زكي نجيب محمود؛ قصة الفلسفة الحديثة
وُلد باروخ سبينُوزا في أمستردام من أُسرة برتغالية يهودية ألقَتْ
عصاها في هولندا بعد ما أصابها من نفيٍ وتشريد بسبب عقيدتها الدينية اليهودية التي
شبَّ عليها الفيلسوف في عهد الصِّبا. وكان أبوه تاجرًا ناجحًا ودَّ لو انخرَط ابنه
في سلك التجارة عسى أن يَخلُفه، ولكنه نفَرَ وأبى وآثر أن يُنفق وقته في معبد
اليهود وما يتصل به، ينكبُّ على ديانة قومه وتاريخهم لعلَّه يبثُّ فيهما من روحه الشابة قبسًا يمحو ما
غشاهما من ظلام، وما زال الفيلسوف الفتيُّ منصرفًا إلى ما أخذ نفسه به لا يفتُر
ولا يَنِي حتى أكبره رجال اليهودية الذين تقدَّمت بهم السن، وأملوا أن يكون من هذا
الغلام ضوء ونهوض لجماعة اليهود، ثم لم يكَدْ يفرغ
«سْبينُوزا» من دراسة متن الدين، حتى انتقل إلى شروحه، ثم إلى كتُب ابن ميمون،
وابن عزرا، وحسداي بن شبروت، ثم تناول بالدراسة فلسفة ابن جبريل الصوفية وفلسفة
موسى القُرطبي وغيرهم من فلاسفة اليهود بالأندلس.
قرأ هذا كله قراءةَ درْسٍ وتمحيص، فامتلأت
نفسه بما حوَتْ تلك الأسفار، واستوقف نظرَه كثيرٌ مما جاء بها من آراء، فلقد راعَهُ ما ذهب إليه موسى القرطبي من وحدة الله والكون
واعتبارهما حقيقة واحدة، وصادفته هذه الفكرة نفسها في حسداي الذي ارتأى
أن الكون المادي هو جِسم الله، ثم قرأ في ابن ميمون بحثًا في نظرية ابن رُشد التي
تزعُم أن الخلود لا يتعلق بالأشخاص والأفراد، ولكن هذه الكتُب التي قرأها بذرَتْ
في نفسه بذور الرِّيبة والشك، وأثارت في ذهنه من المسائل والمشاكل ما لم يستطِعْ
حلَّها، فأبَتْ نفسه المتطلعة إلا أن يقرأ ما قاله رجال الفكر في الديانة المسيحية
عن الله، وعن مصير البشر لعلهَّ مُصادِف عندهم ما يشفي غلَّته، فبدأ يدرُس اللغة
اللاتينية حتى استوعبَها، وعن طريقها استطاع أن يُطالع تراث الفكر الأوروبي، سواء
منه القديم والأوسط، فدرس سقراط وأفلاطون وأرسطو، كما درس فلسفة الذريِّين التي
صادفَتْ منه إعجابًا عظيمًا، وطالع الفلاسفة المدرسيين، وأخذ عنهم كثيرًا من
مصطلحاتهم الفلسفية، كما اقتبس منهم طريقتهم الهندسية في استخدام البدائه والتعاريف
والقضايا والبراهين والنتائج، وما إلى هذه من طرُق البحث في الهندسة. كذلك درَس
فلسفة «برونو» ذلك الثائر العظيم الذي أنفق حياته في التجوال من بلدٍ إلى بلد،
والانتقال من عقيدةٍ إلى عقيدة، باحثًا دهشًا مُرتابًا، والذي حكمَتْ عليه محكمة
التفتيش آخِر الأمر أن يُقتَل «من غير أن يُراق دمُه» أي أن يُحرَق حيًّا. وأول ما
استرعى نظر سبينُوزا من آراء «برونو» هي فكرته عن وحدة الوجود، فكل الحقيقة واحدة
في عنصرها، واحدة في عِلَّتها، والله وهذه الحقيقة شيءٌ واحد. كذلك ارتأى برونو أن
العقل والمادة شيءٌ واحد، فكل ذرَّة مما تتألَّف منه الحقيقة مركبة من عنصرٍ مادي
وعنصر رُوحي قد امتزجا، بحيث لا يقبلان التجزئة والانفصال، وموضوع الفلسفة هو أن
تُدرك وحدة الوجود في تعدُّد مظاهره، وأن ترى العقل في المادة، والمادة في العقل.
وقد كان لهذه الفلسفة أثرٌ عظيم في سبينُوزا.
نعم أثَّر كل أولئك في فيلسوفنا أثرًا
كبيرًا، ولكنه فوق ذلك كله مَدين لديكارت بكثيرٍ من فلسفته وتفكيره، فقد استوقفَه
ما ذهب إليه ديكارت من أنَّ الوجود ينحلُّ إلى عنصرين، فالمادة كلها تنطوي تحت
عنصرٍ متجانس، والعقل كله يندرج تحت عنصرٍ آخر متجانس، ولقد أثار هذا التقسيم من
سبينُوزا نزعةً أصيلة فيه نحو التوحيد، وأبى إلا أن يكون الكون بكلِّ ما فيه
عنصرًا واحدًا. كذلك استرعى نظرَه من فلسفة ديكارت تفسيره للعالم كله، ما عدا الله
والنفس، بالقوانين الآلية والرياضية، وهي فكرة بدأتْ عند برونو وجاليليو، ولعلَّها
كانت صدًى لتقدُّم الصناعة الآلية في المدن الإيطالية. فقد زعم «ديكارت» كما زعم
«أناكسجوراس» قبله بألفَي عام، أنَّ الله قد دفع العالم دفعةً واحدة منذ البدائية،
كانت نتيجتها كل هذه الحركات التي تطرأ على الأجسام المادية كائنةً ما كانت، فكل
حركة من حيوانٍ أو إنسان إنْ هي إلا نتيجة حتمية آلية لتلك الدفعة الإلهية الأولى.
وإذن فالعالم كلُّه بما فيه من أجسامٍ آلة تسير مُجبَرة، ولكن خارج هذا العالم
الآلي إلهًا، كما أن داخل جسم الإنسان روحًا. وهنا وقف ديكارت فجاء سبينُوزا
وتناول الكون كله مادة وروحًا وخالقًا ومخلوقًا، وصبَّ الجميع في وحدة لا تنقسم
ولا تتجزَّأ.
تلك كانت المصادر العقلية التي استقى منها
سبينُوزا فلسفته، ذلك الفيلسوف الذي كان يبدو رضيًّا وادعًا وفي صدره أتون مُستعِر
لا يهدأ ولا يستقر، وقد سِيق في سنة ١٦٥٦م إلى محكمة من آباء الكنيسة اليهودية،
فسأله هؤلاء: أصحيح أنك زعمتَ لأصدقائك أن لله جسدًا هو العالم؟ ولا ندري بماذا
أجاب، ثم أصدروا حُكمهم عليه بالكُفر والحِرمان بعد أن أغرَوه براتبٍ سنوي قدره
خمسمائة جنيه، على أن يَظهر للناس بمظهر الخاضع للكنيسة والمؤمن بدينه وعقيدته،
فرفض مِنحتهم في إباء.
(١)
اعتزاله ومَوته
قضت الكنيسة اليهودية بفصل سبينُوزا
ومقاطعته، فقابل الرجل هذا القضاء بصدرٍ رحب وعزْم صليب، وألقى ببصره فإذا هو
وحيدٌ طريد لا يُخالط أحدًا ولا يخالطه أحد، فحزَّت في نفسه مرارة الموقف، حتى إنك
لتراه في كل ما كتَب جادًّا صارمًا لا تعرف الفكاهة سبيلًا إليه، ولقد ظلَّ يحمل لرجال
الدين المَقْتَ والبُغض لِما رأى فيهم من جهالةٍ وحُمق، يقول عنهم في كتابه
«الأخلاق»: «إن هؤلاء (المُفكرين) الذين يميلون إلى البحث في أسباب المُعجزات لكي
يتفهَّموا جوانب الطبيعة تفهُّم الفلاسفة، والذين لا يرضَون لأنفسهم أن يُحدِّقوا
فيها مدهوشين كما يفعل المُغفَّلون، أقول إنَّ هؤلاء سرعان ما يُعتَبرون ملاحِدة
فجَرَة، على حين أن من يحكُم عليهم بهذا أولئك الذين يُمجِّدهم الدَّهماء على أنهم
شُرَّاح للطبيعة والآلهة، وإنهم ليعلمون أنه إذا ما انمَحَتْ ظلمات الجهالة زالتْ
على الفور تلك الدهشة كما يعلمون أنها الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بسُلطانهم».
ولكن سبينُوزا لبِث منبوذًا من قومه، حتى
إنه ذات ليلةٍ بينا هو يسير في الطريق إذ انقضَّ عليه مأفون أخذَتْه حُمَّى الورع
الأحمق، وطعن الشاب الفيلسوف بخنجرِه لعلَّه يتقرَّب بدمه إلى الله، فانطلق
سبينُوزا يعدو سريعًا، وقد أصابه الغِرُّ بجُرح في عنقه، وانتهى فيلسوفنا بعد هذه
الحادثة إلى رأيٍ حاسم، هو أنه لا يستطيع أن يحيا حياة الفلسفة التي يُريد إلا إذا
اعتزل العالم وعاش وحيدًا آمنًا، فيَسبَح بفِكره في الكون كيف شاء، لذلك استأجر
غرفة هادئة في الطابق العلوي من منزلٍ مُنعزل عن مدينة أمستردام، واستبدل باسمه
«باروخ» اسمًا آخر يتنكَّر به هو «بندكت» Benedict، وكان يكسب قُوتَه بادئ
الأمر من تعليم الأطفال في إحدى مدارس المدينة، ثم اشتغل بعد ذلك بصقل العدسات
الزجاجية، وهي مِهنة كان قد تعلَّمها أيام حياته في الجماعة اليهودية، إذ يُحتِّم قانون
اليهود أن يحترِف كل طالبٍ حرفة يدوية لعقيدةٍ عندهم هي أنَّ الإنسان لا يكون
فاضلًا إلَّا بالعمَل.
مضت سنوات خمس انتقل بعدَها صاحب الدار
التي كان «سبينُوزا» يُقيم بها إلى بلدٍ قريبٍ من ليدن Leyden، فرافَقَهُ الفيلسوف لِما
كان قد توشَّج بينهما من روابط الحُب والائتلاف، ولا يزال المنزل الجديد الذي
هبَطاه قائمًا حتى اليوم، ولا يزال الطريق إليه يحمِل اسم هذا الفيلسوف العظيم. في
هذه الدار قضى «سبينواز» أعوامًا يعيش عيشًا غليظًا خشِنًا، ولكنه في تلك الفترة
من حياته سما بفكره وسما حتى بلغ أسمى الذُّرى، وكثيرًا ما كان يقضي في غُرفته
أيامًا ثلاثة يسبَح في تأمُّله دون أن يرى أحدًا، سوى الخادم الذي يُقدِّم إليه
طعامه المُتواضِع. واستأنف «سبينُوزا» في بلده الجديد عمل العدس الزجاجي لكسْب
عيشِه، ولكنه لم يستفد من صناعته هذه إلا أخشنَ العيش، فقد أسلم نفسه للحِكمة التي
اختصَّها بحُبِّه وقلبه، حتى انتهى إلى فشلٍ ذريع في حياته العملية كاد يُعجِزه عن
أن يقيم أودَه، ولكنه كان في بساطة عيشِه سعيدًا هانئًا لما كان يُصادفه من لذَّة
بالغة في التفكير، وقد أجاب رجلًا نصحَه أن يدَع التفكير، وأن يؤمِن بالوحي في غير
تردُّدٍ ولا عناء، بقوله: «إنني أيقنتُ في بعض الأوقات أنَّ النتائج التي وصلتُ
إليها بعقلي الطبيعي باطلة، ولكن ذلك لن يزيدني إلَّا اقتناعًا بالعقل، لأنَّني
سعيد في عملية التفكير نفسها.» نعم، كان فيلسوفُنا سعيدًا في تفكيره، لا يعبأ
بزخرف الحياة كثيرًا أو قليلًا، ولعلَّه أسرف في تقشُّفه، حتى كان لا يرتدي من
الثياب إلا رداءً قذرًا رثًّا تمجُّه العين. ويُروى في ذلك أن كبيرًا من كُبراء
الدولة قصد إليه يومًا لِيراه، فألفاه في كساءٍ قذِر، فامتعض وأنحى على الفيلسوف
باللائمة، ثم منحَه رداءً جديدًا، فأجابه «سبينُوزا» قائلًا: إنَّ الرجُل لا يسمو
به رداء جميل، واعتذر عن الهِبة بقوله إنه لا يُعقَل أن يُلفَّ شيءٌ تافِهٌ في
غلافٍ ثمين.
سبينُوزا في الطريق، منبوذًا من الناس.
قضى سبينُوزا في رينسبرج Rhynsburg سنواتٍ خمسًا كتَبَ
فيها رسالته الصغيرة «في تحسين العقل» كما كتَبَ كتابًا اسمه «الأخلاق مؤيدة
بالدليل الهندسي»، وقد فرغ من هذا الكتاب في سنة ١٦٦٥م، ولكنه لبِث عشرة أعوام دون
أن يُذيعه في الناس، وذلك خشية أن يُصيبه من السجن والتعذيب ما أصاب رجلًا نَشَر
سنة ١٦٦٨م كتابًا يحوي آراء مُماثِلة لما أثبتَه «سبينُوزا» في كتابه، فكان جزاؤه
الحكم عليه بالسجن سنواتٍ عشرًا لم يُتمَّها، ومات في خلالها، وقد ظنَّ فيلسوفنا
أنه مُستطيع نشر كتابه في أمستردام حيث الآراء مكفولة حُريتها نوعًا ما، ولكنه لم
يكد يحل بالمدينة حتى ذاع بين الناس أن «سبينُوزا» سيُصدر كتابًا يحاول فيه أن
يقيم الدليل على إنكار الله، ويقول «سبينُوزا» في خطابٍ أرسله لأحد أصدقائه: «…
يُؤلمني أن أقول إن كثيرًا من الناس قد تقبل الإشاعة على أنها حقيقة، وأن بعض رجال
الدين قد انتهز هذا الموقف فشكوني إلى الأمير وإلى رجال الدولة … فلمَّا جاءني هذا
النبأ من بعض المُخلصين من أصدقائي الذين أكدوا لي أن رجال الدين يتربَّصون بي في
كل مكان، أزمعتُ ألا أنشُر الكتاب حتى يحين الوقت الملائم.» وشاء الله ألا يصدُر
كتاب «الأخلاق» — وهو خير ما أنتجه الفيلسوف — إلَّا بعد موته، إذ نُشر في سنة
١٦٧٧م مُضافًا إليه رسالة في «السياسة» لم يُتمَّها. وكانت كل هذه الكتب مسطورة
باللاتينية؛ لأنها كانت لغة الفلسفة والعلم في أوربا في القرن السابع عشر. وقد
وُجدت له بعد موته رسالة أخرى غير ما ذكرناها أسماها «رسالة موجزة في الله
والإنسان»، أراد بها فيما يظهر أن تكون مقدمة تمهيدية «للأخلاق»، وأما الكتُب التي
نشرَها في حياته فهي «أصول الفلسفة الديكارتية» و«رسالة في الدين والدولة»، وهذه
الأخيرة صدرَتْ خلوًا من اسم المؤلف، فحرَّمت الحكومة بيعها، وكان ذلك عاملًا على
ذيوعها مُتستِّرة وراء عنوانات مختلفة، فسمَّاها بعض الناشرين «رسالة طبية»،
وسمَّاها آخرون «قصة تاريخية» وهكذا، وقد تصدَّى لتفنيد هذا الكتاب عشرات من
الكُتَّاب، وأطلق بعضهم على سبينُوزا، بعد أن عرف أنه المؤلف المُتنكِّر «أنه أفجر
مُلحدٍ شهدته الأرض.» كما تبرَّع فريق كبير من الكاتبين برسائل بعثوا بها إلى
الفيلسوف يقصدون هدايته وردَّه إلى حظيرة الإيمان، نسُوق منها مثلًا رسالة جاءته من
ألبرت برج Albert Burgh، وقد كان تلميذًا سابقًا لسبينُوزا: «لقد زعمْتَ أنك وجدتَ
الفلسفة الصحيحة آخِر الأمر، فكيف عرفتَ أن فلسفتك أصدق مما دُرس في العالم من
قبل، ومما يُدرَس الآن، ومما سيُدرَس في الأيام المقبلة من فلسفات؟ ولندَعْ ما قد
تُنتجه الأيام المقبلة، فهل اختبرتَ الفلسفة كلها، قديمها وحديثها، التي يدرسها
الناس في الهند وفي أنحاء الدنيا جميعًا؟ وإذا سلَّمنا أنك قد اختبرتها اختبارًا
صحيحًا، فمن أدراك أنك قد تخيَّرتَ منها أصحَّها؟ كيف تجرؤ أن تضع نفسك فوق رجال
الدين جميعًا والأنبياء والقدِّيسين والشهداء والعُلماء ومُعلمي الكنيسة؟ ألا إنك
لإنسان منكود، ودودة تسعى على الأرض، نعم إنك جثة وطعام للدُّود، فكيف تُعارض
الحكمة الخالدة بكفرك اللعين؟ علامَ بنيتَ هذا المذهب الأحمق المأفون الأسيف؟ أي
غرور شيطاني دفعك أن تُصدر حكمًا في المعجزات التي يعترف الكاثوليك أنفسهم بأنها
فوق العقول …»
فأجاب سبينُوزا عن ذاك الخطاب بهذا الجواب:
«أنت يا من تزعُم أنك قد وجدتَ آخِر الأمر
أصدقَ الأدباء وأحسن المُعلمين، ثم قصَرتَ إيمانك عليهم، كيف عرفتَ أنهم أحسنُ من
علَّموا الأديان من قبل، ومن يُعلِّمونها اليوم، ومن سيُعلمونها منذ اليوم؟ هل
اختبرتَ كلَّ هذه الديانات قديمها وحديثها، التي يتعلَّمها الناس هنا وفي الهند
وفي أصقاع الأرض جميعًا؟ وحتى لو سلَّمت أنك قد اختبرتها اختبارًا صحيحًا، فمن
أدراك أنك قد تخيَّرتَ منها أقوَمَها؟»
ولكن إلى جانب هؤلاء الساخطين، كان
للفيلسوف طائفة كبيرة من المُعجَبين به المُقدِّرين نبوغه، ومنهم من أوصى له بقدرٍ
كبير من ماله ليُنفق منه عن سَعة، ويكفي أن تعلم أنَّ بين هؤلاء المُعجبين لويس
الرابع عشر الذي أجرى على الفيلسوف راتبًا سنويًّا، وفي مقابل هذا العطف أهدى
سبينُوزا إليه أحد كتُبه الخالدة.
ولمَّا كان عام ١٦٦٥م انتقل «سبينُوزا» إلى
إحدى ضواحي لاهاي ولبث بها خمس سنوات، ثم انتقل إلى لاهاي نفسها، حيث أقام بها،
وبعد عامَين (سنة ١٦٧٢م) هاجم جيش فرنسي أرض هولندا وحاصر لاهاي، ولم يكَدْ يستقر
الجيش الفرنسي الفاتح، حتى دعا قائده «سبينُوزا» أن يزوره في مُعسكره؛ لكي يُقدِّم
له الراتب الذي أجراه عليه ملك فرنسا، ولكي يقدِّم إليه فريقًا من المُعجبين
بفلسفته ممَّن كانوا برفقة الجيش، فلم يتردَّد الفيلسوف في إجابة الدعوة إذ لم يكن
له شأن بالخصومة التي تنشِب بين الدول، بل إنه كان يرفض أن ينتسِب إلى وطنٍ من
الأوطان، ويَعدُّ نفسه «أوروبيًّا»، فلما عاد إلى المدينة بعد زيارته للقائد
الفرنسي، ذاعت في الناس أنباء الزيارة فاحتشد الناس غاضبين يريدون به سوءًا
وشرًّا، ولكنهم ما لبثوا أن تفرَّق شملهم في هدوءٍ وسكينة، إذ علموا أن الرجل
فيلسوف لا يزجُّ بنفسه في معمعان الخصومة والعداء.
وقضى «سبينُوزا» نحبه سنة ١٦٧٧م ولم يتجاوز
الرابعة والأربعين، بعد أن أضناه مرَض السُّل الذي ورثه عن أبوَيه، ولم يكن
فيلسوفُنا يخشى الموت الذي كان يُحسُّ به يدنو إليه بخطواتٍ سِراع، وإنما كان يخشى
أن يضيع كتابه «الأخلاق» الذي لم يجرؤ على نشره بنفسه، وكان هذا الكتاب يقع من
نفسه موقعًا حسنًا؛ لأنه بلغ الذروة، فوضَعَه في قمطرٍ صغير مُقفل، وأعطى مفتاح
القِمطر إلى صاحب الدار، راجيًا له أن يُسلمه بعد موته إلى صديق له هو Jan Reiuwertz، وكان ناشرًا في
أمستردام، ليقوم بنشْر الكتاب.
وفي يوم الأحد العشرين من فبراير، ذهبَتِ
الأسرة التي كان يُساكنها سبينُوزا إلى الكنيسة لأداء صلاتهم، ولم يبقَ معه في
الدار إلَّا صديقه الطبيب مِيَر Meyer، فلمَّا عاد ربُّ الدار وأسرته من الكنيسة ألفَوا الرجل مُلقًى
بين ذراعي صديقه جثَّة هامدة، فوقع نبأ مَوته من أكثر الناس موقعًا أليمًا، فقد
أحبَّتْه العامة الساذجة لوداعته، وأجلَّه العلماء لحِكمته، وسار الناس من كل
طبقةٍ وراء نعشِه يُشيِّعونه إلى مقرِّه الأخير.
(٢)
كتبه وفلسفته
(١) رسالته في الدين والدولة: قد
تكون هذه الرسالة أقلَّ كتب الفيلسوف لذَّةً لنا اليوم، ولعلَّ أول ما دعا إلى
التصغير من قيمتها أن سبينُوزا قد قتل فيها موضوعه بحثًا، وأوضحه إيضاحًا لم يعُد
بعدَه قولٌ لقائل، والكاتب الذي هذا شأنه لا بدَّ أن تنحدِر آراؤه إلى أوساط
المُثقَّفين، فتُصبح في اعتبارهم أدنى إلى الابتذال؛ لأنها فقدَتْ كل ما يدعو إلى
مواصلة البحث والتفكير من غموضٍ وخفاء، ولقد أُصيبَتْ كتُب فولتير بما أُصيبت به
رسالة سبينُوزا في الدين والدولة لإسرافهما في التدليل والتوضيح.
وأساس هذا الكتاب هو أنَّ لغة الإنجيل قد
جاءت وكلها مجازات واستعارات، وهذا التزويق البياني مُتعمَّد فيه، أولًا بسبب
النزعة الشرقية إلى الأدب الرفيع، ومَيله إلى تزويق اللفظ، وثانيًا لأنَّ الأنبياء
والقدِّيسين لا بدَّ لكي يحملوا الناس على اعتناق مذاهبهم أن يُثيروا الخيال، ولذا
تراهم يبذلون وُسعَهم لطبع أنفسهم وكتُبهم بطابع الشعب الذي يعيشون فيه «فقد
كُتِبَ كل كتابٍ مُنزل لشعبٍ بعينه أولًا، وللجنس البشري كله ثانيًا، فيجِب إذن أن
يُلائم ما فيه عقلية الشعب ما وجَدَ السبيل إلى ذلك.» إنَّ الكتب المُنزلة لا
تفسِّر الأشياء بأسبابها، ولكنها ترويها بأسلوبٍ يؤثر في نفوس الناس وخاصة
جمهورهم، لكي تحملهم على التفاني في العقيدة «فليس موضوع الكتاب المنزل إقناع
العقل، بل جذْب الخيال والسيطرة عليه.» ولهذا يكثُر فيه ذِكر المعجزات «يظنُّ
الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجلَّيان في وضوحٍ إلا بالحوادث الخارقة التي
تُناقِض الفكرة التي كوَّنوها عن الطبيعة … إنهم يحسبون أن الله يكون مُعطلًا ما
دامت الطبيعة تعمل في نظامها المعهود، وعكس ذلك صحيح أيضًا، أي أن قوة الطبيعة
والأسباب الطبيعية هي التي تتعطَّل ما دام الله فعَّالًا، وهكذا هم يتخيَّلون
قوَّتَين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله، وقوة الطبيعة.» (وهنا نلمس أساس
فلسفة «سبينُوزا» وهو أنَّ الله وسير الطبيعة شيء واحد)، ويميل الإنسان إلى
العقيدة بأنَّ الله يحطم النظام الطبيعي للحوادث من أجلهم، فنرى اليهود يُعلِّلون
إطالة النهار، وتأخير غروب الشمس بأنها مُعجزة تُثبت أنهم شعب الله المختار، ولو
قال موسى لقومه: إنَّ البحر الأحمر قد انحسرت مياهُه بسبب الرياح الشرقية لما كان
لقوله أثر في نفوسهم، ولعلَّ منزلة الأنبياء والقديسين التي يمتازون بها عن
الفلاسفة والعلماء ترجع إلى حدٍّ كبير إلى أسلوبهم البياني الساحر الذي ينطقون به
مدفوعين بما تُكنُّه صدورهم من حماسة لمذهبهم.
يقول سبينُوزا إنه لو فسَّر الناس الإنجيل
على هذا الأساس لما وجدوا فيه شيئًا يُناقِض العقل، أما إذا تمسَّكوا بحرفيَّتِه
فهم لا شكَّ مصادفون كثيرًا من الأخطاء والمُتناقِضات، أما التفسير الفلسفي فيكشف
فيه وراء أستار البيان والشعر، فكرًا عميقًا.
ويعتبِر «سبينُوزا» اليهودية والمسيحية
دينًا واحدًا، فلا فرق بين هذه وتلك على شرْط أن يُستلَّ الكُره من صدور
الدَّهماء، وأن يستخرج التفسير الفلسفي لبَّ العقيدتَين المُتنافستَين «كم أدهشني
أن أرى قومًا يُفاخرون بتعاليم الديانة المسيحية — وأعني بها الحبَّ والسعادة
والسلام والعدل والإحسان إلى الناس جميعًا — يقاتل بعضهم بعضًا وفي نفوسهم كلُّ هذا
الغل … حتى أصبح الكُره — دون ما يُعلِّمون من فضائل — هو المقياس الصحيح
لعقيدتهم.» ويعتقد «سبينُوزا» أن اليهود لم يحتفظوا ببقائهم إلا بسبب اضطهاد
المسيحية لهم، إذ أكسبتهم عُزلتهم تماسُكًا وعملًا على استمرار وجودهم، ولو لم
ينبذ المسيحيون اليهود لخالَط هؤلاء شعوب أوربا وانمَحَوا فيها، وليس ثمة ما
يُبرِّر التنافر والتناكُر بين المسيحيين واليهود إلا التعصُّب الذميم. ويرى
«سبينُوزا» أن أول سبيلٍ لحُسن التفاهُم هو أن يُفهم المسيح فهمًا صحيحًا، فهو
يُنكر بتاتًا تأليه المسيح، ويُصرُّ على أنه قبل كلِّ شيءٍ إنسان من البشر: «إن
حكمة الله الخالدة قد تجلَّت في الأشياء كلها، ولكنها تمثَّلت في عقل الإنسان
بصفةٍ خاصة، وفي يسوع المسيح بصفة أخص.» فلو تخلَّصت هذه الشخصية المُمتازة من كل
ما يشوبها من خُراقات لا تؤدي إلا إلى الخصومة والنزاع، لجذبت حولها الناس جميعًا،
ولكانت عنوانًا تتَّحِد باسمه الدنيا بعد أن مزَّقتْها حروب السيف والقلم، وتعيش
في طمأنينة وسلام.
(٢) إصلاح العقل The Improvement of the Intellect: يستهلُّ سْبينُوزا كتابه هذا بفصلٍ
هو من آيات الأدب الفلسفي. يُحدِّثنا فيه عمَّا دفعه إلى اعتناق الفلسفة دون ما
عداها فيقول: «بعد أن علَّمتني التجربة أن كل ما يحدُث في الحياة العادية عبَث
وباطل. ورأيتُ أن الأشياء التي كنتُ أخشاها، وكانت تخشاني ليس فيها خيرٌ أو شرٌّ
إلا بمقدار ما يتأثَّر به العقل، اعتزمتُ أخيرًا أن أبحث عمَّا إذا كان هنالك شيء
يصحُّ أن يكون خيرًا بحق، ويمكن للعقل أن يتأثر به إلى حدٍّ يستغني به عن كل شيءٍ
آخر، أقول إني اعتزمتُ أن أرى هل أستطيع أن أكشف وأن أبلُغ المقدرة على التمتُّع
بالسعادة السامية الدائمة الأبدية … لقد وجدتُ في الشرَف والثراء حسناتٍ كثيرة لنا
… وأنه كلما ازداد ما يملكه الإنسان من أيهما ازدادت سعادته، وازداد تبعًا لذلك
تحمُّسًا للاستزادة منهما، ولكن إن خاب أمَل الإنسان فيهما يومًا، أحسَّ في نفسه
أعمق الألم، وفي الشهرة كذلك هذا النقص العظيم، فإن نحن نشدناها وجَبَ علينا أن
نوجِّهَ حياتنا في طريقٍ يتفق ورضا الناس، مُتجنِّبين ما يكرهونه، مُلتمسين ما
يبعَثُ فيهم السرور، ولكن العقل لا يظفر بسعادته التي لا يشوبها الألم إلا إنْ
تَوجَّه بِحُبه نحو شيءٍ خالد غير محدود … إن الخير الأسمى هو معرفة الاتحاد بين
العقل وسائر الطبيعة كلها … وكلما ازداد العقل علمًا ازداد فهمًا لقواه ولنظام
الطبيعة، وكلما ازداد فهمًا لدوافعه وقواه ازداد مقدرةً على توجيه نفسه، وعلى أن
يضع القوانين لنفسه، وكلما ازداد فهمًا لنظام الطبيعة ازداد تمكُّنًا من تحرير
نفسه مما لا فائدة فيه، وتلك وحدَها هي سبيل السعادة.»
إذن فالعلم قوة وحُرية، والسعادة الدائمة
هي في تحصيل المعرفة ولذَّة الفهم، وهنا تُجابِه سبينُوزا مشكلة عويصة مُعقَّدة،
هي: كيف أعلم أن ما حصَّلتُ من معرفة هي صحيحة؟ ومن يُدريني أن حواسِّي صادقة فيما
تنقل إلى الذهن من علم، وأن عقلي أمين على النتائج التي يستخلصها من أشتاتِ
الأحاسيس التي تُقدِّمها له الحواس؟ إنه لجديرٌ بنا حقًّا أن نختبر العربة قبل أن
نُسلِّم أنفسنا لها، فإن وجدْنا بها عيبًا أو نقصًا تناولناه بالإصلاح، تفاديًا
لما قد يؤدي إليه من خطر، «فقبل كلِّ شيء يجِب علينا أن نُفكر في طريقةٍ لإصلاح
العقل وتنقيته.» ويَجِب أن نُفرِّق بين أنواع المعرفة كي لا نأخُذ إلا أقومَها وأوثقَها.
فأول أنواع المعرفة هو ما جاء عن طريق
الإشاعة، كعِلمي بتاريخ ميلادي، وثانيها التجربة الغامضة الناقِصة، كأن يعلم
الطبيب علاجًا، لا لأنه نتيجة لتجارب علمية مؤكَّدة، ولكن لأن ذلك العلاج
المُعيَّن ينجح «عادة». وثالث أنواع المعرفة هو ما نصِل إليه بطريق الاستدلال
والاستنتاج، كأن نعتقد بكبر الشمس؛ لأننا شاهدنا أنَّ الأشياء جميعًا يصغر ظاهر
حجمها كلما نأتْ عن الرائي، وهذه المعرفة أرقى من النوعَين الأوَّلين، ولكنها مع
ذلك عُرضة للتغيير والتبديل، وأسمى ألوان المعرفة نوع رابع هو ما نُدركه بالبداهة،
كأن نعلم على الفور أن ٦ هو العدد المحذوف في النسبة الآتية ٢ : ٤ – ٣:س، أو كما
نُدرك أن الكل أكبر من الجزء. ويعترف «سبينُوزا» نفسه أن ما عرَفه هو من هذا الضرب
قليل، وهذه المعرفة البديهية هي إدراك الأشياء في علاقاتها الأبدية، ويصحُّ أن
يكون هذا تعريفًا للفلسفة كما يراها، فالعلم البديهي إذن يحاول أن يرى وراء
الأشياء والحوادث التي تقع تحت حواسِّه قوانينها وعلاقاتها الخالدة، إذ يُفرِّق
«سبينُوزا» بين النظام الزائل المؤقَّت — وأعني به عالم الأشياء والحوادث — وبين
النظام الخالد، وهو عالم القوانين التي تسير وفقَها تلك الأشياء والحوادث.
(٣) الأخلاق: ننتقل الآن
إلى دراسة كتاب «الأخلاق» الذي لا نُبالغ إن زعَمْنا أنه أنفسُ ما أنتجته الفلسفة
الحديثة على الإطلاق، وقد كتبَه «سبينُوزا» على نحو ما تُكتب البراهين الهندسية،
رجاء أن تتضِح أفكاره وضوح نظريات الهندسة، فكانت النتيجة أنْ جاء الكتاب مُوجزًا
غامضًا، يعسُر فَهمُه على الكثرة الغالبة من القرَّاء المُستنيرين، ويزيده غموضًا
أنَّ فيلسوفنا لم يجْرِ في استعمال المُصطلحات الفلسفية مجرى غيره من الفلاسفة، بل
غيَّر فيها وبدَّل، فلن يُجدي عليك شيئًا أن تقرأ كتاب «الأخلاق» كما تقرأ سائر
الكتُب، بل لا بدَّ لك أن تقِف عند كلِّ سطرٍ وكل عبارة وقفةً طويلة لتُسيغ
معناها،٣ فقد أبى
الفيلسوف إلَّا أن يضغط فِكر العصر كله في مائتي صفحة كتبَها بطريقة كتابة
النظريات الهندسية، فجاء كل جزءٍ من أجزاء الكتاب مُعتمدًا على ما سبقَه، وإذن فلن
تفهَم من الكتاب شيئًا إلَّا إذا قرأتَه كلَّه وفهمته كله حقَّ الفهم، وعن ذلك
يقول «سبينُوزا» في هذا الكتاب نفسه: «هنا سيرتبِك القارئ بغير شك، وسيذكُر أشياء
كثيرة ستنتهي به إلى الوقوف والحيرة، وإني لهذا أرجوه أن يسير معي في تؤَدة، وألا
يكوِّن لنفسه حُكمًا على هذه الأشياء إلا إذا فرغ من قراءة الكتاب كله.» وها نحن
أولاء نتناول بالشرح المُوجَز ما جاء في هذا الكتاب:
(أ) الطبيعة والله: يذهب
«سبينُوزا» إلى أن في الكون حقيقة شاملة يُسمِّيها جوهرًا Substance، وليس يعني بهذه الكلمة
مدلولها المُباشر الذي يفهم منها، وهو مادة الشيء أو عنصره، كقولنا مثلًا إن
الخشَب مادة هذا القلم، ولكنه يقصد بها الحقيقة الكائنة وراء الأشياء،٤ وأما هذه
الأشياء التي تقع تحت الحسِّ فأعراضٌ زائلة فانية، فأنت وجسدك وأفكارك وعشيرتك
ونوعك الإنساني وأرضك التي تعيش عليها، إنْ هي إلا أعراضٌ زائلة، تنمُّ عن حقيقة
خالدة كامنة فيها، فقد يزول الشيء ويفنى، ولكن الحقيقة التي تتمثَّل فيه باقية لا
تخضع لزوالٍ أو فناء.
وهو يرى أنَّ للطبيعة أو الكون مظهرَين،
فهي فعَّالة مُنشئة خالقة من ناحية، وهي مُنفعِلة مخلوقة من ناحيةٍ أخرى، فأما هذا
الجانب المُنفعِل فهو الدنيا وما تحوي من غابات وهواء وماء وجبال وحقول، وما إلى
هؤلاء من صورٍ حِسِّية لا تقع تحت الحصر، وهذه الطبيعة كلها هي من إنتاج الجانب
الفعَّال وخلقِه، وإذن ففي الكون قوة تخلُق هي ما يُسمِّيها «جوهرًا» Substance، وبعبارة أخرى هي الله،
وفيه أشياء مخلوقة هي «الأعراض» Modes أو العالم.
من ذلك نرى أن «سبينُوزا» يُقسِّم الكون
إلى جوهر وعرض، إلى قديم وحادث، إلى الله والعالم المحسوس، أما الجوهر أو الله فهو
حقيقة لا مادَّة لها، بخلاف عالم الأشياء. ولنوضِّح فكرة «سبينُوزا» بهذه الرسالة
الآتية:
إني أتصوَّر الله والطبيعة في صورة تُخالِف
كل المخالفة الصورة التي يرسُمها المسيحيون المتأخِّرون المُحدثون عادة، إنني
أعتقد أن الله هو السبب الكامن للأشياء كلها … إني أزعُم أن كل شيء كامن في الله،
وكل شيء يحيا ويتحرَّك في الله، وإني مُتفق في ذلك مع القديس بولس Paul … ومن الخطأ الجسيم
أن يقول قائل إنني أريد أن أُبيِّن أن الله والطبيعة شيءٌ واحد … والقائلون عنِّي
بذلك يفهمون من لفظ الطبيعة كتلة مُعيَّنة من المادة المجسَّدة. كلا، لستُ أريد أن
أقول شيئًا كهذا.
إنما يريد «سبينُوزا» أنَّ قوانين الطبيعة
وأوامر الله الخالدة شيءٌ واحد بعَينه، وأنَّ كل الأشياء تنشأ من طبيعة الله
اللانهائية، كما ينشأ من طبيعة المُثلَّث أنَّ زواياه الثلاثة تُساوي قائمتين. أي
أنَّ الله بالنسبة إلى العالم كقوانين الدوائر بالنسبة إلى الدوائر كلها. الله هو
القانون الذي تسير وفقه ظواهر الوجود جميعًا بغَير استثناء أو شذوذ، فهذا الكون
المُجسَّد من الله بمنزلة الجسر (الكوبري) من قوانينه الرياضية والميكانيكية التي
بني على أساسها؛ إذ القوانين هي جوهر الجسر وقوامه إن زالَتْ انْدكَّ الجسر على
الأثر.
كثيرًا ما يُخطئ الناس فَهم فلسفة
«سبينُوزا» التي تُوحِّد بين الله والطبيعة، فيذهب بهم الظنُّ أنَّ «سبينُوزا»
يُريد بذلك أن يُصغِّر من شأن الله، فيُنزله إلى مرتبة الطبيعة، والواقع كما يقول
هو: «إنني في حقيقة الأمر لم أهبط بمنزلة الإله إلى مستوى الطبيعة، بل رفعتُ
الطبيعة إلى مستوى الله.»
ويقول الدكتور ولف Dr. Wolf في مقاله الذي كتبَه
عن «سبينُوزا» في دائرة المعارف البريطانية: «بدَل أن تكون الطبيعة من ناحية، وأن
يكون إلهٌ فوق الطبيعة في ناحيةٍ أخرى، فقد ذهب «سبينُوزا» إلى أنَّ للحقيقة
عالمًا واحدًا، هو الطبيعة والله في آنٍ واحد، وليس في هذا العالم مكان لِما فوق
الطبيعة، وهذه النزعة الطبيعية من «سبينُوزا» يفسد معناها لو بدأ القارئ بفكرة
مادية سخيفة عن الطبيعة، وبذلك يتوهَّم أن «سبينُوزا» قد حقَّر من شأن الله،
والحقيقة أنه ارتفع بالطبيعة إلى مرتبة الإله بأنْ تصوَّر أن الطبيعة هي الحقيقة
كاملة، هو «الواحد» وهي «الكل» … والواقع أنَّ الله والطبيعة ينطبق أحدهما على
الآخر إذا تصوَّرنا أن كلًّا منهما هو الكائن الكامل الذي أوجد نفسه بنفسه.»
إن إرادة الله وقوانين الطبيعة اسمان يُطلقان
على مُسمًّى واحد، وإذن فكل ما يقع للعالم من أحداث إن هو إلا نتيجة آلية لقوانين
الطبيعة الثابتة، أي إنها نتيجة لإرادة الله التي لا يطرأ عليها تغيُّر ولا
تبدُّل، وليست هذه الآلية تقتصر على المادة والجسم فقط كما ذهب «ديكارت»، إنما هي
في زعم «سبينُوزا» تمتدُّ فتشمل الله والعقل على السواء. إن العالم مُجبَر مُسيَّر
في طريقٍ معلومة مرسومة ليس عن السير فيها من محيص؛ ذلك لأنَّ قوانين الطبيعة — أي
إرادة الله — لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، وهي لا بدَّ أن تُنتِج نتائجها من غير نظرٍ
إلى الإنسان ورغبته، فمن أفدح الخطأ أن نظنَّ أن حوادث العالم تدور حول محور
الإنسان، وأنها دُبِّرت تدبيرًا لكي تنتهي إلى غاية يُريدها، إذ من الوهم أن نضع
البشر في مركز العالم، ولعلَّ أساس الأخطاء التي زلَّ فيها كثير من الفلاسفة هو
إدخال المقاييس البشرية في سَير العالم، ومن هنا نشأت مسألة الشر، ناسين أن الله
فوق خيرِنا وشرِّنا، وأن الخير والشرَّ نِسبيَّان يتبعان أذواق البشر وأغراضهم.
يقول «سبينُوزا»: إنَّ الإنسان يحكم أحيانًا على حوادث العالم بأنها عبَث أو شر؛
لأنه لا يرى الكون إلا من جانبٍ واحد، فهو جاهل بنظام الطبيعة وقانونها الشامل
وتماسُكها وتكوينها كلًّا واحدًا، وهو يريد أن تجيء الأشياء وفق ما يبغي، مع أن ما
يحكُم عليه الإنسان بالشر ليس شرًّا بالنسبة إلى قانون الطبيعة ونظامها، فالخير
والشر كلمتان لا تدلَّان على شيءٍ إيجابي، بل هما آراء شخصية تتغيَّر بتغيُّر ظروف
الإنسان، ولا تعترف بهما الحقيقة الخالدة، وقل هذا في القبيح والجميل، إذ هما كذلك
أمران اعتبارِيَّان لا يدلَّان على حقيقة واقعة «إنني لا أعزو للطبيعة جمالًا ولا
قبحًا، ولا أنسِبُ إليها نظامًا أو تهويشًا، فإن الأشياء لا يمكن أن تُسمَّى جميلة
أو قبيحة، أو أنها حسنة الترتيب أو سيئته إلا بالنسبة إلى مَداركنا نحن»، «فإن
كانت الحركة التي تستقبلها الأعصاب من الأشياء التي أمامنا بواسطة الأعيُن تؤدي
إلى الأريحية، فإنها عندئذٍ تُسمَّى جميلة، وإن لم تكن كذلك سُمِّيت قبيحة.»
وكما أدخل الإنسان شخصيته في النظر إلى
الحقيقة الخالدة من حيث الخير والشر والجمال والقُبح، فقد نظر إلى الله أيضًا من
وجهة نظرٍ بشرية محضة، أما «سبينُوزا» فيرفُض هذه النظرة رفضًا قاطعًا، ويُنكر أن
يكون الله شخصًا بأيِّ معنًى من معاني هذه الكلمة، ويلاحظ أن قد تواضَع الناس على
تصوير الله في صورة المُذكَّر لا المؤنث، فمثلًا يُقال عنه هو ولا يُقال هي،
ويُعلِّل «سبينُوزا» هذا التذكير لله بخضوع المرأة للرَّجُل. فمن هذه السيطرة التي
يتمتَّع بها الرجل توهَّم الإنسان أن الله لا بدَّ أن يكون مُذكرًا في نوعه،
وبديهي أنه لا يتَّصِف بصفةٍ بشرية. وقد كتب «سبينُوزا» إلى رجلٍ اعترض عليه في
تصويره لله بصورة غير مُشخَّصة، قال: «إنك حين تنقُدني لأنني أُنكِر أن يكون لله
بصر وسمع وعلم وإرادة وما إليها … لا تدري أي نوع من الله إلهي، وإني لأحسبك
مُعتقدًا بأنه ليس أكمل ممَّن يتَّصِف بالصفات السابقة، وكم يُدهشني ذلك، وإني
أعتقد أن المُثلث إذا استطاع أن يتكلَّم لزعم على هذا النحو بأن الله مُثَّلثي في
صفاته. كذلك تقول الدائرة إنَّ طبيعة الله دائرية في أساسها، وهكذا يخلع كل شيءٍ
صفاته الخاصة على الله.»
وإذن لا العقل ولا الإرادة جزء من طبيعة
الله بمعناهما المعروف، ولكن إرادة الله هي مجموع الأسباب كلها والقوانين كلها
التي تسير في الطبيعة على أساسها، وعقل الله هو مجموع العقول كلها المُنبثَّة في
الكون. يقول «سبينُوزا»: «إن عقل الله هو كل القوة العقلية المُنبثَّة في أرجاء
المكان والزمان، هو الإدراك المُنتشِر في العالم وهو الذي ينفخ فيه الحياة.» «فكل
الأشياء حية بدرجات.» «والحياة أو العقل جانب واحد لكل ما نعهد من أشياء كما أنَّ
الامتداد المادي — أي الجسم — جانب آخر. وهذان العقل والجسم هما الوجهان أو
الصفتان اللتان بهما نُدرك عمل الله، وبهذا المعنى يمكن أن يُقال عن الله إن له
عقلًا وجسمًا، فلا المادة وحدَها ولا العقل وحدَه هو الله، ولكنه العملية العقلية
والعملية الذرية اللتان منهما يتألَّف الكون وتاريخه. نعم إنَّ الله هو هذان
الجانبان معًا وما يسيرهما من أسباب وقوانين.»
(ب) المادة والعقل: وما
دُمنا بصدد المادة والعقل، فلَنا أن نتساءل: ما هما؟ أيمكن أن يكون العقل ماديًّا،
كما يظن فريق كبير من ذوي الخيال الضيق المحدود، أم الجسم المادي مجرَّد فكرة
عقلية، كما يزعم ذوو الخيال الشارد؟ وكيف يؤثر العقل في الجسم أو الجسم في العقل؟
وهل صحيح ما ذهب إليه «مالبرانش» أنهما مُستقلَّان لا يتصِل أحدهما بالآخر، وكل
الأمر أنهما يسيران في خطَّين متوازيَين؟
يُجيب «سبينُوزا» عن ذلك بأنْ ليس العقل
مادة ولا المادة فكرًا، فلا يؤثر العقل في الجسم ولا يؤثر الجسم في العقل، ولا هما
مُستقلَّان متوازيان إذ ليس هنالك عمليتان، وليس هنالك وجودان مادة وعقل، بل إنَّ
في الكون شيئًا واحدًا وعملية واحدة، تراها من الداخل فكرًا ومن الخارج حركة، نعم
هنالك وجود واحد يظهر تارة عقلًا وطورًا مادة، ولكن ليس في الواقع إلا مزيج مندمج
من العنصرَين، وإذن فالعقل والجسم لا يؤثر أحدهما في الآخر؛ لأنهما ليسا شيئين، بل
شيءٌ واحد «فلا يستطيع الجسم أن يحمِل العقل على أن يُفكر، ولا يستطيع العقل أن
يحمِل الجسد على أن يتحرَّك أو يسكُن أو يتَّخذ وضعًا آخر.» وعلَّة ذلك هي أن
«حُكم العقل رغبة الجسد وميوله … شيء واحد بعينه.» وليس هذا الازدواج قاصرًا على
الإنسان إنما هو كائن في كل شيء، فأينما وجدتَ عملًا «ماديًّا» فليس ذلك إلا
جانبًا واحدًا من العملية الحقيقية التي لا يراها بوجهَيها إلا النظر الشامل الذي
يمكنه أن يُدرك العملية العقلية الباطنة المُتستِّرة وراء الظاهرة المادية، وهي
أشبَهُ شيءٍ بخلجات العقل في الإنسان. وعلى ذلك فكل عملية «عقلية» يُقابلها عملية
«مادية»، «ونظام الأفكار وارتباطها هو نفس نظام الأشياء وارتباطها.» وإذن فعُنصر
الفكر وعنصر المادة المُمتدَّة شيء واحد، يبدو مرة فكرًا، ومرة امتدادًا.
ليس هناك فرقٌ حقيقي بين العقل، كما يُمثله
الله، وبين المادة، كما تُمثِّلها الطبيعة، فهما شيءٌ واحد «يُسمَّى بالله آنا،
وبالطبيعة آنًا آخر تبعًا لوجهة نظر الرائي، فليس العالم المرئي منفصلًا عن الله،
بل هو مظهره الذي يبدو به لا أكثر، والعالم يتدفَّق منه؛ لأنه الينبوع الأول الذي
تصدُر عنه الحياة وجواهر الأشياء، كما يصدر الشيء النهائي من اللانهائي، أو كما
يصدر التعدُّد من الوحدة، والله هو الوحدة التي تعود تلك الأشياء المتعددة فتُلقى
فيها مرة أخرى. «الامتداد» هو «فكر» مرئي، والفكر هو امتداد خفي، وهذا يوضح
العلاقة بين الجسم والعقل وما بينهما من انسجام تام.»
من ذلك نرى أن «سبينُوزا» قد أزال الحدَّ
الفاصل بين الجسد والعقل، واتخذ منهما حقيقة واحدة ذات مظهرَين، وما دام الأمر
كذلك فليس العقل والإرادة شيئَين مختلفين، إنما هما حقيقة واحدة، وكل ما بينهما من
فرقٍ هو خلاف في الدرجة لا في النوع. فمن الخطأ أن نزعُم بأنَّ للعقل «ملكات»
منفصلًا بعضها عن بعض، إذ ليس العقل حانوتًا يتَّجِر بأنواع الفكر، فهذا خيال،
وهذه ذاكرة، وتلك إرادة، ولكنه هو الأفكار نفسها في سيرها وتسلسُلها، ولفظة
«العقل» إنما نُطلقها اصطلاحًا على سلسلة الأفكار، كما نطلق لفظ «الإرادة» على
سلسلة الأفعال والرغبات، مع أن كل فكرة وكل رغبة فيها العقل وفيها الإرادة معًا،
لا فرق بين فكرة وفكرة، أو بين رغبة ورغبة «كما أن الصخرية موجودة في كل صخرة.» لا
فرق بين واحدة وأخرى. وصفوة القول إن «الإرادة والعقل شيء واحد؛ لأن المشيئة فكرة
طال بقاؤها في الشعور، ثم تحوَّلت إلى عمل، وكل فكرة لا بدَّ أن تصير عملًا، إلا
إذا عطَّلتْها عن ذلك فكرة مُعارضة، فالفكرة هي المرحلة الأولى لعملية عضوية
متماسكة، ويُتمِّمها العمل الخارجي.»
ويرى «سبينُوزا» أن ما يُسمَّى بالإرادة هو
في الواقع رغبات أو غرائز أساسها جميعًا هو حفظ بقاء الفرْد، فكل نشاطٍ بشري —
مهما تنوَّع واختلف — صادِر عن هذه الرغبة في حفظ البقاء، شعر بذلك الإنسان أو لم
يشعُر، وفي ذلك يقول: «كل شيء يحاول أن يُبقي على وجوده، وليس هذا المجهود لحفظ
بقائه إلا جوهر حقيقته، فإنَّ القوة التي يستطيع بها الشيء أن يبقى هي لبُّ وجوده
وجوهره، وكل غريزة هي خطة هذَّبتها الطبيعة؛ لكي تكون سبيلًا لبقاء الفرد، والسرور
والألم هما إجابة غريزة أو تعطيلها، فهما ليسا سبَبَين لرغباتنا، ولكنهما نتيجة
لها، إذ نحن لا نرغب في الأشياء لأنها تسُرُّنا، بل هي تسرُّنا لأننا نرغب فيها؛
إذ لا مندوحة لنا عن ذلك.»
فإن صحَّ ما زعَمه «سبينُوزا» من أن
الإنسان مدفوع برغبة كامنة فيه لحفظ بقائه، ولا يسَعُه إلا أن ينصاع لها، فليس
للإنسان إرادة حُرة؛ لأن ضرورة البقاء تُحدِّد الغرائز، والغرائز تحدِّد الرغبة،
ثم الرغبة تُقيِّد الفكر والعمل، «فليس للعقل إرادة مطلقة أو حرة، ولكنه حينما
يريد هذا الشيء أو ذاك مُسيَّر بسبب، وهذا السبب يُسيِّره سبب آخر، وهذا يُسيره
ثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية.» وقد يتوهَّم الناس أنهم أحرار؛ لأنهم يُدركون
رغباتهم وشهواتهم، ولكنهم يجهلون الأسباب التي تدفعهم أن يرغبوا ويشتهوا، وهنا
يُشبِّه «سبينُوزا» الإنسان في حياته بحجَرٍ مُلقًى لا يملك في نفسه اختيارًا، غير
أنه لو وُهِب شيئًا من الشعور لزعم مع ذلك أنه إنما يسير في هذا الاتجاه المُعيَّن
برغبته، وأنه هو الذي رسم لنفسه مكان السقوط.
وما دامت الأعمال البشرية تَسير وفق قانونٍ
ثابت كقوانين الهندسة مثلًا، فيجب ألا يدرس الفيلسوف النفس الإنسانية إلا كما
يُعالِج جمادًا. وفي هذا يقول سبينُوزا: «إنَّني سأكتُب عن الكائنات البشرية كما
لو كان موضوع دراستي خطوطًا وسطوحًا وأجسامًا صُلبة.» «فلن أسْخَر ولن أرثي أو
أمقُت الأعمال البشرية، ولكني أريد أن أفهمها، ولذلك نظرتُ إلى العواطف … لا
باعتبارها شرورًا في الطبيعة البشرية، ولكن بصفتها خواصَّ لازمةً لها كما تلازم
الحرارة والبرودة والعواصف والرعد وما إليها طبيعة الهواء.»
وهذا الدرس الموضوعي للسلوك الإنساني قد
مكَّن «سبينُوزا» من أن يُخرِج للناس بحثًا في الأخلاق لا يكاد يدنو منه كتابٌ
قديم أو حديث. ويقول عنه فرويد العالم السيكولوجي المُعاصر: «إنه أكمل دراسة جاء
بها فيلسوف أخلاقي في أي عصر من العصور.»
(ﺟ) العقل والأخلاق: للأخلاق
الكاملة أو بعبارةٍ أخرى للمَثَل الأعلى للأخلاق صور ثلاث: أوَّلها ما دعا إليه
بوذا والمسيح، من رحمةٍ ولِين، واعتبار الناس جميعًا سواسية لا يمتاز رجلٌ عن رجل،
وهما يدفعان الشرَّ بالخير، ويوحِّدان بين الفضيلة والحب، ويميلان في السياسة إلى
الديموقراطية المُطلقة، وثانيها ما دعا إليه ماكيافيلي ونيتشه، من تحبيذ القوَّة
وعدَم المساواة بين الناس، وهما يدعوان إلى القتال، إذ يرَيان أن فيما فيه من
أخطار وانتصار لذَّة الحياة كلها، وعندهما أن الفضيلة هي القوَّة، ويُنادِيان في
السياسة بتسليم الحُكم إلى طبقة أرستقراطية، وثالثها أخلاق سقراط وأفلاطون وأرسطو،
الذين ينكرون إمكان تطبيق أحد المِثالين السابقَين تطبيقًا مُطلقًا عامًّا، فلا
القوة وحدَها ولا الرحمة وحدَها تستطيع أن تسود، وهم يعتقدون أن العقل المُثقَّف
الناضج وحدَه هو الذي يستطيع أن يحكُم — تبعًا للظروف المختلفة — متى يجب أن يسود
الحب، ومتى ينبغي أن تتحكَّم القوة، وهم بذلك يُوحِّدون بين الفضيلة والعقل، ويرون
أن تكون الحكومة السياسية مزيجًا من الأرستقراطية والديمقراطية.
تلك صور ثلاث من الأخلاق المثالية كما رآها
الفلاسفة في عصورٍ مختلفة، وقد تناولها سبينُوزا فآخى بينها وأدمجها جميعًا في
وحدة منسجمة، فأنتج للإنسانية نظامًا للأخلاق هو أسمى ما سما إليه الفكر الحديث.
بدأ سبينُوزا البحث بأن اتَّخذ السعادة
غرضًا للأخلاق، وعرَّف السعادة بأنها وجود اللذَّة وانتفاء الألم، ولكن اللذَّة
والألم نِسبيَّان وليسا مُطلقين، بل ليست اللذَّة والألم حالتَين مُعيَّنتَين،
ولكنهما حالتا انتقال «فاللذَّة هي انتقال الإنسان من حالة كمالٍ أدنى إلى حالةٍ
أعظم كمالًا»، «والألم هو انتقال الإنسان من حالة كمالٍ أعظم إلى أخرى أقلَّ
كمالًا.» وأنا أقول: إن اللذَّة انتقال؛ لأنَّ اللذَّة ليست الكمال ذاته، فإذا
وُلد إنسانٌ كاملًا ما شعَر بعاطفة اللذَّة، ونقيض هذا يزيدُ الأمر وضوحًا،
فالعواطف والمشاعر هي في حقيقة أمرِها تَحَرُّك وانتقال نحو الكمال والقوَّة، أو
منهما فنازلًا.٥ يقول سبينُوزا:
«أنا أفهم من العاطفة emotion أوضاع الجسد التي تزيد فيه أو تنقُص منه قوة العمل، والتي
تعاون أو تُعطِّل هذه القوة، وأفهم منها في الوقت نفسه الأفكار والتصوُّرات التي
تصحَب تلك الأوضاع.» فالعاطفة أو الشعور لا يكون خيرًا أو شرًّا في نفسه، ولكن
بمقدار ما ينقُص من قوَّتنا أو يزيد، وإني لأقصد معنًى واحدًا من لفظتَي القوة
والفضيلة، إذ الفضيلة عندي إنما هي قوة العمل، وإذن فهي ضرْبٌ من القوة «فكلَّما
استطاع الإنسان أن يحتفِظ ببقائه، وأن يبحث عما ينفعه كان قِسطه من الفضيلة أعظم.»
ويطلُب «سبينُوزا» من الإنسان أن يُضحِّي بنفسه من أجل غيره، بل الأنانية عندَه
نتيجة لازمة للغريزة العُليا. غريزة الاحتفاظ بالذات «ولا يُمكن لإنسانٍ أن يترك
شيئًا يعلَم أنه خير له إلا إذا كان يؤمِّل خيرًا أكبر منه.» وإنه لواجب على
الإنسان في رأيه أن يُحِبَّ نفسَه، وأن يلتمِس ما ينفعه، وأن يبحث عما ينتقل به
إلى حالةٍ أكمل من حالته، ولا خطر من حُبِّ الإنسان لنفسه ما دام العقل لا يطلُب
شيئًا يُعارض سَير الطبيعة.
ولا يؤمِن «سبينُوزا» بقيمة التواضُع، ويرى
أن التواضُع من جانب القويِّ لا يكون إلا خداعًا يُضلِّل به الناس، وهو من جانب
الضعيف خجَل، وهو في كلتا الحالتَين يستتبع نقصًا أو فقدانًا للقوة، والفضائل عند
سبينُوزا ليست إلا ضروبًا من المقدرة، ولكن سبينُوزا حينما تصدَّى لمقاومة
التواضُع لم يفُتْه أن يلاحظ أنه نادر بين الناس، بل يكاد ينعدِم. وإنك لترى
الفلاسفة الذين يكتبون الرسائل في تمجيد التواضُع يُزيِّنون صدور كتبهم بأسمائهم
رغبةً منهم في الإعلان عن أنفسهم. ويعجَب سبينُوزا من كثرة ما يأكل قلوب الناس من
حقدٍ وحسد وكراهية، ولا يرى علاجًا لهذه الأمراض التي تفتُّ في عضُد المجتمع إلا
التخلُّص من تلك النزَعات الخبيثة وأشباهها، وهو يعتقد أنَّ ذلك هيِّن ميسور،
فالكراهية مثلًا يمكن قتلُها بالحب؛ لأنك لو ردَدتَ مقْت الحقود بعاطفة الحُبِّ
أزَلْتَ من صدر عدوك مقْتَه على الفور، أما إن بادلْتَه كرهًا بكُره، فإنك بذلك
توسِّع هوَّة الخلاف، وتُغذِّي ما بينكما من بُغض ونفور، «أما الذي يحسُّ في نفسه
أنه محبوب ممَّن يكرهه، فإنه يُصبح فريسةً للعواطف المتضاربة: عواطف الحب والبُغض،
والحب يميل أن يُنتج حُبًّا، فتتحلَّل كراهيته وتفقد قوَّتَها، وإن كُرهك رجلًا
لَاعترافٌ منك بخوفِك منه وضِعة منزلتك عنه؛ لأنَّ الإنسان لا يمقُت عدوًّا إن كان
عن ثقةٍ أنه يستطيع أن يتغلَّب عليه.»
ولكن على الرغم من هذه النزعة المسيحية نحو
الحب، فإن «أخلاق» سبينُوزا إغريقية الصِّبغة بوجهٍ عام ما دامت «محاولة الفهم هي
أساس الفضيلة الأول والأوحد.» لأنه بالفكر وحدَه يمكن للإنسان أن يرى موقِفَه من
جميع نواحيه، أما إذا تحكَّمت فيه العواطف، فإنه لا يرى من الموقف إلا جانبًا
واحدًا، وبذلك يصِل إلى نتائج باطلة؛ إذ العاطفة عبارة عن «فكرة ناقصة»، ولكن إن
كانت عواطف الإنسان الغريزية لا تصلُح أن تُتَّخذ دليلًا يُهتدى بهديه — لأنَّ
الغرائز بطبعها تسعى كلٌّ منها لإشباع نفسها غير آبِهةٍ لصالح الشخصية في مجموعها
— فيجِب أن تُستخدَم كقوَّةٍ دافعة يُسيرها العقل كيف شاء، فالعاطفة عمياء حتى
يهدِيَها العقل، كما أنَّ العقل مَيِّت إلى أن تنفُخ فيه العاطفة روح الحياة. فبدل
أن يسلط الإنسان عقله على عواطفه ليكونا ضِدَّين مُتعارِضَين — وكثيرًا ما تظفَر
العواطف في مثل هذا المضمار؛ لأنها أقدم في الإنسان عهدًا وأرسخ قدمًا — يقترح
سبينُوزا أن يضرب الإنسان عاطفةً بعاطفة، أي أن يجعل من عواطفه التي ترتكز على
أساسٍ من العقل عدوًا هادمًا للعواطف الأخرى التي لا تقوم على دعامة من العقل؛
وذلك لأنه يرى «أن العاطفة لا يمكن أن تُكْبَت أو تُدفَع إلا بعاطفةٍ أخرى مُناقضة
لها تكون أقوى منها.» وهكذا يتناصَر العقل والمشاعر على الوصول إلى النتيجة
المرجوَّة المحمودة، ثم يستطرد سبينُوزا ويُقرِّر «أنَّ العاطفة لا تظلُّ عاطفةً
إذا ما تكوَّنت في الذهن فكرة عنها واضحة مُحدَّدة.» وبعبارةٍ أخرى كلَّما استطاع
العقل أن يحوِّل ما فيه من عواطف إلى أفكارٍ صار أمتنَ أساسًا وأبعدَ عن أن
تُزعزِعه العواطف الجامحة، وشهوة الإنسان إنْ كان مصدرها الذي تولَّدت منه فكرة
مُبهمة ناقِصة عُدَّت عاطفة، أما إذا نشأت عن فكرةٍ مضبوطة مُحدَّدة واضحة كانت
فضيلة محمودة. وبعبارةٍ أوضح: كل ما يعمله الإنسان، ويكون مَبنيًّا على أساسٍ من
العقل والتفكير — لا على المشاعر والعواطف — فهو عمل فاضل، وإذن فلا فضيلة عند
سبينُوزا إلا العقل.
ولعلك تلاحظ في «أخلاق» هذا الفيلسوف أنها
قائمة على فِكرته فيما وراء الطبيعة، فكما قرَّر في «الميتافيزيقا» أن الفلسفة
الصحيحة تحاول أن تُدرِك القانون الكامن وراء الأشياء الجزئية التي تقع تحت الحس،
فهو يُقرِّر هنا كذلك أن الفلسفة يجب أن تضَعَ قانونًا ينتظم رغبات الإنسان
المُتنافرة، وبعدئذٍ يستطيع الإنسان أن يسلُك سلوكًا يتَّفق مع ما يُمليه العقل
الذي يُعيننا على أن ننظُر للمواقف المختلفة نظرةً واسعة شاملة تنفُذ — بعون
الخيال — إلى أبعد النتائج. فبالعقل والخيال معًا يمكن للإنسان أن يتنبَّأ بما
عساه يحدُث، وبهذا يستطيع أن يتحكم في مُستقبله، وأن يُحرِّر نفسه من كثيرٍ من
القيود.
بهذا وحدَه تُكفَل للإنسان حريته؛ إذ
الحرية الحقَّة هي سيطرة العقل وفاعليته، هي التخلُّص من أغلال العواطف العمياء
التي لا تستنير بهَدي العقل وإرشاده، فلن يكون الإنسان حرًّا إلا بقدْر ما هو
عالِم عاقل،٦ ولكي تكون
إنسانًا أعلى لا ينبغي أن تتحرَّر من قيود المجتمع ونظامه، بل إن سموَّ الإنسانية
في التحرُّر من تحكُّم الغرائز، وبهذا وحدَه يكمُل الرجل الحكيم. وإنَّ من يحيا
حياة الفضيلة مُسترشدًا بحُكم العقل تراه حين يلتمِس ما ينفعه يُراعي أن يكون ذلك
نافعًا للبشر أيضًا؛ لأنه لا يرى خيرًا لشخصِه إلا فيما يعود بالخير على البشر
جميعًا، وإن أردتَ أن تكون عظيمًا فلا تحاول أن تضع نفسك فوق أعناق الناس
لتحكُمَهم، بل حسبُك أن تدفع عن نفسك شرور شهواتك العمياء، فالعظمة الحقَّة في
حُكمك لنفسك أنت.
وحكم الإنسان لنفسه هو أسمى ما يُنشَد من
حرية، وهي حرية أرفع وأنبل مما يُطلِق عليه الناس اسم «الإرادة الحُرَّة»، فليست
الإرادة حرَّةً بأي معنًى من معاني الحرية، ولا يقولنَّ أحدٌ إنه ما دام مغلولًا
مُقيدًا لا يتمتَّع بحرية إرادة، فليس مسئولًا عن أعماله وسلوكه من الوجهة
الأخلاقية.
وليس في تقييد إرادة الإنسان ما يهبط
بأخلاقه، بل إنَّ ذلك ليسمو بها إلى مستوًى رفيع؛ لأنه يُعلِّم الإنسان ألا
يُحَقِّر أحدًا أو يسخَر من أحد، وألا يغضَبَ أو يحقِد على أحد؛ إذ الناس في
الواقع برآء مما يقترفون من آثام؛ لأنهم لا يعرفون ما يفعلون. وهنا يُطالبنا
«سبينُوزا» ألا نصبَّ الغضب على المُجرمين، فإن أنزلنا بهم العقاب لسلامة
المُجتمَع، فينبغي أن يكون مَشوبًا بروح العطف والتسامُح. هذا وإنَّ عقيدتنا بالجبْر
تُقوِّي عزائمنا، وتشدُّ من أزْرِنا إذا ما كشَّرت لنا الأيام عن أنيابها؛ لأننا
سنعلم أنَّ ما يأتي به الدهر نتيجة لازمة لقانون الكون، إن خيرًا وإن شرًّا، فيكفي
أن نعلم في يقينٍ ثابت أن كل شيء في العالم إنما يقَع بأوامر الله الخالدة التي لا
تُغيَّر ولا تُبدَّل؛ لكي نغتبط ونرضى عن كل ما نُصادفه في الحياة، وممَّ تتألم
وتشكو ما دُمتَ تُدرك أن ما تلقاه من حظٍّ عاثر لم يَجئْ اعتباطًا ولا مصادفة، بل
هو جزء من بناء الكون المُحكَم، ولا بدَّ منه لكي يتمَّ الانسجام والاتِّساق.
وهكذا يُعلِّمنا جَبْر الإرادة أن الأشياء والأحداث كلها أجزاء من نظام خالد، وأنه
يجِب أن نبتسِم للأيام على أية حال، إذ لا بدَّ مما ليس منه بدٌّ، وفي ذلك يقول
نيتشه: «إنَّ ما هو ضروري لا يضرُّني، فإنَّ حُبَّ القدَر لُباب طبيعتي.» كذلك
تعلمنا هذه الفلسفة الجبرية ألا نبتئس بالموت، بل «إنَّ أقلَّ ما يُفكِّر فيه
الرجل الحي هو الموت.»
(د) الدين والخلود: هكذا
كان «سبينُوزا» يُبشر في فلسفته بحُبِّ العالم الذي كان هو فيه منبوذًا طريدًا،
فقد خفَّف من ألَم عُزلته أنه جزء من كل، وأنه لا شكَّ خاضع للقانون الشامل الثابت
الذي يَسير الكون كلُّه تبعًا له، وباعتبار الإنسان جزءًا من هذا الكل فهو خالد؛
لأنه «يستحيل أن ينمحي العقل البشري انمحاءً تامًّا مع الجسم البشري، بل إن هناك
جزءًا منه سيظلُّ خالدًا.» وهذا الجزء الخالد هو الذي يُدرِك الأشياء كأجزاءٍ من
الكل الخالد، وكلما أمعن الإنسان في إدراكها على هذا النحو، ازداد فكرُه أبديةً
وخلودًا. وهنا يختلف الشُّرَّاح في تفسير ما يقصده «سبينُوزا» من معنى الخلود،
فيذهب بعضهم إلى أنه يُريد به الشهرة أو الذكر أو الأثر، أي أنَّ جانب الفِكر
والعقل من حياتنا سيبقى بعد موتِنا، ويظل أثره فعَّالًا في الأجيال المُقبلة،
ويزعم بعضٌ آخر أن سبينُوزا إنما يعني خلودًا فرديًّا شخصيًّا. هذا وسبينُوزا
يُنكر العقاب والثواب، فهو يقول: «إن الذين ينظرون إلى الفضيلة كأنها إذلالٌ
للنفس، ثم ينتظرون أن يجزيَهم الله عنها جزاءً أوفى لَأبْعَدُ ما يكونون عن فَهم
الفضيلة فهمًا صحيحًا، أفليست الفضيلة وخدمة الله هما السعادة نفسها والحُرية
العُليا؟» «ليس النعيم في الثواب عن الفضيلة، ولكنه في الفضيلة نفسها.»
وبهذه العبارة ينتهي كتاب «الأخلاق» الذي
حوى من غزير الفكر ما يحمِل كلَّ قارئٍ أن يُطأطئ الرأس إجلالًا لهذا السِّفر
النادر بين ما أنتج البشر.
(٤) الرسالة السياسية: لم
يبْقَ لدَينا الآن من كتُب «سبينُوزا» إلا رسالته في السياسة التي كتبها في أعوامه
الأخيرة، والتي عجَّل به الموت دون أن يفرُغ منها، وهذه الرسالة على صِغَرها ملأى
بالفِكر العميق، حتى إنَّ قارئها ليأسف عند تلاوتها أنْ لم تُمهِل المنيَّة ذلك
الفيلسوف حتى يُتمِّم هذا الكتاب الجليل، لا سيما أنه كان قد بلغ من نضوج الفكر
أتمَّهُ وأسماه.
كان «سبينُوزا» يكتُب رسالته السياسية التي
يدافع بها عن الديمقراطية في نفس العصر الذي كان فيه «هوبز» يُمجِّد المَلَكية
المُطلقة في إنجلترا، ويقاوم ثورة الشعب الإنجليزي على مَليكه، وقد جاءت فلسفة
«سبينُوزا» السياسية من القوة، بحيث أصبحت ينبوعًا دافقًا ظلَّت تستقي منه الحركة
الديمقراطية حتى بلغت أوْجَها على يدي «روسُّو» ورجال الثورة الفرنسية.
يذهب «سبينُوزا» إلى أنَّ الناس كانوا قبل
نشأة المُجتمَع يعيشون فوضى لا ينتظمُهم قانون، ولا يسودهم نظام، وكانت القوَّة
عندَهم هي الحق، فمن استطاع أن يظفَر بشيءٍ فهو حقٌّ له، وإذن فلم تكُن لديهم فكرة
الصواب والخطأ أو العدل والظلم «ولا يمكن لشيءٍ في الحالة الطبيعية أن يُسمَّى
خيرًا أو شرًّا؛ لأنَّ كل إنسانٍ في تلك الحالة لا ينظر إلا إلى مصلحته، ولا يكون
مسئولًا أمام أحدٍ غير نفسه، ولا يحدُّه قانون، وإذن فيستحيل أن تنشأ فكرة الخطيئة
في الحالة الطبيعية؛ لأنها فكرة لا تكون إلا في الحياة المدنية، حيث يتقرَّر
بإجماع الرأي ما هو الخير وما هو الشر، وحيث يكون الفرد مسئولًا أمام الدولة.»
وتستطيع أن تلمس الحالة الطبيعية الأولى في
سلوك الدول الآن بعضها مع بعض، حيث لا يربطها ما يربط أفراد المجتمع الواحد؛ إذ
كلٌّ منها تسعى لنفسها بغضِّ النظر عن الأمم الأخرى، وليس بينها «أخلاق» مرسومة
تُحدِّد تصرُّفاتها؛ لأن الأخلاق لا تكون إلا حيث تُوجَد سلطة مُعترَف بها، فإن استطاعت
دولة أن تظفر بشيءٍ من القوة كان لها حقًّا غير مُنازَع.٧ وما ذكرناه عن
الدول صحيح كذلك بالنسبة لأنواع الحيوان، فهي مُتنافِسة مُتنازِعة لا تعرِف معنًى
للتعاون والإيثار، وكل نوع يُحاول أن ينتفع على حساب الأنواع الأخرى؛ وذلك لأنه
ليس بينها أخلاق مُقرَّرة أو نظام للتعامُل مُعترَف به تقوم على صيانته هيئة
مُطاعة.
هذا التنافُر والتنافُس الذي تراه بين
الأنواع المختلفة، كما تراه بين الدول، كان يسود الأفراد قبل أن يتعاهدوا على
تكوين مُجتمعٍ تُصان فيه مصالح الأفراد، ولا يكون الحقُّ فيه مُرتكزًا على القوة،
وقد دفع الناس إلى تكوين المجتمع شعورهم بالحاجة إلى التعاون والتآزُر على درء
الخطر، إذ لم يستطِع الفرد وحدَه أن يدفع عن نفسه كلَّ ما كان يُهدِّده من أخطار،
وأن يُحصِّل في الوقت نفسه ضرورات الحياة، فلكي يهوِّن الإنسان على نفسه أمر
الدفاع عن النفس، حتى يتفرَّغ لشئون الحياة، مال بطبعِه إلى النظام الاجتماعي، ومن
هذا ترى أنَّ الناس ليسوا مُهيَّئين بطبيعتهم لاحتمال النظام الاجتماعي، ولكن
الخطر هو الذي ولَّد فيهم الاجتماع، والاجتماع يُغذِّي ويقوِّي الغرائز الاجتماعية
شيئًا فشيئًا «فلا يُولَد الإنسان لكي يكون مواطنًا (أي فردًا من مجتمع)، ولكنه
يجِب أن يُراضَ على ذلك.»
فمعظم الناس تحتبس في صدورهم ثورة على
التقاليد والقوانين؛ لأنَّ الغرائز الفردية أقوى وأرسخ من الغرائز الاجتماعية،
ولذا كانت هذه الأخيرة في حاجةٍ إلى مِرانٍ وتدريب. ويزعم سبينُوزا أن ليس الإنسان
خيِّرًا بطبيعته (كما ذهب روسُّو)، ولكن الاجتماع هو الذي يولِّد التراحُم
والتعاطف، فلا يسَعُ الإنسان إلا أن يعطف على ذويه وعشيرته،٨ ثم على
أُمَّته، ثم على الإنسانية جميعًا.
ولقد رضي الإنسان — حينما قبِل أن يكون
عضوًا في المجتمع — أن يتنازَل عن بعض قوته، فلكل فردٍ أن يستعمل قوَّته في اكتساب
مصالحه على شرط ألا يتعدَّى على حرية الآخرين التي يجب أن تكون مساوية لحُريته،
وبذلك يكون الفرد قد أعطى للجماعة جزءًا من قوته الطبيعية في مقابل أن تُمكِّنه
الجماعة من استغلال ما بقي له من القوة إلى أقصى حدٍّ مُستطاع دون أن يخشى على
نفسه خطرًا واعتداء، ولكي يستطيع المُجتمع أن يصُون للأفراد ما تعهَّد لهم به من
طمأنينةٍ وأمنٍ أوجد قانونًا يُحدِّد تصرُّفات الناس ومعاملاتهم، وقد اضطرَّ
المجتمع إلى وضْع هذا القانون؛ لأنه يعلم أنَّ الناس مدفوعون في حياتهم بعواطفهم،
والعواطف وحدَها عمياء لا تدري أين تسُوق صاحبها، بحيث ينتفع ولا يَضُرُّ الآخرين،
فلو كان الناس جميعًا مَسُوقين بالعقل لما كان للمجتمع حاجة إلى القانون، فالقانون
في الواقع بالنسبة إلى الأفراد بمثابة العقل من العواطف، أو هو يجِب أن يكون كذلك.
فكما ارتأى «سبينُوزا» في «الميتافيزيقا»
أنَّ هنالك حكمة مُدبِّرة وعقلًا مُنظِّمًا يكمُن وراء الأشياء، وعلى الفيلسوف أن
يُدرك ما وراء فوضى الأشياء الظاهرة من انسجامٍ واتِّساق، وكما ارتأى في «الأخلاق»
أنَّ الحكمة هي في إيجاد التعاون والنظام بين الأهواء المُتضاربة والشهوات
المتنافِرة، كذلك في السياسة أيضًا يرى أنَّ أساس المجتمع نظام خَفي كامِن وراء
نزعات الأفراد المُتضاربة في الظاهر. فالدولة الكاملة ينبغي ألا تحدَّ من قوة الفرد
إلا بمقدار ما تتَّقي به خطر هذا الفرد على بنائها وكيانها، وهي في الوقْت نفسه
يجِب ألا تنزِع من الأفراد حريةً إلا إذا أضافت إليهم أكبر مما انتزعَت.
«ليس الغرَض الأقصى من الدولة أن تُسيطر
على الأفراد، ولا أن تكمِّمهم بالمخاوف، ولكن الغاية منها أن تحرِّر كل إنسانٍ من
الخوف، حتى يستطيع أن يعيش ويعمل في أمنٍ تامٍّ دون أن يضرَّ نفسه أو يؤذي جاره.
إني أكرِّر القول بأن ليست غاية الدولة أن تحوِّل الكائنات العاقلة إلى حيوانات
متوحشة أو آلات، بل إنَّ الغرض منها هو أن تُمكِّن أجسامهم وعقولهم من العمل في
أمن، غايتها أن تُهيِّئ للناس عيشًا يستمتعون فيه بعقولٍ حرة، حتى لا يُنفقوا
قوَّتهم في الكراهية والغضب والكيد وإساءة بعضهم إلى بعض، إنَّ غاية الدولة
الحقيقية هي أن تكفل الحرية.»
الحرية هي غرض الدولة الأسمى؛ لأنها يجب أن
تعمل على الرُّقي والنمو والكمال، والرقي إنما يعتمد على مقدرة الأفراد وكفايتهم
بشرط أن تجِد مجال العمل أمامها حُرًّا طليقًا، ولكن ماذا يفعل الأفراد إن طغى
الحُكَّام وقيدوا حُريَّتهم ونُموَّهم؟ يُجيب «سبينُوزا» عن ذلك بأنَّ واجب الفرد
هو طاعة القانون — حتى ولو كان جائرًا ظالمًا — ما دامت السلطة الحاكمة لا تمنع
الناس من حرية الكلام والنقد والاحتجاج، «وإني أعترِف بأنَّ بعض النتائج السيئة قد
ينشأ من مثل هذه الحرية. ولكن أية مسألةٍ قد اتُّبِع فيها رأيٌ حكيمٌ فاستحال
عليها أن تُنتج السوء؟» إن القوانين التي تُلجِم الأفواه، وتحطم الأقلام تهدِم
نفسها بنفسها؛ لأنه لن يلبَث الناس أمدًا طويلًا على احترامهم للقوانين التي لا
تُجيز لهم أن ينقُدوها:
«كلما جاهدت الحكومة أن تنتقِص من حرية
الكلام كانت مقاومة الناس إيَّاها أشدَّ … فقد جُبل الناس بوجهٍ عام على ألا
يشتدَّ قلقُهم، ويفرغ صبرهم من شيء بقدْر ما يحدُث ذلك عندما تُعَدُّ الآراء —
التي يعتقدون أنها حق — جرائم تُعارض القانون … وعندئذٍ لا يَعتبِر الناسُ أن مقْت
القوانين ومقاومة الحكومة عار، بل هو في هذه الحالة شرف عظيم.»
فكلما قلَّتْ رقابة الدولة على العقل ازداد
المواطنون والدولة صلاحًا. ومن أفدح الأخطار التي تُهدِّد كيان المجتمع أن يمتدَّ
سلطان الحكومة من أجسام الناس وأعمالهم إلى نفوسهم وأفكارهم.
إذا ظفر الإنسان بهذه الحرية فلا يَعنيه أي
نوع من أنواع الحكومات يسُود، فلتكُن ديمقراطية أو أرستقراطية أو أي لونٍ آخر، ما
دام كل فردٍ تَرَبَّى ويُرَاض على تفضيل حقِّ الجماعة على منفعتِه الخاصة، ولكن
سبينُوزا مع ذلك يميل إلى الديمقراطية ويمقُت المَلَكية المُستبدَّة.
«قد يُظَن أن التجربة قد دلَّت على أن وضع
السلطة كلها في رجُلٍ واحد يدعو إلى السلام وترابط الأفراد، وقد يُسْتَدل على ذلك
بأنه ليس بين الدول دولة لبِثت أمدًا طويلًا بغَير تغيُّر محسوس كما لبثت دولة
الأتراك، ومن جهةٍ أخرى لم يكن بين الدول أقصر أجلًا من الدول الشعبية أو
الديمقراطية، ولا كثُر العصيان في دولةٍ كما كثُر في هذه. ولكن إن كانت البربرية
والعبودية والذلُّ تُدعى سلامًا، فليس أتعَسَ للإنسان من السلام. فلا شكَّ أن العِراك
يكثُر ويشتدُّ عادة بين الآباء والأبناء منه بين السادة والعبيد، ومع ذلك فليس من
صالح الأسرة أن ينقلب حقُّ الوالد إلى حقِّ الملكية، وألا يُعَد الأطفال أكثر من
عبيد، وإذن فوضع السلطة كلها في رجُلٍ واحدٍ يؤدي إلى العبودية لا إلى السلام.»
فالديمقراطية هي خير أنواع الحكومة، ولكن
الديمقراطية لا تخلو من عَيبٍ فادح، ذلك أنها تميل إلى وضع السُّوقة في مراكز
القوَّة، ولكي نتَّقي هذا الخطر يجب أن نُخصص الحُكم لذوي الكفاية الممتازة
والدراية الواسعة؛ لأنه لو تحكم السُّوقة في الأمر فلا بدَّ أن تثور الطبقة
الممتازة رافضةً أن تُذعِن لمن هم أدنى منها وأوضع، وقد تستطيع هذه الطبقة بذكائها
وقُدرتها أن تظفر بالسلطان رغم قلَّة عددها، «ومن هنا فيما أظنُّ تتحوَّل
الديمقراطية إلى أرستقراطية، ثم تنقلب هذه إلى ملَكية آخِر الأمر …»
وشاء القدر أن يُسدِل الموت أستاره على
حياة الفيلسوف وهو يكتُب في هذا الفصل الذي يُعالِج فيه الحرية والمساواة بين
الناس، وقد ترك بعد موته أثرًا قويًّا في مجرى الفكر، وتأثَّر به فلاسفة كثيرون،
وحسبُك أن تعلم ما قاله هجل: «لن تكون فيلسوفًا إلا إذا درَسْتَ سبينُوزا أولًا.»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق