هويّة الدرس الفلسفي بالتعليم الثانوي بلبنان
عبد العزيز المطيع
"مؤمنون بلا حدود" أغسطس آب 2016
http://www.mominoun.com/articles/%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%8A-%D8%A8%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-4232
الملخص:
تشكل مادة الفلسفة بالتعليم الثانوي رافعة أساسية لتربية النشء على قيم الفكر النقدي، والاستقلالية، والتفلسف كاستخدام فعّال لملكات العقل، والمساءلة الفلسفية لقضايا المعيش اليومي في أفق الوعي بالذات والهويّة الوطنية. إلا أنّ منطوق المنهاج الرسمي الخاص بتدريس هذه المادة قد ينحرف عن هذه الغايات نظراً لكونه موجهاً برؤية معينة وموقف من الفلسفة. ولعل السياقات الاجتماعية والتاريخية هي المحدد الأساس لروح منهاج تدريس الفلسفة. وتبقى الجهود الرامية للكشف عن النموذج الإرشادي الذي يوجه تدريس الفلسفة في قطر معين مدخلاً للوعي بواقع تدريس هذه المادة، وآلية لفهم وتفسير الممارسات التعليمية، ومنهجية علمية لتقويم نجاعة المنهاج الرسمي.
:
الدراسة التقويمية للمناهج بلبنان:
أ- السياق:
أقرّت خطة الدراسة التقييمية للمناهج التعليمية في لبنان، في إطار المشروع المشترك بين برنامج
الأمم المتحدة الإنمائي UNDP ، ومكتب اليونسكو الإقليمي ووزارة التربية ممثلة بالمركز التربوي للبحوث
والإنماء )
005 / Project LEB/96 (. وأخذت الدراسة اسمها الرسمي: «المكون 3.5.2 الدراسة التقييمية
للمناهج التعليمية الجديدة في لبنان .»
وقد أعدّت الدراسة الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية في إطار هذا المشروع بتكليف من مكتب اليونسكو
وتحت إشرافه، تتكون الدراسة من ست دراسات أو مكونات فرعية:
1.
تقييم الأهداف والهيكلية وتوزيع الدروس؛
2. تقييم مناهج المواد؛
3. تقييم الكتب المدرسية؛
4. تقييم نظام التقييم؛
5. تقييم تحصيل الطلبة؛
6. تقييم برامج تدريب المعلمين.
ابتدأت الدراسة في ربيع العام 2000 ، وانتهت في ربيع العام 2003 ، وقد اشتملت على ست دراسات
فرعية، وبلغ مجموع صفحاتها 6919 صفحة.
ب- التقييم العام الخاص بمادة فلسفة وحضارات 7:
ورد في تقييم المناهج التعليمية الجديدة في لبنان )تقييم مناهج المواد(، الجزء الخاص بمادة «فلسفة
وحضارات » الصادر عن الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية ما يلي:
]يتميز منهاج مادة «فلسفة وحضارات » بإدراج ممارسة السؤال الفلسفي، وما ينتج عنه من تفكير حر
وخلاق. ومن بين الأهداف العامة للمادة محاولة الموازاة بين الفلسفة العربية والفلسفة العامة، ومحاولة
إدخال المسائل الفلسفية التي تثيرها العلوم الطبيعية والتكنولوجيا على الصعيدين المعرفي والأخلاقي[.
كما أشار التقرير ذاته إلى أنّ مادة «فلسفة وحضارات » تعاني من مشكلات جوهرية تتمثل فيما يلي:
- انخفاض حصة الفلسفة إلى حوالي النصف، إذ مرّت من 17 ساعة في المنهاج السابق لدى فرع
الفلسفة إلى 9 ساعات في المنهاج الحالي.
- جمع مادتين لا علاقة بينهما في المنهاج نفسه؛
- سيطرة النمط الدوغمائي والتلقيني والسطحية والخطب الدفاعية في مادة الحضارات، فضلاً عن
النقص في الموضوعات الفلسفية؛
- غياب الفلسفة كطريقة في التفكير ومنهجية وفصل الفلسفة العربية عن الفلسفة العامة، إضافة إلى
غياب موضوعات مثل المنطق وعلم الجمال، كما أنّ القضايا المعاصرة غير مطروحة بصورة حيوية
وحديثة، وتغيب عنها الأسئلة والنشاطات المرتبطة بحياة المتعلم.
-7 تمّ الاعتماد على الدراسة التقييمية الخاصة بمادة
"فلسفة وحضارات" الصادرة عن الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية.
بعد هذا الرصد الدقيق والمفصل لوضع مادة «فلسفة وحضارات » في لبنان، ينتقل التقرير إلى التذكير
بالتوصية رقم 26 ، والهادفة إلى مجاوزة سلبيات المنهاج الحالي. ونص التوصية هو كالآتي:
تعديل منهاج «فلسفة وحضارات » بصورة جذرية، ولا سيما من النواحي التالية:
- دمج الفلسفة العربية في الفلسفة العامة؛
- فصل مادة الحضارات عن مادة الفلسفة، ومن الأفضل إلغاء مادة الحضارات وتكريس مادة السنة
الثانية للفلسفة بتاريخها وحيويتها؛
- اعتماد المقاربة الفلسفية في مادة الفلسفة من أجل تشجيع المتعلم على ممارسة السؤال الفلسفي والفكري
الخلاق، وإقامة مناظرات تتناول قضايا معاصرة ذات بعد أخلاقي )الاستنساخ البشري، الحفاظ على البيئة ....(
ج- التقييم المفصل لمنهاج مادة «فلسفة وحضارات :»
في إطار تقييم مناهج التعليم في لبنان جاء تقرير مفصل من 45 ورقة عن تقييم مادة: «فلسفة وحضارات ،»
وفق مجموعة محددة من المحكّات أو المعايير. وفيما يلي تلخيص لأهمّ ما جاء في هذا التقرير المفصل:
إنّ منهاج الفلسفة والحضارات للسنتين الثانويتين )الثانية والثالثة بكالوريا( يحتوي على بعض الجوانب
الإيجابية، كما يعاني من العديد من المشاكل والنواقص والعيوب.
- الصورة العامة:
إنّ مادة فلسفة وحضارات هي بدون شك مادة مركّبة )متكاملة(، بالرغم من التأكيد على اعتبارها مادة
تعليمية متكاملة، في السنتين الثانويتين حسب منطوق المنهاج. لكن عند التدقيق سوف نجد أنّ المادة تنقسم
عملياً إلى مادتين تدرس كلّ منهما على حدة في سنة دراسية: الحضارات في السنة الثانية ثانوي، والفلسفة
في السنة الثالثة ثانوي. هناك إذن غياب للتكامل والانسجام، وكأنّنا أمام مادتين منفصلتين. ومن الطبيعي أن
نجري
تقويماً لكلّ سنة على حدة ولكلّ مادة على حدة.
أ- مادة الحضارات في السنة الثانية الثانوي:
أهم المشاكل والنواقص التي يواجهها المنهاج بهذا المستوى هي الآتية:
- النمط الدوغمائي والتلقيني: لا يتعرف التلميذ على معضلات وتحديات حيوية بل على عناوين جامدة
ومستمدة من تاريخ الفكر البشري. إذ يغلب على الأهداف التعليمية صيغة «التعريف ب »، ممّا يوحي بطريقة
سردية لا تفتح مجالاً للتفاعل مع المتعلم.
- السطحية: يلخص المنهاج كلّ حضارة يتناولها ببعض السمات المبسطة، بدون أيّة محاولة لإعطاء
المتعلم أكثر من تأويل لكلّ حضارة. تبدو هذه الحضارات وكأنّها شخصيات نمطية ذات خصائص محددة،
قدمت كلّ منها مجموعة من الابتكارات أو الاكتشافات ثمّ انقرضت إلى غير رجعة. وينمّ هذا المنحى عن
منهجية قديمة تجاه دراسة تاريخ الحضارات ارتبطت بالنظريات العرقية والعنصرية.
- النبرة الدفاعية: عند الكلام عن المسيحية والإسلام يغلب على المنهاج الطابع الخطابي، في محاولة
لإظهار
تفوق هاتين الحضارتين على غيرهما من الحضارات، ممّا ينقص من علمية المنهاج وصدقيته.
وتظهر
هذه النبرة أيضاً في الحديث عن العلوم والعلماء، إذ يعتبر المنهاج العلماء بأنهم «نماذج سلوكية
متميزة
» يجب على المتعلم أن يتخذهم قدوة في السلوك.
- النواقص والثغرات: نلاحظ في هذا المنهج انتهاء الحضارات مع الحضارة الإسلامية )في شعبة
العلوم
الإنسانية (، واقتصارها على الحضارة العربية وتاريخ العلوم الحديثة )في شعبة العلوم(. وهذا يعني
أنّ الحضارة الغربية الحديثة بما في ذلك الحداثة، وعصر النهضة، وعصر التنوير وما تلاها، لا يرد ذكرها
أبداً في هذا المنهاج. وكذلك لا أثر للحضارة الإفريقية والأمريكية الجنوبية ولا للحضارة اليهودية.
ب- مادة الفلسفة في السنة الثالثة ثانوي:
- غياب الفلسفة كطريقة تفكير وكمنهجية: نلاحظ عند قراءة الأهداف التعليمية أنّه يغلب عليها الأسلوب
التلقيني، وتغيب عنها الأسئلة والإشكالات الفلسفية، مع العلم أنّ الفلسفة كفرع من المعرفة برز فيها المنهج
السقراطي منذ ولادتها، والذي يعتمد أساساً على طرح الأسئلة والشكوك. وبالتالي لا يبدو أنّ المنهاج معدٌّ
لمساعدة المتعلم على التفكير بنفسه، وكسب المهارة على المحاججة والتحليل. وكذلك لا أثر في المنهاج
للنشاطات
التي يمكن أن تعوّد المتعلم على ذلك. لا نجد محاولة مثلاً لتطبيق النظريات الأخلاقية على ظروف
ومواقف
مستوحاة من الواقع، لتبيان الفوارق فيما بينها.
- فصل الفلسفة العربية عن الفلسفة العامة: تظهر الفلسفة العربية في هذا المنهاج وكأنها معزولة عن
المشروع
الفلسفي العالمي، وتاريخ الفلسفة عموماً، بل تدرس وكأنّها مادة منفصلة لا تتفاعل مع التراث
الفلسفي
ككل. بالرغم من اتباع مبدأ الموازاة بحيث توازي معظم المواضيع المطروحة في الفلسفة العامة
مواضيع في الفلسفة العربية.__
- النواقص والثغرات: ثمّة غياب ملحوظ لموضوعين، هما: المنطق وعلم الجمال. ومعلوم أنّ الأول يشكل
العمود
الفقري للفلسفة ودراسته مفيدة في كلّ المجالات. وأمّا علم الجمال فهو أيضاً مهم خصوصاً في ظل
تحديد
«تذوق المظاهر الجمالية ». كما
يجب الإشارة إلى أنّ الإلهيات لا تستفيد ممّا يسمى: «الميتافزيقا .»
- قضايا معاصرة: نجد في نهاية قسم الفلسفة العربية عنوان «قضايا معاصرة »،
رغم أنّ المواضيع
المتناولة
فيه لا تتناول معضلات فلسفية معاصرة، وتقفز على الحضارة الغربية الحديثة.
-
التوافق:
من
بين العيوب التي تشوب منهاج الفلسفة والحضارات بلبنان ضعف التوافق والمطابقة بين ثلاثة
أشياء:
- الأهداف العامة للمنهاج التعليمي ككل والأهداف العامة للمادة؛
- الأهداف العامة للمادة والأهداف العامة للمرحلة الثانوية؛
- الأهداف الخاصة بالسنتين الختاميتين والأهداف التعليمية.
قبل
المضي في تحليل مدى التوافق بين أهداف منهاج الفلسفة والأهداف، سواء الخاصة بالمرحلة أو
الأهداف
التعليمية، يمكن الإشارة إلى أنّ النمودج البيداغوجي المحايث للنظام التعليمي بلبنان هو بيداغوجية
الأهداف،
علماً أنّ الكلام عن البيداغوجيا والديداكتيك غير وارد في الوثيقة الرسمية للمنهاج التعليمي
الصادر
عن وزارة التربية والتعليم بلبنان.
والسؤال
المطروح هو: هل الأمر متروك لاجتهاد الأستاذ؟
أ- الأهداف العامة للمنهاج التعليمي ككل والأهداف العامة للمادة:
لا
بدّ من التنبيه إلى أنّ التوافق ضعيف نسبياً بين أهداف المنهاج التعليمي وأهداف مادة الفلسفة
والحضارات. رغم أنّ عدداً محدوداً من أهداف المنهاج يجد له أصداء في أهداف مادة فلسفة وحضارات
نظراً
لخصوصية المادة ومحتوياتها. فمثلا )الهدف « )4 مقاربة
الحضارة باعتبارها وحدة أصيلة «ليس
بالضرورة
متوافقاً مع أهداف المنهاج التعليمي ككل .»
ب- الأهداف العامة للمادة والأهداف العامة للمرحلة الثانوية:
أغلبية
الأهداف العامة للمرحلة الثانوية لا تتفق مع أيّ من الأهداف العامة للمادة. فمثلاً هدف استيعاب
القواعد الصحية، لا نجد ما يترجمه ويحققه على مستوى المادة.
ما
يمكن استخلاصه من مقارنة الأهداف العامة للمرحلة الثانوية مع الأهداف العامة للمادة، هو أنّ هناك
بعض
النواقص في أهداف مادة الفلسفة والحضارات، وخصوصاً فيما يتعلق بعدم طرح المشكلات الفكرية،
وعدم
ممارسة النشاطات وعدم تطبيق المفاهيم الفلسفية على واقع المتعلم.
وفي
المقابل نجد عند مقارنة الأهداف العامة للمادة مع الأهداف العامة للمرحلة الثانوية، أنّه يجب إدراج
بعض
جوانب المنهجية الفلسفية في أهداف المرحلة الثانوية بشكل عام، ولاسيما التفكير النقدي الذي يعتبر
أحد
أسس النمو الفكري للمتعلم في هذه المرحلة العمرية.
ج- الأهداف الخاصة بالسنتين الختاميتين والأهداف التعليمية:
الأهداف
التعليمية المتعلقة بموضوع الفلسفة، لا تتوافق بالشكل اللازم مع الأهداف الخاصة بالسنتين
الثانية
والثالثة. فمعظمها يقتصر على التعريف والتذكير، بينما تشدد أهداف المادة على ممارسة السؤال
الفلسفي
والتفكير الحر الخلاق. ويبلغ هذا الانقطاع أشدّه في السنة الثالثة، حيث نجد أنّ هناك أهدافاً لا أصداء
لها
في الأهداف التعليمية.
-
المدى والتتابع:
أ- المدى:
هناك
ثغرات عديدة، فمادة الحضارات بالسنة الثانية لا تغطي كلّ الحضارات مع عدم وجود أيّ أثر
للحضارة
الغربية الحديثة، ولا سيّما حضارة أوروبا وأمريكا الشمالية. أي أنّه ليس هناك تعريف بالحداثة
الغربية وما بعد الحداثة. كما أنّه لا ذكر في المنهاج لعصر النهضة الأوروبية، الذي بدأ في القرن الخامس
عشر، وشهد تطورات هامة في حقول الفن والأدب والعلم وغيرها.
ولا وجود لعصر الأنوار الذي يشكل انعطافة حاسمة في تاريخ البشرية والحضارة الإنسانية. كذلك لا
نجد في المنهاج حديثاً عن الحضارات الإفريقية والأمريكية، وكذلك لا ذكر للحضارة أو الديانة اليهودية.
أمّا
على مستوى السنة الثالثة فالمنهاج يتناول خمسة عناوين عريضة، وهي:
-1 الإنسان 2- المجتمع 3- المعرفة 4- الإلهيات؛ 5- الأخلاق. والملاحظ هو غياب موضوع المنطق
والجماليات. كما أنّ موضوع الإلهيات لا يخوض في موضوعات الميتافيزيقا.
ب- التتابع
هناك
تقسيم فعلي للمادتين، الشيء الذي يجعل دراسة التتابع أمراً صعباً. فهناك غياب للتواصل والتكامل
بين
المادتين. لكن يمكن الحديث عن التتابع بالنسبة إلى موضوع واحد هو الفلسفة العربية والحضارة
العربية. لكنّ المفارقة هي أنّه في السنة الثانية لا يتمّ الحديث عن الفلسفة العربية الإسلامية في موضوع
الحضارة العربية.
-
نوعية المحتوى:
-1
الصلاحية:
من
حيث طريقة معالجة موضوع الحضارات بالسنة الثانية، نجد أنّه يبتعد كليّاً عن المنهجية الحديثة.
فقد
تمّ التركيز على مبدأ التعريف بأهمّ الإنجازات لكلّ حضارة. فيكتفي المنهاج بتقديم كلّ حضارة بسماتها
الأساسية،
دون إعطاء المتعلم فرصة لتأويل هذه السمات. تبدو هذه الحضارات كأنّها شخصيات نمطية ذات
خصائص
محددة قدمت كلٌّ منها مجموعة من الاكتشافات والابتكارات ثم انقرضت )النظر إلى الحضارات
كبنى
ثقافية موحدة وذات خصائص ثابتة وبعد واحد(. كما أنّ مادة الحضارات لا تتضمن أيّ نشاط أو تجربة
مستوحاة
من الواقع في علاقتها بالمتعلم، ممّا يجعل الحضارات بالنسبة إلى المتعلم مجرد كيانات جامدة لا
روح
حيّة فيها.
أمّا
مادة الفلسفة فيتمّ تغييب المعالجة المفاهيمية والإشكالية والتركيز على التلقين. نموذج الحديث عن
الشخصية
داخل البرنامج يتخذ شكل الحديث عن العناصر المحددة للشخصية دون طرح إشكالات، من قبيل:
هل
الشخصية الإنسانية وحدة أصيلة أم أنّها مجرد مجموعة من العناصر المتفرقة؟ وإذا كانت فعلاً وحدة
أصيلة
فما الذي يوحدها؟ هل هو الوعي أم العقل أم الذاكرة؟
نموذج
آخر عند الحديث عن الأخلاق يحضر الأسلوب التلقيني، الذي لا يترك مجالاً للتفاعل والمناقشة
والسؤال
الفلسفي. والهدف المصرح به يتمثل في تعريف المتعلم بالأخلاق كمجموعة من المبادئ والقواعد
والمعايير. وتغيب أسئلة من قبيل: ما هي الأخلاق؟ وما هو مصدرها؟ هل هي المشيئة الإلهية أم المصلحة
الشخصية؟
وهل الأخلاق قواعد أم أنّه لكلّ قاعدة أخلاقية استثناءات؟ كما أنّ هناك تغييباً للمحاججة والذهنية
الفلسفية بشكل عام.
-2 الملاءمة:
هناك
عناصر تؤدي إلى عدم رغبة المتعلم في أن يفهم الحضارات، نظراً لغياب العلاقة بين الحضارات
القديمة
والحياة اليومية للمتعلم. فهناك غياب للتطبيق والأنشطة، كما أنّ المنهاج لا يدفع المتعلم للتساؤل
عن
حضارته، هل هي عربية أم غربية؟ وما هي ملامحها الأخلاقية والسياسية والمعيارية وأنماط العيش
المحايثة
لها )اللباس
السكن - الأكل...(؟ أمّا مادة الفلسفة فلا يحضر فيها الطابع الجدلي المميز للمادة، ولا
تنفتح
على راهن التلميذ وواقعه الحالي، فسؤال الأخلاق مثلاً يمكن أن يجعلنا ننفتح على المشكلة الأخلاقية
للاستنساخ.
-
صياغة المنهاج:
تطغى
على المنهاج لغة «التعريف » و
«التأكيد » و
«الاطلاع »،
بما يوحي بمنهجية تلقينية جافة لا تساعد
على
ترغيب المتعلم بالمادة. فالمنهاج يحدد الموضوعات دون تحديد المواقف الفلسفية. فمثلاً عند الحديث عن
المجتمع
يهدف المنهاج إلى «تعريف المتعلم بمستوى الحياة الاجتماعية وبما يميزها من خصائص أصيلة ،»
ولكنه
لا يشير إلى النظريات الفلسفية في هذا الموضوع، ولا يلمح إلى الفلاسفة الذين يمكن الاستعانة بهم في
هذا
المجال. كما أنّ هناك عدم الوضوح في المقاربة الديداكتيكية، أهي مفاهيمية أم موضوعاتية أم تاريخية
محضة؟
-
مقارنة مع المعايير الدولية:
سيتمّ في هذا الجزء من الدراسة التقويمية إجراء مقارنة بين المنهاج اللبناني والمنهاج المتبع في نظام
الباكالوريا الدولية. ولا بدّ من الإشارة في البداية إلى أنّ البكالوريا الدولية تتحدث عن «نظرية المعرفة »
في انفتاحها على مختلف الحقول المعرفية، والتي تضمّ في المنهاج الدولي المواضيع التالية: الأخلاق -
الرياضيات العلوم الطبيعية - العلوم الإنسانية التاريخ - الفنون. ويتعاطى المنهاج في كلّ حقل من هذه
الحقول من خلال طرح إشكالية المعرفة فيها.
هناك
غياب للتطابق بين المنهجين، مع وجود قواسم مشتركة تجعل المقارنة ممكنة. كما أنّ منهاج
البكالوريا
الدولية يغطي السنتين الأخيرتين، ويوصي بتخصيص 100 ساعة على الأقل لمادة الفلسفة تتوزع
على
هاتين السنتين.
وسيتمّ
عقد المقارنة بناء على ثلاثة جوانب، وهي:
المدى؛ والصياغة؛ والنوعية.
-1 المدى: منهاج البكالوريا يطرح موضوع المعرفة في صيغة إشكالية واسعة، ممّا يجعله يتطرق إلى
معظم المواضيع التي يعالجها المنهاج اللبناني باستثناء الإلهيات.
ومنهاج البكالوريا الدولية عندما يدرج موضوع الأخلاق، فهو يطرح أسئلة حول طبيعة المعرفة
الأخلاقية، ومصدر القيم الأخلاقية، وكيفية التمييز بين الخير والشر وما إلى هنالك. كما يتطرق هذا المنهاج
إلى مواضيع لا يعالجها المنهاج اللبناني أبرزها: الجمال واللغة.
-2 الصياغة: الأهداف التعليمية الواردة في البكالوريا الدولية صيغت في شكل تساؤلات، في حين أنّ
هذه الأهداف صيغت في المنهاج اللبناني بشكل تقريري.
فمثلاً في المنهاج اللبناني وردت الأهداف التعليمية المرتبطة بالأخلاق ب: تعريف المتعلم بالأخلاق
كمجموعة مبادئ وقواعد ومعايير تسهم في توجيه السلوك الإنساني نحو الخير والارتقاء، وتضفي عليه قيمة
ومعنى، بينما في منهاج البكالوريا الدولية ينصّ على «ما مصدر الحس بالحق والباطل؟ وهل يمكن التمييز
بين المصدر والتبرير بالنسبة إلى الاعتقادات الأخلاقية أم أنّهما متطابقان؟ وهل من جدوى في سلوك حياة
أخلاقية؟ فرق آخر هو أنّ منهاج البكالوريا الدولية يتميز بالصياغة الأكثر تفصيلاً ودقة.
-3 النوعية: عند مقارنة نوعية محتوى المنهجين يتبيّن فارقان إضافيان: يتعلق الأول بطريقة الانتقال
من موضوع إلى آخر، ويتعلق الثاني بعصرية المنهاج وعلاقته بحياة المتعلم ومشاكله.
سادساً: النموذج الإرشادي الموجّه لتدريس الفلسفة بلبنان:
لا يمكن فهم هويّة الدرس الفلسفي في لبنان، دون طرح جملة كبيرة من الأسئلة من قبيل: ما هي
المرجعية النظرية الأساسية التي توّجه تدريس الفلسفة بلبنان؟ وما هو النموذج الموجّه لتدريس الفلسفة
بلبنان؟ وقبل تحديد الإجابات عن هذه الأسئلة الأساسية لا بدّ من الإشارة إلى المقال القيّم الذي كتبه وحرره
ميشل طوزي Michel Tozzi الفرنسي المتخصص في ديداكتيك الفلسفة، بعنوان: النماذج الإرشادية
الموجهة لتدريس الفلسفة 8.
Les paradigmes organisateurs de la discipline
ونلخص أهم معطيات هذا المقال في الجدول التالي:
ـ ملاحظة: يمكن الاطلاع على الجدول من خلال العودة إلى رابط المقالة الأصلي، أو من خلال الصفحة التالية على هذه المدوّنة.
نماذج تعليم الفلسفة وأهدافها، كما ذكرها ميشال توزّي:
إنّ كلّ نموذج إرشادي لتدريس الفلسفة محكوم ضمنياً بافتراضات عن الفلسفة، وتحديد الغاية منها.
فالنموذج الدوغمائي الإيديولوجي محكوم بتصور للحقيقة المطلقة التي يصبح الدرس الفسلفي فيها مطية لإيصالها لأذهان التلاميذ. مثل المثل الأفلاطونية وفكرة العقل أو الروح عند هيجل.
...
إنّ كلّ نموذج إرشادي لتدريس الفلسفة محكوم ضمنياً بافتراضات عن الفلسفة، وتحديد الغاية منها.
فالنموذج الدوغمائي الإيديولوجي محكوم بتصور للحقيقة المطلقة التي يصبح الدرس الفسلفي فيها مطية لإيصالها لأذهان التلاميذ. مثل المثل الأفلاطونية وفكرة العقل أو الروح عند هيجل.
...
والنموذج التاريخي يعتبر أنّ الفلسفة هي تاريخ لأفكار ومذاهب ونظريات، دون الخوض في مسألة صحتها من عدمه، كما يعتبرها بمثابة تراث للإنسانية، ينبغي على الدرس الفلسفي أن يقوم بمهمة نقلها كتراث ثقافي.
أمّا النموذج المؤشكل فتحكمه النظرة التوليدية السقراطية، ومبدأ الإحراجات الأرسطية، والشك الديكارتي.
أمّا النموذج التواصلي فمحكوم بخلفية فلاسفة التواصل والديموقراطية، مثل جون ديوي وهابرماس وريتشارد روتري.
ويحيل النموذج العملي الأخلاقي على حكماء الشرق القديم، وفلاسفة الأخلاق والفضيلة، والالتزام السياسي والأخلاقي، نموذج كارل ماركس وجون بول سارتر.
أمّا النموذج المؤشكل فتحكمه النظرة التوليدية السقراطية، ومبدأ الإحراجات الأرسطية، والشك الديكارتي.
أمّا النموذج التواصلي فمحكوم بخلفية فلاسفة التواصل والديموقراطية، مثل جون ديوي وهابرماس وريتشارد روتري.
ويحيل النموذج العملي الأخلاقي على حكماء الشرق القديم، وفلاسفة الأخلاق والفضيلة، والالتزام السياسي والأخلاقي، نموذج كارل ماركس وجون بول سارتر.
8 يمكن الاطلاع على هذا المقال القيّم بشكل مباشر من موقع الباحث المتخصص في ديداكتيك الفلسفة ميشل طوزي على العنوان التالي: //
: http
www.philotozzi.com / )انظر الخانة الخاصة بالمقالات على الصفحة الأساسية على اليمين(.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ميشل طوزي يستند في هذه الدراسة المقارنة لمناهج تدريس الفلسفة في البلدان
الأجنبية غير الفرنسية على مرجعية سوسيولوجية 9،
تعود إلى بيير بورديو وجون باسرون. في مقالهما
المعنون ب: المقارنة بين الأنظمة التعليمية: التربية، التنمية والديموقراطية. والذي يشيران فيه إلى أهمية
وجدوى فهم خصوصيات الأنظمة التربوية في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية، دون السقوط في المقارنة
الفجّة والمطلقة.
كما أنّ ميشل طوزي يستند إلى مفهوم النمط المثالي idéal type ذي الأصول الفيبرية، باعتباره
أفضل طريقة لدراسة الظاهرة الاجتماعية، وكآلية لتفسير وفهم الواقع، والممارسات الاجتماعية. ومنه تغدو
النماذج الإرشادية التي تمّ تحديدها بمثابة أنماط مثالية توجه الممارسات الميدانية الواقعية والفعلية لتدريس
الفلسفة وآلية لنمذجتها. إنّها أشكال تاريخية لتدريس الفلسفة، محكومة بعوامل سوسيو-تاريخية، أسهمت
في ظهورها وانبثاقها. وهذه الحقيقة لا يمكن فهمها بمعزل عن المحتويات، والمتون المدرّسة، والتي تعتبر
بمثابة وثائق مرجعية. وتجدر الإشارة إلى أنّ النماذج الإرشادية الموجهة لتدريس الفلسفة محكومة بسيرورة
داخلية في علاقتها بعملية النقل الديداكتيكي، وهناك مجموعة كبيرة من الانزياحات والتبدلات تطرأ خلال
هذه السيرورة إضافة إلى أنّ هذه السيرورة الدينامية أصبحت في مجتمعات اليوم مفتوحة على التكنولوجيات
الجديدة، وعلى الاستفادة من نتائج تقدّم المعارف في علوم التربية.
إنّ كلّ نموذج إرشادي لتدريس الفلسفة محكوم ضمنياً بافتراضات عن الفلسفة، وتحديد الغاية منها.
فالنموذج الدوغمائي الإيديولوجي محكوم بتصور للحقيقة المطلقة التي يصبح الدرس الفسلفي فيها مطية
لإيصالها لأذهان التلاميذ. مثل
المثل الأفلاطونية وفكرة العقل أو الروح عند هيجل. والنموذج التاريخي
يعتبر أنّ الفلسفة هي تاريخ لأفكار ومذاهب ونظريات، دون الخوض في مسألة صحتها من عدمه، كما
يعتبرها بمثابة تراث للإنسانية، ينبغي على الدرس الفلسفي أن يقوم بمهمة نقلها كتراث ثقافي. أمّا النموذج
المؤشكل فتحكمه النظرة التوليدية السقراطية، ومبدأ الإحراجات الأرسطية، والشك الديكارتي. أمّا النموذج
التواصلي فمحكوم بخلفية فلاسفة التواصل والديموقراطية، مثل جون ديوي وهابرماس وريتشارد روتري.
ويحيل النموذج العملي الأخلاقي على حكماء الشرق القديم، وفلاسفة الأخلاق والفضيلة، والالتزام السياسي
والأخلاقي، نموذج كارل ماركس وجون بول سارتر.
إنّ النماذج الإرشادية الموجهة لتدريس الفلسفة بمثابة أشكال مثالية لتدريس الفلسفة، محكومة برؤية
فلسفية معينة، لا بدّ للممارسين من الكشف عنها ومساءلتها. والصعوبة الإبستيمولوجية لنمذجة عملية تدريس
الفلسفة ترتبط بالقدرة على الكشف عن التكامل الذي تحدته هذه النماذج فيما بينها بشكل معقد، وكأنّ كلّ نمط
أو شكل لتدريس الفلسفة يلاقي محدودية معينة عند تطبيقه وأجرأته فيتخذ خلفية معينة لإحداث التكامل معها.
9.
Tozzi, Michel 2005/2006, L’école comparée. Regards croisés franco-allemands, L’Harmattan, 2006, p10.
ومن هنا تظهر مثلاً بعض الإشكالات المحرجة، من قبيل هل ندرس الفلسفة من أجل تعليم المعرفة الفلسفية
أم من أجل تعلم التفلسف؟ ولا يمكن الإجابة عن هذا السؤال الإشكالي إلا انطلاقاً من استحضار فكرة النموذج
الإرشادي الموجه لتدريس الفلسفة بمثابة النمط والشكل المثالي الذي يحكم تدريسها وتحديد درجة هيمنة
نموذج معين ومحدد وتكامله مع نموذج آخر، وبهذا الشكل تصبح الإجابة المفترضة عن السؤال السابق
مرتبطة بالقدرة على فهم التداخل الحاصل بين النموذج التاريخي التراثي والنموذج المؤشكل، وأيّهما يعتبر
قاعدة للآخر، أو أيّهما الوسيلة وأيّهما الغاية. وهذا
التداخل يمكن أن نعاينه في كثير من النماذج وعلى رأسها
النماذج الفرنسية. ومن تداعيات هذا التداخل تضارب الممارسات التعليمية للمدرسين، واختلاف تمثلاتهم
عن تدريس الفلسفة وتقويم مكتسباتها 10
إلى درجة التناقض أحياناً.
إنّ النمذجة التي تمّ تقديمها تلعب دورين متكاملين أساسيين:
- دور
الإطار الموجّه )شبكة القراءة( للفهم النظري للتوترات الداخلية للنمط المثالي الذي يحكم ديداكتيك
الفلسفة؛
- دور
التوضيح الإجرائي للقطائع التاريخية التي تحدث داخل نموذج تعليمي معين، كالانتقال مثلاً من
النموذج الدوغمائي الإيديولوجي إلى النموذج المؤشكل.
وعلى ضوء هذا المقال العلمي القيّم، الذي ينطلق من مقاربة تعتمد المقارنة بين نماذج تدريس الفلسفة
في العالم، وبالرجوع إلى تاريخ الدرس الفلسفي بالتعليم الثانوي بلبنان، يمكن القول إنّ مسار تدريس الفلسفة
بلبنان عرف سيادة نموذجين إرشاديين أساسيين، هما النموذج الدوغمائي الإيديولوجي والنموذج التراثي
التاريخي بشكل متداخل، ولا شكّ أنّ هذا المسار محكوم بظرفية تاريخية وسياسية معينة، وبموقف معين من
الفلسفة والمشتغلين بها. والسؤال الذي يمكن أن نطرحه في هذا الصدد هو: ألم تظهر بعد الشروط الاجتماعية
والثقافية والسياسية لتوجيه تدريس الفلسفة نحو النموذج المؤشكل مثلاً أو التواصلي، على اعتبار أنّ هذين
النموذجين يعزّزان التفكير الفلسفي ويسهمان في تنمية التفكير الفلسفي؟
والشكل الحالي الذي تدرس به الفلسفة من خلال مادة فلسفة وحضارات، محاط بمجموعة من المخاطر،
أهمّها:
تغييب التربية على النقد الفلسفي؛
القفز على التفكير الفلسفي في مضامين التراث والحضارات والمعتقدات الدينية؛
10.
Rapport rédigé par Jean-Yves Chateau pour le groupe de philosophie de l’inspection
générale
de l’Education
nationale,
L’EVALUATION DES ACQUIS DES ELEVES
EN PHILOSOPHIE, Octobre
2010.
المساهمة في تشكيل ذهنية قابلة لاستيعاب إيديولوجية الدولة.
وتبقى الأهداف المسطرة في المنهاج الرسمي بعيدة المنال، ما لم يتمّ الانتباه لأهمية المناهج التعليمية في
تربية ذهنية الأفراد، وعلى رأسها منهاج مادة الفلسفة.
خاتمة
في ختام هذه الورقة المتعلقة بمنهاج «فلسفة وحضارات »، يتبين أنّ المنظومة اللبنانية للتربية والتعليم
برمّتها تعيش مخاض المراجعة والتقييم بحثاً عن السبيل الأنجع للإصلاح والارتقاء بجودة المنظومة التربوية
في أفق بناء نموذج تعليمي منسجم مع حاضر لبنان وتاريخها العريق. وفي السياق نفسه تمّ الانتباه بناء على
تقارير وصفية وعلمية صادرة عن الجهات الرسمية المكلفة بالشأن التربوي والتعليمي بتنسيق مع جهات
خارجية لعيوب المنهاج الحالي لمادة «فلسفة وحضارات .»
ولعل الاستثمار الأنجع لتقارير تقييم منهاج مادة «فلسفة وحضارات »، كفيل بتوجيه تدريس الفلسفة في
لبنان بالتعليم الثانوي الوجهة الصائبة، بالشكل الذي يجعل هذا الدرس محتفظاً بهويته، وقادراً على المساهمة
في تكوين المواطن اللبناني القادر على التفكير الحر والمستقل، والذي يستطيع التأقلم مع إرثه الحضاري في
إطار الإيمان بالاختلاف، ومواكبة روح العصر بمستجداته وقضاياه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق