الخير عادةً، وطبيعةً ثانية:
- (أ)
ففي الأُسرة يتَّحِد الأعضاء برباطٍ حي من الحب، والأُسرة تقتضي
الزواج الذي يتحوَّل فيه الحب الفيزيقي إلى اتِّحادٍ روحي كما تتضمَّن مِلْكية
العائلة وتربية الأطفال.
- (ب)
وتتَّسِع الأُسرة فتُصبح جماعة، وعلى الرغم مما يتمتَّع به أعضاء
الجماعة من استقلال، فإنهم مُرتبطون بحاجاتٍ مشتركة، وباعترافٍ مشترك بالقوانين
المدنية التي تعمل على التوفيق بين المصالِح المُتنازعة، والتي تضمَن لكلِّ فردٍ
إبراز شخصيته التي تؤهِّله لها ملَكته.
- (جـ)
واتحاد الأسرة والجماعة يكوِّن الدولة التي تتحقَّق بها الحرية
تحقُّقًا كاملًا، فالدولة هي الغرَض الذي يقصد إليه الإنسان، وهي لا تمحو شخصية
الفرد، بل واجبها أن تُعبِّر عنها وتظهرها، ولكن الشخصية هنا ليس معناها الفردية؛
لأن الشخص الحق هو كائن اجتماعي له واجبات، وعليه حقوق باعتباره عضوًا في جماعة.
ويرى «هِجِل» أنَّ خير نظام للحُكم هو المَلَكية المُقيَّدة
كما تُمثِّلها بريطانيا، وتأسيس المَلَكية الدستورية وهو هدَف التاريخ.
ولعلَّ من أمتع ما كتَب «هِجل» مؤلَّفه في «فلسفة التاريخ» الذي يتتبَّع فيه قانون
التقدُّم الذي سارت الإنسانية على أساسه في حياتها الماضية، وهو يُبين أنَّ كل
شعبٍ يتاح له أن يرتقي ذروة المجد، ويقبض على صولجان الملك حينًا من الدهر؛ ليكون
أداةً لا شعورية يُنفِّذ إرادةَ الروح العامة، ويظلُّ هكذا حتى ينهَضَ شعب آخر
فيخلُفُه بفكرةٍ عن الحرية أوسع من فكرة سلفِه، وفَهمٍ أسمى لوظيفة الإنسان.
ويقول «هجل» إنَّ من يتأمَّل في سَير التاريخ وتقدُّمه يجده
خاضعًا لعقلٍ عام، فما تاريخ العالم إلا عملية عقلية، وروح العالَم هي القوة
الرائدة لتقدُّمه والأدوات التي تتَّخِذها تلك الروح للوصول إلى أغراضها هُم
عباقرة الأُمَم وأبطالها، وكلُّ شعبٍ يعلو إلى المجد والقوة إنما يُعبِّر عن جانبٍ من جوانب الروح
العامة، فإذا ما ظفِرَت الروح العامة بغايتها منه، تنازل ذلك الشعب عن قوَّتِه
وسلطانه لشعبٍ آخر، فتاريخ العالم هو تحقيق لإرادة العالم كما يقول «شلر» وما نوابغ التاريخ إلا أدوات اتَّخذتْها تلك القوة العالمية
لتنفيذ أغراضها، وإنْ توهَّموا أنهم يُحقِّقون أغراضهم الشخصية. ولقد أُعجِب
«هِجِل» «بنابليون» إعجابًا عظيمًا، ورأى أنه يُمثِّل عصرَه ويجسِّده، فهو وسيلة
لتحقيق غاية أعظم منه.
وإن رواية التاريخ لتكشِف لنا عن تزايُد الحرية كلَّما تطاول الزمن،
فلم يكن يتمتَّع بالحرية بادئ بدءٍ إلا فردٌ واحد — هو الطاغية — ثم جاءت بعد ذلك
مرحلةٌ تمتَّع بالحرية فيها طائفة من الناس لا فرد واحد، ثم تلا ذلك أن أصبح الناس
كلهم أحرارًا.
ولمَّا كانت الأرض هي القاعدة الجغرافية للتاريخ، أو قل هي المسرح
الذي تظهر فيه رواية التاريخ فصولًا مُتعاقبة، كان لها أقسام ثلاثة رئيسية: الجبال
والوديان والمياه. فأما الأولى فتُمثِّل حياة الإنسان الأول بما فيها من مغاور
وكهوف يأوي إليها الهاربون، وأما الثانية فهي موطن الزراعة التي تُمثِّل مرتبة
أعلى من مراتب المدنية، وأما الثالثة — الأنهار والبحار — فيتجلَّى فيها أعلى ضروب
النشاط الإنساني وأرقاها، إذ هي وسيلة التجارة وتبادل العلاقات بين الأمم.
ثم يُقسِّم «هجل» التاريخ إلى فتراتٍ ثلاث: (١) الشرقية.
(٢) الإغريقية الرومانية. (٣) الجرمانية — وهو يتتبَّع نموَّ الحرية في هذه
المراحل الثلاث باعتبارها العلامة الوحيدة التي يستدلُّ بها على تقدُّم الروح.
ففي الشرق الأقصى — حيث مهد الإنسانية وطفولتها — كانت الروح مُنغمسة
في الطبيعة، ولم تتقدَّم الصين والهند من حيث فِكرتهما عن الدولة، وظلَّتا
متلازمتَين للآراء الأولية: فالدولة في الصين أُسرة
كبيرة، والملك فيها أب، وأما في الهند فعلى الرغم من تحوُّل الأسرة فيها إلى جماعة،
إلا أن الجماعة بها لبِثَت ذات فوارق حادَّة تستعصي على التوحيد والإدماج، ولقد
ظهرت المِلكية لأول مرةٍ في فارس، ولكنها كانت تقوم على عناصر مُتنافِرة تماسَكَت
بالقوة الحربية، وأما في مصر، فهنالك تشهد أبا الهول بوجه الإنسان وجسم الحيوان
ليكون رمزًا للانتقال من النزعة الطبيعية في الشرق إلى المدنية الفكرية في أوروبا،
فمصر بتماثيلها المُحسَّة من ناحية، وبعبادتها الرُّوحية من ناحية أخرى، تتوسَّط
بين الشرق والغرب وتُمهد الطرق للإنسانية الإغريقية.
أما الفترة الإغريقية فتُمثِّل العالم في شبابه، فهو عصر الجمال والقوة
والرجولة الناضِرة، وها هنا بدأت الروح تُدرك نفسها وتُحقِّق حُرِّيتها
«فبالإغريق» بدأنا نشعُر بأنَّنا في دارنا؛ لأننا اتكأنا على سنادةٍ من الروح. ويُعَدُّ «أخيل» Achilles رمز
الحياة الإغريقية: بِنْية ضخمة وشباب قوي تستهويه الطبيعة ويفتِنُه الجمال، ولكنه
استمتاع بالجمال المحسوس، إذ لم تكن حرية الروح قد بلغَتْ كمالها، ولم يتمتَّع
بالحرية عند الإغريق إلا طائفة قليلة بينما كانت كثرتُهم عبيدًا أرقَّاء.
انتقلت ثقافة الإغريق إلى روما تغزو، إذ بينما كانت روما تغزو الأمصار
والأقطار، كانت ثقافة الإغريق تغزوها، وقد اعتُرِف في روما بالحرية الفردية،
وبالمساواة السياسية. وقد كان العصر الروماني عصر النضوج والقوة النفعية، وانمحى
ما عهِدناه في أثينا من مظاهر الروح والسرور، وجاء في مكانه عُنف العمل وقسوة
الواجب. فلمَّا سقطت روما ظهرت الأمم الجرمانية على مسرح
التاريخ، وهنا بلغَتِ الفكرة ذروة الإدراك الكامل لأول مرة، وجاءت الوحدة
الروحية بين الناس مكان الوحدة الدُّنيوية، وكانت المسيحية بشيرًا للناس أجمعين
بالحُرية، ولكنها كانت حُرية دينية في أول الأمر، ثم تحوَّلت بالتدريج إلى حرية
سياسية أيضًا في الشعب الجرماني. ولمَّا سادت العقيدة
المسيحية بين الأمم اعتُرِف للإنسان بإنسانيته كما أعلن الإخاء بين البشر. وتُمثِّل
الأمة الجرمانية عصورًا ثلاثة: تبدأ العصر الأول من هجرة القبائل الشمالية وينتهي
بحُكم «شارلمان» وهو عصر تَفكُّكٍ ونزاع، ويكشف العصر الثاني عمَّا بين الكنيسة
والدولة من تبايُن، وأبرز ما في هذه الفترة الثانية من أحداثٍ هي الحرب الصليبية
ونظام الإقطاع ونشأة الدول الحُرة، ولقد كان ذلك العصر الذي امتدَّ حتى عهد
الإصلاح مظلمًا، تتنازَعُه الخرافة والعقيدة الدينية، ولكنه كان مع ذلك عصر الحرية
الروحية. وأما العهد الثالث فيمتدُّ من عهد الإصلاح
حتى يومِنا هذا، وهو عهد الحرية المدنية والحياة التي يتزايد فيها عنصر العقل.
لقد كان مؤلَّف «هِجِل» هذا في فلسفة التاريخ من أجلِّ ما جادت به
قريحتُه، ولعلَّ نبوغَه وأصالته لم يظهرا في شيءٍ من كتُبه كما ظهرا في رأيه عن
تطوُّر التاريخ، إذ كان «هِجِل» أول كاتبٍ حاول أن ينظُر إلى سَير العصور كلها
كحركةٍ واحدة شاملة تتجلَّى فيها الروح وتظهر، ولو أنَّ هنالك من عدَم دقَّته في
بعض التفصيلات، ومن اختياره للحقائق اختيارًا لا يقوم إلا على أساس هواه ما هو
مَجالٌ لنقدِ الناقدين.
وأخيرًا بعد أن سارت الروح هذا الشوط الطويل، واجتازت تلك
المراحل المُتتابعة، فإنها تصل — آخر ما تصِل — إلى مرتبة الروح المُطلق، حيث
تنمحي كل الفوارق بين الذات والشيء، بين الفكر والوجود، بين اللانهائي والنهائي
المحدود. نعم إنَّ الروح بعد هذه الشُّقَّة الطويلة لتبلُغ آخِر الأمر مرتبة إدراك
نفسها. وتقع تلك المرتبة الأخيرة في ثلاثة عناصر: (١) الإدراك الحسِّي الذي
يُعبِّر عنه الفن. (٢) والشعور الذي يُعبِّر عنه الدين. (٣) والفكر الذي تُعبِّر
عنه الفلسفة.
- (١)
أما الفن فهو الإدراك الحسِّي الذي تُدرك به الروح المطلقة المثَل
الأعلى للجمال كما يتمثل في صورِهِ المُحسَّة الملموسة، سواء كانت تلك الصورة
صخرةً أو لونًا أو صوتًا. ففي الفنِّ تنتصِر الفكرة على
المادة؛ لأنها تستخدِمها لأداء أغراضها، ولكن المادة المُستخدَمة ليست
قابلةً للتشكل قابليةً تامَّة، وهي تختلف من حيث مقاومة التشكُّل عُسرًا ويسرًا،
فأدَّى هذا التفاوُت بينها — في مقدار عدَم القابلية — إلى اختلاف الفنون
وتعدُّدها، ولكن مهما اختلفت ألوان الفن فهنالك عاملان مُتَّصِلان، هما اللذان
يعملان على تكوين الجميل: المادة، والصورة أي الفكرة. فالمادة هي وسيلة التعبير عن
الفكرة، وبالفكرة وحدَها تكتسب المادة معنًى وإشراقًا. ولقد سار الفن من المرحلة
الرمزية إلى المرحلة الكلاسيكية، ثم انتهى إلى الرومانتيكية، أو بعبارةٍ ثانية سار
الفن من مرتبةٍ لا فنية إلى مرحلة فنية، ثم انتهى إلى وإنك لترى ألوان الفنون كلها
لا تزالمرتبةٍ فوق الفنية فبات عاجزًا عن التعبير عن كلِّ معناه.
أما الفنُّ الرمزي فتسُود فيه المادة، ولا تكون فيه الفكرة إلا شبحًا
ضئيلًا، وأما الفن الاتِّباعي (الكلاسيكي) فهو فنٌّ تتوازَن فيه الفكرة والمادة،
وكلٌّ من الجانبين يكون وسيلةً للجانب الآخر، أما الفن الابتداعي (الرومانتيكي) فتتحكَّم فيه الفكرة الروحية بحيث تُشكل المادة
وتخضعها لأغراضها الخاصة.
ولقد جاءت الفنون مُتعاقبةً على هذا الترتيب الطبيعي:
العمارة، فالنَّحت، فالتصوير، فالموسيقى، فالشعر.
ففنُّ العمارة يتميز بأنه رمزي، ولا تندمج فيه المادة والصورة، فلقد
تلحظ في فنِّ العمارة الرَّزانة والعظمة، ولكنك لن تراه يُعبِّر عن العواطف
الدقيقة.
ويقلُّ التبايُن بين الصورة والمادة في فنِّ النحت، حيث تُصاغ المادة
لتُعبِّر عن فكرة الفنان، ولكنه مع ذلك عاجِز عن تمثيل الجوانب السامية من الروح
الإنسانية، عن تمثيل الطبيعة الإلهية؛ إذ لا يمكن لهذه الأخيرة على الأخصِّ أن
تُجسَّد في مادة صلبة محدودة كصخرة النحَّات.
وأما الفنون الابتداعية الثلاثة فهي التصوير والموسيقى
والشعر، فالتصوير يتقدَّم عن النحت بخطواتٍ فسيحة؛ لأنَّ المادة فيه أقلُّ صلابة،
والفكر فيه مُمثَّل على نحوٍ قريب من المثَل الأعلى. وفي الموسيقى تنمحي شقَّة الخلاف بين الجانبين: الفكرة والمادة،
وهنا ينطلِق الفن من حدود المكان ويجتاز قيود المادة، حيث لا يُوجَد إلا على صورةٍ
مثالية في الزمان. وأما الشعر فهو أعلى صور الفن جميعًا؛
لأنه يمزج بين التصوير والموسيقى، فهو يُضيف إلى ألحان الموسيقى المُبهمة
تعبيرًا ومعنًى واضحًا محدودًا، ثم هو ينطِق بما لا يستطيع التصوير إلا أنْ يُشير
إليه فحسْب.
وإنك لترى ألوان الفنون كلها لا تزال باقيةً تُعبِّر عن نواحٍ مختلفة
من الشعور، ولكنها رغم ذلك قد تدرَّجَت ونمَتْ واحدةً بعد واحدة، على مدى العصور؛ فالفنُّ الشرقي الذي ظهر في مصر والهند يتميَّز بأنه رمزي؛ لأن
المادة ترجح فيه على الصورة، وهو في ضخامته وفخامته إنما يُعبِّر عن شعور السموِّ
والعظمة أكثر مما يُعبِّر عن الشعور بالجمال،
ثم تتحوَّل هذه النزعة الرمزية إلى فنٍّ مُفصِح عن الجمال أكثر ممَّا
يُعبِّر عن العظمة ألا وهو الفن الاتِّباعي (الكلاسيكي) الذي ظهر في اليونان،
ثم يتَّحِد الشعوران بالعظمة
والشعور بالجمال فيكوِّنان الفن الابتداعي (الرومانتيكي) الذي يظهر واضحًا في الفن
المسيحي؛ إذ إنَّ تجسيد الأفكار الروحية قد أكسب التعبير الفني معنًى جديدًا،
فاصطبغَتْ فكرة الجمال بصبغةٍ روحية، وأخلى الزُّخرُف الطبيعي للجمال مكانه للصفاء
والطُّهر والقداسة، وحلَّت العذراء في الفنِّ محلَّ «فينوس».
ولكن إذا كانت المسيحية قد وسَّعت من دائرة الفن، وأضافت إليه روحًا
جديدة، فإنها إلى جانب ذلك قد سلبتْهُ شيئًا من جماله؛ إذ لم تعُد الصورة المادية
تلائم المثَل الأعلى الأخلاقي الجديد، وقد لا تُرضي الآيةُ الفنية البالِغة حدَّ
الكمال الفنانَ المسيحيَّ الذي بدأ يتطلَّع إلى عالمٍ أبدي تُدركه الأفئدة ولا
تراه العيون، وأخذ ينشُد التناسُق السماوي والمَثَل الأعلى الإلهي، ولكنَّ الفن
عاجز بغير شكٍّ أن يُعبِّر بالريشة أو القيثارة أو القلَم عن ذلك المثَل السامي،
وهكذا أفلس الفن، وتدهور عندما اتُّخِذ أداةً للإفصاح عن الشعور الديني؛ لأنه كفيل
أن يُعبِّر عن تلك الحياة على نحوٍ أكملَ وأتم.
- (٢)
الدين: لقد كشف لنا الفن عن فارقٍ بين النهائي واللانهائي، أعني عن
تبايُنٍ وخلاف بين المادة والفكرة، ولسْنا نستطيع أن نوفق بين هذَين الشطرين
المُتباينَين إلا بالدِّين الذي يمسُّ فيه العابد معبودَه مسًّا مباشرًا دون أن
يحتاج في ذلك إلى وسيطٍ من الصور المادية أو الرمزية، فلقد شهِدْنا في الفن كيف
تتَّخِذ الفكرة الصوَرَ المُحسَّة وسيلةً لظهورها، أما في الدين فيكفي لتحقيقها
مجرَّد الشعور الباطني؛ لأنَّ كُنْهَ الدِّين وجوهره تمجيد الروح للمُطلق تمجيدًا
باطنيًّا، هو بعبارةٍ أخرى رغبة في الإنسان لاتحاد ذاته بالله. ويقول «هِجِل» إنَّ وجود الله لا يمكن أن يُقام عليه الدليل على
نحو ما يحدُث في البرهنة على نظريةٍ رياضية؛ وذلك لأنَّ الله هو فكرتنا عنه، فهو
إذن موجودٌ في داخل نفوسِنا لا في خارجها، وكلَّما عمقتْ فكرة الإنسان عن الله
واتسعَتْ ظهر له الله أكثر وضوحًا وجلاء.
ولقد مرَّ الدين في سيرِه التاريخي خلال مراحل عدَّة،
وأحطُّها مرحلة «عبادة الطبيعة» التي تَصَوَّر الإنسان فيها أنَّ الله مادة أو قوة
طبيعية، ثم جاءت سلسلةٌ من الديانات في الشرق هي «ديانة السِّحر» في الصين،
والديانة البرهمية وغيرها في الهند، وعبادة النُّور في فارس، وديانة الألَم في
سوريا، وديانة السِّر والخفاء في مصر … وقد مهَّدَت كل هذه الدِّيانات الطريق
لديانة «الحرية» عند الإغريق، حيث أخذ الإنسان يُدرك تفوُّقَه على الطبيعة وسيادته
عليها.
كذلك اجتازت ديانات الفردية الروحية مراحلَ ثلاثًا:
اليهودية، دين الجلال، والهِلينيَّة، دين الجمال، والرومانية، دين النفعية
والغرَض. فالأولى هي ديانة التوحيد، والثانية هي القدَر والضرورة وتعدُّد الآلهة،
والثالثة ديانة العقل العملي والقوة السياسية … وأخيرًا جاءت المسيحية، وهي تلك
الديانة التي هبط بها الوحي، والتي تُناقِض عبادة الطبيعة وعبادة الإنسانية
كلَيهما، هي اتِّحاد الواحد والكثير، هي تناسُق الجلال والجمال والقوَّة، هي
التوفيق بين الضرورة والحرية. لقد بلغَتِ المسيحية أسمى فكرة عن الله؛ لأنها
تتصوَّر الله قد خرج من نفسه، ثم تجسَّد في الإنسان، ثم عاد إلى نفسه مرةً أخرى.
إنَّ في المسيحية ذلك السِّر العجيب الذي يلائم بين النهائي واللانهائي، بين
الإنسان وخالقه. ولقد تمَّ ذلك التوفيق بين الضِّدَّين في شخص المسيح؛ لأنه إنسان
إلهي. ويقول «هِجل» إنه لكي يتَّحِد الإلهي مع الطبيعة البشرية لا مندوحة عن
أن تكون وسيلة ذلك الاتِّحاد هو الإنسان، فيكون إنسانًا من ناحية، وفكرةً إلهيةً
من ناحيةٍ أخرى.
أراد الله أن يُحقِّق وجوده ويُقرِّر ذاته، فخرج من نفسه وتجسَّد في
الإنسان، ثم عاد إلى نفسه مرةً أخرى، وهكذا ينبغي أن يفعل الإنسان إذا أراد لنفسه
حياةً صحيحة، وإذا ابتغى لذاته تقريرًا وتحقيقًا، «يجِب
أن يموت الإنسان ليحيا.» هذه هي الحقيقة التي عبَّر عنها المسيح وضرب لها مثلًا
بنفسه، فمات لتحيا بمَوته الإنسانية، فواجِبٌ حتْم على كلِّ فردٍ أن يحذوَ
ذلك الحذو الصالِح القويم، إذ لا سبيل لتقرير الذات إلَّا بإنكارها، فحياتنا هي
بدء المرحلة ونهايتها في آنٍ واحد، هي الوسيلة وهي الغاية معًا، فنحن لا ننشُد إلا
حياةً كاملة، ولن نظفر بتلك الحياة إلا بتضحية الحياة! إنَّ الإنسان ليحمِل في
نفسه بذور الوجود الروحي الكامل، فحتْمٌ عليه أن يُضحِّي بنفسه لينبُتَ ذلك الكمال
الكامن ويتحقَّق، «إذا لم تقَعْ حبَّةُ القمح في
الحقل، ثم تموت فستظلُّ وحدَها.» ولن
ينمو للقمْح منها نبات.
- (٣)
الفلسفة: ذلك هو الدِّين وما يدل عليه، ولكن ما يُعبر عنه الدِّين
بالشعور والبصيرة يبسُطه الفكر في وضوحٍ وجلاء. إنَّ الفلسفة هي الحقيقة في
تجريدها وإطلاقها، هي فِكر «الفكرة» إذ تُفكِّر في نفسها، أو هي فكر العقل للذي
يفهم نفسه ويُدركها.
إنَّ موضوع الفلسفة هو هو موضوع الدين، فغاية الاثنين تحديد طبيعة
الله وبيان غرَضه من العالم، ولكن الأول يسلك إلى الغاية طريق القلب، بينما تستعين
الفلسفة لأداء مهمَّتها بالعقل، ولكن لمَّا كانت الحقيقة لا تتَّضِح إلا إذا
أُخرِجت من دائرة المشاعر إلى ضوء الفكر الساطع كانت الفلسفة أعلى مرتبةً من
الدين. إنَّ الدين يشعُر بالله ويُدركه، أما الفلسفة فتشرَحُه وتوضحه.
ويتبع سير الفلسفة وتقدُّمها في عصور التاريخ نفس المراحل
الثلاث التي اتَّبعها الفكر نفسه كما اتبعها كل شيءٍ آخر: مرحلة الوجود المجرد، ثم
الوجود الطبيعي، ثم الوجود الروحي في نهاية الأمر.
تلك الحركة الثلاثية تشمل الكون جميعًا بكلِّ مظاهره. لقد
اجتازها التاريخ في سَيره، وسلكَها الفنُّ والدِّين والفلسفة، بل ومرَّ بها
المُطلق نفسه في تطوُّره وتقدُّمه … الوجود أولًا، فالطبيعة ثانيًا، فالروح
ثالثًا، هذا هو سِرُّ العالم وجوهر الله.
تلك هي فلسفة «هجل»، وكأنما هي قصيدة فكرية عظيمة، إنها
بناء شامخ مُتناسق الأجزاء، فكل جزءٍ منها يُمثل الكل، وكل شيءٍ فيها يؤكد ذلك
التثليث الشامل: الوجود فالطبيعة فالروح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق