تمهيد
..
يمثل
الفيلسوف الفرنسي بول ريكور ( Paul Ricoeur 1913 ) أهم فلاسفة التأويل و
المعبر الحالي عن الهيرمينوطيقا الفلسفية ، خاصة بعد وفاة جادامر 2002.
ورغم
أن أهمية فلسفة ريكور تظهر في معظم الدراسات حول الهيرمينوطيقا (أو=التأويل) التي
تبدأ في الغالب بتناول جهود شلايرماخر ، و ديلتاي و هيدجر و جادامر وبعض الأسماء
الأخرى وتختتم بأعمال ريكور (1) فإن الفيلسوف لم يصل إلى هذه المرتبة ويحتل صدارة
المسرح الفلسفي ألا أخيرا في وطنه فرنسا (2) رغم الاحتفاء بأعماله في أوربا
والولايات المتحدة (3). ويبدو أن وضعية دراسات ريكور في العربية مماثلة لوضعيتها
في الفرنسية حيث حجب الاهتمام بفلسفات التفكيك والاختلاف وحفريات المعرفة وما بعد
البنيوية وما بعد الحداثة الجهد الضخم الذي قدمه ريكور فيلسوف الهيرمينوطيقا(4) في
مجالات : الوجودية الفينومينولوجيا وفلسفة الإرادة والزمن والسرد وصراع التأويلات.
ألا أن العقدين الأخيرين شهدا بزوغا جديدا لأنثربولوجيا ريكور الفلسفية
وهيرمينوطيقاه الفينومينولوجية أضاء ساحة الفكر الفرنسي ، الذي استشعر ضرورة وجود
حكيم خارج اللعبة السياسية والصراعات، يستطيع أن يدلي برأي يستمع إليه الجميع في
قضاياه لم تكن ممكنة قبل ذلك بسنوات ، بل لم تكن تخطر ببال أحد أن توجد مثل هذه
القضايا الخطيرة التي خلفها التقدم العلمي(5).
ويهمنا
الإشارة إلى بعض الدراسات الحديثة حول بول ريكور وبيان الموضوعات التي توقف أمامها
الباحثين في فلسفته وذلك لسببين الأول بيان الاهتمام الكبير بهذه الفلسفة الثاني
الوقوف عند أهم المشكلات والقضايا المثارة حول التأويل التي شغلت ريكور والباحثين
في فلسفته.
الدراسات
حول ريكور:
قدمت
خلال العقدين الماضيين دراسات كثيرة بالفرنسية والإنجيليزية والألمانية حول فلسفة
بول ريكور أو بعض جوانب هذه الفلسفة ونعرض في هذه الفقرة بعض هذه الدراسات خاصة
الإنجليزية لبيان ان أهم القضايا الفلسفية عند ريكور.
قدم
شارلز ريجان Charles E. Reagan
دراسة عامة حول : "بول ريكور حياته وعمله" عن جامعة شيكاغو 1996 عرض
فيها لحياته وفلسفته وعدة حوارات معه ، حول الهوية الشخصية ، الفعل والفاعل ،
الهوية السردية ، الأخلاق والخلقيات، أنطولوجيا الذات (6). وعرض س . هـ . كلارك S.H. Clark في كتابه "بول
ريكور" في أقسام خمسة الموضوعات التالية : مدخل ، التراث الوجودي وتناول في
القسم الثالث فلسفته الأولى في الإرادة تحت عنوان "التناهي والذنب" :
الإنسان الخطأ، الرموز، البدائية ، الأساطير، اللغة وفي القسم الرابع فرويد
والفلسفة: هيرمينوطيقا الشك، قراءة فرويد ثم المنعطف الهيرمينوطيقي ، وفي القسم الخامس:
البنية، الخطاب، النص، جادامر وهابرماس، الأيديولوجيا واليوتوبيا وأخيرا دور
الاستعارة (7).
واحتوى
عمل ماريو جي . فلاديس A
Ricoeur Reader : Reflection and Imagination على دراسة حول نظرية ريكور
في التفسير وعدة أعمال هي : صراع التأويلات ، الأستعارة والمشكلة الرئيسية
للهيرمينوطيقا ، الكتابة باعتبارها إشكالية بالنسبة للنقد الأدبي والتأويل الفلسفي
(.
وحلل
هنري ايزاك فنن H.I.Venene
"الخيال والسرد والتأويل في تفكير بول ريكور" للتحول من الأنا إلى
الفردية : بحثا عن المنهج، نقد المثالية الظاهرياتية، الهيرمينوطيقا تطويرا للظاهريات
، جدل الهيرمينوطيقا الظاهرياتية (9).
وكتب
ب . طومبسون تحت عنوان "الهيرمينوطيقا النقدية" دراسة في تفكير بول
ريكور ويورجين هابرماس" مع تقديم أنتوني جيدنز . عرض في جزئين مع مدخل :
قضايا التفسير عرض لفتجنشتين وفلسفة اللغة العادية وريكور والهيرمينوطيقا الظاهرياتية
وهابرماس والنظرية الاجتماعية النقدية وتحت عنوان النقد البنائي تناول في الجزء
الثاني مشكلات في تحليل العقل ، مشكلات في منهجية العلوم الاجتماعية ، مشكلات في
نظرية الاحالة والحقيقة (10).
ويعرض
طمبسون في الفصل الذي خصصه لريكور في ست فقرات للأساس الفلسفي : الهيرمينوطيقا ،
الفينومينولوجيا الهيرمينوطيقة فينومينولوجيا للأرادة وللتفسير في نظرية اللغة :
الرمز والخطاب ، الاستعارة والرمز ، مفهوم النص ، نظرية للتفسير والهيرمينوطيقا
والتأويل ويتناول في الفقرة الرابعة إشكاليات في نظرية الاحالة (المرجعية) والحقيقة
: اللغة والوجود ، أنظمة الإحالة الصواب والصدق ثم إشكاليات في تحليل الفعل ،
الخطاب الوصفي في الفعل ، والجدل والهيرمينوطيقا وأخيرا إشكاليات في منهجية العلوم
الاجتماعية : الشرح والفهم.
وتوقف
برنارد دينور في سلسلة المفكريين السياسيين في القرن العشرين عند الجوانب السياسية
والاجتماعية عند ريكور في كتابه "بول ريكور الوعد والمخاطرة في السياسة"
عارضا الهيرمينوطيقا والعلوم الاجتماعية – العلوم الاجتماعية والفلسفة بين المدخل
والتقييم للقضايا التالية : تفكير ريكور السياسي المبكر ، الفعل في فلسفة ريكور الانثربولوجية
الناضجة ، من الاهداف الخلقية إلىالمعايير الاخلاقية . فكر المعايير الاخلاقية إلى
الحكمة العملية ، المسئولية السياسية (11) .
وبحث
بتريك بورجوس في "امتداد هيرمينوطيقا ريكور" وماري جيرهارت Gerhart "فكرة التشخيص عند
ريكور : ووظيفتها في التأويل الأدبي". ودفيد كلايم "نظرية بول ريكور :
تحليل بنيوي" (12).
ويهمنا
الوقوف أمام عملين جماعيين حول ريكور . الأول أشراف عليه دفيد وود David Wood تحت عنوان "في بول
ريكور السرد والتفسير" صدر في لندن 1991 وشارك عدد من الباحثين وبول ريكور
نفسه تناول المحرر وهو أستاذ وعميد كلية الإنسانيات ستوين بروك وله كتاب
"الظاهريات التأويلية : فلسفة بول ريكور" 1971 في مدخله "السرد
التأويلي" وكتب بول ريكور عن "الحياة بحثا عن السرد" ويدور بحث
كيفين فانهوزر من جامعة أدنبرة والمتخصص في بول ريكور التأويلية المعاصرة ، صاحب
"السرد الأنجيلي في فلسفة ريكور" 1990 حول أسلاف فلسفة بول ريكور في
"الزمان والسرد" وتدور دراسة ريتشارد كيرني "بين التراث واليوتوبيا
: مشكلة التأويل النقدي للأسطورة" وجوناثا هاري "السرد والتجربة
الفلسفية" وكتب رينان جولد ثروب "ريكور" ، بروست A.Porios "الزمن"
ج.
بيرنشتاين عن "الرويات الكبرى" ودون إهدة "النص والتأويلية
الجديدة" . ولهذا العمل ترجمة عربية ينقصها مدخل المحرر الذي استعيض عنه
بمقدمة للمترجم ودراستين للفيلسوف الأول عن الهوية السردية والثانية "من
الوجودية إلى فلسفة اللغة(13).
والعمل
الثاني من أهم وأضخم ما كتب حول فلسفة ريكور وهو العمل الصادر عن سلسلة مكتبة
الفلاسفة الأحياء والذي أشرف عليه لويس أدوين جون في ثلاثة أجزاء الأول سيرة حياة
عقلية كتبها الفيلسوف نفسه والثالث ببليوجرافيا بول ريكور والثاني أطولها في ستة
أقسام : في القسم الأول عدة دراسات في التأويل هي دراسة دون أهدة التي يحدد فيها
"مكانة بول ريكور في التراث الهيرمينوطيقي" و ج.ب. مادسون "ريكور
وهيرمينوطيقا الذات" ويضم القسم الثاني وعنوانه من هيرمينوطيقا الرمز إلى
هيرمينوطيقا النصوص عدة دراسات لديفيد بللير :"الرمز يعطي الأشراق
للتفكير" وهانز هـ . ريدنك "الهيرمينوطيقا البسيطة والوجدانية : دع
اللغة منفتحة" وجون سميث :"فرويد والفلسفة والتفسير" وتولما زد
ليفين "بول ريكور وصراع التأويلات" Dabney Tawnsend "الاستعارة :
الهيرمينوطيقا والمواقف" والقسم الثالث من الهيرمينوطيقا إلى فلسفة الجمال
والأدب ، والرابع من النص إلى الفعل وبه عدة دراسات حيث كتب جوزيف بين عن
"ريكور باعتباره فيلسوفا اجتماعيا" . وريتشارد لنجيان "البلاغة
الجديدة ممكنة : فلسفة ريكور في اللغة باعتبارها فينومينولوجيا الخطاب في العلوم
الإنسانية" وتناول شارلز ريجان "الكلمات والأفعال: سيميوطيقا الفعل"
ويتد كلين "فكرة الهيرمينوطيقا الأخلاقية" وبيتركمب "الأخلاق
والسردية" وتيري جودلف "ريكور :كانط وتحليل Permanence الزمان" ويتناول
الباحثون في القسم الخامس "إلى تخوم الفلسفة" دافيد ستيوارت "ريكور
في لغة الدين" ستيفين ت . تيمان "ريكور ومشكلة اللغة" دافيد رتمير
: "ريكور والاستطيقا" نقد برنار ستيفين "في تحليل ريكور للزمن
والسرد" لك كين تونج : "الفعل ، العلامة ، الوعي : التفكير المنفرد مع
ريكور" وهناك ثلاث دراسات في القسم السادس والأخير من هذا الجزء دومينكو جير
فلينو : "عمق واتساع فلسفة بول ريكور" Patrick L . Bourgoie "حدود هيرمينوطيقا ريكور
للوجود" كاثلين بلمي "من الأنا إلى الذات" (14).
ويعد
هذا العمل من الدراسات الهامة التي تناولت الجوانب المختلفة في فلسفة ريكور الذي
وصفه أحد الباحثين بقوله : لا يكاد نتاج أي مفكر في العالم اليوم يتجاوز عمل بول
ريكور في السعة . ورغم أنه عرف أساسا بفضل كتاباته عن الرمزية الدينية (رمزية
الشر) وعن التحليل النفسي (فرويد والفلسفة) ، فإن عمله يشمل في الواقع مجالات
واسعة ومتنوعة ـ بل وغالبا ما تبدو متباعدة ـ من الخطاب : نظريات التاريخ ، المدخل
التحليلي في فلسفة اللغة ، الأخلاقيات ، نظريات الفعل ، البنيوية ، النظرية
النقدية ، اللاهوت ، السيميائية ، علم النفس ، الدراسات التوراتية ، نظرية الأدب ،
الظاهرياتية ، ويجد القراء صعوبة في متابعة ريكور وهو يغامر في مناطق متباينة إلى
هذا الحد(15). ومع هذا فإننا نستطيع أن نحدد المشكلات الأساسية التي شغلت ريكور
والتي نجدها لدى الباحثين في فلسفته في الموضوعات التالية :
( 1
) حياته وعمله وتأثيره على العرب ، (شارلز ريمان) ، (ندوة بيت الحكمة تونس ).
( 2
) التراث الوجودي – فلسفة الإرادة – الرموز والأساطير ، الهيرمينوطيقا – البنية
والخطاب والنص ، الأيديولوجيا واليوتوبيا (كلارك)
( 3
) نظرية التفسير : صراع التأويلات ، الكتابة باعتبارها إشكالية للنقد الأدبي
والتأويل الفلسفي (ماريوفلاديس)
( 4
) نقد المثالية الظاهرياتية ، الهيرمينوطيقا تطوير للظاهريات جدل الهيرمينوطيقا
والظاهريات (هنري إيزاك فنن)
( 5
) الهيرمينوطيقا الظاهرياتية ، البنية الفينومينولوجية للإرادة، التفسير، الرمز
والخطاب. مفهوم النص، نظريات التفسير، الهيرمينوطيقا والتأمل(طمبسون)
( 6
) الجوانب السياسية والاجتماعية (برنار درينور)
( 7
) السرد التأويلي ، التأويل النقدي للأسطورة السرد والتجربة الفلسفية ، التأويلية
الجديدة ، السرد والتفسير (ديفيد وود)
( 8
) هيرمينوطيقا الذات – فرويد والتأويل – صراع التأويلات – الهيرمينوطيقا والعلوم
الإنسانية – هيرمينوطيقا الوجود (لويس أدوين جون)
( 9
) الأيديولوجيا والهيرمينوطيقا (جورج . هـ . بتيلور)
(
10 ) الهيرمينوطيقا والبنيوية (إديث كريزويل)
(
11 ) فلسفة المعنى (جان لاكروا)
الهيرمينوطيقا
الظاهرياتية ..
تطلق
على فلسفة ريكور في التفسير عدة مسميات هي عند جون طمبسون (الهيرمينوطيقا النقدية)
وعند دون أهدة (الهيرمينوطيقا الظاهرياتية) وأحيانا تسمى (الهيرمينوطيقا بعد
البنيوية ) . وهي بالفعل تحتمل هذه المسميات . ومن هنا علينا أن نعرض لتطور
هيرمينوطيقاه ، موضحيين في سياق تناولنا المصادر والمؤثرات التي نهل منها وأخذ
عنها ريكور أنطلاقا من الأساس الفلسفي لفلسفة الظاهرياتية الوجودية التي تمثل
المرحلة الأولى التي تناول فيها مشكلة الإرادة والذنب والتناهي
لقد
استولى على تفكيره عام 1960 كما يقول في دراسته "من الوجودية إلى فلسفة
اللغة" معضلة كيف يمكن تقديم بعض التجارب العميقة ضمن فلسفة الإرادة مثل:
الأثم والعبودية والاغتراب وبلغة دينية الخطيئة . ويعبر عن مثل هذه المشكلة باصطلاحات
الفلسفة الوجودية ، الحياة الزائفة بلغة هيدجر والمواقف المقيدة بلغة ياسبرز ،
الوجود والتملك واليأس مع مارسيل . وذلك للتمييز بين الأثم والتناهي الذي اخترهما
عنوانا يجمع كتابيه . يقول كنت استندت بثقلي إلى المنهج التأمل الذي أتى به هوسرل
والثنائي الوجودي ياسبرز ومارسيل (16) وهو يصف عمله بالظاهرياتية الوجودية رغم أنه
لم يطلق عليها في هذا الوقت اسم الظاهرياتية رغم قيامه بترجمته إلى الفرنسية رغبة
في عدم الاحتماء بشرعية هوسرل . ألا أن دراسته كانت ظاهرياتية بمعنى أنها حاولت أن
تستخلص من التجربة المعيشة المعاني والبنى الأساسية للأرادة (17).
ينطلق
ريكور من الدراسة التي أفتتح بها كتابه من "النص إلى الفعل" Du Texte al action بعنوان التأويل من أهتمامه
بالوظيفة السردية وصلتها بأبحاثه السابقة عن الاستعارة والتحليل النفسي والرمزية
نحو الافتراضات النظرية والمنهجية التي يرتكز عليها بحثه حتى يصل إلى التقاليد
الظاهرياتية والهيرمينوطيقية التي يرتبط بها حيث توضح أعماله المخصصة للوظيفة
السردية القول بوحدة وظيفية بين الصيغ والأجناس السردية المتعددة على أساس أن
الطابع المشترك للتجربة الإنسانية المميز لفعل الحكي في جميع أشكاله إنما هو
الطابع الزمني وهو موضوع كتابه "السرد والزمن" (18).
ويتناول
ريكور العلاقة بين المشكلات التي أثارها في الوظيفة السردية والمشكلات التي
تناولها في كتابه "الاستعارة الحية" . ذلك لأن البحث في المشكلات
المشتركة بين المجالين واكتشافها بالرغم من اختلافاتهما سيقودنا نحو الأفاق
الفلسفية الأكثر اتساعا لفلسفته(19).
يحدثنا
عن التقليد الفلسفي الذي ينتمي إليه وكيف تندرج اهتماماته ضمن هذا الاتجاه الفلسفي
حيث يتميز هذا التقليد بثلاثة ملامح هي :
( 1
) أنه يندرج ضمن فلسفة تأملية
( 2
) ويبقى في منطقة الظاهرياتية الهوسرلية .
( 3
) ويريد أن يكون أحد المغايرات الهيرمينوطيقية لهذه الفينومينولوجيا .
علينا
توضيح ذلك في النقاط التالية :
التأمل
العقلي ( البحث عن المعنى)
أ -
يقصد ريكور بالفلسفة التأملية صيغة التفكير المنحدرة من الكوجيتو الديكارتي عبر
فلسفة كانط والكانطية الجديدة الفرنسية ومن هنا يضعه جان لاكروا ضمن "فلسفات
التأمل العقلي" يقول لاكروا : "المنهج التفكيري التأملي قد حطم تحالفه
مع المثالية . وبدلا من أن يكون بعيدا عن الحياة المعاشة ، نجده قد أخذ يضيء
الوجود بالافكار وهذه الأضاءة استخلاص لمعناه ." هكذا عرف ريكور كيف يعي وعيا
أعمق من سابقيه ومعاصريه مشكلته هو ، وهي مشكلة تفسير واستخلاص المعنى أي ما يطلق
عليه اسم التأويل(20) ويضيف موضحا عنوان دراسته عن ريكور "فيلسوف
المعنى" أن مشروع ريكور ينحصر في إيجاد حقيقة المعنى عن طريق مجهود يبذل
لإزالة الحجب التي يختفي وراءها المعنى ، وكشفت فلسفته التي أنشأها حول الإرادة عن
كل دلالتها حين أصبحت شيئا فشيئا تأملا حقيقيا في اللغة(21) والمعضلات التي
تعتبرها أية فلسفة تأملية المعضلات الأكثر جذرية هي تلك المتصلة بإمكانية فهم
الذات بوصفها ذاتا فاعلة لعمليات المعرفة والإرادة والتقييم. والتأمل (التفكير) هو
فعل العودة إلى الذات الذي من خلاله تمسك الذات الفاعلة بالمبدأ الموحد للعمليات
التي تتشتت داخلها وتنس نفسها بوصفها ذاتا فاعلة " . وإذا كانط الذي يستشهد
به ريكور يقول الأنا أفكر يجب أن تتمكن من مصاحبة جميع تمثلاتي فإن في هذه الصيغة
كما يرى ريكور تتعرف جميع الفلسفات التأملية على ذاتها وسؤاله الذي يطرحه علينا هو
كيف تعرف "الأنا أفكر" نفسها هنا تأتي الظاهريات – والهيرمينوطيقا –
لتمثل أنجازا وتحويلا جذريا في آن الفلسفة التأملية
ب -
يرى ريكور أن فكرة التأمل ترتبط بها رغبة في تطابق تام للنفس مع ذاتها بحيث يجعل
من وعي الذات معرفة أكيدة تكون أكثر جوهرية من جميع المعارف الوصفية . وهوسرل يفهم
الظاهريات على أنها ليست فقط منهجا للوص الجوهري لوصف التجربة الأساسية : الخيالية
العقلية والإرادة والأخلاقية بل بوصفها تأسيسا جذريا داخل الوضع العقلي (22) على
أن الظاهريات في ممارستها الفعلية وليس على مستوى التنظير الذي تطبقه على نفسها
وعلى تطلعاتها النهائية تسجل ابتعادا فيما يرى ريكور عن الحلم المتصل بالتأسيس
الجذري ضمن شفافية الذات الفاعلة مع نفسها.
جـ
– هنا تأتي الهيرمينوطيقا . ويبين ريكور أن النتيجة المفارقة التي نتجت عن مأزق
الظاهريات توضح كيف تنشأ الهيرمينوطيقا من قلب الظاهريات . قد يخيل إلى القارئ أن
تاريخ الهيرمينوطيقا يجعلها غريبة عن التقليد التأملي والظاهرياتية فقد نشأت مع
شلايرماخر (23) نتيجة تقارب تفسير التوراة مع فقه اللغة الكلاسيكي مع أحكام القضاء
وقد تم ذلك بفضل تقديم سؤال ما الفهم؟ على سؤال معنى هذا النص أو ذاك؟ . يقول
ريكور أن هذا البحث عن الفهم Verstehen هو الذي أدى بعد قرن من
الزمن إلى الالتقاء بالسؤال الظاهرياتي عن تمحيص المعنى القصدي للأفعال الفكرية
(24) لقد كان لدى كل منهما : الظاهريات والهيرمينوطيقا نفس السؤال الأساسي عن
العلاقة بين المعنى معقولية الأول وتأملية الثاني .
هوسرل
والظاهريات المثالية ..
تشير
إديث كريزويل إلى أن اهتمام ريكور بالفلسفة قد بدأ عندما وقع على فينومينولوجية
هوسرل حين كان سجينا في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية فعثر على الفلسفة
التي زودته بالوسيلة التي تكاملت بها اهتماماته في النهاية وجعل من هوسرل أساس
فكره الخاص منذ أن قام بترجمته الجزء الأول من كتاب "أفكار" إلى اللغة
الفرنسية .
والفينومينولوجيا
عند ريكور لا تبدأ مما هو أكثر صمتا في عمل الوعي بل من العلامات Signs التي تتوسط علاقة الوعي
بالاشياء كتلك العلامات التي تتحدد في ثقافة منطوقة فالفعل الأول للوعي هو المعنى
.. والقصدية Intentionality هي
فعل تحديد هذا المعنى بالعلامة(25) ويتضح أن ريكور في هذه الفترة المبكرة ربط بين
قصدية الوعي ورمزية الكتاب المقدس ليصل بهذا الربط إلى أعمق معنى للأشياء على نحو
ما هي عليه بالفعل والحقيقة أنه كما أشرنا أفاد بوجه خاص من فكرة هيدجر عن الفهم .
تقول كريزويل أن استخدام هيدجر لهذه الفكرة في تأويله العلماني للمفاهيم الدينية كان
بمثابة المثال الذي أقام عليه ريكور مشروعه الخاص(26) .
يفصل
ريكور علاقة هيرمينوطيقاه بفينومينولوجيا هوسرل في دراسته ظاهريات وهيرمينوطيقا .
ويناقش مسألتين الأولى بيان أن ما هدمته الهيرمينوطيقا ليس الظاهريات بل التأويل
المثالي لها عند هوسرل نفسه والمسألة الثانية التأكيد على أن وراء التضاد بين
الهيرمينوطيقا والظاهريات هنا تبادل بينهما ، فالثانية تقوم على أساس الأولى وتظل
الأولى أفتراض للثانية متعذر تجاوزه كما أن الظاهريات لا يمكن أن تؤسس نفسها دون
أفتراض هيرمينوطيقي .
يتناول
أولا النقد الهيرمينوطيقي للمثالية الهوسرلية أعتمادا على ما جاء في خاتمة كتاب
الأفكار التي تعد نموذجا للمثالية هوسرل ويقابل ذلك بأطروحات الهيرمينوطيقا للوصول
إلى علاقة جدلية بينهما .
ويوضح
أولا أن هدف العلمية . الذي أعتبرته المثالية الهوسرلية تبريرا أخيرا يبلغ حده
الأساسي في الشرط الأنطولوجي للفهم (27)
ويرى
أن تبعية التأويل للفهم ، تشرح أن التبين بدوره يتقدم دوما على التفكير وأنه سبق
لكل تأسيس موضوع من طرف ذات أعلى (28)
أن
نمو كل فهم في التأويل مع مشروع التأسيس الهوسرلي ، في كون كل تأويل يضع المفسر في
الوسط وليس في البداية أو النهاية أبدا
أن
يكون مكان التأسيس الأخير هو الذاتية ، أستعلاء مشكوك فيه عندئذ يظهر الكوجيتو
بدوره خاضعا للنقد الجذري الذي تمارسه الظاهريات (29)
ومقابل
القول بأسبقية الذاتية يعتبر نظرية النص بمثابة محور هيرمينوطيقي وذلك في الإطار
الذي يمسي فيه نص ما مستقلا عن قصدية مؤلفه الذاتية ، والسؤال الجوهري لا يكمن في
العثور وراء النص عن القصدية الضائعة ، بل في أن نبسط أمام النص العالم الذي يفتحه
ويكتشفه .
أن
الظاهريات التي تبحث عن اكتشاف طابع الكونية القصدي لم تتبع نصيحة أكتشافها الخاص
. أن نص الوعي يكمن خارجه ومن هنا فإن الطريقة الجذرية التي ينطلق منها هي تعتبر
محور تأويل سؤال الذاتية إلى سؤال العالم . وذلك بتعليق سؤال نية المؤلف إلى سؤال
موضوع النص غير المحدود . (30)
بمعارضتها
للأطروحة المثالية لمسؤولية الذات المتأملة الأخيرة تدعو الهيرمينوطيقا إلى أن
تكون الذاتية لا أول بل أخر مقولة من مقولات نظرية الفهم(31)
لا
يمثل نقد هيرمينوطيقا المثالية الهوسرلية سوى الوجه السلبي لبحث إمكانية الظاهريات
التأويلية . أن ما يقصده بالطبع ليس جعل الظاهريات تأويل ، بل بيان أنه على الرغم
من نقد المثالية الهوسرلية تظل الظاهريات هي افتراض الهيرمينوطيقا المتعذر تجاوزه
من جهة وأنه ليس بوسعها أن تطبق برنامجها المتعلق بالتشكل دون أن تشكل نفسها في
هيئة تأويل ما لحياة الأنا(32)
أن
السؤال الأساسي في الظاهريات هو سؤال الأنطولوجيا عند هيدجر في الوجود والزمان هو
سؤال معنى الكينونة . أنه ليس سؤالا هيرمينوطيقا ألا في الحد الذي يكون فيه المعنى
مستنيرا . أن الأختبار لصالح المعنى أذن هو الأفتراض المسبق بالنسبة لكل
هيرمينوطيقا.
ويتناول
ثانية : الأفتراض التأويلي المسبق للظاهريات ويعني به حاجة الظاهريات لإدراك
مناهجها كتبيين Auslegung
تفسير شرح تأويل . وللبرهنة على ذلك يعود إلى نصوص المرحلة المنطقية والمرحلة
المثالية . خاصة نظرية المعنى في "أبحاث منطقية" والتأملات الديكارتية .
ويرى
ريكور أن الأبحاث المنطقية لا تستطيع أن تطور بدايات التأويل في الظاهريات بل نجد
ذلك في التأملات حيث لا تهدف الظاهريات إلى تقديم المعنى المثالي للتعابير المركبة
جيدا ، بل معنى التجربة في مجموعها(33)
أن
أهمية هيدجر عند ريكور تكمل قصدية هوسرل بالنسبة لتطور الهيرمينوطيقا الظاهرياتية
حيث يظل فكره شاهد على أنه لم يتخل قط عما قصد إليه هوسرل وهيدجر(34) . ويشير كيفن
فانهوزر إلى أهمية فلسفة هيدجر وكانط كمصادر لنظرية ريكور في الزمان والسرد حيث
يناقش مقاربة ريكور لمشكلة الخيال الإبداعي عند كانط وتبنيه فكرة هيدجر عن زمانية
الوجود الإنساني فنظرية ريكور في السرد هي محاولة للتفكير في هاتين المشكلتين معا
: الخيال والزمان
لن
نتوقف طويلا أمام أثر كانط وتوظيفه لأفكار الأولية البسيطة عن الزمان والخيال
الإبداعي التي تظهر في نقد العقل النظري في فكرة Schematism ويمكن تأويل نظرية السرد
عند ريكور بوصفها محاولة لأعطاء مادة لغوية وأدبية لفكرة كانط عن الرسوم
التخطيطية(35) ألا أن ريكور يعيب على كانط مسألة أساسية في نقد ملكة الحكم هي أنه
يهمل الأبعاد الاجتماعية والتاريخية للخيال الإبداعي (36)
هيدجر
والتأويل الظاهرياتي ..
ويجذر
ريكور الهيرمينوطيقا داخل الظاهريات وهذا التجذير الظاهرياتي للهيرمينوطيقا لا
يتوقف من وجهة نظره عن تلك القرابة بين فهم النصوص والعلاقة القصدية لوعي بمعنى
يواجهه. بل على مفهوم مستمد من هيدجر هو العالم المعيش Lebenswelt فكوننا نوجد في عالم وننتمي
إليه يجعلنا قادرين في حركة تالية على أن نتعارض مع أشياء نتطلع إلى تكوينها
والتحكم فيها عقليا.
ويتوقف
ريكور عن الدلالة الآنطولوجية لمفهوم الفهم الهيدجري (37) الذي هو جواب وجود – في
العالم يشق فيه طريقه يعرض إمكانياته الأكثر خصوصية . والتأويل بالمعنى التقني
لتأويل النصوص ما هو إلا توسيع وتفسير لهذا الفهم الأنطولوجي المرتبط بوجود ملقى
مسبقا وعلى هذا النحو كما يقول ريكور فإن علاقة الذات بالموضوع التي ظل هوسرل
خاضعا لها مرتبطة بالاقرار بعلاقة انطولوجية أكثر أولية من كل علاقة للمعرفة ومن
هنا فإن الهيرمينوطيقا الهيدجرية وما بعدها هي وريثة الظاهريات الهوسرلية وهي في
نهاية الأمر قلب لها بالقدر نفسه الذي تكون فيه تحقيقا لها. (38)
وقد
أثر كتاب هيدجر الأساسي " الوجود والزمان" في نظرية ريكور السردية، حيث
عمل على تصحيح عمل هيدجر . ويشكل هذا التصحيح السردي مسيرة ريكور الطويلة نحو
أنطولوجيا الوجود الإنساني .
يميز
ريكور في دراسته "الوجود والهيرمينوطيقا" بين نوعين من الظاهريات
التأويلية هي ظاهريات هيدجر (المسيرة القصيرة للأنطولوجيا) (39).وظاهرياته الخاصة
(مسيرتها الطويلة). أن ريكور على توافق إلى حد كبير مع تأويل هيدجر للزمانية
الإنسانية كما يقول كيفين فانهوزر الذي يوضح ذلك بقوله : حيث يحاول هيدجر أن يبحث
في الوجود الإنساني مباشرة وكما هو ، يعتقد ريكور أن الوجود الإنساني لا يتحقق إلا
بسلوك انعطاف من خلال تأويل النصوص التي تشهد على هذا الوجود . يحول هيدجر التأويل
من تحليل النصوص إلى تحليل لهذا الوجود الذي يفهم الأنية Dasein ونتائج هذا التحول في
الإشكالية بعيدة المدى . حيث تحل أنطولوجيا الفهم محل إبستمولوجيا التأويل . يعلق
ريكور للفهم لدى هيدجر دلالة أنطولوجية فهو رد فعل وجود مقذوف إلى العالم ، يجد
طريقه بإسقاط إمكانياته الخاصة عليه" (40). ويستنتج الباحث أن نظرية ريكور
السردية هي استمرار لمشروع هيدجر "المنقوص" في فهم الوجود الإنساني
بوصفه زمانيا من حيث الجوهر . ويخلص إلى الأتي :
1-
يعطي ريكور لفكرة كانط عن الخيال الإبداعي وفكرة هيدجر عن الزمانية الإنسانية
صياغة لغوية وتطبيقا أدبيا
2-
هذا التطبيق يمكنه من الاستفادة من تقنيات التوضيح المناسب للنصوص . فطريق فهم
الوجود الإنساني لابد أن يمر بالمنعطف الطويل من خلال أسئلة المنهج.
3-
تضيف النظرية السردية بعدا اجتماعيا إلى فكرة الخيال الإبداعي والزمانية الإنسانية
كانتا تفتقران إليه لدى كل من كانط وهيدجر .
أن
نظرية ريكور السردية تقف عند ملتقى الطرق لأنثربولوجيته الفلسفية وتأويليته النصية
، وريكور هو فيلسوف الامكانية الإنسانية الذي يظل الأدب يتباهى بمكانته في مشروعه
الفلسفي (41).
وهذا
ينقلنا إلى أهتمامه باللغة وتحديده للهيرمينوطيقا بأنها تأويل للنص
اللغة
عند ريكور ..
علينا
أن نتذكر ما سبق أن استشهدنا به من أن مشروع ريكور ينحصر في إيجاد حقيقة المعنى
وأن فلسفته التي أنشأها حول الإرادة تكشف عن دلالتها حين أصبحت تأملا حقيقيا في
اللغة . ويرى لاكروا أن مشروع ريكور هو إقامة فلسفة كبرى للغة تهتم بالوظائف
العديدة للدلالة عند الفرد البشري وبعلاقتها المتعددة فيما بينهما . وريكور بصفته
فيلسوفا يبدأ من الأنا أفكر التي ظلت المبدأ الثابت ، يصادف في طريقة تفسيرات
تستهدف رد اللغة إلى شئ آخر . وقد رأى من واجبه ألا يعارضها بل يستخدمها
ويفهمها(42).
أن
سر هذه الفلسفة كما كتب البعض يكمن في أنها تنطوي على مشروعين متناقضين تريد
توحيدهما فمن جهة هناك أنثربولوجية فلسفية تسعى لتحقيق فلسفة الإرادة وتستثمر
الظاهريات والوجودية كما يتضح في كتبه الأولى : رمزية الشر ، التناهي والأثم ،
الإنسان الخطأ ، ومن جهة ثانية هناك تأويلية نقدية تريد الاستفادة من أخر ما توصلت
إليه علوم اللغة ونظريات الاتصال وتتمثل هذه التأويلية في كتبه اللاحقة : صراع
التأويلات ، سطوة الاستعارة ، التأويلية والعلوم الاجتماعية ، من النص إلى الفعل
(43).
والحقيقة
أن هناك تطور وليس تكامل بين ظاهريات ريكور الوجودية وفلسفته التأويلية للنص .
يتمثل هذا التحول في أهتمامه باللغة . ويخبرنا ريكور نفسه كيف أنبثقت من دراساته
الأولى مشكلة ثانوية سرعان ما تصدرت أبحاثه بعد ذلك وهي مشكلة اللغة . لقد كان في
عمله الأول يريد توضيح بعد الشر في بنية الإرادة ومن هنا استند إلى المنهج التأملي
الوصفي لدى هوسرل والثنائي ياسبرز ومارسيل وأطلق على هذا النوع من الوصف الظاهريات
الوجودية . وفي ذاك الوقت لم تطرح أية مشكلة عن اللغة . أما الأن فهو كما يخبرنا
يعتقد أن هناك تداخلا بين فلسفة اللغة العادية والظاهريات فقد جلبت مشكلة الشر إلى
مجال البحث معضلات لغوية جديدة وهذه المعضلات اللغوية واللسانية كانت قرينة
باستعمال اللغة الرمزية باعتبارها مقاربة غير مباشرة لمشكلة الإثم.
ومن
هنا اهتمامه بالرمزية يسلك منعطف تأويل الرموز بأن يقدم بعدا تأويليا داخل بنية
الفكر التأملي ، يقول : "ما كان بإمكاني أن أتحدث عن الإرادة السيئة أو عن
الشر دون تأويلية من نوع ما .. .. لقد فرض على موضوعي الأول أن أبحث في بنية
الرمزية والأسطورة"(44). لقد حصر تعريف التأويل في هذه المرحلة في المشكلة
الخاص بتأويل اللغة الرمزية يظهر هذا في كتابه عن "فرويد" والفصل الأخير
من "رمزية الشر" .
لقد
عرف الرمزية والتأويلية في كتابه عن فرويد الواحدة بمصطلحات الأخرى فالرمزية
تستدعي تأويلا ما لأنها تقوم على بنية دلالية معينة هي بنية التعبيرات ذات المعاني
المزدوجة وأيضا هناك تأويلية لأن هناك لغة غير مباشرة . لذا كانت الهيرمينوطيقا هي
من الكشف عن المعاني غير المباشرة . لقد تحول ريكور بعد ذلك من حصر التأويل في
اكتشاف معاني خفية من اللغة الرمزية وربط بينها وبين اللغة المكتوبة والنصوص . هنا
تغير اهتمامه من مشكلة بنية الإرادة إلى مشكلة اللغة في ذاتها .
وهناك
أربعة عوامل قادت ريكور إلى هذا التحول هي :
1 -
التأمل في بنية التحليل النفسي.
2 -
التغير المهم في الحس الفلسفي حيث بدأت البنيوية تحل محل الوجودية بل محل الفينومينولوجيا
3 -
الاهتمام المتواصل بالمشكلة التي تطرحها اللغة الدينية أو ما يسمى لاهوت
الكلمة
4 -
وأخيرا الاهتمام المتزايد بالمدرسة البريطانية والأمريكية في فلسفة اللغة العادية
، التي وجد فيها طريقا لتجديد الظاهريات وردا على تجاوزات البنيوية على السواء .
رويد
والتأويل الأختزالي ..
لقد
كان الاهتمام بالتحليل النفسي النتيجة الطبيعية لاهتمام ريكور بمشكلة الإرادة
والإرادة السيئة والأثم . فهو كما يقول لا يستطيع المضي في تحليل الأثم دون أخذ
تأويل التحليل النفسي للأثم . غير أن التحليل النفسي كان يرتبط مباشرة بالمعضلات
اللغوية بسبب استخدامه للبنى الرمزية . أي أنه ليست مشكلة الأثم بل البنية العامة
للغة هي التي أدت بريكور إلى اللجؤ للتحليل النفسي ، كذلك أدعاء التحليل تقديم
التأويلات ليس فقط للأحلام والأعراض المرضية بل أيضا لنسيج الرموز الثقافية
بكاملها وللأساطير الدينية (46).
توقف
ريكور أمام نوعين من التأويل أو الهيرمينوطيقا وليس هيرمينوطيقا واحدة ، فما دام
التحليل النفسي يدعي تأويل الرموز باختزالها . لذا فهو ما يسميها التأويلية
الإختزالية أحيانا أو هيرمينوطيقا الشك مقابل هيرمينوطيقا الإيجاب أحيانا أخرى .
وتفسر لنا أديث كريزويل سبب تحول ريكور تجاه فرويد بأن ريكور بدأ كتابه الإرادي
واللاإرادي ليصف الإرادة بطريقة تصويرية من خلال استرجاع حي للصور وكان عليه أن
يقدم تحليلا تجريبيا للإرادة الواقعة في شراك الخطيئة الأ أنه أكتشف أنه لا يستطيع
كتابة الجزء الثالث "شعرية الإرادة". ألا بعد استنباط الشروط التي تتحقق
بها حرية الإرادة المغتربة لتتأسس من جديد لذلك جاء كتاباه "الإنسان
الخطأ" و "رمزية الشر" دون تصوير وصفي للإرادة الواقعة في شراك
الخطيئة .
ومن
هنا شعر بقصور معالجته الأولى للمشكلة وأدرك أنه لا سبيل إلى حلها إلا بعد إنعطافة
تأويلية صوب فرويد (47). ولم يكن فرويد هو النصير الوحيد لهذا النوع من التأويل ،
بل أن ماركس ونيتشه وقبلهما فيورباخ يعتبرهم أباء المنهج الإختزالي وهيرمينوطيقا
الشك وتضيف كريزويل أن منهج فرويد الخاص بالتداعيات الحرة يغدو المنهج الأكثر
ملاءمة لفلسفة ريكور اللغوية(48) ويعطي دون إهدة سببا أخر لإتجاه ريكور صوب فرويد
. فالهيرمينوطيقا الفرويدية الخاصةبالشك تغدو قاصرة في تجاوز الوهم المتعالي وأن
ريكور لا يفعل شيئا أكثر من إقامة هيرمينوطيقا للعقيدة محل الهيرمينوطيقا
الفرويدية (49). وكتاب فرويد والفلسفة في نهاية المطاف ليس كتابا عن فرويد بقدر
ماهو مشغول بتناول طبيعة التأويل . العنوان الكامل للكتاب هو "فرويد والفلسفة
: مقال في التأويل" والعنوان الفرنسي الأصلي ذو دلالة أكبر حيث يقلب فيه طرفا
العنوان الإنجليزي De
L''Interpretation : Une Essai Sur Freud(50).
وعلى
هذا أصبحت الهيرمينوطيقا تظهر كميدان يتداوله أتجاها يميل الأول إلى التفسير
الإختزالي ويميل الثاني إلى استرجاع المعنى الأصلي للرمز. كانت مهمة ريكور تتمثل
في الربط بين هذين المنهجين دون التخلي عن تعريفه السابق للهيرمينوطيقا باعتبارها
النظرية العامة في اللغة الرمزية . وأن يربط التأمل الفلسفي ليس فقط بعلم دلالة
اللغة غير المباشر بل البنية المتصارعة للمهمة التأويلية أيضا.
يقول
ريكور : "يعكس كتابي عن فرويد 1965 هذا التعرف المزدوج ، الأول ضرورة القيام
بمنعطف من خلال العلامات غير المباشرة ، والثاني البنية المتصارعة للتأويلية
وبالتالي لمعرفة الذات فمعرفة الذات هي هذا الجهد من أجل الحقيقة بواسطة الاشتباك
الداخلي بين التأويلية الآختزالي والاسترجاعي (51).
البنيوية
وصراع التأويلات ..
كان
من نتيجة سيادة البنيوية تغير المشهد الفلسفي في فرنسا ، وقد جاء هذا النموذج
الجديد في التفلسف في البنيوية من اللسانيات . ومن المعروف أن النموذج البنيوي
يكمن في التأكيد أساسا على أن اللغة هي نسق من الرموز. وتستخلص البنيوية بما هي
فلسفة نتائج جذرية من هذا النموذج المعرفي تؤثر مباشرة على مسلمات الوجودية . لقد
أطاحت البنيوية كما هو معلوم بأولية الذاتية التي كانت تلح عليه الوجودية بقوة
بنقل إطار التحليل من المقاصد الذاتية إلى البنية اللغوية والسيميوطيقية .
أن
فكرة كون اللغة نسقا مغلقا من العلامات يشير فيها كل عنصر إلى عناصر النسق الأخرى
فقط تستبعد دعوى التأويلية في الوصول إلى ما وراء "الحس" ـ بوصفه
المحتوى الضمني للنص ـ أو إلى "الإحالة" أي مايقوله "عن"
العالم(52).
لقد
بدأ اهتمام ريكور بعلم اللغة 1962 تقريبا على نحو يتصل بالخلاف الذي دار بين ليفي
ستراوس وسارتر . ولقد وجه 1963 التعارضات الثنائية بين الأنية والتعاقب في دراسته
عن "البنية والهيرمينوطيقا" وأقترح إضافة الرمز بوصفه بعدا ثالثا من
أبعاد الزمان ، وذلك على أساس أن الرمز مرحلة تتوسط بين التأمل المجرد والتأمل
العيني لأستخلاص المعنى(53).
يرى
دون إهدة ضرورة أن نجد مكانا لريكور في مخطط النص وأولية الكتابة. لقد دخل ريكور
ساحة الجدال مع البنيوية وظهر نتائج ذلك في كتابه "صراع التأويلات" 1969
وتحت العنوان الفرعي "الهيرمينوطيقا والبنيوية" يردف ريكور سلسلة من
الإجراءات التأويلية بين التأويل البنيوي أساسا والتأويل الظاهرياتي ويتضح من ذلك
أن البنيوية ليست منظور يولي أهمية للتزامن على التعاقب بل كان يحتل موقع النقيض
المقابل للهيرمينوطيقا(54).
وطبقا
لفلسفة ريكور ، إذا كانت البنية هامة فإنها تدل عنده فقط على الخطوط التحديدية
بدلا من أن تشير إلى غرض المعنى وثروته(55) . ويقرر ريكور أنه ينطلق من النص ليصل
عن طريق الدلالة إلى علم دلالة بنيوي وذلك لكي يفسر بطريقة منهجية المعاني
المتعددة للرمزية القائمة في كل الكلمات وأشكال الخطاب وبقدر ما تتأصل الرمزية في
مضمون اللغة وجوانبها التعبيرية على السواء ، وتغدو هذه الرمزية بمثابة السر
الحقيقي للغة لابد للفلاسفة من إعادة الكشف عنها على نحو متصل كما يقول ريكور في
"صراع التأويلات"(56). وكان رد فعل ريكور على البنيوية هو أن يكون أكثر
دراية بالمشكلات اللسانية ثانيا حاول أن يدمج المنهج البنيوي داخل التأويلية
بإقامة رابطة بين مرحلة التفسير الموضوعي ومرحلة الاستحواذ الذاتي .
وهو
يؤكد أن هذا الانتقال في داخل الهيرمينوطيقا من اتجاه رومانسي إلى إتجاه اكثر
موضوعية هو نتيجة رحلة طويلة داخل البنيوية . يقول : "كان على أن أتخلى عن
تعريفي السابق للهيرمينوطيقا بوصفها تأويلا للغة الرمزية إلى وصل التاويل بمشكلات
معينة تطرحها ترجمة المعنى الموضوعي للغة المكتوبة إلى فعل تكلم شخصي سميته
بالاستحواذ" وهكذا يحل السؤال ما الذي يؤول نصا ما ؟ محل ما الذي يؤول اللغة
الرمزية ؟(57) .
الهيرمينوطيقا
الدينية ..
والمجال
الثالث الذي وجد فيه ريكور الدافع للتسوية بين الظاهريات وفلسفة اللغة هو مدارس
اللاهوت بعد بولتمان خاصة مدرسة ايبلنج Ebeling وفوكس Fuchs التي تتبع نفس مسار التطور
لدى ريكور . فقد فرض بولتمان تحديدين أساسيين على نظرية اللغة الدينية . حيث أعتبر
الأسطورة نقيض الرسالة Kerygma
ومن هنا صار نزع الأسطورة عن الأناجيل المشكلة الرئيسية مما حال دون الوقوف عند
سؤال اللغة الدينية بصفته مشكلة . ومن ناحية أخرى كما يخبرنا ريكور كان يجب أعتبار
الفهم نقيضا للتوضيح مما جعل اللاهوت الإنجيلي سجين إشكاليات الهيرمينوطيقا الرومانسية(58).
مما دفع أتباع بولتمان إلى إخضاع مشكلة نزع الأسطورة عن الأناجيل ومشكلة التأويل
الوجودي إلى مشكلة أعم عن لغوية التجربة الإنسانية التي جعلت من الممكن ظهور
النصوص واستجابة التأويل لذلك يقول ريكور: "إن الاستقطاب بين الأسطورة
والرسالة المبلغة فيها من جانب والتأويل والتوضيح من جانب اخر ظهر وكأنه حل جزئي
لعمل اللغة الدينية(59).
وقد
عالج ريكور الهيرمينوطيقا الدينية في دراسته: "هيرمينوطيقا فلسفية
وهيرمينوطيقا توراتية" التي نشرها أولا عام 1975 في الكتاب الذي اشترك في
تحريره مع F.Bouvon , Exegesis .
Problemes de Methode et exercics de lecture Neuchatel . وأعاد نشرها في "من
النص إلى الفعل" . ويهدف ريكور في هذه الدراسة إلى أكتشاف مساهمة
الهيرمينوطيقا الفلسفية في تفسير التوراة . وهو يرى أن هناك علاقة تضمين متبادلة
بين الهيرمينوطيقتين وتبعية الهيرمينوطيقا التوراتية للفلسفة يقول : "لا شئ
يمكن أن يبين الخاصية المركزية للاهوت أفضل من مجهود بتطبيق الإضافة العامة
للهيرمينوطيقا عليها" (60).
يعرض
ريكور لأشكال الخطاب التوراتي ، والكلام والكتابة ويوجه للهيرمينوطيقا التوراتية
بشكل أدق تحذير مهم من الهيرمينوطيقا الفلسفية : التحذير الذي يعني عدم الاستعجال
في بناء لاهوت ما للكلام لا يضم أوليا العبور من الكلام إلى الكتابة (61). ويتساءل
عما يحقق خصوصية الكلام والكتابة التوراتيين من بين بقية أنواع الكلام والكتابة
الأخرى ويجيب أن أصالة النص تكمن في موضوعه اللامحدود.
وسوف
نعرض لقضية تأويل النص في الفقرة القادمة لذا علينا أن نوضح أهتمام ريكور الأساسي
هنا بجعل الهيرمينوطيقا التوراتية ضمن الهيرمينوطيقا الفلسفية باعتبارها الطريقة
الوحيدة التي يمكن الاعتراف بها وبخصوصية الموضوع التوراتي فالكينونة التي تتحدث
عنها التوراة لا يجب البحث عنها في مكان خارج عالم هذا النص الذي هو نص من بين
النصوص (62).
وعلى
هذا يرى ريكور أن ما نحتاجه الأن هو إطار جديد يسمح لنا أن نربط التأويلية
الإنجيلية بالهيرمينوطيقا العامة المفهومة بصفتها السؤال عما هو الفهم في علاقته
بتفسير النصوص وإيضاحها ، وإنه لمن وظيفة الهيرمينوطيقا العامة أن تجيب عن مشكلات
مثل : ما النص؟ ما العلاقة بين اللغة المنطوقة والمكتوبة؟ ما العلاقة بين الفهم
والتفسير في إطار فعل القراءة الشامل؟(63).
الهيرمينوطيقا
واللغة ..
يختتم
ريكور دراسته من الوجودية إلى فلسفة اللغة برابع العوامل التي أسهمت في اهتمامه
بالهيرمينوطيقا الفلسفية وهو التأثير المتزايد للمدرسة الإنجليزية والأمريكية عن
فلسفة اللغة في أبحاثه التي يراها ضرورية في البحث الفلسفي (64). وبالنسبة إليه
فإن مساهمة فلسفة اللغة اليومية ذات جانبين :
الأول
: أن الخاصية الترادفية للكلمات التي نستعملها في اللغة اليومية العادية هي الشرط
الأساسي للخطاب الرمزي ، وبالتالي فهي أكثر الطبقات أساسية في نظرية الاستعارة
والرمز والمثل.
الثاني
: تبدو اللغة العادية كما لدى فتجنشتين وأوستن(65) ـ نوعا من المستودع للتعبيرات
التي حافظت على أقصى الطاقات الوصفية فيما يخص التجربة الإنسانية في مجالي الفعل
والمشاعر .
وتمثل
التميزات الملازمة للكلمات هاديا لكل تحليل ظاهريات . وهو يرى أن استرداد النوايا
والمقاصد في تجارب اللغة هي المهمة الأساسية للظاهريات اللسانية . وليس الظاهريات
فقط بل الهيرمينوطيقا يمكنها أن تستخلص الفائدة من بحث في عمل اللغة العادية .
ويختتم ريكور دراسته بالتأكيد على أنه يمكن تجديد مشكلة التأويل النصي بكاملها
بالتعرف على جذورها في عمل اللغة العادية نفسها(66). وهذا ينقلنا إلى جهد ريكور
التأويلي الذي أطلق عليه من النص إلى الفعل وهو محور الفقرة التالية .
التأويل
من النص إلى الفعل ..
تحددت
معالم التأويل عند ريكور في "من النص إلى الفعل" الذي وضع عنوانا جانبيا
له "أبحاث في التأويل" بعد أن أكد في "فرويد والفلسفة" و
"صراعات التأويلات" شرعية الهيرمينوطيقا فقد قام بالدفاع عن التأويلي
الفلسفي أو الإيجابي ضد ما كان بمثابة تحد سواء من علم الدلالة أو التحليل النفسي
، ووجه اهتمامه إلى تحديد العلاقة بين الهيرمينوطيقا والفينومينولجيا الهوسرلية
وقد تعمق ريكور الفينومينولوجيا ودرس فلسفة هوسرل وترجمها ، ومن هنا يؤكد أن
الهيرمينوطيقا نتاج للظاهريات فقد خرجت الأولى من الثانية ، وذلك بالمعنى المزدوج
للعبارة ، فهي المصدر الذي نشأت عنه وهي كذلك المكان الذي غادرت . كما يتناول
علاقته بالتأويل الفينومينولوجي بعد هوسرل خاصة لدى هيدجر وجادامر كما مر بنا.
كما
يتضح في هذا المجلد خاصية ثانية هي ما يطلق عليه "إعادة التسجيل المتنامية
لنظرية النص في نظرية الفعل حيث تظهر الأولى في الجزء الثاني من هذا العمل لصالح
الاهتمام التطبيقي ، كما تظهر في التدرج فيما يعرضه من أبحاث حيث نجد نقطة البداية
النص وبنيته الداخلية لكن مع قدرته الخفية على إعادة التشخيص وفي نقطة النهاية رسم
تقريبي لمفهوم العقل الفاعل والذي تظهر خاصته في بحثه "نموذج النص: الفعل
الحصيف المنظور إليه كنص"(67).
ويوضح
في الجزء الثالث أهمية النقد التأويلى ..
أن
مهمة الهيرمينوطيقا عند ريكور إذن هي الكشف عن موضوع النص غير المحدود لا عن نفسية
المؤلف أن موضوع النص غير المحدود بالنسبة لبنيته وفي افتراضه هو بمثابة المرجعية
للمعنى. وهو لا يكتفي بالمعنى الذي هو موضوعه المثالي ، بل يتساءل بالإضافة إلى
ذلك عن مرجعيته أي عن مقصديته . وعن قيمة الحقيقة فيه . وهو لا يتوقف عن بنية النص
المماثلة ، بل ما يريد هو توضيح العالم الذي يختطه النص (68)
لم
يعد السؤال كما يرى ريكور تعريف الهيرمينوطيقي كبحث عن البنيات النفسية التي تختفي
تحت النص ، بل كتوضيح للكينونة في العالم التي أبرزها النص. يقول (ما يجب أن يؤول
في النص ، هو افتراض في عالم مشروع عالم يكون بوسعي أن أقيم فيه وأن أقصد فيه أخص
ممكناتي(69).
ويحاول
ريكور إذن خاصة في ( مهمة الهيرمينوطيقا) أن يعالج الهيرمينوطيقا بالدخول في
مناقشة مع علوم النص من اللسانيات إلى التفسير. إن الهيرمينوطيقا عنده هي نظرية
عمليات الفهم في علاقتها مع تفسير النصوص. والفكرة الأساسية الموجهة لديه هي فكرة
إنجاز الخطاب كنص.
إن
الهدف هو التكامل بين الشرح والفهم بدلا من الفصل بينهما كما لدى الهيرمينوطيقا
الرومانسية . لذلك فإن موضوع تشريح الهيرمينوطيقا في أختراقه هو الكلام ، والكلام
المكتوب بالأخص. يقول : "إن إنتاج خطاب ذي معنى واحد نسبيا بكلمات متعددة
المعاني ، والتعرف على نية أحادية المعنى في استقبال الإرساليات هو عمل التأويل
الأول والأكثر بساطة . وهو ما يسميه دلتاي : "تعابير الكلمات الثابتة
بالكتابة" ، هذه التعابير تقتضي عمل تأويل خاص وترتبط بالضبط بانجاز الخطاب
كنص.(70)
يؤكد
ريكور في دراسته مهمة الهيرمينوطيقا إن الهيرمينوطيقا هي نظرية عمليات الفهم في
علاقتها مع تفسير النصوص أي أن الفكرة الموجهة هي فكرة إنجاز الخطاب كنص (71).
وتتضح لنا طريقة ريكور في تأويل النص في دراسته وظيفة المباعدة الهيرمينوطيقية
التي يحدد لنا إشكاليتها في الموضوعات الخمسة التالية :-
1-
إنجاز الكلام كخطاب
2-
إنجاز الخطاب كأثر أدبي
3-
علاقة الكلام بالكتابة في الخطاب
4-
الخطاب كانعكاس لعالم
5-
ماالخطاب وأثر الخطاب كوسيط لفهم الذات .
كل
هذه السمات مجتمعة تشكل المعايير النصية يقول في نفس المقالة : "أنا أربط
المهمة الهيرمينوطيقية بمفهوم (عالم النص) (72) ويضيف أن النص هو الوسيط الوحيد
الذي نفهم من خلاله أنفسنا وهو يسمي نصا كل خطاب تثبته الكتابة .تبعا لهذا التعريف
يكون التثبت بالكتابة مؤسسا للنص نفسه . يؤكد في بحثه الذي يقدم كتاب من النص إلى
الفعل : "إن مهمة الهيرمينوطيقا الأولى بعد أن تخلصت من أولوية الذاتية هي
البحث داخل النص نفسه عن الدينامية الداخلية الكامنة وراء تبنيين العمل الأدبي ومن
جهة ثانية البحث عن قدرة هذا العمل على أن يقذف نفسه خارج ذاته ويولد عالما يكون
هو (موضوع النص اللامحدود) . إن الدينامية والإنقذاف الخارجي يكونان ما أسميه عمل
النص . ومن مهمة الهيرمينوطيقا أن تعيد تشييد هذا العمل المزدوج للنص… (73)
بهذه
المهمة الأولى ترتبط جميع تحليلاتي الرامية إلى تمفصل الفهم بالتفسير وتثيقهما على
ما أسميته "معنى" العمل .
توثيق
وهوامش ..
الدراسة
الاصلية بقلم الاستاذ أحمد عبد الحليم عطية
مراجع
الدراسة والبحث الاصلي ..
(2)
صدر في سبتمبر 2000 كتاب ريكور "الذاكرة والتاريخ والنسيان" الذي يعتبره
الباحثون أخر كتاب فلسفي هام في القرن العشرين وقد استقبل استقبالا حارا وكان حدثا
أعلاميا وقد احتفت فرنسا في الثمانينات بالفيلسوف حين ظهر "الزمن
والسرد" باجزائه الثلاثة . جورج زيناتي : الفلسفة في مسارها ، الأحوال
والأزمنة للطباعة والنشر ، بيروت 2002 ص 312
(3)
أنظر على سبيل المثال الكتب الجماعية الببلوجرافيات حول نصوصه والدراسات حوله في
اللغتين الفرنسية والإنجليزية .
D. Vansina , A primary
and Secondary Systematic Bibliography of Paul Ricoeur 1935-1984, Louvain , - la
– Newe : Editions Peeters , 1985.
والقائمة
التي أعدها ماريو ج . فلاديس في
A Ricoeur Reader:
Reflection and Imagination, Uni, of Tranto Press 1991 P.499-503
والكتب
الجماعية التالية حول فلسفته :
Lewis Edwin Hohn : the
Philosophy of Paul Ricoeur , Chicago and Salle.,
سلسلة
مكتبة الفلاسفة الأحياء ، المجلد (22)
David Wood : On Paul
Ricoeur Narrative and Interpretation , London and New York , 1991.
وللعمل
ترجمة عربية تضم معظم دراسات قام بها د. سعيد الغانمي
(4)
لم تحظ العربية إلا بدراسات قليلة للغاية حول بول ريكور وأن ظهرت في العقدين
الأخيرين ترجمات متعددة لأعماله ودراسات حوله مثل :
النص والتأويل (في من النص إلى الفعل) ترجمة
منصف عبد الحق ، الفكر العربي المعاصر، العدد الرابع صيف 1988§
إشكالية ثنائية المعنى (صراع التأويلات) ترجمة
د. فريال غزول ، مجلة ألف ، العدد §
الخيال الاجتماعي ومسألة الأيديولوجيا
واليوتوبيا ، ترجمة منصف عبد الحق ، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية ، العدد
السابع عام 1988§
من الاستقلال الأخلاقي إلى وهم العقد الاجتماعي
، ترجمة فؤاد شاهين، مجلة الفكر العربي المعاصر ، بيروت العدد 73 عام 1992§
ما هو النص ، ترجمة د. عبد الله عازر ، العرب
والفكر العالمي ، بيروت العدد 12 خريف 1990 §
البلاغة الشعرية والهيرمينوطيقا ، مصطفى النحال
، مجلة فكر ونقد، الدار البيضاء، العدد16 فبراير1999§
أيديولوجيا العصور الحديثة، دفاتر فلسفية، العدد
السادس عن الحداثة،محمد سبيلا،عبد السلام بنعبد العالي §
عدة نصوص في كتاب أنا أفكر ، الصادر عن المركز
القومي البيداغوجي بتونس من التاريخ والحقيقة وصراع التأويلات §
وأهم
عملين ترجما لريكور هما :-
*
من النص إلى الفعل أبحاث في التأويل (الذي سنعتمد عليه بصفة خاصة في دراستنا
الحالية ، ترجمة محمد برادة، حسان بورقيبة ، دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية
والاجتماعية ، القاهرة 2001
*
محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا تحرير وتقديم جورج هـ تيلور ، ترجمة فلاح رحيم
، دار الكتاب الجديد المتحدة ، بنغازي 2002 ،
الهوية والسرد ، ترجمة د. سعيد الغانمي ، مجلة§
القاهرة العدد 81 نوفمبر 1997 وعدة نصوص له وعنه في كتاب دفيد وود ، ترجمة سعيد
الغانمي ، وقد ترجم عدد من الدراسات حوله مثل ريكور فيلسوف المعنى في كتاب جان
لاكروا : نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة ترجمة د. يحيى هويدي وأنور عبد
العزيز، دار المعرفة ، القاهرة 1975 والهيرمينوطيقا والبنيوية لأديث كريزويل في
كتابها عصر النيوية ، ترجمة د. جابر عصفور ، دار سعاد الصباح 1993 والدراسات حوله
قليلة مثل دراسة د. محمد هاشم رسالة دكتوراه غير منشورة وعنها دراسته في ظاهريات
التأويل : قراءة في دلالات المعنى عند بول ريكور ، مجلة فصول ، والفصل الذي خصصه
د. جورج زيناتي تحت عنوان بول ريكور "الحاكم والحكيم" ، وواقع الفلسفة
مع بداية الألف الثالث في كتابه الفلسفة في مسارها عام 2002 ودراسة د. منى طلبة :
قراءة لمفهوم الحكاية عند ليوتارد وريكور كمنظرين متقابلين لما بعد الحداثة ،
قضايا فكرية الكتاب 29، أكتوبر 1999 ص 421-453.
(5)
جورج زيناتي ، الفلسفة في مسارها ص 312 –313
(6)
Charls E. Reagan : Paul
Ricoeur : His Life and His Work . the Uni., of Chicago press . Chicago – London
1996.
(7)
S.H. Clork : Paul
Ricoeur , Routledge , London and New York , 1990.
( Mario J . Valdes : A. Ricoeur Reader :
Reflection and Imagination Uni., of Toronto Press 1991.
(9)
Henry Isaac Venena :
Identifying Selfhood Imagination , Narrative, Hermeneutics in the thought of
paul Ricoeur . State uni., of New York Press 2000.
(10)
John B. Thompson :
Gritical Homeneutics Astudy in the Thought of P. Ricour and J. Habrmas ,
Cambridge Uni ., Press. 1981
(11)
Bernard P. Dauenauer :
P. Ricoeur. The Promise and Risk of Politics, Rowmon littlefied Publishers Ins
New Yorc , 1998.
(12)
Bourgeois , Potrick :
Extension of Ricoeur’s Hermeneutic, the Hague, Njhoff.(1975)
Gerhart , Mary P.Ricoeur’s Notion of diagnostics : its function in
literary interpretation the journal of Religion (1976) 56: 137-53§
Ihde , Don Hermeneutic Phenomemenolgy the Philosophy of P.Ricoeur.
Evanston : Northwesterm Uni., press §
Klemm , David . (1983) the Hermeneutical theary of P.Ricoeur : A
Construcliue Anolyis . lewisbwrg London – Taronto : Bucknell Uni, press –
Associated Uni, press §
(13)
David wood : On Paul
Ricoeur Narraliue and Tnterpretation Routldge London, New York. 1991
(14)
Lewis Edwin Hohn : Paul
Ricoeur Phlosophy
(15)
جورج هـ . تيلور : مقدمة نشرته" محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا"
ترجمة فلاح رحيم ، دار الكتاب الجديد المتحدة بنغازي 2002 ص 5
(16)
بول ريكور : من الوجودية إلى فلسفة اللغة ، في ديفيد وود ، ترجمة سعيد الغانمي ،
المركز الثقافي العربي ، بيروت 1999.ص 269-270
(17)
ريكور : في التأويل في "من النص إلى الفعل" ص 8
(18)
يرى هيدن وايت "أن الزمان والسرد" ينبغي أن يعد أهم عملية تأليفية بين
النظرية الأدبية والنظرية التاريخية في قرننا هذا ، أن الأطروحة الرئيسية في
الزمان والسرد هي أن الزمانية هي بنية الوجود التي تصل اللغة في السرد ، وأن
السردية هي بنية اللغة التي تكون الزمانية مرجعها الأخير . وتظهر هذه الصياغة في
دراسته المبكرة الزمان السردي 1980 التي يشير فيها إلى أن حقيقة السرد تقوم على
فكرة الطبيعة السردية للزمان نفسه هيدن وايت : ميتافزيقا السردية ، الزمان والرمز
في فلسفة التاريخ عند بول ريكور في ديفيد وود فلسفة بول ريكور ترجمة سعيد الغانمي
ص 187-188
(19)
بول ريكور : عن التأويل ، من النص إلى الفعل ترجمة محمد برادة ، حسان بورقيبه ،
دار عين للنشر ، القاهرة 2001 ص 14
(20)
جان لاكروا : نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة ترجمة د.يحيى هويدي ، د.
أنور عبد العزيز ، دار المعرفة ، القاهرة 1975 ص 45
(21)
المرجع السابق ص 46
(22)
ريكور : عن التأويل ص 19-20
(23)
أنظر عن شلايرماخر بول ريكور في من النص إلى الفعل "مهمة الهيرمينوطيقي :
إنحدارا من شلايرماخر ودلتاي " ص58-77
(24)
ريكور : عن التأويل ص 21
(25)
ريكور : هوسرل ، تحليل لفلسفته الفينومينولوجيا 1967 ص 6 نقلا عن أديث كريزويل :
الهيرمينوطيقا والبنيوية في عصر البنيوية ، ترجمة جابر عصفور ، دار الصباح ،
القاهرة 1993 ص 138
(26)
كريزويل : المرجع السابق ص 138
(27)
ريكور : ظاهريات وهيرمينوطيقا في من النص إلى الفعل ص 35
(28)
المصدر نفسه ص 37
(29)
المصدر نفسه ص 39
(30)
المصدر نفسه ص 42
(31)
نفس الموضع
(32)
ريكور : ظاهريات وهيرمينوطيقا ص 43
(33)
المصدر السابق ص 53
(34)
أديث كرويزويل ص166
(35)
كيفين فانهوزر : أسلاف فلسفة ريكور في "الزمان والسرد" في ديفيد وود ص
60
(36)
المرجع السابق ص 67
(37)
سنعرض لاحقا للعلاقة بين فلسفة هيدجر في التأويل وتطوير ريكور لها
(38)
ريكور : المصدر السابق ص 22
(39)
ريكور : الوجود والهيرمينوطيقا نقلا عن "من النص إلى الفعل" ص
(40)
المرجع نفسه ص 85
(41)
المرجع نفسه ص 85
(42)
جان لاكروا ص 51
(43)
سعيد الغانمي : الفلسفة التأويلية عند بول ريكور مقدمة ترجمة كتاب ديفيد وود
الوجود والزمان والسرد ص 11
(44)
بول ريكور : من الوجودية إلى فلسفة اللغة ، في ديفيد وود ، ص 271
(45)
المصدر السابق ص 272
(46)
أديث كريزويل ، ص145
(47)
المرجع السابق ، ص148
(48)
Iha : Hermeneutic
Phenomenology P.150 عن كريزويل ص 151
(49)
جورج . هـ . تيلور : مقدمة محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا ، ص 7-38
(50)
بول ريكور : من الوجودية إلى فلسفة اللغة ، ص274
(51)
الموضع السابق
(52)
أديث كريزويل ص 160
(53)
دون اهدة : النص والتأويلية الجديدة في ديفيد وود ص 64
(54)
جان لاكروا ، ص51
(55)
أديث كريزويل ص 161
(56)
بول ريكور : من الوجودية إلى فلسفة اللغة ، ص276
(57)
الموضع السابق ص 276
(58)
المصدر نفسه ص277
(59)
ريكور : هيرمينوطيقا فلسفية وهيرمينوطيقا توراتية في "من النص إلى
الفعل" ص 91
(60)
المصدر السابق ص 94
(61)
المصدر السابق ص 98-99
(62)
ريكور : من الوجودية إلى فلسفة اللغة ص 277
(63)
المصدر نفسه ص278
(64)
Cff . John B. Thompson :
Gritical Homeneutics Astudy in the Thought of P. Ricour and J. Habrmas , Cambridge
Uni ., Press. 1981
(65)
ريكور : من الوجودية إلى فلسفة اللغة ص 279
(66)
ريكور : مقدمة من النص إلى الفعل ص4
(67)
ريكور : ظاهريات وهيرمينوطيقا في "من النص إلى الفعل" ص 42
(68)
ريكور : مهمة الهيرمينوطيقا في "من النص إلى الفعل" ص 59
(69)
بول ريكور : من أجل ظاهريات هيرمينوطيقية في من النص إلى الفعل ص42
(70)
بول ريكور : من النص إلى الفعل ص 60
(71)
بول ريكور : مهمة الهيرمينوطيقا "من النص إلى الفعل" ص58
(72)
بول ريكور : وظيفة المباعدة الهيرمينوطيقية "من النص إلى الفعل" ص78
(73)
بول ريكور : عن التأويل "من النص إلى الفعل " ص25
انتهت
الدراسة .. ولكن مسار الهيرمينوطيقا بعد لم ينتهي !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق