العلوم
الطبيعيَّة والعلوم الإنسانيَّة (ج2)
الإشكاليات
النظريَّة بين العلم الطبيعي والإنساني:
بما أنّ العلوم
تتمايز بموضوعاتها، فهي تختلف كذلك بمنهاجها، لذلك لا يمكن الحديث عن منهاج عام
للعلوم، للكشف عن الحقيقة في كل ميدان، بل فقط عن مناهج علمية، إنّ لكل علم منهاجه
الخاص، تفرضه طبيعة موضوعه. وهنا بالذات تتجلى إشكالية الربط التام بين ميدان
العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
ولنبدأ من حيث
انتهينا في الفقرة السابقة وهي العلاقة بين الذات والموضوع التي انطلق منها علماء
الإنسان للربط بينها وبين علوم الطبيعة. فموضوع العلوم الطبيعية هو الطبيعة،
وهدفها الأساسي هو البحث عن الثابت، والنسقي، والمتكرر، لذلك لا يصعب عليها أن
تدرس الظواهر باعتبارها أشياءَ خارجيةً لا ترتبط بالإنسان، وبوعي الجماعة. أما
موضوع العلوم الإنسانية، هو السلوك الإنساني، لذلك فإنّ أي تحريف يسعى إلى الخلط
بين الموضوعين، سيؤدي إلى نتائج مضللة، لأنّ ذات المفكر ستكون حاضرة بالضرورة
أثناء معالجته لموضوعه، فلكي يضبط تسلل أحكامه الجاهزة المسبقة، عليه أن يقننها و
يعيها، باختصار، عليه أن ينطلق من تصور فلسفي يحدد خطوات بحثه، وأن يكون واعياً
بالموقف الأيديولوجي الذي يصدر عنه، لهذا يجب أن نفصل بدقّة، بين الموضوعية في
العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية. فإذا كانت الموضوعية في العلوم الإنسانية لها
طابعها المميز، الذي لا يتنافى مع الإدماج الواهي لذات المفكر في الموضوع المدروس،
فإنّ أي علم إنساني يتقصد استعارة المناهج الوضعية بهدف تطبيقها على موضوعه،
مُدعياً أنه بعمله هذا يبعد التشويش الأيديولوجي، فإنّه سيقع في مشكل أكبر، هو
اشتغال الأيديولوجية في لا وعيه، وتأثيرها في بحثه بشكل ضمني، يمكن أن يغلف حقيقة
الواقع.[1] ذلك أنّ علم الطبيعة يهدف في
النهاية إلى التفسير العلّي للظواهر، أمَّا علوم الإنسان، كعلم
الاجتماع، فيهدف إلى إدراك الأغراض والمعاني، وفي علم الطبيعة، تُفسر الحوادث
تفسيراً كمياً محكماً، ويكون هذا التفسير بواسطة الصيغ الرياضية، أمَّا غالبية
العلوم الإنسانية لا سيّما الاجتماع، غالبا ما تحاول فهم التطورات التاريخية
بواسطة طابع كيفي.
ومن الإشكاليات
التي تقع في فهم العلاقة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية بشكلها العام،
هناك مشكلة الجوهرية، والإسمية. فعلوم الطبيعة، تبحث عن جوهر ثابت تبني فوقه
مفاهيمها، في حين أن علوم الإنسان، تبحث بما هو كائن، والحجة النمطية التي تساق في
هذا الإطار هي أن الفيزيائي يتعامل مع أشياء كالطاقة أو الذرات، التي تبدي درجة من
الثبات رغم تغيرها، وبالتالي يمكنه أن يصف التغييرات في هذه الكيانات الثابتة
نسبياً، ولا يحتاج إلى بناء، أو كشف جواهر، أو صور كيانات ثابتة متشابهة، لكي يحصل
على شيء، ما دام يمكن وصفه بعبارات محدّدة، أمّا العالم الاجتماعي فهو في وضع
مختلف، إذ إنّ مجال اهتمامه الكلّي يتغيّر، فلا وجود لكيانات دائمة في المجال الاجتماعي،
حيث يقع كلّ شيء في نطاق التَّدفق التاريخي، فكيف يمكن مثلاً أن ندرس الحكومة؟
وكيف يمكننا أن نماثل بينها مع تنوع المؤسسات الحكومية الموجودة في أقطار مختلفة،
وفي فترات تاريخية مختلفة دون افتراض أن لها شيئاً ما جوهرياً مشترك؟ فنحن نطلق
على مؤسّسة ما اسم حكومة، إذا كنّا نعتقد أنّها في جوهرها حكومة، أي إذا استجابت
إلى حدسنا عن ماهية الحكومة، هو الحدس الذي يمكننا من صياغته في تعريف. وينسحب
الشيء نفسه على الكيانات السيسيولوجية الأخرى، مثل المدينة، فيلزم أن ندرك جوهرها،
كما تقول الحجة التاريخانيّة، وأن نصوغها في شكل تعريف. [2]
أمَّا الإشكاليّة
الأهمّ بين نموذجي العلم، الطبيعي والإنساني، فهي التجريب. فعند الحديث عن العلم
الطبيعي بصورته الحديثة، نجد بيكون أول من وضع طريقة اعتبرها أساس لإصلاح أساليب التفكير وطرق
البحث، وفي تلك الطريقة انتقد الفلاسفة السابقين عقلانيين وتجريبيين، قائلاً بأنّ:
“الأولين كانوا كالعنكبوت الذي يبني منزله من داخله، والآخرون كانوا كالنمل الذي
يجمع من الخارج زاده”. في حين كان يرى أنّ الفيلسوف الحقّ – العالم بطبيعة الحال –
هو الّذي يعمل كالنّحلة الَّتي تجمع الرحيق من الأزهار لتصنع منه عسلاً مصفّى، إنّ
عليه أن يأخذ من الظواهر والحوادث، وبواسطة التجربة، ما يبني به العلم والفلسفة،
وبالدرجة الأولى بالعلم النّافع، وذلك لا يكون بالجدل العقيم، بل بالسَّيطرة على
الطَّبيعة. [3] ولا يمكن، في الواقع، إنكار
قيام المنهج العلمي على وقائع تجريبيّة استقرائيّة، بحيث أنّ
ظاهرة واحدة معاكسة يمكن أن تهدم النظريّة بأكملها، تلك النّظرة تخالف التفكير الفلسفي، ذا
النزعة الاستنتاجيّة، فالفكر الديكارتي، كان ينزع إلى التَّعميم، ولا يعير أهميّة
كبيرة للحوادث النّادرة، و هو يصرح بأنه رد الظواهر العامة إلى المبادئ الأولية ،
لتكون النظرية صحيحة ، حتى لو بقيت هناك حوادث جزئية لا تستوعبها النّظريّة، وهذا
الموقف معروف أنّه غير علمي [4]، أو لم يعد كذلك.
ومن المعروف أنّ
الهدف الأوّل للعلم التجريبيّ، هو الاطّلاع على الظّواهر ووصفها وتصنيفها
وتحليلها، والانتقال من التّعميم البسيط، إلى التّعميم المنظّم، وإرجاع كثرة
الحوادث، إلى وحدة الفكرة، وتأليف الأنواع، والأجناس، وإظهار وجه الشّبه والاختلاف
بينهما، ثمّ تعريف الأنواع والأجناس، وتحديد صفاتها العامة الثابتة. [5] والهدف الثاني للعلوم التجريبية هو الاستقراء، إذ يعتمد المنهج التجريبي على
الاستقراء أساساً، ولكن ليس الاستقراء الأرسطي، بل الاستقراء العلميّ. ذلك أنّ
الاستقراء الأرسطيَّ هو استقراء للكيفيّات والخصائص، يقفز من الوقائع الجزئيّة إلى
القانون العام، وهو يكتفي بوصف الظواهر وصفاً كيفياً، فلا يقدم كثيراً في مجال
المعرفة العلميّة. أمّا الاستقراء العلمي، فهو لا يقف عند حدود تعداد الظّواهر،
والاستعراض الكيفي للصّفات، بل إنّه يعتمد أساساً على دراسة حالة واحدة واستقراء
الأوجه الّتي تتمظهر فيها، وتحليل العناصر التي تتألف منها، وهو ما يسمَّى
اصطلاحياً بالتَّحليل. والبحث عن العلاقات الدَّائمة والنّسب الثابتة المحيطة
بالأشياء، وتسمّى هذه العلاقات “قوانين الطبيعة” الّتي تفسّر لنا ظواهر الطّبيعة،
فتكون أوّل الأمر كيفيّة، ثمّ تصبح كميّة، نصل إليها عن طريق التجربة. هذا هو
التّصور الّذي ساد في العصور الحديثة بدءاً من القرن السابع عشر. وقد اشتملت العلوم الطبيعيَّة
في هذه المرحلة على أمرين: الأمر الأوّل، هو تفسير الحوادث الطبيعية من خلال
القوانين كعلم الفيزيولوجيا، الّذي عبّر عن الظّواهر الماديّة الحيّة، والفيزياء،
الّذي عبّر عن الظّواهر الماديّة غير الحيّة. والأمر الثّاني، هو تعريف الموجودات
وتصنيفها، كعلمي الحيوان والنَّبات .[6]
وكما يعتمد
المنهج التجريبي على الاستقراء العلمي ، أو التحليل . يعتمد كذلك على الاستنتاج ،
أو التركيب . فالملاحظة ، والتجربة ، توحيان أثناء التحليل بالفكرة ، أو الفرضية ،
ومنها ينطلق الباحث في عملية متنامية يركب فيها العناصر التي تم الكشف عنها أثناء
التحليل ، إلى أن يصل إلى صياغة قانون عام يعممه على جميع الظواهر .[7] والعلوم الطبيعية – لا سيما الميكانيك والفيزياء والكيمياء –
تنطلق من مبادئ يستند إليها العلماء ، وينتقلون منها إلى القوانين العلمية الخاصة
، وكل مبدأ من هذه المبادئ ، يشتمل على معنى أساسي غير مشتق من معنى آخر قبله ، وبعض
هذه المبادئ خاص ، ينفرد به علم معين ، أو قسم من أقسام ذلك العلم، كمبادئ الديناميك
الثلاثة في الميكانيك ، (مبدأ العطالة أو القصور الذاتي – مبدأ غاليليو – مبدأ تساوي
الفعل ورد الفعل) ومبدأ باسكال ، ومبدأ أرخميدس ، ومبدأ ثبات سرعة الضوء عند
أينشتاين ، ومبدأ بلانك. وكذلك مبادئ الكيمياء الحرارية الثلاثة. إذ نجد بعض هذه
المبادئ عاماً جداً ، تخضع له عدة علوم ، كمبدأ مصونية الطاقة والكتلة ، ومبادئ
القوى الحرارية في الترموديناميك. ويلاحظ أن هذه المبادئ عبارة عن فرضيات، منطبقة
على التجربة، إلا أن التجربة لا تحققها تحقيقاً تاماً، أي أنها مقتبسة من التجربة،
مع أنها ليست متحققة بذاتها في الأشياء المادية، فلا يمكن اقتباسها من العالم
المحسوس، إلا إذا تعاون العقل و التجربة على توليدها .[8]
وإذا انتقلنا إلى
العلوم الإنسانيّة، نجد أن هناك إشكاليات تتعلّق بالمعنى المنهجي لتطبيق التّجريب
فيها، ومن تلك الإشكاليات، قضية التّفاعل بين الذّات والموضوع، الخاصّة بهذه
العلوم، وترجع إلى كون تطبيق التّجريب بالمعنى المستخدم في علوم الطبيعيّة، على
علوم الإنسان، صعباً للغاية، ففي حالة علم النّفس، ليس التّجريب من حيث المبدأ، أكثر تعقيداً
منه في علم الحياة، لكن الفرق ناجم عن كون الباحث لا يحق له إخضاع كائنات بشريّة
لأيّة تجربة،
وما أن يدور الأمر حول ظواهر جماعيّة، كما في علم الاجتماع، والاقتصاد، واللّغات،
والسّكان، حتّى يصبح التّجريب بالمعنى الدّقيق للكلمة، أي بوصفه تغييراً للظّواهر
يرافقه تحويل حر للعوامل، مستحيلاً، ولا يمكن إلاّ الاستعاضة عنه بالملاحظة
المنظّمة الّتي تستخدم تحوّلات الواقعة، وتقوم بتحليلها رياضياً ومنطقياً. ذلك أنّ
العلوم الطبيعيّة عندما تستخدم منهج التجربة، فإنّها تتوسّل إلى عزل الظواهر
الطبيعيّة صناعياً والتّحكم فيها، حتّى تتوصّل إلى تحقيق الظّروف المتماثلة مرّة
بعد أخرى، وما يترتب على هذه الظّروف من نتائج معينة، وواضح أنّ هذا المنهج يعتمد
على الفكرة القائلة بأنّ الأمور المتماثلة تحدث في الظّروف المتماثلة. لكن هذا
المنهج يصعب تطبيقه في علم الاجتماع، وإن طبق فهو عديم النّفع، لأنّه ما دامت
الظروف المتماثلة لا تتحقّق إلاّ في حدود الفترة التاريخيّة الواحدة ، فلن يكون
لأيّة تجربة نجربها إلاّ دلالة محدودة جدّاً، كما أنّ التّجارب الاجتماعيّة
الواسعة النّطاق، ليست تجارب بالمعنى الفيزيقي، بل يُقصد بها تحقيق النصر السياسي،
وهي لا تجري في المعمل بمعزل عن العالم الخارجي، وليس من الممكن تكرارها في ظروف
مماثلة، من حيث أنّ الظّروف تغيّرت نتيجة لإجرائها في المرّة الأولى .[9]
و لما كان موضوع
العلوم الإنسانيّة هو الإنسان في فعالياته الّتي لا تحصى، ولما كانت مُعدّة من قبل
الإنسان بفعالياته المعرفيّة، وجدت نفسها، وقد وضعت في هذا الموضع الخاص، موضع
توقفها على الإنسان في آن واحد ذاتاً وموضوعاً، ممّا يثير سلسلة المسائل الصعبة. فالشّخص الّذي يلاحظ ذاته، أو
يجري التّجارب عليها، أو على الآخرين، يمكن من جهة، أن تغيره الظّواهر الملاحظة،
أو يكون من جهة أخرى، منبعاً لتغييرات تطرأ على هذه الظّواهر، وتبعاً لمثل هذه الأوضاع في
حالة علوم الإنسان، يخلق إشكالية كون الإنسان في آن واحد ذاتاً، وموضوعاً، وتلك
صعوبات إضافيّة بالقياس إلى العلوم الطبيعيَّة، إذ تتمثّل المشكلة بالفصل بين
الذّات والموضوع. وبعبارة أخرى، إنّ الانفتاح اللاّزم للموضوعيّة أصعب بكثير في
الحالة الّتي يتألّف فيها الموضوع من ذوات، ذلك لأنّ الحدّ الفاصل بين الذّات
المتمركزة في ذاتها، والذّات الابستميّة المشتركة في جميع الأفراد الّذين هم من
مستوى واحد مثل العلماء، يقل وضوحه بمقدار ما ينخرط أنا الملاحظ في الظّواهر الّتي
يجب أن يكون قادراً على دراستها من الخارج، وكما أنّ الملاحظ يُحمّل بمقدار ما
يكون معيناً، وبمقدار مَّا ينسب قيماً إلى الوقائع الّتي تهمّه على الاعتقاد بأنّه
يعرفها معرفة حدسيّة، ويقل بقدر ذلك إحساسه بضرورة التقنيات الموضوعيّة.[10]
ثمّ كيف يمكن
للتّجريب أن يتوافق مع أحكام القيمة؟ فالإنسان يمكن أن يكون – من حيث المبدأ –
موضوعاً لعلم وصفيّ، لأنّه يمكن أن يخضع للملاحظة المنهجيّة، ولأنّ سلوكه، وإن كان
فردياً، ينم عن اطرادات منتظمة، وعن صور إجماليّة تشهد بوجود طبيعة بشريّة يمكن
تعميمها. وهنا بالتّالي يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أحكام “القيم”، وهي من العوامل
الهامّة الّتي تضح حدوداً تميز بين العلوم الإنسانيّة، عن الطبيعيّة، تلك القيم من
طبيعة إنسانيّة، وتظهر جلياً في الأحكام القانونيّة في هذه العلوم، على الأقل من
حيث التّصورات الجزئيّة، فهل الأفضل في علم نفس التربية، المحافظة، أم عدم
التّقييد؟. وفي علم الاجتماع، هل من الأفضل وجود نظم تعلم حرّة، أم ترجع لسلطة
مركزيّة؟. وفي التّاريخ، هل المجتمع الطبقي مفيد، أم إلى زوال؟ (كلّ تلك الأحكام
نجدها ترتبط مباشرة بخلفيّة الباحث وتصوّراته للعالم، هل هو محافظ أم متحرّر، يخضع
لحكومة ديمقراطيّة أم مستبدة، له فلسفة محافظة أم ثوريّة) .[11]
وإذا كانت العلوم
الطبيعيّة، تستطيع أن تكون مستقلة إلى حد ّمّا، عن كل حكم خاص بالقيمة، فلأن
الإجماع المتعلق بضرورة تنمية سلطات الإنسان على الطبيعة قد تحقق، فالوفاق بين
أحكام القيمة على هذا المستوى يعتبر واقعاً، والوحدة بين الفكر والفعل تعتبر حقيقة
واضحة بالنسبة للجميع، وفي العلوم الإنسانيّة الوضع أكثر تعقيداً، فواقع أن هناك
مجموعات اجتماعيّة مهمّة لها مصلحة في الحفاظ على الوضع القائم، وفي إعاقة كلّ
تحوّل اجتماعي، يؤثّر على طبيعة الفكر التّاريخي والاجتماعي نفسه.[12]
والإشكاليّة
نفسها تكون أكثر وضوحاً في علم التاريخ، إذ لا شكّ، أنّ التّاريخ مستحيل دون وجهة
نظر، فعلم التاريخ، يجب أن يكون انتخابياً في اختيار وقائعه، وإلاّ خنقه سيل
الوقائع المجدبة الّتي لا تربط بينها رابطة، ولا جدوى من محاولة تعقب العلل في
الماضي البعيد، لأنّ وراء كلّ معلول عيني واحد نبدأ منه، عدداً هائلاً من العلل
الجزئية المختلفة، أي وراءه كثرة بالغة التّعقيد من الشروط الأوليّة الّتي لا يحظى
معظمها إلاّ بالقليل من اهتمامنا. ومثل هذه الطرق الانتخابيّة، تؤدّي في التّاريخ
وظائف مماثلة في بعض الوجوه، للوظائف الّتي تؤديها النّظريات في العلم، ولهذا
السبب، كثيراً ما فُهمت على أنّها نظريات، والحقّ أنّ هذه الطرق تحوي بالفعل بعض
الأفكار النَّادرة الّتي يمكن وضعها في صيغة فروض قابلة للاختبار، ولكن الغالب على
هذه الطرق هو وجهات النظر التاريخيّة، الّتي لا يمكن اختبارها، وعلى ذلك فإنّ كلّ
الشّواهد الّتي يبدو أنّها تؤيدها، لا قيمة لها، مثل هذه النظرة الانتخابيّة، أو
هذه البؤرة الّتي نركز فيها اهتمامنا التاريخي، إذا كان من المستحيل التّعبير عنها
في صورة قابلة للاختبار، فنحن نطلق عليها عبارة (التّأويل التاريخي)، أكثر ممّا
نطلق عليها اسم النظريات التاريخيّة.[13] لذلك فإنّ العمل الرَّئيسي
للمؤرّخ، لا ينحصر في سرد الماضي،
بل في إصدار أحكام معياريّة لتحديد قيمته، إذ أنّنا لا نستطيع أن نكون لأنفسنا
فكرة عن الماضي، ولا نستطيع فهمه فهماً كاملاً، إلاّ من خلال عيوب الحاضر، وإذا
حللنا العمل الّذي يقوم به المؤرّخ في إعادة تركيب الماضي، وجدنا، في التّحليل
الأخير، أن التاريخ هو ما يصنعه المؤرخون، ومع ذلك، فإنّ المقارنة بين وجهات نظر
مختلفة لعدد من المؤرخين الذين عالجوا موضوعاً بعينه، تساعدنا على الوصول إلى درجة
أكبر من الموضوعية.[14] لذلك ينبغي على المؤرخ ألا يستهين بنصيب
الأفراد في توجيه التاريخ، فإنّ بعض الأفراد قد يخلقون تقليداً اجتماعياً، أو
دينياً، أو فنياً، أو علمياً، أو صناعياً، وقد يغير بعض الأفراد مجرى الحوادث السياسيّة،
كالزعماء والقوّاد، ومن هنا نتبين خطأ هؤلاء الذين يحاولون دراسة التاريخ على نمط
العلوم التجريبية تماماً، دون مراعاة لطبيعة الظواهر الإنسانية، فمن الضروري أن
يفسح المؤرخ في تصنيفه المادة التاريخية، مجالاً لطبيعة الأفراد، وللحوادث الفردية
الهامّة، والعرضية.[15] وعندما ننظر إلى التاريخ،
باعتباره علم مفيد كالفيزياء والكيمياء، علينا ألا ننظر إليه من زاوية الطرائق والتقنيات التي يمدنا بها عن
العصور السابقة، لأنّها بالتأكيد لن تنفعنا الآن، فمعرفة الحرب القرطاجية لن تنفع
في حروب اليوم، ولكن بالمقابل يجب أن نركز بالأساس على القيم والأهداف، وهنا جدوى
هذا العلم. فما نبحث عنه في معرفة الماضي، هو نفسه ما نبحث عنه في معرفة الناس
الحاليين، إنµها أولاً المواقف الأساسية
للأفراد والتجمعات البشرية تجاه القيم والتّلاحم والكون، فإذا كانت معرفة التاريخ
تمثل أهميّة عمليّة بالنسبة لنا فلأنّنا تعرفنا من خلالها على أناس ، دافعوا ، في
وضعيات مختلفة ، وبوسائل مختلفة ، وغير صالحة للتطبيق غالباً في عصرنا ، على قيم
ومثالات مماثلة، شبيهة أو معارضة لتلك الّتي نتوفّر عليها اليوم.[16] إنّ دراسة التاريخ هي قبل كلّ
شيء، محاولة لفهم أفعال الناس، والدوافع التي تدفعهم إلى إنجاز هذا الفعل،
والأهداف التي يسعون إليها، ودلالة سلوكياتهم وأفعالهم بالنسبة لهم.
تلك الإشكاليّة
تقودنا إلى الإشكاليّة التالية وهي الموضوعيّة: إذ يرى البعض أنّ افتقار العلماء إلى
الموضوعيّة، قد لا يكون له أثر يذكر في العلوم الطبيعيّة، إذ لا يوجد ما يثير
انفعالاتهم، أمّا في العلوم الإنسانيّة إجمالاً، والّتي لا تنجو أبحاثها من
الأهواء الاجتماعيّة، والتحيّز الطَّبقي، والمصالح الشخصيّة، فقد يكون لهذا
الافتقار إلى الموضوعيّة أثر فتاك. وهذا الرأي، يغفل تماماً عما للمعرفة العلمية
من طابع اجتماعي، أو نُظمي، لأنّه يرتكز على القول الساذج أن الموضوعية معتمدة على
سيكولوجية الأفراد من العلماء، وهو لا يرى أن جفاف موضوع البحث في العلوم
الطبيعية، أو بعده عن الأمور الشخصية، لا يمنعان التحزب، والمصلحة الذاتيّة،
من التسلل إلى معتقدات العالم، والحقّ أنّنا لو اعتمدنا كل الاعتماد على نزاهة
العالم عن الهو، لاستحال العلم تماماً، وما غفلت عنه هذه الآراء، هو الصفة
الاجتماعية للمعرفة، أي ما للعلم من طابع اجتماعي، إذ أنها أهملت فكرة أن قيام
العلم على قدرة الأفراد على اختباره، واستخدامه للنظم في نشر الأفكار الجديدة
ومناقشتها، وهذان الأمران، هما اللذان يصونان موضوعية العلم، وهما أيضاً ، اللذان
يفرضان على ذهن العالم، نوعاً من النظام، يلتزم به.[17] فليس هناك حاجة أن يصير
المهندس الفيزيقي، أو العالم النووي،
أو عالم الوراثة، علماء اجتماع، حتى يتبين لهم أن اختراعهم لطائرة جديدة، أو سلاح
جديد، أو طفرة وراثية، قد يكون لها أثر هائل على بنية المجتمع ككل.
والآن نأتي
لإشكالية السببية والتَّعميم: إذ لا ريب أنّه لو لم تكن لنا القدرة على التّعميم،
لما أمكن أن يوجد العلم، أو انحصرت وظيفته في تكديس ملاحظات، أو تجارب متفرقة لا
تربطها صلة، ولما كان ثمّة جدوى من البحث، لأنّه لا يمكن أن يفضي بنا في هذه
الحال، إلى التنبؤ بعودة الظواهر، ونحن نعلم أن التنبؤ بالمستقبل، هو الطابع
الجوهري للعلم، وبالتالي فإنّ الظروف الّتي يجري فيها الباحث تجاربه ، لا تتكرر
بعينها، وكل ما نستطيع تأكيده، هو أنه متى وجدت ظروف مماثلة ، فإن ظاهرة مماثلة
سوف تحدث، وإذا أردنا التنبؤ بالمستقبل، وجب علينا أن نعتمد، على الأقل، على أوجه
الشبه بين الظروف الّتي تحدث فيها الظواهر، وتلك هي الخطوة الأولى في التعميم .[18]
والعلوم
الإنسانيّة في الواقع، لا تستطيع التخلي عن مبدأ السببية – الّذي تدعي العلوم
الطبيعيّة قدرتها على التّخلي عنه، والاستعاضة عنه بالقانون – وذلك لأن
الظواهر التي تدرسها العلوم الإنسانية ترجع ، إلى أفعال إرادية قبل كل شيء ، وعندما
أراد بعض علماء الاجتماع، أن يطبقوا منهج العلوم الطبيعيّة، على دراساتهم، مدعين
أن عملهم لا يبحث عن الأسباب، بل يحاول الكشف عن القوانين، فإنهم لم يفطنوا إلى أن
العلوم الطبيعيّة تدرس مظاهر الأشياء، وقد تكتفي بذلك – أمّا العلوم الإنسانيّة،
فيجب أن تنتهي إلى لبّ الظّواهر، وبواعثها الحقيقيّة، ولذا يجب أن يحتل البحث فيها
عن الأسباب مكان الصَّدارة، والأمر نفسه في التّاريخ، الّذي يعنى بدراسة أسباب الحوادث،
لا معرفة قوانينها، إذ إنّ التّاريخ لا يعيد نفسه، ومع ذلك فإنّ بعض العلوم الطبيعية
لا زالت تتحدث بصيغة سببية كعلم البيولوجيا والكيمياء .[19] ويرى المذهب التّاريخي أن
إمكان التعميم ونجاحه في العلوم الطبيعيّة، راجعان إلى اطراد الحوادث الطبيعية بوجه عام، أي إلى ما
نشاهده – أو ما نفترضه – من أنّه في الظّروف المتماثلة تحدث أمور متماثلة، وهذا
المبدأ الّذي يُعتقد بانطباقه في كل زمان ومكان، يُقال أنّه أساس المنهج الفيزيقي.
لكن هذا المنهج ليس بالضَّرورة ذا نفع في علوم إنسانيّة كعلم الاجتماع، إذ إنّ
الظّروف المتماثلة لا تنشأ إلاّ في الفترة التاريخيّة الواحدة، وهي لا تظل على
حالها قطّ،
ومن ثم لا يوجد في المجتمع اطراد طويل الأمد يصلح أن يكون أساساً للتّعميمات
البعيدة المدى، كالقول البديهي أنّ الكائنات الإنسانيّة تعيش دائماً في جماعات.
ومن يغفل هذه الحدود، ويحاول تعميم الاطرادات الاجتماعيّة، فهو يفترض دوام هذه
الاطرادات، وهكذا ينشأ الرأي الساذج القائل أن بمستطاع العلوم الاجتماعيّة، أن
تتبع طريقة التّعميم المستخدمة في العلوم الطبيعيّة، فهذا الرأي ينكر على المجتمع
أن يتطوّر، أو يطرأ عليه تغير ذو شأن، أو هو ينكر أن يكون للتّطورات الاجتماعيّة،
إن وجدت، أي أثر في الأمور المنتظمة الأساسيّة في الحياة الاجتماعيّة. [20] ومع ذلك، يحاول علماء النفس
والاجتماع، الوصول إلى دائرة التعميم التي تتصف بها العلوم الطبيعيّة،
حيث وسع علماء النفس بحثهم، فدرسوا حياة الطفل النفسيّة، ونفسيّة الجماعات
البدائية، وطباع الحيوان وغرائزه، وفرقوا بين الرجل والمرأة، كما اعتمد علماء
الاجتماع، على التاريخ والاثنوغرافيا في دراسة المجتمعات، لذلك فإنّ علمي النفس
والاجتماع يعينان الوظائف المشتركة، بين الوظائف النفسيّة، والأوضاع الاجتماعية
المختلفة، ويرجعان تلك الأوضاع إلى أمثلة عامة، وأنواع أصلية.[21]
وإذا اعتبرنا أنّ
قوّة القانون تستخلص من قدرته على التّنبؤ، فكيف يمكن التّنبؤ، بصفته القوية تلك،
عندما نتحدّث عن علوم الإنسان -إذا افترضنا جدلاً أنه ممكن في علوم الطبيعة – وهو
ما لا يمكن تأكيده تماماً – . إنّ التّكهن بالمستقبل – التنبؤ- في علم كالتّاريخ،
يكاد يكون مستحيلاً، لأنّه يتكوّن من حوادث خاصّة، ولأنّ الحوادث العرضيّة تؤدّي
إلى نتائج غير متوقّعة، ثمّ كيف يمكن التّنبؤ بالحوادث المستقبليّة من خلال دراسة
الماضي، إذا كان المؤرّخون يختلفون في تفسير الحوادث الّتي وقعت بالفعل، إلى جانب أن وجهة نظر المؤرخ
تخضع بشكل شعوري أو لاشعوري لآراء مسبقة، دينيّة كانت، أم أخلاقيّة .[22]
لكنّنا بالمقابل،
عندما نتحدّث عن العلوم الإنسانيّة، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، مبدأ أساسياً
يميزها عن علوم الطبيعة، وهو تثبتنا بقانون ما، وقدرته التنبؤية، لا يرتبط ضرورة
بقدرة النظريّة وإمكانيّة تطبيقها التّطبيق المباشر، وذلك بسبب تداخل العوامل
المفترضة لحدوث الظاهرة، ففي علم الاقتصاد مثلاً: قال أحد الاقتصاديين أنّه يمكننا
أن نستنتج من مبدأ في الاقتصاد السّياسي أنّ إلغاء قوانين الحبوب في إنكلترا،
سيؤدي إلى هبوط مستمر في سعر القمح، لكن هذا لم يحدث فوراً، وعدم التّطابق
الظّاهري هذا، يُفسر بفعل حوادث أخرى أكثر تعقيداً، كسوء موسم البطاطا، وحرب
القرم، وانخفاض قيمة الذهب الّذي أدى إلى ثبات السعر على الرغم من حرية التجارة،
لذا لا يمكن هنا رفض النظريّة فقط لعدم تطابقها مع سير الوقائع.[23] فإذا كانت العلوم الإنسانيّة
يجب أن تقوم على تنبؤات، باعتبارها
علوم تحاول التّوصل إلى قوانين، فإنّ تلك التنبؤات بالمقابل، هي في النّهاية
تنبؤات تاريخيّة، خاصّة بالتّغير الاجتماعي، ورغم أنّ طريقة التَّعميم لا يمكن أن
تطبّق فيها، بحيث لا يجب أن نفترض صدق القوانين الاجتماعيّة في كلّ زمان ومكان،
على اعتبار أنّ انطباقها الفعلي كقوانين، يقتصر على فترة حضاريّة أو تاريخيّة
معينة، لذلك فإنّ القوانين الاجتماعيّة – إن وجدت – لا بدّ أن تختلف في صورتها عن
التّعميمات المعتادة القائمة على اطراد الحوادث. فالتّنبؤات القائمة على أساس
قوانين تاريخيّة -إن أمكن كشفها- تمكننا من التّنبؤ بالحوادث البعيدة، رغم
خلو هذا التّنبؤ من دقّة التّفاصيل .[24] إذ ليس هناك من يزعم اليوم،
أنّه يمكن إرجاع الظّواهر الإنسانيّة شديدة التّعقيد إلى صيغ
بسيطة كتلك الّتي تحدّدها العلوم الطبيعيّة، وقصارى ما يطمح إليه المؤرّخون
المحدثون، هو أن ينتهوا إلى بعض الصّيغ الوصفيّة الّتي يعبّرون من خلالها على
مختلف الخواص الذَّاتيّة للظَّواهر الإنسانيّة الماضية، وهم يرون أنّه من الضَّروري
أن تكون هذه الصّيغ الوصفيّة دقيقة، حتّى تعطي صورة واضحة عن تلك الظّواهر.[25]
وعلى الصَّعيد
النّظري، تتّصف العلوم الإنسانيّة أنّها أكثر تعقيداً وتشعباً من العلوم
الطبيعيّة، لذلك تكثر فيها التأويلات بشكل هائل، فنحن في علم الطبيعة ننظر في
مادّة أقل في درجة التّعقيد، ومع ذلك فنحن نتوسّل إلى تبسيطها صناعياً، بطريقة
العزل التجريبي، أمّا في علم الاجتماع، فهناك تعقيد ناشئ عن استحالة العزل الصناعي
، كما أن الحياة الاجتماعية ، تفترض الحياة النفسية، والّتي تفترض بدورها علم
الحياة، الّذي يفترض علمي الكيمياء والفيزياء ،[26] هذا التّعقيد الهائل يعني
بالنّهاية صعوبة التنبؤ.
الخاتمة :
إنّ كلّ العلوم،
طبيعيّة كانت أم إنسانيّة، تسعى إلى التّفسير، شاءت الفلسفة الوضعيّة ذلك، أم لم
تشأ، والتفسير ليس هو القدرة على التنبؤ بالظّواهر وإثبات ضرورتها وحسب، بل هو على
الأخص، جعلها معقولة، ومعقولة هنا، ليست بالضّرورة منطقيّة، ولكنّها ليست متناقضة
مع ذاتها. من هنا يحسن بنا أن نلاحظ، أنّ العلوم الّتي اعتدنا وضعها في مقابل علوم
الإنسان، وتسمى بالعلوم المضبوطة، وهي الّتي يقصد بها غالباً العلوم الطبيعيّة،
لكن ماذا يمكن في هذه الحالة أن تعني كلمة؛ (مضبوطة)؟ إنّ هذه الكلمة تطلق غالباً
على علم الفيزياء، لأنّ هناك فيزياء رياضيّة، ولكن من المسلم به أن كلّ علم تجريبي
بما في ذلك الفيزياء، ما هو إلاّ علم تقريبي، فكلمة مضبوطة تنطبق في الواقع على
الرياضيات، ولكن هل الرياضيات علم طبيعي؟ إن أردنا أن نقول أنّ الرياضيات تنطبق
على الطبيعة، فلا بدّ عندئذ من أن نجيب أنها تناسب الإنسان أيضاً، فقولنا أنّ
الرياضيات مضبوطة، يعني أنّها ملتصقة بالمنطق لا بالطّبيعة مباشرة، ولكن ما المنطق
دون الإنسان، حتّى وإن ضرب بجذوره في ضرورات التّنظيم البيولوجي للطَّبيعة. وإذا
كانت علوم الطّبيعة تفسّر الإنسان، فإنّ الإنسان بدوره يفسّر علوم الطّبيعة، لذلك
نرى أنّ نظام العلوم لا يمكن ترتيبه، كما حاول عدّة مفكّرين أن يفعلوا ذلك على نحو
نمطيّ، ذلك أنّ الشَّكل الّذي يميّز العلوم هو الدّائرة، أو اللَّولب الَّذي يكبر
باستمرار، فالموضوعات لا تُعرف إلاّ من خلال الذَّات، والذَّات لا تستطيع التّعرف
على نفسها إلاّ بالعمل على الموضوعات على نحو عقلي، أو مادي. [27]
***************
[1] لوسيان غولدمان: العلوم الإنسانية والفلسفة،
ترجمة : يوسف الإنطكي، المجلس الأعلى للثقافة والترجمة، 1996، ص 55.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق