ابراهيم أزروال:
أندريه كومت سبونفيل والتسامح.
تميز النصف الأول من القرن العشرين ، بهيمنة الإيديولوجي وبصراع
الفكرانيات في المركز ، فيما انشغلت الهوامش والأطراف بإعادة بناء الذات الوطنية
استنادا إلى نتف فكرانية مستلة من المرجعات المحلية ومن مزق منتقاة بعناية
إيديولوجية فائقة من التراث الفكري الغربي الحديث والمعاصر .
أما النصف الثاني من نفس القرن ، فقد تفرد باهتزاز الفكرانية المركزية والانفتاح على مرجعيات واحالات ومستندات فكرية مختلفة الجذور والمنابع باسم ما بعد الحداثة ونقد العرقية المركزية الغربية أو نقد نموذج حضارة البعد الواحد أو مجتمع الاستهلاك . وفي نفس الوقت استمرت التوتاليتارية الشيوعية ، في التذرر والتحلل الذاتي ، وانتهت إلى الانطفاء بانطفاء بريق الفكرانية وانتهاء الحقيقة الستالينية إلى الانحجاب بل الانمحاء . وقد صاحب ، اندحارَ المرجعية الماركسية – اللينينية ، والتشكك المتواتر في أسس التاريخانية وفي إمكانية التقدم والحتمية التاريخية ، عودةُ الهويات التقليدية المنتمية إلى زمان غير زمان الفكر التاريخاني والى احياز غير احياز الفكر العلمي والى أرضية ابستيمية وانطولوجية غير الأرضيات الابستيمية والانطولوجية للفكر الحديث. ومن المحقق أن الفكر الحديث يرتكز على مرجعية الإنسان المتحرر من هيمنة اللاهوت والكهنوت والرعب الميتافيزيقي وعلى العقل البشري المنفصل عن العقل التأويلي التسويغي المعياري وعلى انفتاح الزمان التاريخي المتسم بالتفرد والتفريد وتجدد الاحتمالات .
لقد تميزت نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة بما يلي :
1- تفكك التاريخانية وفلسفات التاريخ والايديولوجيات الكليانية ؛
2- عودة الهويات العمودية إلى الساحة المحلية والإقليمية والدولية واستشراء الصراع بين الهويات القاتلة ؛
3- حلول الصراعات الدينية والإثنية والعرقية محل الصراعات النظرية – الإيديولوجية ؛
4- الصعود المدوي للهويات الاحترابية المستندة إلى فكرية القرون الوسطى والى تقانة عصرما بعد الحداثة ؛
5- تمكن ما بعد الحداثة من التشكيك وتفكيك يقينيات عصر الأنوار والعقلانية الكلاسيكية ؛
6- ازدياد التشابكات والترابطات والاشتباكات بين الثقافات وغياب الأطر الاجتماعية للمعرفة الخاصة بالتبادل الثقافي على المستوى العالمي ؛
7- اصطدام التعددية الثقافية والممارسة السياسية الغب- حداثية ، بالمواقف الثقافية القروسطية لثقافات الأطراف.
أما النصف الثاني من نفس القرن ، فقد تفرد باهتزاز الفكرانية المركزية والانفتاح على مرجعيات واحالات ومستندات فكرية مختلفة الجذور والمنابع باسم ما بعد الحداثة ونقد العرقية المركزية الغربية أو نقد نموذج حضارة البعد الواحد أو مجتمع الاستهلاك . وفي نفس الوقت استمرت التوتاليتارية الشيوعية ، في التذرر والتحلل الذاتي ، وانتهت إلى الانطفاء بانطفاء بريق الفكرانية وانتهاء الحقيقة الستالينية إلى الانحجاب بل الانمحاء . وقد صاحب ، اندحارَ المرجعية الماركسية – اللينينية ، والتشكك المتواتر في أسس التاريخانية وفي إمكانية التقدم والحتمية التاريخية ، عودةُ الهويات التقليدية المنتمية إلى زمان غير زمان الفكر التاريخاني والى احياز غير احياز الفكر العلمي والى أرضية ابستيمية وانطولوجية غير الأرضيات الابستيمية والانطولوجية للفكر الحديث. ومن المحقق أن الفكر الحديث يرتكز على مرجعية الإنسان المتحرر من هيمنة اللاهوت والكهنوت والرعب الميتافيزيقي وعلى العقل البشري المنفصل عن العقل التأويلي التسويغي المعياري وعلى انفتاح الزمان التاريخي المتسم بالتفرد والتفريد وتجدد الاحتمالات .
لقد تميزت نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة بما يلي :
1- تفكك التاريخانية وفلسفات التاريخ والايديولوجيات الكليانية ؛
2- عودة الهويات العمودية إلى الساحة المحلية والإقليمية والدولية واستشراء الصراع بين الهويات القاتلة ؛
3- حلول الصراعات الدينية والإثنية والعرقية محل الصراعات النظرية – الإيديولوجية ؛
4- الصعود المدوي للهويات الاحترابية المستندة إلى فكرية القرون الوسطى والى تقانة عصرما بعد الحداثة ؛
5- تمكن ما بعد الحداثة من التشكيك وتفكيك يقينيات عصر الأنوار والعقلانية الكلاسيكية ؛
6- ازدياد التشابكات والترابطات والاشتباكات بين الثقافات وغياب الأطر الاجتماعية للمعرفة الخاصة بالتبادل الثقافي على المستوى العالمي ؛
7- اصطدام التعددية الثقافية والممارسة السياسية الغب- حداثية ، بالمواقف الثقافية القروسطية لثقافات الأطراف.
وتمثل المواقف الأرثوذكسية للثورة الإيرانية وللخميني وقضية
سلمان رشدي و (الآيات الشيطانية) وقضية الحجاب الأولى بفرنسا نماذج دالة على ماسبق
؛ وقد أسرفت التعددية الثقافية في نقد العقل الأنواري والعقلانية الأنوارية الكلاسيكية
والإرث السياسي للأنوار، باسم نقد المركزية العرقية الغربية وباسم نقد ما أسمته حنا
ارنت ب( الفتنة التوتاليتارية). يقول علي أومليل: (إن أغلب الصراعات المسلحة اليوم
هي صراعات دينية أو إثنية. فاقتتال الهويات الثقافية معناه فشل التعددية الثقافية
في التعايش والتوافق على قيم جامعة وعلى الولاء لدولة وطنية متعاقد على مؤسساتها.)
(-علي أومليل – سؤال الثقافة – الثقافة العربية في عالم متحول – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- الطبعة الأولى – 2005- ص. 89).
في هذا السياق التاريخي والمعرفي كتب اندريه كونت- سبونفيل كتاب (المقال الصغير للفضائل الكبرى)، وتناول فيه ثيمات راهنة ومواضيع فلسفية إشكالية.
يعتقد كونت- سبونفيل أن التفلسف هو التفكير بدون أدلة؛ لكن غياب الأدلة لا يعني التفكير على نحو اعتباطي فاقد لأي توجيه أو استهداف أو في أي موضوع كيفما كان نوعه. ( فالعقل يقود كما في العلوم، ولكن بدون تحقق ولا دحض ممكنين.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-236)
فالفلسفة تختلف عن العلوم في افتقارها إلى الأدلة؛ لكن ذلك لا يعني التخلي عن الفلسفة والاكتفاء بالعلوم كما اعتقدت بعض التوجهات العلموية أو الوضعانية؛ فالعلوم لا تقدر على الإجابة على كثير من الأسئلة الكيانية بما في ذلك بعض الأسئلة المطروحة في سياق الممارسة العلمية نفسها. فمما لا شك فيه، أن العلوم لا تحتاز صلاحية الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بإشكالية المعنى أو سؤال معنى الحياة أو وجود المتعالي أو قيمة القيم. (فالميتافيزيقيا هي حقيقة الفلسفة حتى في الابستومولوجيا و فلسفة الأخلاق أو السياسة.)
(-علي أومليل – سؤال الثقافة – الثقافة العربية في عالم متحول – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- الطبعة الأولى – 2005- ص. 89).
في هذا السياق التاريخي والمعرفي كتب اندريه كونت- سبونفيل كتاب (المقال الصغير للفضائل الكبرى)، وتناول فيه ثيمات راهنة ومواضيع فلسفية إشكالية.
يعتقد كونت- سبونفيل أن التفلسف هو التفكير بدون أدلة؛ لكن غياب الأدلة لا يعني التفكير على نحو اعتباطي فاقد لأي توجيه أو استهداف أو في أي موضوع كيفما كان نوعه. ( فالعقل يقود كما في العلوم، ولكن بدون تحقق ولا دحض ممكنين.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-236)
فالفلسفة تختلف عن العلوم في افتقارها إلى الأدلة؛ لكن ذلك لا يعني التخلي عن الفلسفة والاكتفاء بالعلوم كما اعتقدت بعض التوجهات العلموية أو الوضعانية؛ فالعلوم لا تقدر على الإجابة على كثير من الأسئلة الكيانية بما في ذلك بعض الأسئلة المطروحة في سياق الممارسة العلمية نفسها. فمما لا شك فيه، أن العلوم لا تحتاز صلاحية الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بإشكالية المعنى أو سؤال معنى الحياة أو وجود المتعالي أو قيمة القيم. (فالميتافيزيقيا هي حقيقة الفلسفة حتى في الابستومولوجيا و فلسفة الأخلاق أو السياسة.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-237)
فالتسامح لا يجد مبرره في اعتقاده، إلا في حقل الفكر حيث يغيب اليقين ويسود الاحتمال والظن وتتوالى الممكنات في تنافسية محيرة في الغالب. (حين تعرف الحقيقة يقينا، يصير التسامح بلا موضوع.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-237)
فالتسامح لا يكتسب شرعيته إلا في حقل الفكر الاحتمالي أصلاً، لا في حقل العلوم الموسومة غالبا بالدقة واليقين رغم كل اهتزازات المفاهيم الجوهرية للعلم الكلاسيكي مثل: الموضوعية والحتمية واليقين ...الخ . فالممارس العلمي لا يحتاج إلى التسامح، بل إلى تصحيح أخطائه إذا تبين خطأ نظرياته، والى الحرية وعدم الخضوع للمؤسسات الاجتماعية أو العقدية الساعية إلى الحد من الفعالية العلمية نظير ما قامت به الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر مثلا.
فالتسامح لا يوجد إلا حيث تنقص أو تغيب المعرفة، أما حرية العقل اللازمة للعلوم فهي المعرفة نفسها مادامت تحررنا من كل شيء بما في ذلك ذواتنا.
فالتسامح مرتبط بأسئلة الرأي، وبالوضعية المعرفية للشخص البشري. وهي وضعية معرفية، مخترقة باللامعرفة وبالجهل وبالترجيح بين البدائل والممكنات في أحسن الأحوال. يعتقد كونت- سبونفيل أن الداعين إلى التسامح إزاء النظرية التطورية لداروين، لا يدركون علميتها؛ كما يعتقد أن المطالبين بفرضها بطريقة سلطوية باعتبارها حقيقة مطلقة تكشف بلا جدال حقيقة الإنسان وتطوره البيولوجي، تندرج في اللاتسامح الصريح.
وفي هذا المقام طَرح سؤالا إشكاليا :
( إذا توجب التسامح مع الكتاب المقدس، ألا يتوجب التسامح مع "كفاحي"؟ وإذا تسامحنا مع كفاحي لم لا نتسامح إزاء العنصرية والتعذيب ومعسكرات الاعتقال؟)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-239)
من الواجب أخلاقيا، رفض التسامح الكوني، لأنه يصدر عن موقف لا أخلاقي مخالف لأبسط قواعد الأخلاق.
( التسامح هو قبول ما يمكننا أن ندينه، هو أن نسمح بالقيام بما يمكن أن نمنعه أو أن نحاربه. إنه، إذن، التخلي عن جزء من سلطتنا وقوتنا وغضبنا.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-239)
فالتسامح لا يكتسي كل قوته، كفضيلة إلا باستحضار الآخر ومصلحته ضد الذات أحيانا. وعليه، فلا يمكن اعتبار التسامح ازاء معاناة الآخرين وإزاء أنواع الجور والظلم والاستلاب الواقعة على الغير تسامحا إلا باستعمال كلبي للمفاهيم. فالتسامح المجرد عن الالتزام الايجابي للذات، ليس إلا أنانية أو لا مبالاة أو احتيالا.
وفي هذا الإطار، فالتسامح يقتضي المسؤولية والالتزام الذاتي والابتعاد عن النسبانية وعن العدمية وعن التمركزالنرجسي حول الذات الفردية أو الجماعية. واستنادا إلى هذا الاعتبار، فإن للتسامح ضوابط وحدودا لا بد من التمسك بها؛ وإلا استحال التسامح إلى تسامح كوني يلغي فيه التسامح المفرط التسامح المسئول ويكرس الكليانية والتسلط والدوغمائية على المستويات النظرية والعملية.
فالتسامح الكوني، المدان أخلاقيا وسياسيا، لا يعني في الحقيقة إلا تفكك التسامح وانتهاءه إلى لا تسامح مكشوف. وقد ركز في هذا المستوى، على ما سماه كارل بوير بـ "مفارقة التسامح"، أي انتهاء التسامح المطلق أو الكلي إلى الانتفاء والانمحاء. فالإفراط في التسامح وتغييب الإجراءات الوقائية الموجهة لأعداء المجتمع المفتوح والمتسامح يؤديان في الغالب إلى إلغاء التسامح والمتسامحين جملة. والحقيقة أن المجتمعات الغربية المأخوذة، بنزعات الفكرية ما بعد الحداثية منذ أزيد من نصف قرن، توغلت في التسامح الكوني، وتناست في خضم سعي بعضها إلى تعزيز التعددية الثقافية، درسَ كارل بوبر وفلاديمير جانكيليفيتش البليغ.
فالتسامح الكوني دليل على انتفاء التسامح، وعلى انتفاء الصفة الإنسانية عن المجتمع العامل بمقتضاه. وعليه، فإن كارل بوبر يدعو إلى ما يمكن أن نسميه بالتسامح المسئول أو بالتسامح الحاذق؛ فالتسامح الرخو لا يؤدي كما أظهرت ذلك النهايات المأساوية لبعض المسلكيات السياسية غير المنضبطة للتعددية الثقافية وللعولمة الثقافية، إلا إلى اللاتسامح المطلق أي إلى الإرهاب (أشير هنا إلى الرخاوة الغبحداثية لانجلترا في بداية الألفية الثالثة.). ولتلافي المفاعيل الكارثية للتسامح الرخو أو للتسامح الكوني، يتوجب، حسب كارل بوبر الإقدام على اجرائين:
1- السماح بتواجد النظريات غيرالمتسامحة في الفضاء العمومي طالما توافرت فرص احتوائها بالحجج المنطقية أو عبر فعالية الرأي العام؛
2- منعها ومحاربتها عند الاقتضاء إذا تمسك مداوروها برفض النقاش المنطقي وبالرد على الأدلة والبراهين بالعنف والإرهاب؛
وعليه، فلا يمكن الانسياق مع مطلقية التسامح؛ فلا بد في اعتقاده من ضبط التسامح ضبطا أخلاقيا وسياسيا بحسب المعطيات الميدانية أي السياسية القائمة. فهو يعتقد أنه ليس لازما منع التعابير السياسية اللامتسامحة إذا استوفى النظام القائم شروط القوة، أما في حالة اختلال الموازين السياسية وتصدع اللحمة الاجتماعية /السياسية فمن الضروري منع التعابير الثقافية أو السياسية اللامتسامحة للحفاظ على استقرار المؤسسات وعلى المعقولية الاجتماعية والسياسية. ويذكرنا موقفه المركب من هذه الإشكالية، بموقف جون رولز من المسلكية المتبعة مع التعابير الثقافية/ السياسية اللامتسامحة في (نظرية العدالة).
( فما يجب أن يحدد تسامحية هذا الفرد أو ذاك، هذه المجموعة أو تلك، هذا السلوك أو ذاك، ليس التسامح المبرهن عليه (...)، ولكن خطورتهم الفعلية؛ فيجب منع الفعل غير المتسامح أو المجموعة غير المتسامحة ...الخ إذا هددت عمليا الحرية، وعموما شروط إمكان التسامح.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-242)
وقد أكد كونت-سبونفيل على ضرورة الاحتكام إلى خطورة الميولات واعتبارها المقياس الأرأس في تحديد المسلكية الملزم إتباعها في التعامل مع الغير اللامتسامح غب إبانته على آليات تمفصل الحقيقة بالقيمة في الخطاب المسيحي وخصوصا في الرسالة البابوية للبابا يوحنا بولس الثالث المسماة (بهاء الحقيقة).
فالرسالة البابوية المشار إليها عابقة بالانحيازات الفكرية والعقدية غير المسلمة إلا من منظور اعتقادي مخصوص، ومن زاوية نظرية معرفية و إيطيقية ما قبل حداثية. فهي إذ تستند إلى الحقيقة الإنجيلية الموحى بها حسب العقيدة المسيحية، تسعى إلى إقرار القيم المنسجمة مع تلك الحقيقة، والى إقرار التدبير السياسي الصادر عنها، والى دعم وإعادة بسط سلطة الكنيسة على واجهة المشهد الثقافي / السياسي. فمن المؤكد أن اليقين الإيماني للبابا يوحنا بولس الثالث، ينهض على احتكار الحقيقة وعلى اطلاقية الحقيقة المسيحية، فيما بيّن الفعلُ القرضي [؟] للحداثة منذ عصر النهضة على تاريخية الحقيقة ونسبية العقل ولا راهنية تصنيم حقائق تاريخية أو طائفية أو عقدية وأمثلتها.
فهل يكفي التلويح بالاطلاقية اللاهوتية في مواجهة الاختزالية والنسبية والعدمية والشكوكية وما سماه جون-ماري دوميناك ب(عودة التراجيدي)؟.
يقول نيتشه: (والمأساة
هي أننا لن نستطيع الإيمان بأركان الدين والميتافيزيقا حين يكون لنا عقل تسكنه
المنهجية الصارمة للحقيقة، حين يكون تطور الإنسانية قد صيرنا، من جهة أخرى، رقاقا،
حسّاسين، معانين، بحيث لن يحتاج إلى أرفع أنواع العلاج والتسلية؛ ثمة، في الواقع،
يكمن، بالنسبة للإنسان، خطر دفع حياته ثمنا للحقيقة التي عرفها.)
( فريدريك نيتشه – انسان مفرط في انسانيته – كتاب العقول الحرة – الجزء الأول – ترجمة : محمد الناجي – أفريقيا الشرق – الدار البيضاء – المغرب – الطبع – 2002- ص . 73-74).
فالحقيقة أن البابا يوحنا بولس الثالث يتقصد تطويق أنسنة مصادر القانون والأخلاق والثقافة وتقليص سلطة المتعاليات العمودية وما يسميه لوك فيري بانتهاء الثيولوجيا / الايطيقا وهيمنة حرية الضمير في الفضاء العمومي العلماني في الغرب منذ أزيد من ثلاثة قرون. ولذلك أراد البرهنة على عدم كفاية معيارية الضمير الإنساني والحقائق المحايثة في إقرار الايطيقا، وعلى عدم صلابة مرتكزات إيطيقا الاصالة (وهي تخلط النزاهة بالحقيقة) والنفعية الأخلاقية. كما توخى الحد من اطلاقية الحرية، وإخضاعها للحقيقة الإنجيلية. وقد اتضح أن (بهاء الحقيقة)، هو التخريج أو التحيين الحديث لمتعاليات اللاهوت القروسطي القديم الرافض جوهريا لنسبية ولتاريخية الأخلاق والحقيقة. وقد تناول لوك فيري الرسالة البابوية المذكورة، في سياق تحليلي ودلالي مختلف جزئيا عن تحليل كونت-سبونفيل لها. فقد تمحور تحليل فيري في ( ( الإنسان – الله ) على إعادة الاعتبار لسؤال المعنى والى ضرورة التفكير في التعالي في المحايثة أو في التعالي المحايث وفي مقدس ذي وجه إنساني. يقول لوك فيري: (يجب أن يكون ممكنا التفكير وتوصيف التعالي دون مغادرة حيز المحايثة.)
( - Luc Ferry – l’ Homme – Dieu ou le sens de la vie – éditions Grasset et Fasquelle-1996- page39).
ولئن وقف كونت-سبونفيل على المضمرات الفكرية والأخلاقية للرسالة البابوية، فإنه لم يقف بما فيه الكفاية على التطلعات السياسية للخطاب القدساني للبابا أي على إمكان تحويل المنطوقات الغيبية مجددا إلى تعابير سياسية ومؤسسية. فاستعادة العنف القدسي، إمكان قائم مهما اشتدت سيروات الدنيوة والعلمنة والتدهير.
لقد أشار فولتير إلى مفارقة التاريخ المسيحي بقوله:
( تعتبر الديانة المسيحية، بلا شك، الديانة المستوجبة للتسامح أكثر من كل الديانات، إلا أن المسيحيين كانوا، إلى يومنا هذا، الأكثر تعصبا بين كل الناس.)
( - Voltaire – Dictionnaire philosophique – édition présentée et annotée par Alain Pons – Gallimard – 1994- page 495).
والحقيقة أن ما اعتبره فولتير مفارقة هو في الحقيقة استخراج للنتائج من المقدمات، أو تحقيق للمضمرات والمكنونات الخطابية أو غوص على المعاني الثاوية في قيعان النصوص والتجارب المؤمثلة والمؤسطرة من قبل المتخيل الديني الجماعي. فالعنف المسيحي، ليس محض انحراف تفسيري أو تأويلي للنصوص الإنجيلية وللخطاب اليسوعي كما يعتقد أرباب الخطاب الاعتذاري أو المؤولون الساعون إلى أنسنة اللاانساني والمتعالي في التجارب الدينية، بل هو ترهين دلالي لمضمرات بنية فكرية مغلقة ولخطاب مطلق يتشدد في تمييز روحيته وتفوقها عن باقي الروحيات.
يشدد كونت – سبونفيل على الطلاق القائم في الثقافة الغربية الحديثة بين الحقيقة والقيمة بين الحقيقي والخير. فاللاتسامح ينهض على وحدة الحقيقة والقيمة، على اتحاد الحقيقي بالخير وعلى كونية الحقيقية وكونية التعابير الأخلاقية والعقدية والسياسية المترتبة عنها. (فالوثوقية العملية إذ تعتبر القيمة حقيقة، تقود إلى الوعي المطمئن، إلى الاكتفاء بما هو قائم إلى رفض أو احتقار الآخر أي إلى اللاتسامح.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-251)
وفي هذا المساق، قدم اضاءات عن الرسالة البابوبة للبابا يوحنا بولس الثاني (بهاء الحقيقة) veritatis splendor) ) وعن نوعية السلوك الواجب إتباعه إزاء الوثوقية العملية.
فلئن انتهى الخطاب الموحد بين الحقيقة والقيمة إلى اللاتسامح النظري غالبا والعملي أحيانا‘ فإن الخطاب القائم على الانفصال بينهما وعلى انتمائهما إلى نظامين متمايزين هما المعرفة والرغبة، ينتهى إلى إقرار التسامح في النظريات كما في العمليات. [؟] ينبني هذا الخطاب على استقلال القيمة عن الحقيقة، فالحقيقة تقرر مسائل الكائن دون واجباته. كما أن الحقيقة واحدة إلا أن الرغبة والإرادة ليستا كذلك. فلا يمكن إحلال الحقيقة محل إرادة الجماعة أو الشعب طالما أن العلم ولوكان دقيقا لا يمكن أن يعوض الديمقراطية ولا محل إرادة الفرد طالما أن العلم لا يمكن أن يؤدي دور الأخلاق أو الايطيقا.
فالتسامح لا يطرح إلا في أسئلة الرأي؛ ومعلوم أن الرأي هو معتقد يحكمه الظن أو يقين تغلب عليه الذاتية أو العندية. (فالتسامح باعتباره قوة عملية أو فضيلة يستند إذن، على ضعفنا النظري، أي على عدم قدرتنا على بلوغ المطلق.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-248)
إلا أن شرعية التسامح ليست ناتجة فقط عن الاعتبارات المعرفية أو الأخلاقية، بل هي موصولة، بالاعتبارات السياسية. وفي هذا السياق ركز كونت – سبونفيل على الظاهرة التوتاليتارية المرتكزة على طغيان الحقيقة وارهاب القيمة. فالنظام التوتاليتاري يلغي حرية الفرد في الصميم، ويحيل الذكاء الفردي والجماعي إلى مجرد خضوع لا مشروط للدوغما. وقد عاد إلى جون لوك وبالأخص إلى تحليل باروخ سبينوزا لمضار لا تسامحية الدولة أي توتاليتاريتها:
( فلنفترض، مع ذلك، أنه يمكن سلب الناس حريتهم والقضاء على استقلالهم بحيث لا يمكنهم التفوه بكلمة واحدة إلا بأمر السلطة العليا في هذه الحالة لن يحدث مطلقا أن تتفق جميع أفكارهم مع أفكار السلطة العليا. والنتيجة الحتمية لذلك هي استمرار الرعايا في التفكير على نحو يتعارض مع أقوالهم، وبذلك تضيع الثقة، التي هي شرط ضروري لإقامة الدولة. ويؤدي تشجيع الفساد الكريه والخداع إلى سيادة المخاتلة والغش في جميع العلاقات الاجتماعية.)
( سبينوزا – رسالة في اللاهوت والسياسة – ترجمة وتقديم : حسن حنفي – مراجعة : فؤاد زكريا – مكتبة الانجلو المصرية – الطبعة الثالثة –ص .449).
وقد قدمت الأنظمة التوتاليتارية الماركسية –اللينينية والنازية طيلة القرن العشرين، نماذج دالة على خطورة لاتسامحية الأنظمة ولا تسامحية الحقيقة الماركسية أو النازية، على أنظمتها بالدرجة الأولى. فلاتسامحية الظاهرة التوتاليتارية، غالبا ما تؤدي إلى تفكيك مفاصل الكل الاجتماعي، وتذويب الذكاء الجماعي في متخيل حقيقة هي برسم الترميق دوما، وتوهين وخلخلة تماسك النسيج الاجتماعي. (ليس هناك ذكاء بلا حرية التفكير، كما ليس هناك مجتمع مزدهر بلا ذكاء.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-249)
وعليه، فإن على الدولة مراعاة العنفوان الفكري للفرد والجماعة، وعدم التدخل إلا عند الاقتضاء؛ أي عند ميل الأفراد أو المجموعات إلى السلوكات العنيفة أو إلى الممارسات الجماعية القادرة على خلخلة التوازن الاجتماعي أو السياسي. فالدولة لا تكتسب بزخم الأفكار وعنفوان الأفراد إلا قوة، وهذا ما برهت عليه البلدان الديمقراطية طيلة مسيرتها السياسية الحديثة.
يقول سبينوزا: (ولما كانت أحكام الناس، إذا ما تركوا أحرارا، تختلف فيما بينها كل الاختلاف، ولما كان كل فرد يظن أنه وحده الذي يعلم كل شيء، ونظرا إلى أن من المستحيل أن يفكر الناس كلهم ويعبروا عن أفكارهم بطريقة واحدة، فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخل كل فرد عن حقه في أن يسلك وفقا لما يمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء وليس حقه في التفكير والحكم.)
( سبينوزا – رسالة في اللاهوت والسياسة – ترجمة وتقديم : حسن حنفي – مراجعة : فؤاد زكريا – مكتبة الانجلو المصرية – الطبعة الثالثة –ص .446).
رغم جدارة التسامح، فهو مفهوم غير باعث على الارتياح كثيرا. فالتسامح ليس، حسب جانكيليفيتش إلا فضيلة صغرى، ولحظة مؤقتة، وحلا متوسطا، يفرضه العجز المزمن للناس على التحاب والتفاهم والتعارف. وليخرج من فتوره الجوهري، ينبغي ربط التسامح بالتحاب، وبالفضائل العليا والقيم القوية، أي تحويله من وضعية الحد الأدنى، إلى وضعية الحد الأقصى.
فرغم كل المحدودية المفهومية والإجرائية والأخلاقية والسياسية للتسامح، إلا أنه مطلب ضروري، خصوصا في عالم معولم تخترقه اشتباكات علائقية اشكالية وتقاطعات جيو- سياسية معقدة وارتباكات قيمية و أيطيقية ومعرفية كبرى.
(وكما أن البساطة هي فضيلة الحكماء و حكمة القديسين‘ فإن التسامح هو حكمة وفضيلة كل الذين ليسوا لا هؤلاء ولا أولئك. إنه فضيلة صغرى، إلا أنها ضرورية. إنه حكمة صغرى، إلا أنها قابلة للإحتياز.)
( André Compte- Sponville – Petit traité des grandes vertus – Presses universitaires de France, 1995- page-258).
بقد كتب كونت- سبونفيل كتاب (البحث الصغير للفضائل الكبرى)، في ظرف انتقالي، مرت فيه الإنسانية من العنف الفكراني التوليتاري الماركسي اللينيني ومن العنف الميثولوجي النازي إلى العنف القدساني التوحيدي، ومن هناءة التمركز حول الذات أو الموقع الطبقي الثابت أو الجماعة القومية أو الدائرة الثقافية المخصوصة إلى حيرة الهجنة وشقاق البينيات واهتزاز اليقينيات وصراع التأويلات.
لقد انطلق من إمكان التسامح ومن بالأخص من حدوده، لإدراكه لخطورة المتربصين بمنجزات المجتمع الديمقراطي، و فداحة الفكرانيات المهووسة بتلغيم المجتمع المفتوح واتخاذه مطية للعبور إلى المجتمع العقدي المنفتح حصريا على التوهم l illusonnement والعصاب الوسواسي névrose obsessionnelle والخلاص الأخروي eschatologique .
فقد أطل المقدس من جديد بوجهه العنيف، وبرهن على قدرته الفائقة على تغيير الأقنعة وعلى مسايرة وسائل وأساليب الحداثة الفائقة وعلى استغلال طيات المجتمع الدولي الهجين لفرض الحقيقة القدسانية بطرق جديدة.
لقد فوجئت المجتمعات الغربية المفتوحة بالانبثاق الفجائي للتعصب واللاتسامح من أرضية كثيرا ما وسمت بالتسامح والاعتدال والوسطية والحلم والتساهل في الأدبيات التبجيلية والمنافحات العقدية المركزية أو الطرفية.
( لقد تركوا على الطريق التي سلكوها علامات دامية، وكان جنونهم يعلمهم أن البرهنة على الحقيقة تكون بإراقة الدماء.
غير أن الدم هو أسوأ من يشهد على الحقية، لأنه يسمم حتى أشد العقائد طهرا بسم الجنون والحقد.)
(- فريدريك نيتشه – هكذا تكلم زرادشت – ترجمة وتقديم : محمد الناجي – أفريقيا الشرق – الدار البيضاء- المغرب – طبعة 2006- ص. 85-86)
لقد فصل الغرب بين الحقيقة والقيمة، وعلمن المقدس، وأنسن الإلهي، وأعلى من قيمة الضمير والوعي والحرية، أما الثقافة الإسلامية فقدت استعملت الأدوات التقنية لإعادة صقل الحقائق الإيمانية الأكثر توغلا في التفرد والاستثنائية ومجافاة قيم العصر الحديث المعلمن والمعولم في ذات الآن. لقد طالب فولتير بتقليد تسامحية اليهود، بعد أن أوغل المسيحيون منذ مجمع نيقية على أقل تقدير في تقليد الاحترابية واللاتسامحية اليهودية.
( تلك أمثلة اللاتسامح والعتصب لدى الشعب الأكثر تعصبا والأكثر فظاظة طيلة كل العصور القديمة (يقصد اليهود): لقد قلدناه في هيجانه العبثي، وليس في تساهله وتسامحه.)
( - Voltaire – Dictionnaire philosophique – édition présentée et annotée par Alain Pons – Gallimard – 1994- page 494).
فهل يكفي تقليد الآخرين، لتجنب مخاطر الحداثة الفائقة والتعددية الثقافية والعولمة الثقافية، والنسبانية العدمية، والتسامح الاعتذاري أو التسويغي؟ هل يكفي البحث عن فضاءات للهدنة والتصالح التكتيكي مع العنف القدساني، لاحتواء التعصب العقدي ومخاطره على المجتمع المفتوح والديمقراطي ولضمان سريان التبادلات المالية والاقتصادية والخدمات السياسية؟ أليس تسامح النخب غير المبرر مع الآخر (موقف فوكو من الثورة الإيرانية مثلا) ومع متخيله الجماعي، أقرب وسيلة لتعميم التسامح الكوني؟ أليس التفكيك المنهجي المفرط للحداثة، أقرب معبر للانتقال إلى القدامة أي إلى إرهاب الحقيقة ورعب القيمة؟
إن للتسامح واجبات، لا يوفرها سوى النقد أحيانا، والنقض والتفنيد غالبا. وذلك هو درس سبينوزا ونيتشه البليغ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق