حرية الإرادة بين
الحقيقة والخيال.
إعداد قصيّ أبوشامة
تدقيق عبدالله الصبّاع
تحرير رغدة عاصي.
تلامس حرية الإرادة كل شيء في حياتنا، وإنه
ليصعب بأن نفكر في القانون أو السياسة أو العلاقات الحميمة أو الأخلاق أو حتى
إنجازاتنا الخاصة دون تخيل أن كل شخص هو المصدر الحقيقي لأفكاره وأفعاله، لكننا
الآن نُواجه بسؤال قوي: هل حرية الإرادة حقيقة أم وهم؟
وصل ستيفن هاييس وجوشوا كوميسارجفسكي – مجرمان
معروفان – إلى بيت الدكتور وليام وجينيفر بيتيت في ولاية كونيتيكت في الصباح
الباكر من يوم 23 تموز 2007 ، واستنادًا إلى اعترافاتهم المسجلة، وقف جوشوا فوق
الدكتور النائم لدقائق مترددًا قبل أن يضربه بمضرب البيسبول على رأسه، وقال جوشوا
أن صراخ ضحيته أطلق العنان لشيء في داخله، وضربه بالهراوة بكل ما أوتي من قوة حتى
خر مغشيًا عليه.
وبعدها قام كلاهما بتقييد يديه وقدميه ثم ذهبا
إلى الأعلى للبحث عن بقية أفراد العائلة، عندها وجدا جينيفر وابنتيها هيلي 17 عام
وميشيلا 11 عام نياماً، وأيقظوهم بسرعة وقيدوهم إلى أسرتهم.
عند الساعة السابعة صباحًا، ذهب هايس إلى محطة
الوقود وأحضر أربع جالونات من الغازولين، في التاسعة والنصف أخذ جينيفر إلى البنك
وجعلها تسحب 15000 دولار، ظنًا منها أن زوجها في صحة جيدة وأن المجرمين سوف يطلقوا
سراح عائلتها.
بعدها قام هايس باغتصاب جينيفر ثم شنقها، في هذه
اللحظة لاحظ المجرمان أن وليام فرَّ من المنزل، وأصيبا بالهلع لذا كان رد فعلهما أن
ملآ المنزل بالغازولين وأضرما به النار، لكن عندما سألتهما الشرطة لماذا لم تطلقا
سراح الفتاتين المقيدتين، كان جواب جوشوا أن هذا الأمر لم يخطر بباله، لذا ماتت
الفتاتان اختناقاً وكان وليام هو الناجي الوحيد.
عند سماعنا عن جرائم من هذا النوع، يتبادر في
أذهان معظمنا أن هايس وجوشوا يجب أن يتحملا كل مسؤولية أفعالهما، وسيشعر الكثير
بالرغبة في قتل هذين الوحشين، لكن هل يهمنا أن هايس أظهر ندمه وحاول الانتحار؟ لا
أظن هذا، وأيضًا،
ماذا عن حقيقة أن جوشوا في طفولته كان يتم اغتصابه باستمرار؟ وما خلف هذا من أثر عليه سواءٌ بتدميره نفسيًا
أم ببلادة الشعور،
كما ادعى جوشوا أنه كان مصدومًا مما فعل يومها في ذلك المنزل: حيث كان جوشوا لصًا
عاديًا وليس مجرمًا، ولم يكن في نيته قتل أي شخص، تفاصيل كهذه قد تجعلنا نعيد
النظر.
كما سوف نرى قريبًا فإنه سواءٌ أكانا مجرمين مثل
هايس وجوشوا أم مجرمين من نوع آخر، ومهما كان دافعهم، فإن هؤلاء الناس لا يستطيعون
معرفة لماذا هم هكذا، وبالقدر الذي نرى تصرفهما مريضاً، يجب علينا أن نقر بأنه لو تبادلنا الدور مع
هؤلاء الاشخاص وعشنا ظروفهم وامتلكنا جيناتهم فإننا لن نختلف عنهم وسنفعل ما فعلوه
تمامًا، لذا لربما لعب دور الحظ هنا.
إذا عرفنا أن كلا الرجلين كانا يعانيان من ورم
دماغي يفسر تصرفاتهما، عندها
سوف يتغير حدسنا الأخلاقي بالطبع، ووجود اضطراب عصبي هو ليس إلا إحدى الحالات
المميزة من الأحداث فيزيائية التي تؤثر على أفكارنا وأفعالنا، وفهم الفسيولوجيا
العصبية للدماغ، لذلك سوف يعطي هذا الورم درجة من البراءة لمن يمتلكه، والسؤال هنا :
كيف نعطي حياتنا معنىً عقلانيًا، وكيف نحمل
الناس مسؤولية أفعالهم بالنظر إلى الجذور غيرالواعية لعقولهم الواعية؟
قد لا تكون حرية الإرادة إلا وهمًا، والخيارات
التي نعتقد أننا نتخذها ليست من صنعنا، وقد تكون أفكارنا ونوايانا قد نشأت من أسباب
هامشية –عوامل طبيعية- لسنا مدركين لها ولا نستطيع التحكم بها، لذا لا نملك نحن
الحرية التي نظن أننا نملكها، وربما تكون إراداتنا يتم تحديدها من قبل أسباب سابقة
لسنا مسؤولين عنها، أو ربما أنها نتيجة للصدفة ولسنا مسؤولين عنها أيضًا.
ربما كان خيار الرجل في إطلاق النار على الرئيس
نتيجة نمط معين أو نشاط عصبي والذي بدوره نتيجة أسباب مسبقة، أو ربما مصادفة غير
محظوظة من جينات سيئة أو طفولة غير سعيدة أو حتى مشاكل في النوم، لذا ما الذي
يعنيه أن نحكم على إرادة هذا الرجل بأنها حرة؟ حتى الآن لم يقدم أحد على إيجاد طريقة
تنشأ فيها العمليات العقلية والجسدية تشهد بها على وجود حرية كهذه.
يرتكز التصور الشهير لحرية الإرادة على افتراضين:
·
– الأول هو أن يتصرف كل واحد منا بطريقة مختلفة عمّا فعل في الماضي.
·
– الثاني هو أننا المصدر الواعي لمعظم أفكارنا وأفعالنا في الحاضر.
لكن كلا الافتراضين خاطئين كما سنستقرئ الآن.
يتصرف كل واحدٍ منا بطريقة مختلفة عمّا فعل في
الماضي
لا، الحقيقة هي أنه لا تتطابق حرية الإرادة مع
أي حقيقة شخصية عنا، وسوف يبين لنا سبر أغوارها أن أفعالنا التي تبدو مأخوذة عن
إرادة ليست إلا أفعال تظهر على السطح بشكل عفوي، ولا يمكن اقتفاء أثرها إلى نقطة
الأصل في عقلنا الواعي، ولربما ستجعلك لحظة أو لحظتين من الفحص الدقيق لنفسك تلاحظ أنك لن
تقرر فكرتك التالية التي تظنها غير الفكرة التي أكتبها أنا الآن.
نحن نعي جزءاً بسيطًا من المعلومات التي يعالجها
دماغنا في كل لحظة، بالرغم من أننا نلاحظ باستمرار تغيرًا في تجاربنا من أفكار
وتقلبات في المزاج والإدراك والسلوك إلخ…، إلا أننا غير واعين تمامًا بالأحداث
الفسيولوجيا العصبية التي تسببها، بل بالحقيقة، نحن لسنا إلا شهداء رديئين للتجربة
نفسها، من خلال مجرد النظر إلى وجهك أو الاستماع إلى نغمة صوتك، حتى الآخرين
يملكون في العادة وعيًا أكبر بحالتك العقلية ودوافعك أكثر منك.
أنت تبدأ يومك بشكل عام بكوب قهوة أو شاي، هذا
الصباح بدأته بقهوة، لكن لماذا ليس الشاي، أنت لا تعرف لماذا، لكنك في ذلك الصباح
رغبت بالقهوة أكثر من رغبتك بالشاي، وكنت حرًا بامتلاك ما رغبت، ولكنك هل فضلت بكل
وعي القهوة على الشاي، لا، هذا الخيار صنع لك من قبل أحداث في دماغك والتي كنت
شاهدًا واعيًا عليها، والتي لم تعرف سببها أو تؤثر بها، وهل كان بإمكانك “تغيير
رأيك” والتحويل إلى الشاي قبل أن يستحوذ شارب القهوة في داخلك على قهوته؟ نعم، لكن
هذ الدافع – دافع التحويل من كأس قهوة إلى شاي – سوف يكون أيضاً نتيجة أسباب لا
واعية، لماذا لم تظهر هذه الأسباب في الصباح؟ لماذا قد تظهر في المستقبل؟ لا
تستطيع الإجابة، هنا نرى أن النية في فعل شيء واحد وليس الآخر لم تنشأ من وعيك لكن
عوضًا عن ذلك ظهرت في وعيك تمامًا كما أي فكرة أخرى أو دافع آخر تشهده كل يوم.
استخدم عالم وظائف الأعضاء بينجامين ليبيت تخطيط
أمواج الدماغ (تخطيط أمواج الدماغ أو EEG وهي
طريقة غير متوغلة عادةً، لتسجيل النشاط الكهربائي للدماغ على طول فروة الرأس) ليظهر أن الأنشطة الحركية في قشرة الدماغ يمكن
رصدها في حوالي 300 ملي ثانية قبل أن يشعر شخص أنه قرر أن يتحرك، وفي مختبر آخر
وسعت أعماله باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي : طلب من الأشخاص بأن يضغطوا على
واحد من الأزرار أثناء مشاهدة ساعة تتألف من تسلسل عشوائي من الأحرف التي تظهر على
الشاشة، ذكر الأشخاص أي حرف كان ظاهرًا في اللحظة التي قرروا أن يضغطوا أحد
الزرين، توصلت التجربة إلى منطقتين في الدماغ احتوتا على المعلومات فيما يخص أي
الأزرار التي سوف يختارها الأشخاص في وقت يتراوح بين 7 إلى 10 ثوان قبل أن يتم
اتخاذ القرار، ومؤخرًا، أظهرت التسجيلات المباشرة من قشرة الدماغ أن متابعة أنشطة
ما يقارب 256 خلية عصبية كانت كافية للتنبؤ بدقة قدرها 80% في قرار الشخص بأن
يتحرك قبل أن يصبح واعيًا به ب 700 ملي ثانية.
هذه النتائج يصعب توفيقها مع اعتقادنا بأننا
المؤلفين الواعيين لأفعالنا، حيث تبدو الآن حقيقة واحدة لا تقبل الجدل، وهي أن في
لحظة ما قبل أن تصبح واعيًا بما سوف تفعله تاليًا، فإن عقلك قرر مسبقًا ما سوف
تفعله، باستثناء أنك ستصبح واعيًا بهذا القرار.
تخيل جهاز تصوير للأعصاب متكامل يسمح لنا برصد
وتنبؤ التغيرات الملحوظة في طريقة عمل الدماغ، لربما سوف تمضي تفكر وتتصرف بحرية
في المختبر، فقط لتكتشف في النهاية أن العلماء الذين فحصوا دماغك كانوا قد تمكنوا
من صنع تسجيل كامل يوضح بماذا ستفكر أو ماذا سوف تفعل قبل لحظات من تنفيذك أو
تفكيرك في هذه الأمور على أرض الواقع، على سبيل المثال، بعد التجربة ب 10 دقائق
وعشر ثوان ، قررت أن تبتاع مجلة من كشك قريب وتبدأ بقرائتها، لكن الجهاز كان قد
تنبأ بهذا التصرف عند مرور 10 دقائق و6 ثوان، بدقة كبيرة لدرجة أن الجهاز حتى
اكتشف ما هي المجلة التي سوف تبتاعها، أما الآن سوف تقرأ المجلة وتصاب بالملل
وتتوقف عن القراءة، لكن الجهاز تنبأ بتوقفك قبل تنفيذك هذا الفعل بثوان واستطاع
معرفة ما هي الجملة التي ستتوقف عندها بالقراءة.
الدماغ ليس إلا جهازاً في جسمك، يخضع كاملًا
لقوانين الطبيعة، ولدينا جميع الأسباب لكي نعتقد بأن التغير في طريقة عمل دماغنا
وبنيته سوف تنعكسان على أفكارنا وأفعالنا.
إذا لم تكن تعلم ماذا سوف تفعل في اللحظة
التالية، فإنك لست مسيطراً على نفسك، وهذا أمر واضح وحقيقي في جميع الحالات التي
يتمنى شخص ما لو شعر أو تصرف بطريقة أخرى مما فعل، فكر بالملايين الذين ولدوا في
بيئة لم يرغبوا بها.
هنالك بالطبع فرق واضح بين الأفعال الإلزامية
والاختيارية، لكن هذا لا يدعم فكرة حرية الإرادة :
الفعل الاختياري يلتزم وجود نية لتنفيذه على عكس
الفعل الإلزامي، لكن من أين تأتي النوايا بحد ذاتها؟ نحن لا نعرف ماذا سوف نفعل
حتى تصعد نية هذا الفعل إلى وعينا، بالتأكيد هذا الاستنتاج لن يجعل حرية التعبير
والحرية السياسية أقل أهمية، لكن فكرة أننا ككائنات واعية أننا المصدر لعقليتنا
وتصرفاتنا يصعب إسقاطها على الواقع.
لا تثق بغرائزك عندما يتعلق الأمر بحرية الإرادة
والوعي
هذا ما تخبرنا به الفلسفة التجرييبة
تبدو حرية الإرادة جلية عندما نتخذ قرارًا ما،
لنقل مثلًا قرار الذهاب إلى حفل ما، أشعر عندها أنني قد أستطيع فعل شيء آخر، لكن
العديد من الفلاسفة يخبرونا أن غريزتنا خاطئة، استنادًا إلى رؤيتهم، فإن حرية
الإرادة هي نسج من خيالنا، لا يملكها أحد ولن يملكها، فخيارتنا إما حددت مسبقًا أو أنها عشوائية.
يتحدى حدسنا لحرية الإرادة، بأية حال، هذه
النظرة العدمية، ونحن قد نستطيع بالطبع الحكم على حدسنا بأنه خاطئ، لكن علم النفس
يقترح أن حكمنا سابق لأوانه، على سبيل المثال، إذا لم تعرف الإجابة على سؤال في
اختبار، فإن أول تخمين لديك سيكون على الأغلب صحيح، في كلا الفلسفة والعلم، قد
نشعر بأن هناك شيئاً غامضاً في قضية جدلية أو تجربة قبل أن نستطيع التعرف بالضبط
على ماهية المشكلة.
المناظرة على حرية الإرادة هي أحد الأمثلة التي
يتضارب فيها حدسنا مع الجدل العلمي والفلسفي، تمامًا كما الوعي، أو حتى حسنا
الأخلاقي، ويتعامل الفلاسفة الاعتياديين مع قضايا كهذه بحذر، وخلال العقد الماضي،
تبنت مجموعة من الفلاسفة بيانات كثيرة وطرائق أكثر بهدف التنوير في بعض هذه
الاسئلة المربكة، أدار هؤلاء (الفلاسفة التجريبيون) هذه الدراسات المسحية وفحصوا
الصورة الدماغية وحاولوا تأويلها، وربط حرية الإرادة بالدماغ الذي يعتبر مصدر
غرائزنا، عندها إذا استطعنا تفسير لماذا نشعر أننا نمتلك حرية إرادة أو لماذا نعتقد أن الوعي يتألف
من شيء أبعد من أنماط وأنشطة عصبية، قد نستطيع معرفة مدى مصداقية هذه المشاعر،
وهذا هو بيت القصيد، فإذا استطعنا إظهار أن بداهة أفكارنا حول حرية الإرادة تظهر
من عمليات غير جديرة بالثقة فإننا سوف نقرر أننا لن نثق بهذه الاعتقادات.
مؤثرات مجهولة
لاكتشاف الجذور النفسية لمشكلتنا الفلسفية، يجري
الفلاسفة التجريبيون عادةً مسوحات على الناس فيما يخص رؤيتهم على هذه القضايا
المشحونة، على سبيل المثال، عالج العلماء قضايا تخص اعتقاد الفرد باستقلال خياراته
عن الماضي وعن قوانين الطبيعة، حاول الفلاسفة التجريبيون أن يحلوا المناظرة عن
طريق سؤالهم الأشخاص في دراستهم إذا ما كانوا يتفقون مع الوصف التالي:
تخيل كونًا كل ما يحدث فيه تسبب بشكلٍ كامل بما
سيحدث بعده، لذا ما حدث في بداية الكون هو السبب لما سوف يحدث بعده وهكذا، حتى هذا
الحاضر، إذا قرر جون أن يأكل بطاطس فرنسية للغداء في يومٍ ما، هذا القرار كما
القرارات الأخرى، تسبّبت به أحداث حدثت قبله.
عندما أجريت الدراسة، قال الأمريكيون أنهم لا
يتفقون مع أوصاف هذا الكون، وعندما أجريت دراسات في دول أخرى اكتشف الباحثون أن
الصينيين والكولومبيين والهنود يتشاركون الرأي التالي: «خيار الفرد غير مقرر» لكن
لماذا يتشارك البشر في هذه الرؤية؟ هنالك تفسير واعد ووحيد وهو أننا نفرض أننا
بشكل عام ندرك جميع المؤثرات التي تؤثر على عملية صنع القرار، ولأننا لا نستطيع
رصد المؤثرات الحتمية، بل نسثني وجودها من الأساس.
بالطبع، لا يعتقد الناس بأنهم يملكون ولوجًا
واعيًا إلى كل شيء في عقلهم، ونحن لا نفرض أننا نستشعر أسباب الصداع، أو تشكيل
الذاكرة أو العمليات البصرية، ومع ذلك فإن البحث يشير إلى أن الأشخاص يعتقدون أنهم
بإمكانهم الولوج إلى العوامل التي تؤثر في خياراتهم.
ومع ذلك يتفق علماء النفس على نطاق واسع أن
عمليات اللاوعي تؤثر بقوة على خياراتنا، في دراسة معينة على سبيل المثال، حل
المشاركون في الدراسة أحاجي مكونة من كلمات حيث ارتبطت الكلمات مع موضوع الوقاحة
أو الأدب، الذين تعرضوا إلى كلمات وقحة كانوا أكثر احتمالًا أن يقاطعوا المشرف
عليهم أو يقاطعوا التجربة التالية، وعندما تم سؤالهم عن السبب، لم يشر أحدٌ منهم
وعيًا بأن الكلمات كان لها أثرعلى تصرفهم، هذا السيناريو هو واحد فقط من عديد من
السناريوهات الذي تعتبر فيه قراراتنا موجهة بقوة تختبئ خلف وعينا.
لذا ولأن لاوعينا قوي جداً بطرق أخرى، يبدو من
السخرية أن نستطيع الوثوق به عندما ندرس مفهومنا عن حرية الإرادة، لا نزال لا نعلم
بشكل قاطع أن خياراتنا محددة مسبقاً، لكن مفهومنا عن حرية الإرادة لا يزودنا بسبب
كاف لنعتقد بأنه صحيح، وإذا كانت غريزتنا لا تستطيع دعم فكرة حرية الإرادة، عندها
سنخسر الأساس المنطقي المقاوم لادعاء وهم حرية الإرادة.
علم النفس الإدراكي وحرية الإرادة
يلاحظ طلاب السياسة أو متابعو البرامج السياسية
أن استدلال التوفر – تكرر مواضيع مختارة بكثرة – يسهم في تفسير سبب بروز بعض
الموضوعات في المجتمع المحلي والعقل الجمعي بينما يجري إهمال موضوعات أخرى، قد يلعب
اللاوعي دورًا في عملية اتخاذ القرار عن طريق ما يسمى في علم النفس الإدراكي ب
(اليسر الإدراكي) وهو سهولة استذكار معلومة أو ادعاء ما بغض النظر عن صحته أو خطئه،
فيميل الناس إلى تقييم الأهمية النسبية للموضوعات من خلال سهولة استرجاعها من
الذاكرة، وهو ما يحدده إلى حد كبير مقدار التغطية الإعلامية لها.
وتشغل الموضوعات المذكورة بكثرة العقل في الوقت
نفسه الذي تختفي فيه موضوعات أخرى من الوعي بدورها، ويتطابق ما تختاره وسائل
الإعلام أن تعرضه مع رؤيتها لما يدور في الوقت الحالي في العقل الجمعي.
كما يرى علماء النفس الإدراكي أن أثر التكرار على الإعجاب بالأشياء هو
حقيقة بيولوجية مهمة كثيرًا وتتمثل بإحدى العوامل التي تتخزن في الذاكرة ويستخدمها
اللاوعي في عملية اتخاذ القرار، وهي مسألة تنسحب على جميع الحيوانات، فحتى يتسنّى
له البقاء في عالم خطر باستمرار، يجب أن يتصرف الكائن الحي بحذر تجاه أي مثير
جديد، من خلال الانكفاء على الذات والخوف، وتعتبر فرص البقاء بالنسبة إلى الحيوان
الذي لا يحذر من الأشياء الجديدة ضئيلة، وفي المقابل من قبيل التكيف أن يخف
تدريجيًا رد فعل الحذر المبدئي إذا ثبت أن المثير آمن، وبالتالي يصبح المثير في
نهاية المطاف علامة على السلامة التي تعد شيئًا جيدًا.
من نواحٍ أخرى
على الجانب الآخر لنعتبر هنا ما سوف يلزم
لامتلاك حرية الإرادة، سوف تحتاج أن تكون متنبهًا إلى جميع العوامل – سواء
الداخلية أو الخارجية منها سواء كنت واعيًا بها ام لم تكن واعيًا – التي تساهم في
تحديد أفكارك وتصرفاتك، وسوف يتوجب عليك أن تمتلك سيطرة كاملة على هذه العوامل،
لكن هنالك متناقضة تبطل مفهوم حرية الإرادة، تتلخص بالسؤال التالي :
ما الذي يؤثر على العوامل التي تؤثر في قرارك؟،
عوامل أكثر؟ وهكذا تبقى في حلقة مفرغة محاولًا التحكم بالعوامل الجانبية التي لا
تمثلك، ولست بالمتحكم في هذه العاصفة، ولست ضائعًا فيها، بل أنت العاصفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق