التأويل في الغرب: النشأة والمفهوم
ـــ د.فؤاد عبد المطلب
(عن منتديات ستار تايمز)
تعني كلمة hermeneutics التأويل
"أي علم التفسير أو فنه وقد كان التأويل في الأصل مقتصراً على تفسير الكتب
المقدسة، لكن مجاله اتسع خلال القرن التاسع عشر ليشمل قضية التفسير النصي برمتها.
ويعد المفكران الألمانيان شلايرماخر وديلثي سلفا هايدغر الأكثر شهرة في هذا المجال؛
أما خلفه الأشهر في هذا المجال؛ أما خلفه الأشهر فهو الفيلسوف الألماني المعاصر
هانز جورج غادامير(1). وتؤلف أعمال غادامير جماع القول على نحو ما في بحث التأويل،
وذلك لأن "العودة إلى غادامير هي عودة إلى الأصول، فقد احتل الاهتمام
بالتأويل مساحة معرفية واسعة ضمن مشروعه الفلسفي(2)".
أما نظرية التأويل ــ وعلى خلاف التفسير ــ هي بحث نظري أكثر
منه تطبيقاً، واهتمت هذه النظرية في بادئ الأمر بكيفية تفسير النصوص، ثم أصبحت في
القرن التاسع عشر ومع اهتمامها بتفسير النصوص على نحو رئيسي نظرية استيعاب بذاتها،
معالجةً في الوقت نفسه العديد من النصوص مثالاً على حدوث التفاهم بين الأفراد. في
بداية الأمر أخذت هذه النظرية بالتطور بوصفها فرعاً رئيسياً في دراسات الكتاب
المقدس لكن سرعان ما بدأت تعاني من مشكلة البعد بين النص والقارئ، هذه المشكلة
التي تؤدي إلى غموض المعنى. ويجدر القول إن بزوغ هذه النظرية كان في أواخر القرن
الثامن عشر عندما حذر جوهان هردر من النسبية الثقافية، وكذلك عندما أخذ التوسع في
هذه النظرية يشمل دراسة الكتاب المقدس من وجهة نظر علمانية، وفتح ذلك آفاقاً جديدة
لفهم الأدب الكلاسيكي، وكذلك أحدث تغيراً في فهم الكتاب المقدس بوصفه نصاً. بدأ
هذا البعد يرى من وجهة نظر ثقافية وتاريخية أكثر منها لاهوتية.
وعلى الرغم من الإعاقة الناجمة عن اختلافات تاريخية وثقافية بين
المؤلف والقارئ، كان لنظرية التأويل في القرن التاسع عشر ــ دائماً ــ غاية ألا
وهي استرجاع المعنى الصحيح للنص. ويرى واضعو النظريات في القرن العشرين هذه
الاختلافات جوهرية في تكوين نصٍ ما لا سيما وأن معناه قابل للتغير بشكل مطرد.
على أية حال علينا أن نكون حذرين في التمييز بشكل كبير بين
نظرية التأويل الرومانتيكية والحديثة، لا لأن مفهوم المعنى الثابت ما زال يمتلك
مؤيدين حتى الآن، بل لأن الكثير من أفكار الباحثين المعاصرين والبارزين مثل هانز
جورج غادامير وبول ريكور موجودة إما بشكل واضح أو بشكل أولي في كتابات أسلافهم.
كان التأويل قبل القرن التاسع عشر يتطابق معناه مع التفسير
النصي على أنه عملية تقود إلى معنى صحيح واحد، والطرق للوصول إلى ذلك المعنى هي
بشكل رئيسي تلك التي تنادي بها نظرية فقه اللغة التاريخي الكلاسيكية. وهكذا فإن
المعايير الوحيدة بالنسبة إلى ج.أ. إرنستي كما جاءت في كتيب له عن التأويل لعام
1761، هي استخدام الكلمات والإحاطة بالأحداث التاريخية المؤثرة في استخدامها بالإضافة
إلى قصد المؤلف. أما بالنسبة إلى ف.أ. وولف (1759 ــ 1824) الذي أشار عمله مسبقاً
إلى تعريف لغوي لفقه اللغة بشكل أقل ضيقاً في الأفق يزودنا به أحد تلامذته ويدعى
فيليب أوغست بوكيه (1785 ــ 1867) وذلك أن تأسيس المعنى ينجز خلال مراحل ثلاث
للتأويل: المرحلة النحوية والتاريخية والفلسفية، أي إن دراسة النص تتم بالنظر إلى
اللغة، دون أن نغفل الحقائق التاريخية وتلك الخاصة بسيرة المؤلف وكذلك الأفكار
التي يدور حولها النص. أما نظرية التأويل لدى وولف فتحاول "أن تستنبط أفكار
مؤلف ما تلك المكتوبة أو حتى المحكية كما يريدها هو أن تفهم(3)". بيد أن
المعنى ليس دائماً مكافئاً للمعنى الأصلي. ويرى كل من ج.س سيملر وج.إي. ليسنغ
التأويل شكلاً من أشكال "إزالة الأسطرة" التي من خلالها يتم فهم فحوى
العمل وترجمته إلى مصطلحات منطقية حديثة. ومع التسليم أن التأويل إلى حد ما يمتلك
بعداً تاريخياً، فإن هؤلاء الكتاب يحاولون ــ بلا شك ــ الاحتفاظ بفكرة المعنى
الموضوعي عن طريق إيقاف عجلة التاريخ عند الفترة الخاصة بهم. إن نظرية التأويل
التنويرية هي نظرية علمية تهتم بالنص وسياقاته أكثر من اهتمامها بالمترجم أو
المؤلف وتلتزم معنىً موضوعياً وهو ليس بالضرورة المعنى الأصلي.
تقدم نظرية التأويل الرومانتيكية منحيين بعيدي المدى، لم يكتشف
أثرهما الحقيقي حتى الآن: وهما الاهتمام بعملية التأويل والإحاطة بالفترة
التاريخية الخاصة بها. ومع قدوم فريدريك أست (1778 ــ 1841) وكذلك فريدريتش
شلايرماخر (1768 ــ 1834) بدأت نظرية التأويل الخاصة بفقه اللغة التاريخي تقسم إلى
تأويل فلسفي يركز جل اهتمامه على أفعال الفهم التي يكون النص فيها مجرد مناسبة
أكثر من اهتمامه بإنشاء معنىً للنص، لكن سلطة نظرية فقه اللغة التاريخي الآخذة
بالتضاؤل تبدو أكثر وضوحاً في عمل أست، الذي قام باستبدال التأويل الفلسفي لوولف
بآخر إيحائي: أي أنه فهم رومانتيكي في التفسير المجازي لمستوى التأويل الباطني
الذي من خلاله يقوم الناقد بتفسير النص في علاقته بروح العصر على أنه جزء من
المجموع التاريخي للعالم. بالإضافة إلى منهجية تحدد معالم مستويات التأويل. ويقدم أست
فلسفة للفهم معتمدة على فلسفة الهوية لـ ف. دبليو.ل. شيلنغ. يسير شلايرماخر في
اتجاه ما بعد نظري مع أنه أكثر اهتماماً بفقه اللغة من أست، مع التأكيد على قواعد
خاصة للتفسير يجب أن توضع على أساس نظرية عامة جوهرها كيف نقوم بعملية الفهم.
والنتيجة لذلك هي انتقال الاهتمام من شرعية التفسير إلى دراسة ظواهر القراءة
والإطلاع على كل من ذات القارئ والمؤلف. ولأن نظرية التأويل الخاصة بـ شلايرماخر
كانت قد تطورت خلال فترة زمنية طويلة (1805 ــ 1832) في محاضرات مبعثرة لم تنظم في
كتب، لذا علينا أن نكون حذرين في قراءة أعماله قراءة مقتضبة.
إن وجهة النظر التقليدية التي يقدمها ويلهلم ديلثي(4) (1833 ـ
1911) الذي يتتبع في كتابته لسيرة شلايرماخر تأثره ببحث غوته الذي يدور حول
الوحدات المتكاملة، هذا البحث الذي تتلاحم أجزاؤه فيما بينها كما لو أنه كائن حي.
كما يضع ديلثي شلايرماخر في سياق اعتقاد ما بعد (كانتي) الذي يؤمن بالمقدرة
الإنسانية على فهم الكل من الداخل بدلاً من شرحه بشكل متقطع.
وفقاً لوصف شلايرماخر المعروف لعملية الفهم، هناك تفسير نحوي
يتناول منهجياً النص بلغة المعنى مركزاً على الكلمات خاصة، لكن هذا النوع من الفهم
يجب أن يتمم بنوعٍ آخر ألا وهو التفسير النفسي، الذي يتم فيه إبراز العملية
الإبداعية وذات المؤلف. كلا المنهجين ضروريان لبعضهما البعض، لأن تحليل العمل
وفقاً لمفاهيم نظرية فقه اللغة التاريخي فقط هي عملية غير مجدية، على حين تبدو
دراسة الحدس الخاص بالعمل وفقاً لنظرية علم الظواهر نتاجاً لوعي المؤلف دراسةً
غامضة وملغزة وغير بحثية. إن التعارض في حلقة التأويل هي أننا لا نستطيع أن نفسر
أجزاء النص اللغوية والبنيوية إلا في ضوء الكل وكذلك هو الحال بالنسبة للكل كما
تعبر عنه الأجزاء. ويترجم شلايرماخر نظرية التأويل إلى مصطلحات رومانتيكية مميزة
مع التأكيد على أن التفسير يجب أن يستوعب النسيج الداخلي للنص أو ما يسميه صمويل
تيلر كولردج "الجوهر" وهو الذي يمكن تمييزه عن "الشكل"(5)
الذي يمكن استنساخه. إن إسهام شلايرماخر في نظرية التأويل الحديثة كما يزودنا به
ديلثي يكمن في نقل هذه النظرية من حقل تقني إلى شكل من أشكال التبادل أو الالتقاء
الإنساني.
وبما أن حياة الناس الآخرين معطاة لنا بأشكال خارجية مثل
الأعمال والكتابات، إلا أننا نرى وجود توضعات مشتركة ومتراكمة للطبيعة الإنسانية
يسمح لنا بأن نستنبط "الشخصية المميزة لإنسان آخر" من الداخل عن طريق
ترجمة إشارات خارجية مستمدة من حياتنا الخاصة، ويعرف هذا النوع من القراءة كما
تصفه نظرية التأويل للكتاب المقدس بالقراءة التطبيقية. وهكذا فإن نظرية التأويل
ليست منهجاً يقدم لقراءة النصوص إنما هو وسيلة للتغلب على الهوة الثقافية وتوسيع
آفاقنا، لكن نظرية التأويل العائد لشلايرماخر ممثلة بديلثي تخدم أيضاً واضعي
النظريات الحديثة على أنها نقطة جدلية للمقارنة. إنه رومانتيكي بشكل مميز في
اعتقاده أن الالتقاء الثقافي ينتج عنه هوية بسيطة بين المؤلف والقارئ، كما أن
المعنى مقتصر على المعنى الذي يقصده المؤلف. ويعتقد شلايرماخر أيضاً أن نقصاً
معيناً في النص المكتوب يمكن التغلب عليه عبر التواصل الذي يتجاوز البعد اللغوي
بين الأشخاص. إن وجهة النظر التي تقول بأن علينا أن نقرأ "الخلاصة
الوافية" لعام 1819 فقط ربما تبدو دقيقة، لكن "الخطابات الأكاديمية
"لعام 1825 والمحاضرات الأخيرة غير المترجمة تكشف النقاب عن نزاعات من شأنها
أن تضع شلايرماخر في موضع أكثر قرباً مما هو متوقع من مناوئيه في العصر الحديث.
وهذا بدوره يعود إلى سبب واحد هو أن مفهومه للتفسير النفسي يصبح أكثر تعقيداً بشكل
مطرد، ما إن يبدأ فإنه يشمل تحليل ما يمكن أن تتضمنه الأفكار أو ما تدور حوله
والتي لا يتم الإفصاح عنها في النص بشكل صريح. يتم النظر إلى العلاقة بين الخطوط
الثلاثة للفكرة والسلسلة الرئيسية على أنها مصدر من مصادر التعقيد فضلاً عن أنها
مصدر من مصادر الإغناء. وهكذا يصبح الفهم إدراكاً لعملية أكثر منه تمسكاً بقصد
مرتبط بالأصل.
على الرغم من أن شلايرماخر يختلف عن غادامير بإلحاق القارئ
بالمؤلف، إلا أن إدراكه بأن المؤلف هو كيان معقد بشكل كبير ناشئ من الخطاب مع
الآخرين، وهذا بدوره يعقد استخدام المؤلف كأداة لتحديد معنىً للنص، وهذا المعنى
غير متناغم مع نظرية التأويل التي تسمح بقراءات مختلفة. إن مفهوم شلايرماخر حول
التفسير "الإلهي" أو التنبئي" مهم جداً في عدم التأسيس بالنسبة إلى
المعنى الأصلي، ويجدر بالذكر أن هذا النوع من التفسير تم الإشارة إليه في عمله
"الخلاصة الوافية"، إذ إن التمييز بين القراءة "الإلهية"
والقراءة "التاريخية" يتقاطع مع التقسيم الأساسي بين التفسير النحوي
(الموضوعي) والتفسير النفسي (الذاتي). فعلى سبيل المثال، إن قراءة تاريخية على
المستوى الذاتي تعيد صياغة قصد المؤلف، لكن قراءة إلهية ذاتية تبرز معنىً جديداً
لم يتم التعبير عنه بعد في النص، وهذا ما دفع شلايرماخر لإطلاق عبارته المشهورة أن
القارئ يفهم النص بطريقة أفضل من المؤلف ذاته. بلا شك إن السعي وراء التفسير خارج
نطاق الطبيعة يعقد أي مفهوم مادي للنص بوصفه يحتوي معنىً واحداً ويسمح بالاختلاف
بين النص والقراءة في المستقبل كما يرى غادامير.
لقد طورت فكرة التفسير الإلهي إلى معنى أوسع من قبل شيلنغ في
مقدمته لكتاب "عصور العالم"، و ج.دبليو.ف. هيغل (1770 ــ 1831) الذي
يعزز الانتقال الرئيسي الثاني الذي طرحته نظرية التأويل الرومانتيكية نحو إدراك
التفسير بوصفه متغيراً تاريخياً. على الرغم من اهتمامه بالكينونة أكثر من اهتمامه
بالنصوص، يعد هيغل مهتماً في البدء بالتوسع في نظرية التأويل الأدبية لتشمل معنىً
عاماً للتأويل يهتم بجميع نتاجات الروح البشرية التي تقف وراء اختلاف العمل بالذات
لكلٍ من ديلثي وريكور.
في كل من "دراسة ظواهر العقل" (1807) والمحاضرات
الملقاة بين 1823 ــ 1829 حول علم الجمال، يلجأ هيغل إلى طريقتين مستمدتين من
نظرية التأويل من أجل قراءة نص ذي تاريخ فكري أو من تاريخ الفنون. وفي هذا السياق
يؤكد هيغل القراءة النحوية التي تذعن فقط لتسلسل متقطع للأشكال والأحداث من خلال
قراءة نفسية ترى الأشكال الثقافية جزءاً من كلٍ إيحائي لما يتم الكشف عنه بعد.
بمعنى آخر إنه يكسر حلقة نظرية التأويل عند مستوى التاريخ. فهو يرى أن اللحظات
التاريخية للفرد يمكن أن تؤول فقط في سياق التاريخ الكلي للروح، تماماً كما حاجج
الكثير من واضعي النظريات الأقدم: إن أجزاء النص يجب أن تقرأ بالنظر إلى الكل كما
أن النص ذاته يجب أن يوضع في سياق معيار المؤلف. لا شك أن ما يميز هيغل عن أسلافه
هو أنه أعطى المعنى بعداً تاريخياً. علاوة على أن القراءة التاريخية لم تعد عرضةً
لإعادة البناء أو متوازنة ولا حتى إعادة القراءة المتنورة للماضي من قبل الحاضر،
بل إنها نافذة العبور للماضي والحاضر باتجاه المستقبل. وهكذا يعبد هيغل الطريق
للماركسيين أمثال فريدريك جيمسون الذي يصف نفسه بأنه أعاد إحياء فكرة فهم التاريخ
على أنه بعداً من أبعاد نظرية التأويل التي نشأت عنها النظرية البنيوية التي طرحها
ألثاسور(6).
يستخدم جيمسون مصطلح نظرية التأويل بشكل مجازي ليشمل فهم
الظواهر السطحية التي تبدو غير قابلة للقراءة، بحيث تشير هذه الظواهر إلى ضرورة
أكثر إلحاحاً (لكنها غير معروفة) تعمل على ربط هذه الظواهر بعضها ببعض. لكن إذا
كان هيغل يبتعد عن القراءة الفقهية اللغوية للأشكال الثقافية بلغة معانيهم الأصلية،
فإنه يغلق أيضاً عملية التفسير بالاستعاضة عن المعنى الأصلي بمعنى غائي. هذا النوع
من التوقع والانحراف يميز العلاقة بنظرية التأويل الحديثة لديلثي التي غالباً ما
يتم مطابقتها بالخطأ مع شلايرماخر.
ومع بداية القرن الجديد، يتابع ديلثي اهتمامه الرومانتيكي
بالتاريخانية دون النظر إلى اهتمام هيغل بما وراء النص غيبياً أو اهتمام شلايرماخر
بالتحليل النفسي. إنه يوسع آفاق نظرية التأويل في دراسة النصوص إلى دراسة
"تعابير الحياة" متوقعاً انهيار الحدود الخاصة بالفروع المعرفية التي
نشاهدها عند إجراء الدراسة اعتماداً على علم الإشارات. ويتم تمييز الأشكال
الثقافية بأنها تاريخية، لكن ديلثي لا يجسم التاريخ عن طريق تثبيت الروح خلفه وهي
التي يستطيع من خلالها المترجم الاتصال بالنص. وبشكل مشابه، لدى دراسة النصوص نجد
أنه ليس مهتماً بالتواصل مع المؤلف ويعرف الشكل الداخلي المفهوم عن طريق نظرية
التأويل على أنه "تركيب ذهني" يتم ابتكاره عن طريق عمليات تتم في عقل
الشاعر.. لكنه قابل للفصل عنهم"(7). إن حداثة ديلثي بالذات تبدو أقل قرباً من
شلايرماخر في علاقته بالمنظرين المعاصرين الذين يقولون بعدم التحديد في المعنى
الذي يظهر جلياً إذا تعرفنا طريقته والتي تعرف بنظرية التأويل التركيبية. إنه أحد
رواد نظرية التأويل من خلال تأكيد التجربة الحية من خلال تعابير ثقافية أكثر من
تقليل التجربة إلى مجرد نظام تبادل إشارات. لكن يوصف المعنى الضمني للإشارات من
خلال مصطلحات مثل "التركيب" و"النظام"، وتتبع نظرية التأويل
حسب اهتماماته نماذج متداولة في تعابير الحياة بغية تصنيفها أكثر من كونها رغبة في
كشف النقاب عن التعقيد غير القابل للتبسيط. وتتكرر هذه النزعة لإغلاق المعنى في
نظرية التأويل الخاصة بديلثي التي ترتكز على مفهوم التاريخ. وهو يرفض التاريخ
التجريبي وكل ما هو غيبي وراء التاريخ الذي ينسب إليه المعنى الأصل، ويطبق ديلثي
(كانتية) تاريخانية. ويجدر بالذكر أن ديلثي يعمل على إنشاد سرد غائي ولكنه شامل
لوجهات النظر العالمية، إنه مجرد تصنيف لكنه ليس إيماناً بالآخرة.
نستطيع في الختام أن نقسم نظرية التأويل في القرن التاسع عشر
إلى حقبتين: الأكثر قدماً منهما هي الأكثر تطرفاً. وفي حقبتها الرومانتيكية تفتح
الطريق إلى الوعي المعاصر في عدم ثبات المعنى بالنظر إلى المعنى على أنه عملية
تاريخية ونفسية أكثر منها نتاجاً منتهياً. وبما أن واضعي النظريات يتهيبون هذه
العملية عن طريق تصورها بشكل غائي، نجد أن هذه الحقبة وصلت ذروتها في عمل سورين
كيركارد الذي حافظ على الاهتمام الرومانتيكي بالذاتية وألغى الانغلاق والغائية.
فقد حاول كيركارد في كتابه "مفهوم السخرية" (الذي قدمه أطروحة عام 1841)
تقديم نظرية تأويل لنص ساخر قابل للتفكيك بشكل ذاتي، وهدفه بذلك تحديد الخطوط
العريضة لمشروع رسالته ضمن إطار البحث. على حين أنه في عمله "وجهة نظر لعملي
مؤلفاً"، يتجاوز العتبة فاصلاً نظرية التأويل عن نظرية استجابة القارئ
ونقدها.
ويقدم كيركارد في هذا الكتاب تفسيراً ذاتياً يعود لتفسير معياره
الخاص، فقط ليفكك سلطته مقترحاً أن المؤلف ما هو إلا قارئ. بالمقارنة ومع ذلك
أصبحت نظرية التأويل في القرن التاسع عشر في حقبتها الحديثة أكثر تزمتاً.
يرجع د.ف. شتراوس (1808 ــ 1874) إلى نظرية التأويل المتخصصة
بالكتاب المقدس مركزاً على الأمور المثيرة للجدل والموجدة ضمن الأناجيل وبينها
التي أثرت في عمل شلايرماخر وحفزته بشكل رئيسي. وعندما اهتم من سلفه في عمليات عدم
ثبات المعنى في ما وراء النص، كان شتراوس أكثر اهتماماً بكيفية تحديد التأويل عن
طريق سلسلة من المجتمعات التفسيرية. وفي مجال أوسع فيما يخص نظرية التأويل
والتفسير يبتعد ديلثي على نحوٍ مشابه عن الانغلاق الغيبي، لكن ذلك فقط في خطوة
للتقرب من البنيوية التاريخية، التي يثبت فيها التفسير تعابير الحياة أكثر من
السماح لها بالاستبدال في الحوار بين الماضي والحاضر.
يترافق التحديد الرئيسي في نظرية التأويل في القرن العشرين مع
عمل مارتن هايدغر (1889 ـ 1976) وتلميذه هانز جورج غادامير. ويمكن تلخيص التحول
العام الذي أيدوه بثلاثة مجالات: أولاً، بالمقارنة مع التقاليد المعروفة منذ حركة
التنوير على الأقل، لم تعد نظرية التأويل تهتم بشكل حصري بتفسير الوثائق المكتوبة
أو الأحاديث وترجمتها؛ ثانياً، خلافاً لنظرية التأويل الرومانتيكية وذلك ابتداءً
بـ فريدريك شلايرماخر وانتهاءً بديلثي، إن هدف التأويل ليس مركزاً على التواصل أو
دراسة نفسية شخص آخر. ثالثاً، فإن نظرية التأويل لكل من هايدغر وغادامير تقوم
بدراسة تمهيدية لتستكشف عالماً أقدم وأكثر أهمية من عالم ديلثي الذي يفصل العلوم
الطبيعية عن العلوم الإنسانية. كما تبتعد نظرية التأويل في القرن العشرين عن ساحة
المعرفة التي أثرت فيها جميع نظريات التفسير السابقة وتدخل إلى منطقة "علم
الوجود الجوهري" حسب عبارة هايدغر، ويعني هذا أن التأويل لا يمكن تصوره بشكل
انتقالي لأننا لسنا مهتمين بتفسير شيء ما، بل إن التفسير ينبغي أن يفهم على أنه
طريقتنا للوجود في هذا العالم، وتلك طريقة في الوجود سابقة لأي معرفة أو نشاط
فكري. هكذا فإن نظرية التأويل الوجودية تستعيض عن سؤال الفهم الذي يعنى بمعرفة ما
يدور في هذا العالم بسؤال عن الوجود في هذا العالم.
وينحصر اهتمام هايدغر الأساسي في نظرية التأويل في عمله
"الوجود والزمن". إنه ينظر في الحقيقة إلى علم الظواهر لدى الوجود
الميتافيزيقي على أنه مهمة تأويلية بشكل أساسي. ويرى أن الفهم شيء سابق على
المعرفة، لا يفرض جوهره فقط الإلمام بالوضع الراهن بل يتعدى ذلك إلى التطلع إلى
المستقبل. ويجب أن يكون ملماً بإمكانية الوجود التي ينادى بها الوجود
الميتافيزيقي، إمكانية الوجود التي تعتبر شيئاً أساسياً في تركيب الوجود
الميتافيزيقي.
وهكذا فإن نظرية التأويل تشمل مظهرين في فكر هايدغر. إن عملية
الفهم تظهر من الناحية الأولى النظام الوجودي الأقدم للوجود الميتافيزيقي، ومن
ناحية أخرى، يشمل التفسير إمكانية الوجود الميتافيزيقي.
والتفسير لدى هايدغر موجود دائماً ضمن شيء ما نعرفه بشكل مسبق،
ضمن شيء لدينا بشكل مسبق، وضمن شيء نشاهده في أعيننا، ضمن شيء ندركه بشكل مسبق،
ضمن مفهوم تم ذكره مسبقاً. إنها طريقة أخرى للقول بأننا لا نتناول أي شيء أو أي نص
متحررين من الافتراضات السابقة حوله، إننا نمتلك دائماً تفسيراً موجوداً بشكل مسبق
ويعزوه هايدغر كله إلى الوجود الميتافيزيقي. ولفهم نص من وجهة نظر هايدغر فإن ذلك
يتطلب منك ألا تبحث عن المعنى الذي وضعه المؤلف في النص بل إن عليك أن تكشف النقاب
عن إمكانية الوجود التي يشير إليها النص. ويستلزم التفسير ألا نرمي بالمغزى على
النص رمياً أو أن نضع عليه قيمةً وضعاً، بل علينا توضيح ما يحيط بالنص الذي نشف
عنه عادة لدى قراءتنا الأولية للنص. إن كتاب غادامير الذي يعد عملاً مهماً
"الحقيقة والمنهج" هو شرح مطول وامتداد لفكرة هايدغر. يهتم غادامير
بصورة رئيسية بالترابط المشوه للحقيقة بالعلوم الطبيعية في العصر الحديث. وفكرته
هي ليست الطريقة التجريبية الوحيدة للوصول إلى الحقيقة التي تتبناها العلوم الطبيعية.
كذلك فإن وجود "و" في العنوان يفيد في الفصل لا الوصل. يقترح غادامير
خلافاً لذلك مستوى أكثر أهمية للوصول إلى الحقيقة يتماهى مع الانعكاس التأويلي.
ورداً على نزعة العلم الطبيعي الذي يتجاهل النظرة الأولية للفهم، يقترح غادامير
نظرية تأويل ذات اتجاهين، الأول إصلاحي والثاني ما وراء نقدي، ومظاهر ثقافية أخرى،
بحيث يمكن التنبؤ بكل المحاولات المنهجية. إنه يهتم بشرح الفهم بوصفه مقولة شاملة
يمكن تصورها على أنها جوهر لوجودنا في العالم. ولإظهار كيف وصلنا إلى الوضع الراهن
ولتسهيل عملية استرجاع المفاهيم السابقة للحقيقة والتأويل، يضع غادامير قصتين
متقاربتين في كتابه، الأولى تروي قصة التقاليد الفلسفية الغربية بشكل سقوط من
العلياء وعودة أو خلاص مستقبلي محتمل في حالة السقوط المهينة هذه. لما يكن المنهج
العلمي قد بدأ يسيطر على مفهوم الحقيقة بعد في مرحلة ما بعد ديكارت. كما لم يكن
الموضوع والذات، ولا حتى الوجود والفكر قد انفصلا بعضهما عن بعض بشكل كامل. ولكن
مع قدوم الازدواجية الديكارتية أصبح اغتراب البشر في الغرب حجر الأساس في الفلسفة
الغربية. في هذا السياق، تعد مقالة إمانويل كانت "نقد العقل المحض"
الوثيقة الأكثر أهمية في هذا الإرث ولا سيما أنه يقدم فيها مسوغاً ذكياً وأصيلاً
إضافة إلى أنه نابع عن معرفة بالعلوم الطبيعية وإلمام بها. وقد عارض مجال الفن مثل
هذا الإرث. ووفقاً لمزاعم غادامير كان الفن معزولاً بشكل نظامي عن عالم الحقيقة
ويعود ذلك إلى الخطاب المهيمن للعلوم الطبيعية. ولذلك يسعى غادامير في نقده حول
الوعي الجمالي لإعادة هذا الإرث لنظرية التأويل. ويعد "اللعب" أو
"اللعبة" مهماً بشكل خاص لأنه يمتلك إمكانية التغلب على الانقسام بين
الذات والموضوع. وفي لعبة ما مثلاً نلتزم بجملة من القواعد بعيداً عن أي ذاتية
فردية، لا نواجه اللعبة على أنها شيء لكن نشارك فيها بوصفها حدثاً. وعن طريق هذه
المشاركة، تتحول الذات: كذلك فإن صلتنا بالفن مناظرة لذلك: فنحن لا نواجه العمل
الأدبي على أنه ذات تتعرف موضوعاً، بل نشارك في اللعبة التي تكون الفن الحقيقي
وبذلك نتحول نحن أيضاً. أما غادامير، فإنه يرى أن اللعب هو الحقيقة والجوهر للفن
الأصيل.
وتتعلق القصة الثانية بالإرث التأويلي. فغادامير يرى أن الأصول
الأساسية لنظرية التأويل مرتبطة بشكل حميم بالاهتمام لاكتشاف المعنى الصحيح
للنصوص؛ وتسعى هذه النظرية إلى اكتشاف المعنى الأصلي بغض النظر عما إذا كان النص
يمتلك جذوراً دينية أو دنيوية. وإذا ما أضيف نشاط التأويل الشرعي إلى هاتين
السمتين عندئذٍ نستطيع أن نرى لماذا تم تقديم نظرية التأويل لمرحلة ما قبل
الرومانتيكية بقوة ثلاثة أضعاف: الفهم، والشرح، والتطبيق. وحسب فرضية غادامير إن
نظرية التأويل تبتعد عن مهمتها الأصلية. مع قدوم شلايرماخر أصبحت نظرية التأويل
مترابطة مع إعادة استنتاج الحالات النفسية. حتى عندما يكون لديها تبصراً مهماً حول
طبيعة التفسير، فإن نظرية التأويل المميزة للقرن التاسع عشر تعود لتقع بالانقسام
بين الذات والموضوع، وهذا الانقسام الثنائي تعززه روح التفكير المنهجي.
تبلغ نقطة التحول ذروتها مع نقد هايدغر حول "علم
الظواهر" الخاص بإدموند هوسرل. ابتداءً بالسؤال الوجودي، لم يسع هايدغر وراء
أرضية فلسفية جذرية بحد ذاتها كما فعل هوسرل، كما لم يضع أساساً للعلوم الإنسانية
خلافاً لمشروع ديلثي، بل إن فكرة الأرضية برمتها في مسألة الوجود المعرفي الخاص به
تواجه تعديلاً كلياً. وتقدم فرضيته التي تقول بأن "الكينونة هي نفسها
الزمن"، تاريخانية جوهرية إلى الفكر التأويلي، وبذلك تسمح للتاريخ بأن يصبح
قوة فاعلة في الفهم أكثر منه عقبة. ويدمج غادامير في نقاشه حول التحامل تاريخانية
الوجود الميتافيزيقي لدى هايدغر، وهذه إعادة شرح مثيرة لتركيب هايدغر في مرحلة ما
قبل الفهم. إن التوضع الضروري لشخص ما والذي عادة ما يتألف من العديد من
"التحاملات" والمفاهيم المسبقة مقدمة لنص ما أو تواجه نصاً آخر هي مظهر
أساسي للفهم التأويلي.
خلافاً لنظرية التأويل السابقة، فإن مفهوم التاريخ للمفسر ليس
عائقاً في وجه التفسير. إن التفكير التأويلي الصحيح يجب أن يضع في الحسبان الفترة
التاريخية للنص. إن نظرية التأويل مناسبة فقط عندما تظهر نشاط التاريخ وفاعليته
ضمن الفهم ذاته. وتبعاً لذلك يدعو غادامير هذا النوع من التأويل بالتاريخ المؤثر،
وبهذا المفهوم لا يعزز غادامير نمطاً جديداً من الطرق التي تأخذ بالحسبان التأثير
والانطباع، بل إنه يدعو إلى نمط جيد من الوعي، الوعي التاريخي المؤثر الذي يمكنه
تمييز ماذا يحدث عندما نواجه وثائق من الماضي. إنه يشمل الوضع التأويلي الذي عادة
ما يحدث عندما ندخل في حوار مع الماضي.
ولا شك أن وعياً تاريخياً مؤثراً كهذا مرتبط بشكل وثيق مع مفهوم
غادامير للأفق، وهذا المفهوم المستمد من نظرية علم الظواهر يصف ويعرف توضعنا في
هذا العالم. إنه ليس تركيباً منغلقاً أو ثابتاً لكنه شيء يتغير مع تغيرنا. ويتم
إدراك عملية الفهم على أنها تداخل لأفق شخص ما مع الأفق التاريخي.
تحدى يورغن هابراز المفهوم الوجودي لنظرية التأويل بشكل قوي
جداً في ألمانيا. ويتفق هابرماز مع مفهوم غادامير الذي يقول بأن اللغة هي تركيب
منفتح وبذلك يجد نفسه متحالفاً معه في الصراع ضد النزعات الوضعية في العلوم
الاجتماعية. ويجادل هابرماز بأن غادامير ابتعد كثيراً في فصله للطريقة المنهجية عن
الحقيقة. إن الطريقة المنهجية كما يشير هابرماز هي جزء من إرثنا الحضاري كما لا
يمكن فصله عن الوعي التاريخي المؤثر.
وبالمقارنة، يسعى هابرماز لإيجاد رابط للعلوم التجريبية
والتحليلية مع العلوم الطبيعية عن طريق إجراءات تأويلية. وفي اعتراضاته الأكثر حدة
على غادامير يهتم هابرماز بالتحيز الإيديولوجي المدرك في عمل غادامير. ينحو
هابرماز مثل العديد من النقاد منحىً مغايراً لاهتمام غادامير في الجدل غير المتنور
فيما يخص التحامل والسلطة والتقاليد. ووفقاً لهابرماز، إن انتصار غادامير لفكرة
التحاملات التي تفرزها التقاليد يعيق قدرتنا على التأمل في هذه التحاملات، من ثم
رفضها، فيبدو الوسطاء على أنهم متلقون سلبيون محتجزون في تيار التراث غير المنتهي.
ما يريده هابرماز هو بعد نقدي في الفكر التأويلي؛ البعد الذي يمكننا من إنشاء نقد
لمجموعة من المفاهيم دون التضحية بمفهوم البعد التاريخي.
ويجدر بالذكر أن التحدي الرئيسي لغادامير في الولايات المتحدة
ينبع من اتجاهات أكثر تزمتاً ومحافظة. خلافاً لهابرماز اعترض إي.د. هيرش على
اعتماد غادامير على البعد التاريخي ولا سيما وأنه يعد المعنى أمراً نسبياً، ويحاول
تشكيل أحد المعايير الصحيحة للتأويل.
في الحقيقة لقد انحصر اهتمام هيرش في إثبات وجود فاعلية التأويل
بغض النظر عن زمنه، لذلك كانت مهمته الرئيسية هي أن يفسر الحقيقة التجريبية التي
تقول بأن العصور المختلفة والنقاد المختلفين يفسرون الأعمال نفسها بطرق مختلفة.
لقد قام بذلك عبر إنشاء مستويين اعتماداً عليهما يمكننا نسب النصوص إليهما: ففي
المستوى الأول يضع هيرش "المعنى" أو المعنى الفعلي وهو غير قابل
للتغيير؛ إنه بلا شك الاهتمام الرئيسي للتفسير، والفهم هو القوة التي تسيطر عليه.
وكذلك يدعو هيرش المستوى الثاني "بالدلالة". وربما يتغير هذا المستوى مع
تغير العصر أو المؤلف مع العلم أن هذا التغير ليس عشوائياً. ويتحدد هذا المستوى
بعلاقة المعنى الفعلي بشيء ما خارج هذا المعنى، نتيجة لذلك يعين هيرش مهمة النقد
بتحديد الدلالة في النصوص. إن الملكة الحقيقية التي نكتسبها في النقد هي الحكم على
النص. إن التنوع في التعليق على الأعمال الأدبية الذي يمكن ملاحظته بشكل تجريبي
يعزى إلى الاختلاف في الدلالة، وبذلك يبقى المعنى محدداً وفقاً لوجهة نظر هيرش.
فيما تنحصر مهمة هيرش الثانية في إيجاد معيار صحيح يستطيع من خلاله تحديد المعنى
المحدد. معترضاً على المغالطة النقدية القصدية الجديدة، أي ربط المعنى بمراد
المؤلف، وكذلك لادعاء غادامير بأن المعنى دائماً يتجاوز قصد المؤلف، يعود هيرش إلى
النماذج النفسية الأقدم مؤكداً على أن قصد المؤلف هو المعيار الصحيح الذي يزودنا
بالمعنى. بالنسبة إليه الصحة هي علاقة تطابق: أي أن التفسير الصحيح الذي يتطابق مع
المعنى المشار إليه في النص. رافضاً كل الأشكال الدلالية المختلفة والناتجة عن
الاستقلالية في الحكم على المعنى، ومتأثراً بنقاشه بنظرية علم الظواهر، يفيد هيرش
في هذا السياق، بأن المعنى هو على نحو ثابت مرتبط مع الوعي. وبذلك يجب أن يترافق
المعنى مع أحد الوعيين اللذين يتصلان بالنص، بالمؤلف أو بالقارئ. يعتقد هيرش أنه
إذا ما أخذنا وعي القارئ معياراً لنا، فإننا بذلك نضحي بمقياس الصحة، ولا سيما وأن
هناك العديد من القراء بشكل دائم لكل نص. يستند هيرش في دفاعه الأكثر قوة فيما يخص
قصد المؤلف على الحقيقة البسيطة وهي أن قصد المؤلف وحده يقدم لنا المعيار المميز
للصحة بشكل دقيق، والذي من خلاله نستطيع أن نقارن بين التفاسير المتنوعة.
منذ القرن العشرين عمل بول ريكور (ولد عام 1913) على تسوية
الخلافات الناتجة عن الجدالات المتعددة في نظريات التأويل. وكان ريكور ناجحاً في
مبتغاه. فقد اهتمت نظريته المعتمدة على علم الظواهر التأويلي غالباً بإجراء
المصالحة بين المزاعم المتنافسة في حق الأولوية. لقد أظهر ريكور بشكل ناجح كيف
تعتمد الفروع الفلسفية على بعضها البعض في مناقشة العلاقة بين البنيوية أو علم
الظواهر ونظرية التأويل. ويظهر ريكور بأن كل فرع يبقى على افتراضات الآخر. ربما
تعد النظرية الرمزية الأكثر أصالة في أعماله كلها. بالنسبة إليه تقف اللغة في مركز
أية نظرية تأويلية، لكن ليس كل نتاج لغوي يستدعي تطبيق نظرية التأويل. ويستلزم
تطبيق نظرية التأويل في الحالات التي يكون لدينا فيض في المعنى أو عندما يستخدم
المؤلف تعابير متعددة الأصوات. ويطابق ريكور حوادثاً كهذه مع الرمزية، والتي
يعرفها كأي تركيب للمعنى يدل على معنى حرفي أولي مباشر، بالإضافة إلى معنى آخر غير
مباشر، ثانوي ومجازي ويمكن إدراكه فقط من خلال الأول. وهكذا فإن مهمة التأويل
محددة لتتعامل مع الرموز. إنها ذلك الأسلوب للفكرة التي تفك إشارة المعنى المستور
ضمن المعنى الواضح أو تلك التي تكشف عن مستويات المعنى المتضمن في المعنى الحرفي.
فمن وجهة نظر ريكور يمكن تقسيم نظريات التأويل إلى فئتين: تخص
الفئة الأولى استنباط أو تجميع المعنى. وهذا النوع من التأويل الذي يعنى بالدين أو
بالمقدسات يسعى ليظهر أو ليحتفظ بمعنى يفهم على أنه رسالة، أو تصريح أو موعظة
دينية. ويحاول هذا النوع من التأويل أن يكون معنىً عن شيء ما كان مفهوماً في وقت
من الأوقات لكنه مبهم الآن بسبب البعد. ولا شك، أن نظرية التأويل التشكيكية معاكسة
لنظرية التأويل التي تعنى بالمقدسات والمصبوغة بالصبغة الدينية. كما تم الإفصاح عن
مصادرها على وجه الخصوص في أعمال كارل ماركس وفريدريك إنجلز وفريدرك نيتشه
وسيغموند فرويد. يرفع هذا النوع من التأويل القناع كما يكشف عن الوعي المزيف. يحجب
هذا النوع من التأويل الثقة عن الكلمة وبذلك يحاول أن يتوغل إلى ما دون السطح
الظاهري ليكشف عن الجانب الأكثر موثوقية للمعنى. لكن ريكور يوحد بشكل حميم بين
هذين الفرعين المميزين لنظرية التأويل. ففي تحليل مثير للإعجاب لأحد أعمال فرويد
يظهر ريكور كيف تعمل الرموز لتخفي غرائزنا وتكشف عن جدلية للوعي الذاتي. وبذلك
تصبح نظريتا التأويل على نحو كلي مظهرين لعملية ثقافية أكبر.
لقد طبق كل من بيتر زوندي (1929 ــ 1971) وما نفرد فرانك (ولد
عام 1924)، وهما رائدان من رواد نظرية التأويل في ألمانيا في مرحلة ما بعد الحرب
العالمية الثانية. في عملهما استراتيجية تعتمد التوسط، وكلاهما كان فاعلاً في دمج
الأفكار الفرنسية خصوصاً فيما يتعلق بالنظرية البنيوية وما بعد البنيوية ونظرية
التأويل الألمانية وخصوصاً من خلال عمل شلايرماخر. فبالنسبة إلى زوندي الذي كان
هدفه تطوير نظرية تأويل فقه لغوية، يعد شلايرماخر وثيق الصلة بالموضوع بسبب تأكيده
نظرية تفسير مادية. خلافاً للعديد من معاصريه الذين يرون اللغة والكلمات مجرد
وسيلة لانتقال الأفكار. بيد أن شلايرماخر يؤكد على التقيد المفروض بوساطة النوع
الأدبي، الشكل الشعري، والحرف. كما أن إصرار شلايرماخر على الحرف يجعله سباقاً بالنسبة
إلى زوندي باتجاه الأشكال المتعددة للنظرية ما بعد البنيوية. كذلك فإن شلايرماخر
يوحي بانسجام أساسي بين النظرية الألمانية والفرنسية.
واجه عمل فرانك نظرية غادامير بالنزعات التي جاءت بعد البنيوية
وخصوصاً بالنظرية التفكيكية. وبالنظر إلى تاريخ الفلسفة يشير فرانك إلى أن النظرية
التفكيكية ونظرية التأويل تواجهان المشاكل الرئيسية للفكر الحديث: غياب القيم
المتسامية والبحث في الذاتية. لقد انحرفت هذه النظريات بشكل ملحوظ فيما يتعلق
بتقويم الإمكانية إلى موقع حواري أصيل. وبالاعتماد على نظرية شلايرماخر التأويلية
يطور فرانك مفهوم الحوار على أنه نشاط فردي وكذلك عام. إن التفسير لا يمكن أن يحدث
دون نظام مشترك واقع فوق نطاق الفرد، لكن تحقيق النظام ربما يكون مستحيلاً من دون
البناء الفردي. ويجدر بالذكر أن النظرية التفكيكية ونظرية التأويل تنسجمان بشكل
كبير خصوصاً عندما تؤكد النظريتان التغاير الذي لا يمكن تلافيه بين الأفراد
المتناقشة حول الموضوعات المطروحة. ولا يشعر فرانك خلافاً لبعض دعاة نظرية ما بعد
البنيوية الأكثر انفتاحاً أن التغاير يمهد الطريق إلى العشوائية. كما يشير فرانك
إلى أنه من خلال الفرضيات التي وضعت من قبل أحد المشاركين في أحد الحوارات يمكن
الاستعانة ببعض هذه الفرضيات من أجل محاولة تفسير نسبية ولا سيما أن هذه الفرضيات
دائماً ذات دوافع. لكن يمكن أن يسوى الخلاف بين نظرية التأويل والنظرية ما بعد
البنيوية من خلال فقط إبراز دور المعنى غير الثابت فقط مع التأكيد على استحالة
تحديد معنى ثابت.
الهوامش
1ــ انظر، تيري إيغلتون، مقدمة لدراسة نظرية الأدب (أكسفورد:
باسيل بلاكويل، 1983)، ص 66. (بالإنكليزية)؛ ومعجم أكسفورد The shorter Oxford English Dictionary، الجزء الثاني، ص 956.
2ــ عمر مهيبل، هانز جورج غادامير: خطاب التأويل، خطاب
الحقيقة"، الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء العربي ــ بيروت، العددان 112
ــ 113، خريف 99 ــ شتاء 2000، ص 40. (هانز جورج غادامير: من أهم الفلاسفة الألمان
المعاصرين، ولد عام 1900، ودرس في جامعة لايبزغ ثم جامعة فرانكفورت، وفي عام 1949
شغل كرسي الفلسفة في جامعة هايدلبرغ خلفاً لكارل ياسبيروس. وقد شكل مفهوم التأويل
نقطة مركزية في إسهامه الفلسفي، نتج عنها فيما بعد إسقاطات مهمة في حقول معرفية
عديدة من العلوم الإنسانية. ازداد غادامير شهرة بعد السجال المهم الذي دار بينه
وبين مواطنه الفيلسوف يورغن هابرماز حول الأهمية المعرفية للعلوم الإنسانية وحول
منهجيتها. ويعتبر كتابه "الحقيقة والمنهج" من أهم المؤلفات الفلسفية
الألمانية في العصر الحديث).
3ــ انظر، مايكل غرودن ومارتن كريسوزر، دليل جونز هوبكنز لنظرية
الأدب والنقد بالتمور ولندن: 1994، ص 376، (بالإنكليزية).
4ــ ويلهلم ديلثي: فيلسوف ألماني معاصر يمثل ما يسمى بتيار
الحياة، ففي كتابه المهم "مدخل إلى دراسة العلوم الإنسانية" يبحث ديلثي
عن الاستقلالية المنهجية لعلوم الإنسان أو "علوم الروح" حسب تعبيره،
وهذا ما حثه على إجراء موازنة أشمل بين علوم الطبيعة وعلوم الروح، ومن أجل فهم
علوم الروح، وموضوعها الإنسان، لابد أن نغوص إلى داخلها، وهنا تأخذ التجربة
النفسية مداها، بل ويصبح علم النفس الأساس لأية معرفة تتعلق بالإنسان وبالعلم
التاريخي الاجتماعي العام.
5ــ انظر، صامويل تيلر كولردج، سيرة أدبية، تحرير ج. شوكروس،
المجلد الثاني، 1945، ص 255. (بالإنكليزية).
6ــ انظر، فريدريك جيمسون، اللاوعي السياسي: القصة كفعل اجتماعي
رمزي، 1981، (لندن: ميثون، 1983)، ص 21، (بالإنكليزية).
7ــ انظر، مايكل غرودن ومارتن كريوزر، دليل جونز هوبكنز لنظرية
الأدب والنقد، المعطيات السابقة، ص 378.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق