نور دكرلي بحزنه الجميل، محاولاً توثيق غرائبية الموت السوري..
**موتى**
لا
أحدَ يموت هنا، لا تشييعَ كلّ صباح. هذا يعني بأنّه لا مكان لي، ولا طقسَ أمارسهُ هنا أستطيع البكاء فيه بسهولة، كما تعوّدت كلّ
صباح في بلدي.
كنتُ أستيقظ على صوت المؤذن وهو ينادي "الشهيد فلان ابن فلان..."، فأسرع للخروج منتظراً مرورَ الجموع التي تحمل تابوتاً يشبه تابوت اليوم الذي سبقه مع فارق المحتوى.
لم يكن محتوى التابوت مهماً بالدرجة الأولى سواء كان طفلاً, أنثى, أو عجوزاً، المهم هو الطقس بحدّ ذاته. كائنات تريد أحداً يجمعها لتصرخ وتبكي في الشارع بلا خجل، والجثة كانت قائدنا دائماً.
إحدى المرات قالوا إن الجثة هذه المرة كانت لطفل أصابته قذيفة بينما كان يطعم طيور الحمام على سطح منزلهم، وعندما وصلنا إلى المقبرة وقاموا بفتح التابوت لم يكن في داخله سوى بنطال صغير ممزق.
طوال الطريق كان هذا البنطال يقودنا، أما الجثة فلم يكن قد تبقى منها شيءٌ سوى أشلاء لحمٍ تناثرت على سطح ذلك المنزل، تقاسمتها الحمامات، وأمُّه التي لملمت بعضاً منها وهربت.
حينها جلس بعض المشيّعين حول الحفرة ودخّنوا سجائرهم وبعد أن انتهَوْا منها رمَوْها داخل الحفرة، وعدنا دون أن ندفن شيئاً.
قد تبدو الحادثة مفجعة قليلاً، لكنها لم تكن كذلك حينها، كان الأمر عادياً.
أتذكر أني عدت إلى البيت وتناولت غدائي، ونمت جيداً. لم أكن أدرك بأن هذه الجثث تتراكم داخلنا لتنفجر بعد ذلك ملطخةً دواخلنا كجدران ذلك السطح.
أحياناً أتخيّل طابوراً من الموتى يصطفّون خلف بعضهم أمام شبّاك صغير يظهر منه وجه بلا ملامح ويصرخ فيهم:
- من أين سنؤمّن قبوراً لكم جميعاً؟
شيخٌ كبير يقف في الصف حاملاً قلبه بين يديه وينادي بصوت مبحوح:
- والله أنا رجُل كبير لا أتحمّل الوقوف طويلاً، الله يخليك جِـدْ لي قبراً بسرعة.
امرأة تضمّ رضيعاً إلى صدرها وتتوسّل:
- أنا لا أكلفك الكثير، فقد أحضرت معي بعض التراب من حديقة بيتنا، أرجوك ارحم هذا الصغير, يكاد يحيَا من البرد.
شابٌّ، أو نصف شابّ:
- أنا ضعْني مع أي جثة، لستُ أكثرَ من يدٍ وبطن.
عقل كبير بشاربين طويلين معلّق عليهما ملابس داخلية يخترق خيالي ويصرخ في وجهي:
- كفّ عن قذف الجثث والأشلاء يا مريض.
يتحول لوني حينها إلى الأصفر وينبت في ذراعي أنبوبٌ رفيع موصول إلى غيمة على شكل كيس سيروم.
- يا سيدي العقل, أرجوك لا أملك النقود لأزور طبيباً نفسياً، قم أنت بذلك وخذ حصتك من الحبوب، أما أنا سأستمر بقذف الجثث في كل مكان كبركان يتفجر تحت مقبرة, وسأبقى أخرج كل ليلة إلى العراء وأعوي كمستذئب, ثم أضع قلبي بين أنيابي وأعض عليه لينزف حتى يجفّ.
كنتُ أستيقظ على صوت المؤذن وهو ينادي "الشهيد فلان ابن فلان..."، فأسرع للخروج منتظراً مرورَ الجموع التي تحمل تابوتاً يشبه تابوت اليوم الذي سبقه مع فارق المحتوى.
لم يكن محتوى التابوت مهماً بالدرجة الأولى سواء كان طفلاً, أنثى, أو عجوزاً، المهم هو الطقس بحدّ ذاته. كائنات تريد أحداً يجمعها لتصرخ وتبكي في الشارع بلا خجل، والجثة كانت قائدنا دائماً.
إحدى المرات قالوا إن الجثة هذه المرة كانت لطفل أصابته قذيفة بينما كان يطعم طيور الحمام على سطح منزلهم، وعندما وصلنا إلى المقبرة وقاموا بفتح التابوت لم يكن في داخله سوى بنطال صغير ممزق.
طوال الطريق كان هذا البنطال يقودنا، أما الجثة فلم يكن قد تبقى منها شيءٌ سوى أشلاء لحمٍ تناثرت على سطح ذلك المنزل، تقاسمتها الحمامات، وأمُّه التي لملمت بعضاً منها وهربت.
حينها جلس بعض المشيّعين حول الحفرة ودخّنوا سجائرهم وبعد أن انتهَوْا منها رمَوْها داخل الحفرة، وعدنا دون أن ندفن شيئاً.
قد تبدو الحادثة مفجعة قليلاً، لكنها لم تكن كذلك حينها، كان الأمر عادياً.
أتذكر أني عدت إلى البيت وتناولت غدائي، ونمت جيداً. لم أكن أدرك بأن هذه الجثث تتراكم داخلنا لتنفجر بعد ذلك ملطخةً دواخلنا كجدران ذلك السطح.
أحياناً أتخيّل طابوراً من الموتى يصطفّون خلف بعضهم أمام شبّاك صغير يظهر منه وجه بلا ملامح ويصرخ فيهم:
- من أين سنؤمّن قبوراً لكم جميعاً؟
شيخٌ كبير يقف في الصف حاملاً قلبه بين يديه وينادي بصوت مبحوح:
- والله أنا رجُل كبير لا أتحمّل الوقوف طويلاً، الله يخليك جِـدْ لي قبراً بسرعة.
امرأة تضمّ رضيعاً إلى صدرها وتتوسّل:
- أنا لا أكلفك الكثير، فقد أحضرت معي بعض التراب من حديقة بيتنا، أرجوك ارحم هذا الصغير, يكاد يحيَا من البرد.
شابٌّ، أو نصف شابّ:
- أنا ضعْني مع أي جثة، لستُ أكثرَ من يدٍ وبطن.
عقل كبير بشاربين طويلين معلّق عليهما ملابس داخلية يخترق خيالي ويصرخ في وجهي:
- كفّ عن قذف الجثث والأشلاء يا مريض.
يتحول لوني حينها إلى الأصفر وينبت في ذراعي أنبوبٌ رفيع موصول إلى غيمة على شكل كيس سيروم.
- يا سيدي العقل, أرجوك لا أملك النقود لأزور طبيباً نفسياً، قم أنت بذلك وخذ حصتك من الحبوب، أما أنا سأستمر بقذف الجثث في كل مكان كبركان يتفجر تحت مقبرة, وسأبقى أخرج كل ليلة إلى العراء وأعوي كمستذئب, ثم أضع قلبي بين أنيابي وأعض عليه لينزف حتى يجفّ.
هامش:
للأمانة, قول المرأة التي تقف في طابور الموتى قمتُ بسرقته من أمي التي قالت ذات مرة:
- "لو كنت بعرف رجعتنا مطولة" كنتُ جلبتُ معي قليلاً من تراب حديقتنا، "بدفّونا بقبرنا بهالغربة".
الفارق بين المرأتين فارق بسيط في التوقيت لا أكثر..
عن فيسبوك
شباط 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق