كتاب بنية
الثورات العلمية
توماس كوهن
(كتبه كوهن سنة 1962)
ترجمة شوقي
جلال
الفصل الثالث عشر: الثورة سبيل التقدم
تضمّنت الصفحات السباقة ما أرىه عرْضاً تخطيطياً عاماً للتطور العلمي، وقد
أفَضْتُ فيه بالقَدْر الذي سمحت به هذه الدراسة. بيد أنه على الرغم من هذا، لم يصل
بنا تماماً إلى نتيجةٍ نهائية. وهب أنّ هذا العرض قد أوضح وكشف طبيعة البنية
الرئيسية للتطور المتصل للعلم، إلا أنه سيطرح في الوقت نفسِه مشكةً خاصة:
لماذا هذا المشروع الذي عرضناه
آنفاً يتقدّم باطّراد وثبات عبر مسارات لا يسير فيها على سبيل المثل الفنّ أو
النظرية السياسية أو الفلسفة؟
لماذا نجد التقدم مطلباً يستأثر به
النشاط الذي اصطلحنا على تمسيته "العلم" دون سواه؟
إن أكثر الإجابات شيوعاً على هذا
السؤال أنكرَتْها سطور هذه الرسالة. ومن ثمّ يتعيّن علينا أن نختمها بالسؤال عمّا
ذا كان بالإمكان الاهتداء إلى إجابات بديلة.
لعلّ القارئ يدرك مباشرةً أنّ جزءاً من هذا السؤال سيمانطيقي (أيّ إنه لغوي
يتعلّق بدلالات الألفاظ ومعانيها والعلاقات بينها ـ المترجم). فمصطلح
"العلم" يكاد يكون قاصراً إلى حدٍّ كبير جداً على مجالات تتقدّم وفق
سبلٍ واضحة. ولا يتبدّى ذلك جلياً مثلما يتبدّى في الجدال المتكرر (205)
بشأن ما إذا كان هذا العلم أو ذاك من العلوم الاجتماعية المعاصرة يعتبر
علماً حقاً أم لا. ونجد لهذا الجدل نظيره في الفترات السابقة على وضع نموذجٍ
إرشادي لمجالات البحث التي باتت تصنّف اليوم دون تردد بأنها علم. فالقضية التي ثار
بشأنها الخلاف دائماً وأبداً هي تحديد ذلك المصطلح الذي لا ينتهي الجدل بشأنه.
هناك على سبيل المثل من يؤكدون أنّ علم النفس علمٌ لأنه مبحث يتوافر فيه كذا وكذا
من الخصائص المميّزة. ويعارض آخرون هذا الرأي مؤكدين إما أنّ هذه الخصائص غير
ضرورية أو غير كافية لكي تجعل من المبحث الدراسي علماً. وغالباً ما يستنفد الجدال
طاقةً كبيرة، ويثير انفعالاتٍ حادّةً، ويظل الغريب عن الميدان ضائعاً في حيرة لا
يعرف سبباً. ترى هل جلّ الأمر رهن بتحديد "العلم"؟ هل يمكن للتعريف أن
يهدي إنساناً ليعرف ما إذا كان هو رجل علم أم لا؟ إذا كان الأمر كذلك لماذا لا يجهد
علماء الطبيعة أو الفنانون أنفسُهم بشأن تعريف المصطلح؟
لا مفرّ من أن يساور المرءَ شكٌّ في أنّ أساس القضية أعمق مما يبدو في
ظاهره. ولعلّ أسئلةً مثل الأسئلة التالية أجدر بالسؤال في الواقع: لماذا يخفق مجال
بحثيّ في التحرك قدماً على نحو ما يمضي علم الفيزياء مثلاً؟ ما هي التغيرات في
التكنيك أو المنهج أو الأيديولوجيا التي تمكّنه من أن يكون كذلك؟ بيد أن هذين
السؤالين ليس من شأن الإجابة عليهما أن تصل بنا إلى اتفاق خاص بالتعريف. علاوةً
على هذا فلو أنّ سوابق العلوم الطبيعية تفيد في الحكم على ذلك، إلا أنّ هذه
الأسئلة لن تكفّ عن الإلحاح كمشكلة مؤرّقة عند الوصول إلى التعريف، بل عندما تصل
جماعاتُ الباحثين الذين يتشككون الآن في مكانتهم إلى إجماعٍ في الرأي بشأن
إنجازاتهم في الماضي والحاضر. ولعل من الأمور ذات الدلالة على سبيل المثل أنّ
علماء الاقتصاد أقلّ جدالاً بشأن بيان ما إذا كان مجال بحثهم علماً أم لا، من
غيرهم من الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية الأخرى. ترى هل سبب ذلك أنّ علماء
الاقتصاد يعرفون عن يقين ما هو العلم؟ أم إن السبب بالأحرى هو أنّ علم الاقتصاد هو
المبحث الذي التقت آراؤهم بشأنه.
هذه النقطة لها معكوسُها الذي وإن لم يعد سيمانطيقياً خالصاً، إلا أنه قد
يساعد على كشف الروابط الوثيقة التي لا تنفصم بين أفكارنا عن العلم وبين التقدم.
فعلى مدى قرونٍ طويلة، سواءٌ في العصور القديمة أم على (206)
مشارف التاريخ الأوروبي الحديث، وكان ينظر إلى الرسم بالزيت باعتباره
المبحث التراكمي. لقد كان المفترَض طوال هذه السنين أنّ هدف الفنان هو التعبير
بالرسم ولاصورة. ونجد نقاداً ومؤرخين من أمثال بليني وفازاري سجلوا في إجلال
وتوقير سلسلةَ الابتكارات ابتداءً من فنّ التقصير ومروراً بالرسم القائم على توزيع
الضوء والظل، مما يسّر تدريجياً وعلى التوالي الوصول إلى تصوير الطبيعة على نحوٍ
أكمل. بيد أنّ هذه هي أيضاً السنوات، وخاصةً أعوام النهضة، التي شهدت انقساماً
بسيطاً بين العلوم والفنون. لقد كان ليوناردو واحداً فقط من بين كثيرين ممن تنقلوا
بحرّية هنا وهناك بين المجالات التي لم تعد متمايزة تمايزاً مطلقاً إلا في فترةٍ
متأخرة.
فضلاً عن ذلك، وحتى بعد أن توقف هذا التبادل، ظل مصطلح "الفن"
ينطبق بنفس القَدْر على التكنولوجيا والحِرف الصناعية، وهي فنون كان يُنظَر إليها
هي الأخرى باعتبارها فنوناً مطّردة التقدم على مراحل، شأنها شأن الرسم بالزيت أو
النحت. ولكن بعد أن نبذ هذان الأخيران نبذاً تاماً القول بأن التعبير بالرسم هو
هدفهما وعادا إلى التعليم من جديد من المدارس البدئية، هنا فقط اتخذ الانقسام الذي
نأخذه نحن اليوم مأخذ التسليم بعده العميق الراهن. بل نحن اليوم إذا كنا نواجه
صعوباتٍ شتى عند بيان الفارق العميق الذي يميّز العلم عن التكنولوجيا فإن ذلك يرجع
جزئياً دون شك إلى أنّ التقدم سمةٌ واضحةٌ لهذين المجالين.
بيد أنّ الأمر لن يتجاوز حدود التوضيح فقط دون أن يمتد إلى حلّ مشكلتنا
الراهنة إذا ما سلّمنا بأننا نعتزم أن نسبغ صفة العلم على كلّ مجال نلحظ التقدم
فيه سمةً أساسية. ويبقى بعد ذلك مشكلة أن نفهم لماذا ينبغي اعتبار التقدم خاصيةً
هامّةً إلى هذا الحدّ لأيّ مشروع يلتزم في توجهه بالتقنيات والأهداف المبيّنة في
هذه الدراسة.
ينطوي هذا السؤال على عديد من الأسئلة في سؤالٍ واحد، ولذا سوف يتعيّن
علينا بحثُ كلٍّ منها على حدة. بيد أنّ حلّها في جميع الأحوال، عدا الحالة
الأخيرة، سوف يتوقف جزئياً على أن نعكس نظرتنا العادية إلى العلاقة بين النشاط
العلمي وبين المجتمع المتخصص في ممارسته. وسوف يتعيّن علينا هنا أن نضع الأسباب
موضع ما اصطلحنا على أنه نتائج. فإذا تسنّى لنا هذا فإن العبارتين "التقدم
العلمي" و"الموضوعية العلمية" قد تبدوان لنا من جانبٍ وكأنهما (207)
تزيّد في الحديث أو حشو. وسبق أن قدّمنا مثالاً يوضح جانباً من هذا الحشو.
ترى هل يحقق أيُّ مجالٍ تقدماً لأنه علم، أم إنه علمٌ لأنه يحقق تقدماً؟
لنسأل الآن لماذا يتعيّن على مشروع مثل العلم القياسي أن يحرز تقدماً؟
ولنبدأ بذكر قليلٍ من أبرز سماته المميّزة. المألوف عادةً أنّ أبناء كلّ مجتمع
علمي ناضج يعملون انطلاقاً من نموذجٍ إرشاديٍّ وحيد، أو انطلاقاً من مجموعةٍ من
النماذج الإرشادية المرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً.
ونادراً جداً ما يحدث أن تجري جماعتان مختلفتان للبحث العلمي ذات البحوث في
نفس المجال. والملاحظ في مثل تلك الحالات الاستثنائية أن تجمع هاتان الجماعتان بين
عديد من النماذج الإرشادية الأساسية تكون مشترَكةً فيما بينهما. بيد أنّ النتيجة
الناجمة لأيّ عملٍ إبداعي إذا ما نظر إليها من داخل أي مجتمع مهني وحيد، سواءٌ
أكان مجتمع علماء أم غير علماء، فسوف ينظر إليها على أنها تَقدّم. وإلا كيف يمكن
أن تكون أيَّ شيءٍ آخر؟ لقد بيّنا توّاً على سبيل المثال أنه في الوقت الذي اتخذ
الفنّانون من التعبير بالرسم هدفاً لهم، عمد النقاد والمؤرخون على السواء إلى عرض
مراحل التطور التاريخي للجماعة التي تبدو جماعةً موحّدة في الظاهر. وتكشف مجالاتٌ
إبداعيةٌ أخرى عن تقدمٍ من نفس النوع. ففقيه الدين الذي يفسّر العقيدة، أو
الفيلسوف الذي يصقل الأوامر المطلقة عند كانط، يسهم في التقدم ولو [كان] تقدم
الفريق الذي يشاركه مقدمات فكره الأساسية. ولا توجد مدرسةٌ إبداعيةٌ تسلّم بوجود
ضربٍ أو صنفٍ من النشاط يمثّل من ناحيةٍ نجاحاً إبداعياً بينما لا يمثل من ناحيةٍ
أخرى إضافةً للإنجاز الكلّي للفريق. وإذا ما ساورنا الشك، كما هو حال كثيرين، في
أنّ المجالات غير العلمية تحرز تقدماً، فليس سبب ذلك أنّ المدارس القائمة بذاتها
عاطلة من التقدم، وإنما السبب بالأحرى هو أنّ هناك دائماً مدارسَ متنافسة كلٌّ
منها تتشكك في الأسس الجوهرية التي تقوم عليها المدارس الأخرى. مثال ذلك أن المفكر
الذي يدفع بأن الفلسفة لم تحرز تقدماً ما إنما يؤكد أنه لا يزال هناك مفكرون
أرسطيون وليس أن الأرسطية أخفقت في إحراز تقدم.
غير أنّ هذه الشكوك بشأن التقدم تثار في مجال العلوم أيضاً. فطوال الفترة
السابقة على النموذج الإرشادي، حيث يوجد كثير من المدارس (208)
المتنافسة، يتعذّر للغاية الاهتداء إلى دليلٍ على التقدم إلا داخل إطار
المدارس.
وهذه هي الفترة التي عرضناها في الفصل الثاني باعتبارها الفترة التي يمارس
الأفراد أثناءها العلم ولكن نتائج مشروعهم لا تمثّل إضافةً إلى العلم على نحو ما نعرفه
الآن. كذلك فإنه خلال فترات الثورة العلمية حيث تكون المعتقدات الأساسية لمجالٍ ما
موضوعَ خلافٍ مرةً أخرى، تثار الشكوك مراراً بشأن إمكانية إحراز تقدمٍ متصل لو تم
إقرار هذا أو ذاك من بين النماذج الإرشادية المتعارضة. مثال ذلك أنّ من رفضوا مذهب
نيوتن زعموا أنّ اعتماد هذا المذهب على قوى فطرية متأصلة سوف يردّ العلم ثانيةً
إلى عصور الظلام. وكذا أولئك الذين عارضوا كيمياء
لافوازييه ذهبوا إلى أنّ رفض "المبادئ" الكيميائية لحساب عناصرَ
جاهزةٍ في المعمل هو رفضٌ للتفسير الكيميائي الذي تمّ إنجازه، وأنّ هذا الرفض جاء
على يد أولئك الذين يحتمون وراء اسمٍ مجرّد. وثمّة شعور مماثل، وإن عبّر عنه
أصحابُه بصورةٍ أكثرَ اعتدالاً، يشكل فيما يبدو الأساس في معارضة آينشتين وبوم
وغيرهما للتفسير الاحتمالي السائد لميكانيكا الكمّ "الكونطا".
صفوةُ القول أنّ التقدّم يبدو واضحاً ومؤكداً خلال فترات العلم القياسي
فحسب. غير أنّ المجتمع العلمي لا يمكنه خلال تلك الفترات إلا أن ينظر إلى ثمار
جهده على هذا النحو دون سواه.
إذاً نج دفيما يتعلق بالعلم القياسي أنّ جانباً من الإجابة على مشكلة
التقدم يكمن ببساطة في نظر المشاهد. فالتقدم العلمي لا يختلف من حيث طبيعتُه عن
التقدم في المجالات الأخرى، ولكن ما نلمسه في غالب الأحيان من غيابٍ للمدارس
المتنافسة التي تثيرها التسؤلات بشأن أهداف ومعايير بعضها بعضاً هو ما يجعل تقدّم
المجتمع العلمي القياسي أيسر للعين فتستبينه بسهولة أكبر. بيد أنّ هذا ليس سوى
جانبٍ من الإجابة، فضلاً عن أنّه ليس أهمَّ جوانبها على الإطلاق. فقط سبق أن
أوضحنا على سبيل المثال أنه ما إن يؤدي قبول وإقرار نموذجٍ إرشاديّ مشترك إلى
تحرّر المجتمع العلمي من الحاجة الدائبة إلى إعادة فحص ودراسة مبادئه الأوّلية،
حتى يصبح في إمكان أعضاء المجتمع أن يركّزوا جهودهم على أكثر ظواهره التي تشغلهم
تخصصاً ودقّة. ومن المقطوع به أن يؤدي هذا إلى زيادة كلٍّ من فاعلية وكفاءة الفريق
في مجموعةٍ خلال سعيه لحلّ المشكلات الجديدة. (209)
وهناك أيضاً جوانب أخرى للحياة المهنية في مجال العلوم من شأنها تحقيق
المزيد من الدعم والتعزيز لهذه الفعالية الخاصة للغاية. بعض هذه الجوانب هي نتائج
مترتبة على الانعزالية أو الاستقلالية التي لا نظير لها التي تعزل المجتمعات
العلمية الناضجة عن متطلبات العامة والحياة اليومية. ولم تكن هذه العزلة أبداً
كاملةً تماماً ـ ونحن هنا نتحدث عن أمورٍ تتعلّق بالدرجة.
إلا أنه لا توجد مجتمعات مهنيّة
أخرى غير جماعات البحث العلمي، يكون فيها العمل الإبداعي الفردي موجَّهاً بالكامل
ودون استثناء إلى أعضاء آخرين من نفس التخصص يتولَّوْن هم تقييمه. فإن أكثر
الشعراء إيغالاً في الغرابة أو أكثر فقهاء الدين إمعاناً في التجريد يعنيه أكثر
مما يعني العلماء استحسان العامة لعمله الإبداعي، حتى وإن كان دون العلماء
اهتماماً بأمر الاستحسان بمعناه العام.
وهذا فارقٌ له شأن كبر، وتترتّب عليه نتائجُ هامة. إذ نظراً لأن العالِم
يعمل فقط لجمهور يتألف من أقرانه وزملائه في المهنة، وهو جمهور يشاركه قيمه
ومعتقداتِه، لذا يستطيع أن يأخذ مجموعةً بذاتها من المعايير مأخذ التسليم. إنه لا
يشغل باله بما قد يراه أو يفكر فيه فريق آخر أو مدرسةٌ أخرى، ومن ثمّ يمكنه أن يفرغ
من مشكلة إلى غيرها على نحوٍ أسرعَ مما يفعل آخرون من أجل فريقٍ أكثر اختلافاً
معهم في الرأي والمعتقد. بل والأهم من ذلك إن عزلة جماعة البحث العلمي عن المجتمع
العام الواسع يتيح للباحث العلمي الفرد أن يركز اهتمامه على المشكلات التي لديه من
الأسباب المعقولة ما يبرر له الاعتقاد بقدرته على حلّها. إن الباحث العلمي ليس
شأنه شأن المهندس أو كثيرين من الأطباء وأكثر فقهاء الدين، من حيث أنه ليس مضطراً
إلى اختيار المشكلات لأنها بحاجةٍ إلى حلٍّ عاجلٍ وملحّ دون اعتبارٍ للأدوات
المتاحة له لحلِّها. [من حيث أنه ليس مضطراً إلى اختيار المشكلات التي هي بحاجة إلى
حلٍّ عاجلٍ وملحّ دون اعتبارٍ للأدوات المتاحة له لحلِّها.]
ومن الأمور الهامة ذات الدلالة هنا أيضاً التباين بين علماء الطبيعة وبين
الكثيرين من العلماء الاجتماعيين. فهؤلاء غالباً ما ينزعون إلى الدفاع عن اختيارهم
لمشكلة يتخذونها موضوعاً لبحثهم ـ وهو ما لا يكاد يفعله علماء الطبيعة بتاتاً ـ
مثال ذلك نتائج التمييز العرقي أو أسباب الدورة التجارية لرأس المال ويعمد العلماء
الاجتماعيون إلى الدفاع أساساً عن اختيارهم هذا بعبارات تكشف عن الأهمية الاجتماعية
للوصول إلى حلٍ للمشكلة. إذاً أيّ فريق من بين هؤلاء نتوقع له أن يحل مشكلاته
بسرعةٍ أكبر؟ (210)
وإن آثار العزلة عن المجتمع الكبير تتضخم كثيراً بفعل سمةٍ أخرى من سمات
المجتمع العلمي المهني، ألا وهي طبيعة التنشئة التعليمية في البداية. ففي الموسيقى
وفنون الغرافيك والأدب يكتسب المتخصص في هذه الفنون تعليمه عن طريق مشاهدة أعمال
الفنانين الآخرين خاصة الفنانين الأوائل. هذا بينما يكون للكتب الدراسية دورٌ
ثانويٌ فقط، فيما عدا المختصرات من النصوص المختارة أو الكتيبات التي تتناول
الإبداعات الأصلية. ولكننا نجد للكتب الدراسية أهمية كبرى في مجالات التاريخ
والفلسفة والعلوم في المعاهد الدراسية قراءات مناظرة للنصوص الأصلية، ويمثل بعضُها
"كلاسيكيات" التخصص، ويمثل بعضها الآخر التقارير البحثية المعاصرة التي
يكتبها ويتبادلها المتخصصون في مجال البحث بين بعضهم بعضاً.
ونتيجةً لذلك يجري دائماً وأبداً العمل على توعية الدارس لأيٍّ من هذه
المجالات بالتنوع الشديد للمشكلات التي يحاول مع مرور الزمن أعضاء فريقه حلّها.
وأهم من ذلك كلّه أنه يجد بين يديه بصورة مطّردة عدداً من الحلول المتجانسة وغير
المتجانسة لهذه المشكلات، وهي حلول يتعيّن عليه في النهاية أن يصدر عنها تقييماً
لنفسه.
لنحاولْ أن نقارن بين هذا الوضع وبين الوضع في العلوم الطبيعية المعاصرة
على أقل تقدير. نلحظ في هذه المجالات أن الطالب يركن أساساً إلى الكتب الدراسية،
ويظل كذلك إلى أن يبدأ بحثَه المستقل في عامه الثالث أو الرابع من دراسته للتخرج.
ونلحظ أيضاً أنّ أكثر المقررات الدراسية في العلوم لا تطالب حتى الخرّيجين
بالاطّلاع على أعمالٍ لم تُكتَب خصيصاً للطلاب. والقليل النادر من البرامج التي
تعين قراءات تكميلية من خلال الاطلاع على البحوث والرسائل المتخصصة نجدها تقصر هذه
القراءة على أكثر المقررات الدراسسية تقدماً وعلى المواد التي تعرض بدرجةٍ أو
بأخرى ما أغفلته الكتب الدراسية المتداوَلة. وتظل الكتب الدراسية حتى المراحل
النهائية في تعليم الباحث العلمي هي البديل بانتظام عن الدراسات العلمية الإبداعية
التي هي العلّة والأساس في تأليف تلك الكتب. ونظراً لثقة العلماء في النماذج
الإرشادية التي يلتزمون بها والتي تيسر هذا التكنيك التعليمي، لذا فإن القليلين
منهم هم الذين تحدوهم رغبةٌ في تغييرها.
إذاً لماذا بعد كل (211)
هذا يسعى طالب الفيزياء، كمثال،
إلى قراءة أعمال نيوتن أو فاراداي أو آينشتين أو شرودهجر ما دام كل ما يريد معرفته
عن هذه الأعمال ميسور بين يديه وقد أعادت عرضَه كتبٌ دراسيةٌ حديثة في صورةٍ أكثرَ
اختصاراً وأكثر تحديداً وأكثر تنسيقاً؟ (212)
وبدون الرغبة في الدفاع عن الأبعاد المفرطة التي وصل إليها هذا الطراز من
التعليم أحياناً، فإن المرء لا يسعه إلا الإشارة إلى أنه بوجهٍ عام كان فعّالاً
إلى حدٍّ كبر. وهو بطبيعة الحال تعليمٌ ضيّقٌ ومحدود وجامد، بل وربما يكون أكثر
ضيقاً وجموداً من أي مجال آخر، ربما باستثناء الدراسات المتزمّتة الخاصة بتعليم
أصول الدين. بيد إنّ الباحث العلمي يكون مهيّأً على أكمل وجه تقريباً للعمل العلمي
القياسي أي لحلّ الألغاز في إطار التقليد الذي تحدّده له الكتب الدراسية. زد على
ذلك أنه مهيّأٌ على نحوٍ جيد لأداء مهمّةٍ أخرى مماثلة ـ إثارة أزماتٍ هامة ذات
دلالة من خلال العلم القياسي. وحين تثار هذه الأزمات لا يكون العالم بطبيعة الحال
مهيّأً لها بنفس الدرجة. وحتى إذا كان من المحتمل أن تؤثر الأزمات المزمنة بصورة
تجعل الممارسة التعليمية أقلَّ جموداً، إلا أنّ التدريب العلمي ليس معَدّاً
إعداداً جيداً لإنتاج الإنسان القادر على أن يكتشف بسهولة نهجاً جديداً في تناول
المشكلات. ولكن طالما ظهر شخصٌ ما يبشّر بنموذجٍ إرشاديٍّ جديد بديل ـ ويكون عادةً
باحثاً شاباً أو جديداً على مجال البحث ـ فإن أضرار الجمود تعود على الفرد وحدَه،
وحين يتهيّأ جيلٌ يتولّى إنجاز التغيير، يصبح الجمود الفردي متناقضاً مع مجتمع
قادرٍ على التحوّل من نموذجٍ إرشادي إلى نموذجٍ إرشاديٍّ آخر حيث إنّ الموقف يتطلب
ذلك. ويبدو هذا التناقض واضحاً بوجه خاص عندما يصبح هذا الجمود ذاتُه مؤشراً
حساساً للمجتمع يدلّه على أنّ خطأً ما قد وقع.
لذا فإن كل مجتمع علمي إنما يعتبر في حالته العادية، أداةً شديدة الفعالية
لحلّ المشكلات أو الألغاز التي تحدّدها نماذجه الإرشادية، علاوةً على هذا، فإن
نتيجة حلّ تلك المشكلات لا بدّ أن تكون بالقطع تقدماً. وليس في هذا القول ما يدعو
للريبة أو الشك. غير أنه يلقي ضوءاً فقط على الجانب الثاني الرئيسي من مشكلة
التقدم في العلوم، وهو التقدم من خلال العلم غير العادي، وهو ما انتقل الآن للنظر
فيه. لماذا يكون التقدم في (212)
صورته العامة ظاهرةً ملازمةً دائماً وأبداً للثورة العلمية؟ أعود لأقول
إننا سنعرف الكثير إذا ما انصبّ سؤالنا على النتائج الأخرى المحتملة لحدوث ثورة
علمية. تنتهي الثورات بالانتصار الكامل لأحد المعسكرين المتعارضين.
ترى هل يمكن لهذا الفريق أن يقول إنّ نتيجة النتصاره شيء آخر دون التقدم؟
إن هذا الفرض أشبه بالقول بأنهم كانوا على خطأ وكان خصومهم على حق. ولا ريب في أنّ
حصاد الثورة لا بدّ أن يبدو في نظرهم على الأقل تقدماً، وقد أضحوا في وضعٍ أمثل
يجعلهم على يقين من أنّ أعضاء جماعتهم العلمية في المستقبل سوف ينظرون إلى التاريخ
الماضي بنفس نظرة اليوم. ولقد عرض الفصل الحادي عشر تفصيلاً التقنيات التربوية
لتحقيق هذا الهدف، وكل ما فعلناه هنا أننا استعدنا جانباً وثيق الصلة بالحياة
العلمية المتخصصة. فالمجتمع العلمي حين ينبذ نموذجاً إرشادياً كان سائداً في
الماضي إنما يتخلّى في الوقت ذاته عن أكثر الكتب والمقالات التي تجسّد هذا النموذج
الإرشادي إذ لم تعد مادةً مناسبةً للدراسة المهنية المدققة.
والملاحَظ أنّ تعليم العلوم لا
يستخدِم وسيلةً معادلةً لمتحف الفنون أو مكتبة الكلاسيكيات، مما يؤدي أحياناً إلى
حدوث ما يشبه التشوّه الشديد في رؤية رجل العلم لماضي مبحثه العلمي. وينتهي به
هذا، على نحوس يتجاوز كثيراً الباحثين في المجالات الإبداعية الأخرى، إلى الاعتقاد
بن مبحثه العلمي مبحثٌ سار في خطٍ مستقيم أفضى به إلى حالته الراهنة بكل ما تتصف
به من تميّز. والخلاصة أنه يعتبر هذا الماضي في النهاية تقدماً. ولا بديل آخر
أمامه طالما بقي داخل مجال تخصصه.
تلك الملاحظات سوف توحي حتماً بأن عضو المجتمع العلمي الناضج مثله كمثل
الشخصية النمطية في رواية جورج أورويل "العالم عام 1980"، هذه الشخصية
التي كانت ضحية التاريخ الذي أعادت كتابته السلطات القائمة على شؤون البلاد. علاوةً
على هذا فإن الإيحاء المشار إليه ليس بالشيء الشاذ [على] الإطلاق. فثمّة خسائرُ،
مثلما هناك مكاسب، للثورات العلمية، وينزع العلماء عادةً إلى التغافل وإخفاء
الخسائر بخاصة. ومن ناحيةٍ أخرى ليس بإمكان أيّ تفسير للتقدم من خلال الثورات أن
ينتهي عند هذه النقطة. إذ لو حدث ذلك لكان معناه القولَ ضمناً بأن القوة تصنع الحق
في مجال العلوم، وهي قاعدةٌ لن تكون خطأً تماماً ما لم تحجب قسراً طبيعة (213)
العملية [العلمية] والسلطة اللذين يتم بمقتضاهما الاختيار بين النماذج
الإرشادية. إذ لو كانت السلطة وحدَها، خاصةً لو كانت سلطةً غير مهنية، هي الحكم
الذي يفصل بين أنواع الجدل الدائر بشأن النموذج الإرشادي، فإن حصاد ذلك الجدل قد
يظل ثورة، ولكن دون أن يكون ثورةً علمية.
إن وجود العلم ذاته رهنٌ بأن تكون سلطة الاختيار بين النماذج الإرشادية
مخوّلة لأعضاءٍ من نوع المجتع ذاته. أما إلى أيّ حدٍّ يجب أن يكون هذا المجتمع
متخصصاً إذا ما كان للعلم أن يبقى وينمو باطّراد، فهذا ما قد يكشف عنه مدى ضعف
قبضة الإنسانية على المشروع العلمي.
إن كل حضارة من الحضارات التي تملك وثائقَ تسجيلية عنها امتلكت تكنولوجيا
وفناً وديناً ونظاماً سياسياً وقوانين وما إلى ذلك. ولقد كانت هذه الجوانب في كثير
من الحالات متطوّرة مثل حضارتنا. ولكنّ الحضارات التي انحدرت إلينا عن اليونان
الهيلينية عرفت ما هو أكثر من العلم الأوّلي الخالص.
إنّ الكمّ الأساسي من المعرفة
العلمية هو نتاجُ أوروبا على مدى القرون الأربعة الأخيرة. ولم يحدّثنا التاريخ عن
أيّ مكانٍ آخر أو زمانٍ غير هذا توفّر فيهما الدعم والتأييد للمجتمعات العلمية
الشديدة التخصص التي هي معين الانتاجية العلمية.
فما هي الخصائص الجوهرية لهذه المجتمعات؟ واضح أنّ الأمر بحاجةٍ إلى مزيد
من الدراسة المستفيضة. ولكن الشيء الميسور الآن فقط في هذا المجال هو مبادئ عامة
تقريبية للغاية. ولكن يتعيّن أن تتضح لنا مقدما بعض الشروط الأساسية لعضوية
الجماعة العلمية. فرجل العلم لا بدّ ان يكون على سبيل المثال معنياً بحل مشكلاتٍ
عن سلوك الطبيعة. علاوةً على هذا، فإنه على الرغم من أنّ اهتمامه بالطبيعة قد يكون
شاملاً في نطاقه إلا أنّ المشكلات التي يعالجها لا بدّ أن تكون مشكلاتٍ تتعلّق
بالتفاصيل، والأهم من ذلك أنّ الحلول التي ترضيه يمكن ألا تكون مجرد حلولٍ مرضِية
له شخصياً، بل لا بدّ أن تكون مقبولةً من كثيرين. والفريق الذي يشارك في هذا الرأي
ليس فريقاً جرى اختيارُه على نحوٍ عشوائي من المجتمع في عمومه، بل يجب أن يكون هو
الجماعة التي جرى تحديدها تحديداً جيداً من بين العلماء المتخصصين الأكفاء
القائمين بنفس النشاط العلمي. وإن من أقوى القواعد التي تقوم عليها الحياة العلمية،
وإن ظلّت غير مسطورة، هي حظر الاحتكام إلى رؤوس الدولة أو الكافة فيما يختص
بالموضوعات (214)
العلمية.
فالتسليم بوجود فريقٍ مهني قدير على نحوٍ منفرد، والاعتراف بدوره باعتباره
الحكم الوحيد فيما يختص بالإنجازات المهنية أمرٌ له دلالات ونتائج أبعد من ذلك. فأعضاء
الفريق، من حيث هم أفراد، وبفضل الدُربة والخبرة المشتركة بينهم، لا بدّ من النظر
إليهم باعتبارهم هم وحدَهم أصحاب قواعد اللعبة، الفاهمون لها، أو أنهم شركاء في
معيارٍ متكافئ من أجل إصدار أحكامٍ صريحة وواضحة. وإن الشك في أنهم متفقون على معاييرَ مشتركةٍ بينهم
لعمليات التقييم إنما يعني السماح بوجود معايير متضاربة للإنجاز العلمي. ووضع كهذا
من شأنه أن يثير بالقطع سؤالاً عن وحدة الحقيقة في العلم.
هذه القائمة الصغيرة للخصائص المشتركة بين المجتمعات العلمية إنما
استخلصناها جملةً من ممارسة العلم القياسي كما ينبغي لها أن تكون. وهذا هو النشاط
الذي يتدرّب عليه رجل العلم ويتشكّل بمقتضاه. ولكن لنلاحظ أنه على الرغم من أن
إيجاز هذه القائمة إلا أنها كافيةٌ لفصل هذا النوع من الجماعات العلميةوتمييزه عن
جميع الفرق المهنية الأخرى. ولنلاحظ علاوةً على هذا أن القائمة وإن كانت نابعةً من
العلم القياسي، إلا أنها تفسر كثيراً من القسمات الخاصة بردود أفعال جماعة البحث
أثناء الثورات وبخاصة عندما يحمى وطيس الجدال بشأن النموذج الإرشادي. وسبق أن
رأينا أنّ أيّ فريقٍ من هذا الطراز لا بدّ أن يعتبر تغير النموذج الإرشادي تقدماً.
ونستطيع الآن التسليم بأنّ هذا النهج في إدراك الأمور كافٍ من نواحٍ كثيرةٍ هامة
لإثبات صدقه. إذ تعتبر جماعة البحث العلمي الأداة الفعالة الأمثل للوصول إلى أقصى
كم، وأدق قدر من المشكلات التي يتم حلّها بفضل تغيّر النموذج الإرشادي.
ونظراً لأن المشكلة المحلولة هي وحدة قياس الإنجاز العلمي وتقدير ما بلغه
العلم من نجاح، وحيث إن جماعة البحث العلمي تعرف جيداً أيَّ المشكلات تمّ حلُّها،
لذا لن يتبقى غيرُ عددٍ قليل من العلماء ممن يسهل حثهم وإقناعُهم لتبني وجهة نظر
تثير من جديد الشك في عدد من المشكلات التي سبق حلّها [أي تثير الشك في الحلول
السابقة]. ويتعيّن أن تفرض الطبيعة أولاً شعور الثقة أو الأمن المهني، وذلك بأن
تجعل الإنجازات السابقة تبدو في صورة إشكالية. ثم بعد ذلك يبرز بديلٌ جديد للنموذج
الإرشادي. ولكن الملاحظ أنه حتى بعد أن يحدث (215)
كل هذا، سوف
يحجم العلماء عن استيعابه ويتحفظون إزاءه ما لم يقتنعوا بتوفر شرطين لهما أقصى
قدرٍ من الأهمية. أولاً لا بدّ وأن يبدو واضحاً أنّ بإمكان البديل الجديد حلَّ
مشكلةٍ هامةٍ لها الأولوية ومعترفٍ بها بعامة، ولا سبيل إلى حلّها بوسيلةٍ أخرى.
ثانياً، يجب أن يبشّر النموذج
الإرشادي الجديد بالحفاظ على قدرس كبيرٍ نسبياً من القدرة الموضوعية على حلّ
المشكلات التي تراكمت على أيدي النماذج الإرشادية السابقة في مجال البحث العلمي
المعني. إن الجِدّة ليست أمنيةً مطلوبةً لذاتها في مجال العلوم شأنُها في مجالات
إبداعيةٍ أخرى كثيرة. ونتيجةً لذلك فإن النماذج الإرشادية الجديدة،
.. إن النماذج الإرشادية الجديدة، حتى وإن كانت نادراً ما تملك، أو لا تملك
على الإطلاق، جميع قرات النماذج الإرشادية القديمة، إلا أنها تحتفظ عادةً بكمٍّ
ضخمٍ من أقصر [؟] الجوانب موضوعية في إنجازات الماضي وتسمح دائماً علاوةً على هذا
بالمزيد من الحلول الموضوعية المحددة للمشكلات.
وهذا لا يعني ضمناً القول بأن
القدرة على حلِّ المشكلات هي الأساس المتفرد أو القاعدة المطلقة لاختيار النموذج
الإرشادي، فقد سبق أن أشرنا إلى أسبابٍ كثيرة تنفي وجود معيارٍ كهذا.
ولكنه يعني أن أيَّ فريقٍ من العلماء
المتخصصين سوف يبذل أقصى جهده في سبيل ضمان اطّراد زيادة المعطيات التي يجمعها
ويقدر على معالجتها بدقة وتفصيل. وطبيعي أن يتحمّل المجتمع العلمي خلال هذه
العملية قدراً من الخسائر. إذ يتعيّن غالباً إسقاط بعض المشكلات القديمة. علاوة
على هذا فإن الثورة كثيراً ما تؤدي إلى تضييق نطاق المهام المهنية التي تشغل بال
أبناء المجتمع العلمي، وتزيد من مدى تخصصه، وتضعف من اتصاله بالجماعات الأخرى
سواءٌ لعلماءَ متخصصين أم للعامة من الناس. ولكن على الرغم من أن العلم يزداد
عمقاً على وجه اليقين، إلا أنه قد لا يزداد من حيث المساحةُ طولاً وعرضاً. وإذا
حدث ذلك فإن هذه المساحة الظاهرية تتجلى أساساً في تكاثر التخصصات العلمية، وليس
في نطاق أي تخصص واحدٍ بذاته. ولكن على الرغم من هذه الخسائر وغيرها التي تمنى بها
المجتمعات الخاصة، إلا أنّ طبيعة هذه المجتمعات توفر ضماناً واقعياً يتمثّل في
اطّراد نموّ وزيادة كلٍّ من قائمة المشكلات التي حلّها العلم ودقة حلول المشكلات
المتخصصة. وتهيّئ طبيعة المجتع العلمي مثلَ هذا الضمان على الأقلّ ما دامت هناك
(216)
وسيلةٌ ما، مهما كانت، لتوفيره. ترى أيُّ
معيارٍ آخرَ أفضلُ من دقة الفريق العلمي؟
تشير الفقرتان الأخيرتان إلى الاتجاهات التي
تدلّنا فيما أعتقد على حلٍّ أكثرَ ملاءمةً ودقةً لمشكلة التقدم في العلوم. إذ ربما تدلّنا على أنّ التقدم العلمي ليس بالضبط ما كنّا
نتصوّره. ولكنها تكشف لنا في الوقت نفسه عن أنّ نوعاً من التقدم سيسِم حتماً
بخصائصه المشروع العلمي ما بقي هذا المشروع من حيث هو كذلك قائماً ولا حاجة لوجود
تقدم من نوع ٍ أخر في مجال العلوم.
وحتى نكون أكثر دقّةً فإننا قد
نُضطرّ إلى التخلي عن الفكرة القائلة، صراحةً أو ضمناً، إن تغيّرات النموذج
الإرشادي تقود العلماء، هم ومن يتلقّون العلم عنهم، في سبيل تقترب أكثر فأكثر من
الحقيقة.
[ هنا يبدو كوين معارضاً لنظرة
كارل بوبر حول تقدم المعرفة العلمية واقترابها من الحقيقة. السؤال الذي يحتاج إلى
البحث عن رأي كوين حوله هو: ما الذي يجعل العلماء ينتقلون من نموذج إرشادي إلى
نموذج جديد؟]
بات لزاماً الآن أن نشير إلى أنّ
مصطلح "الحقيقة" لم نستعمله في دراستنا هذه وحتى الصفحات القليلة
الماضية إلا ضمن اقتباسٍ أخذناه عن فرنسيس بيكون. كما وإننا لم نستعمله حتى في هذه
الصفحات إلا باعتباره مصدراً لاقتناع رجل العلم بأن القواعد المتضاربة في ممارسة
العلم لا يمكن أن توجد معاً إلا أثناء الثورات عندما تصبح المهمة الأساسية لجماعة
البحث المتخصصة هي إلغاؤها جميعاً فيما عدا واحدة.
وإنّ العملية التطورية التي
عرضَتْها هذه الدراسة كانت عملية تطور من البدايات الأولية ـ وهي عملية تتميز
مراحلُها المتعاقبة بفهم للطبيعة ـ يتزايد باطّرادٍ دقّةً وتفصيلاً وشمولاً. ولكن
لا شيء البتّة مما قيل أو سيقال يمكن أن يجعلها عملية تطوّر إلى أو نحو أيِّ شيء.
ولا بدّ أنّ هذه الثغرة قد أثارت قلقاً كثيراً من القرّاء. ذلك لأننا ألفنا جميعاً
عادةً ترسّخت فينا تجعلنا نرى العلم باعتباره المشروع الوحيد الذي يدنو أكثر فأكثر
باطّراد صوب هدفٍ ما حدّدته الطبيعة مقدّما.
ولكن هل ثمّة ضرورةٌ لمثل هذا الهدف؟ ألا نستطيع أن نفسّر كلاً من وجود
العلم ونجاحه في ضوء التطوّر ابتداءً من حالة المعرفة عند جماعة بحثٍ متخصصة في
زمنٍ بذاته؟ وهل من المفيد حقاً تصور وجود مفهوم واحدس كاملٍ وموضوعي وصادق عن
الطبيعة وأن المعيار الصحيح لقياس الإنجاز العلمي هو المدى الذي يقرّبنا أكثر
فأكثر من ذلك الهدف النهائي؟
ترى هل إذا عرفنا كيف نبدل التطور ابتداءً مما نعرفه فعلاً بالتطور صوب (217)
ما ننشد معرفته، سوف تزول بعض المشكلات المثيرة والمحيّرة خلال هذه
العملية. لا بدّ وأنّ مشكلة الاستقراء تكمن في ناحية ما داخل تلك المتاهة.
لا أزال عاجزاً عن أن أحدّد، على أيّ نحوٍ تفصيلي، نتائج هذه النظرة
البديلة إلى التقدّم العلمي ـ بيد أنّ المشكلة تتضح عندما يتبيّن لنا أنّ ما نوصي
به من إبدال للمفاهيم أمرٌ وثيق الصلة جداً بتحوّلٍ آخرَ في المفاهيم شهده الغرب
منذ قرنٍ مضى. وهو أمرٌ مفيد جداً نظراً لأن العقبة الأساسية التي تعيق التحوّل
واحدةٌ في كلتا الحالتين. فعندما نشر داروين لأوَّلِ مرّةٍ نظريّته عن التطور من
خلال الانتخاب الطبيعي، وذلك عام 1859، لم يكن أشدّ ما أثار ضيق كثيرين من العلماء
المتخصصين هو فكرة تغيّر الأنواع، ولا فكرة احتمال تحدّر الإنسان عن القردة
العليا. إذ المعروف أنّ الشواهد الدالة على التطوّر، بما في ذلك تطوّر الإنسان، قد
تراكمت على مدى عدة عقود. وكانت فكرة التطور واردة ومنتشرة على نطاقٍ واسع قبل
ذلك. وعلى الرغم من أن التطور، من حيث هو، واجه مقاومةً، خاصةً من جانب بعض
الأوساط الدينية، إلا أنها لم تكن بأيّ حالٍ من الأحوال أقسى الصعاب التي جابهت
الداروينيين. لقد نشأت تلك المشكلة عن فكرة قريبة الشبه جداص من فكرة داروين نفسه.
ذلك أن جميع النظريات التطورية الشائعة قبل داروين ـ مثل نظريات لامارك وشامبرز
وسبنسر وفلاسفة الطبيعة الألمان ـ رأت في التطور عملية هادفة تتجه نحو هدفٍ محدّد.
وكان الاعتقاد السائد أن "فكرة" الإنسان والحياة النباتية والحياة
الحيوانية المعاصرة كانت موجودةً منذ بدء الخليقة ولو في فكر الله. ولقد حددت هذه
الفكرة أو الخطة الاتجاه والقوة الموجّهة لكل العملية التطورية، ومن ثَمّ أضحت كل
مرحلةٍ جديدة من النمو التطوّري هي تحقّقٌ أكثر كمالاً لخطةٍ موجودةٍ منذ البدء.
لقد بدا في نظر أكثر الناس أنّ
إلغاء هذا النوع من التطوّر الغائي هو الشيء الأكثر خطراً والأقل استساغةً في آراء
داروِن. إذ المعروف أنّ كتاب "أصل الأنواع" لم يعترف بأيّ هدفٍ سواءٌ
أكان هدفاً حدّده الله أم حدّدته الطبيعة. وبدلاً من ذلك بدأ الانتخاب الطبيعي
الذي يعمل في البيئة القائمة ومن خلال الكائنات الحيّة الواقعية هو المسؤول عن
الظهور التدريجي، ولكنه ظهورٌ مطّرد وثابت، لمزيد من الكائنات الحيّة الأكثر
إحكاماً وتبايناً وتخصصاً. بل إنّ أعضاءً تطوّرت وبلغت حدّ الإعجاز في تكيّفها،
مثل عينيّ (218)
الإنسان ويديه ـ وهي أعضاءٌ
كانت دقّةُ تصميمِها وأدائها سبباً في ظهور تفسيراتٍ ميتافيزيقية ـ إنها هي في رأي
الكتاب [كتاب أصل الأنواع] نتاجٌ لعمليّةٍ سارت في ثبات واطّراد منذ البدايات
الأولية، ولكن لم تكن مسيرتُها صوبَ هدفٍ مرسوم مقدّماً.
وطبعي إنّ الاعتقاد بأن
الانتخاب الطبيعي الناجم عن مجرّد المنافسة بين الكائنات الحيّة وصراعها من أجل
البقاء، هو الذي أنتج الإنسان والحيوانات الراقية والنباتات، مثل هذا الاعتقاد كان
هو الجانب الأكثر قسوةً وإزعاجاً في نظرية داروِن. إذ ماذا عسى أن يعني
"التطوّر" و"النموّ" و"التقدم" في حالة غياب هدف
محدّد؟ ولقد بدت هذه المصطلحات كلّها فجأةً في نظر كثيرين وكأنها مصطلحات متناقضة
مع نفسها.
وإنّ القياس التمثيلي الذي يناظر
بين تطوّر الكائنات الحيّة وبين تطوّر الأفكار العلمية يمكن المضيّ به قدماً
ودفعُه بسهولةٍ إلى مدىً بعيد للغاية. ولكنه يقارب حدّ الكمال في ما يختص بالقضايا
المثارة في هذا الفصل الختامي. وإن العملية التي عرضناها في الفصل الثاني عشر باعتبارها
عملية انحلال للثورات هي الانتخاب عن طريق الصراع داخل المجتمع العلمي لأصلح سبيل
لممارسة علوم المستقبل. والنتيجة الخالصة لتسلسل عمليات الانتخاب الثورية هذه،
والتي تفصل بينها فتراتٌ يسود فيها البحث القياسي، هي جَماع ما نملكه من أدوات
تثير الإعجاب بما حققته من مرءمةٍ ونسميها المعارف العلمية الحديثة. وتميّزت
المراحل المتعاقبة في هذه العملية التطوريّة بزيادة التخصص والأحكام ودقّة ووضوح
التفاصيل ولعل العملية كلها، أسوةً بما افترضناه الآن بشأن التطوّر البيولوجي، لم
تجرِ وفاءً لهدفٍ محدّد، أو سعياً من أجل حقيقةٍ علميةٍ ثابتة، بها تكون كل محلةٍ
من مراحل تطوّر المعرفة العلمية نموذجاً أفضل.
أحسبُ أنّ كل من تتبّع هذه الدراسة إلى الغاية التي انتهت إليها سوف يشعر
على الرغم من ذلك بالحاجة إلى أن يسأل: ولماذا تجري العملية التطورية؟ على أيّ
نحوٍ يجب أن تكون الطبيعة، بما في ذلك الإنسان، حتى يصبح العلم أمراص ممكناً على
الإطلاق؟ لماذا نقول حريٌّ بالمجتمعات العلمية أن تكون قادرةً على الوصول إلى
توافق الآراء ويتصل عبر التغير من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر؟ ولماذا ينبغي أن يفضي
تغير النموذج الإرشادي دائماً (219)
وأبداً إلى أداةٍ أكثر كمالاً بأيّ معنىً من المعاني تتجاوز به كل الأدوات
المعروفة قبلاً؟ لقد تمت الإجابة من وجهةنظر واحدةٍ على كل تلك الأسئلة فيما عدا
السؤال الأول.
ولكنها حسب وجهة نظرٍ أخرى لا تزال تنتظر الجواب على نحو ما كانت في بداية
دراستنا هذه. إن المجتمع العلمي ليس وحدَه فقط الذي يتعيّن عليه أن يكون خاصاً
متميّزاً. وإنما العالم كلّه الذي يشكّل المجتمع العلمي جزءاً منه يجب أن توفر له
هو الآخر سماتٌ خاصةٌ ومميّزة تماماً، ونحن لم نقترب بعدُ خطوةً واحدةً أكثر مما
كنا في البداية في سبيل معرفة ماذا يجب أن يكون العالم حولنا حتى يتسنى للإنسان أن
يعرفه؟ لز تبتكرها هذه الدراسة. بل على العكس، إنها مشكلةٌ قديمةٌ قدم العالَم
ذاته، ولا تزال بغير إجابة. ولكن ليست هناك ضرورةٌ تحتّم الإجابة عليها هنا في هذا
المكان. فإن أيّ تصوّر للطبيعة يتسق مع الفكرة القائلة إن العلم ينمو من خلال تأسيسه
على البراهين إنما يتسق أيضاً مع النظرة التطوريّة للعلم التي عرضناها هنا. وحيث
إن هذه النظرة متسقة أيضاً مع المشاهدة الدقيقة للحياة العلمية، فإن هناك من الجج
القوية ما يدعم استخدامها في محاولاتٍ لحلّ هذا الكمّ الكبير المتراكم من المشكلات
بغير حلّ.
(220)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق