الخميس، 23 نوفمبر 2017

التحولات الفكرية الكبرى للحداثة. مساراتـها الإبستيمولوجية ودلالتها الفلسفية؛ محمد سبيلا






التحولات الفكرية الكبرى للحداثة. مساراتـها الإبستيمولوجية ودلالتها الفلسفية
محمد سبيلا 



يشكو العديد من الدارسين من غموض معنى الحداثة، ومن تعدد وعدم تحدد مدلولاتـها. وإذا كان هذا الغموض والالتباس يرجع في جزء منه إما إلى غموض ذهني، أو إلى غياب العناء الفكري اللازم أحيانـا، أو إلى سوء نية مسبق ضد الحداثة، فإن أحد أسباب هذا الغموض هو كون هذا المفهوم حضارياً شموليا يطال كافة مستويات الوجود الإنساني حيث يشمل الحداثة التقنية والحداثة الاقتصادية، وأخرى سياسية، وإدارية واجتماعية، وثقافية، وفلسفية الخ... مفهوم الحداثة هذا أقرب ما يكون إلى مفهوم مجرد أو مثال فكري يلم شتات كل هذه المستويات، ويحدد القاسم المشترك الأكبر بينها جميعا. وبمجرد انتهاج طريق هذا النموذج الفكري المثالي، فإن الدارس يشعر مباشرة بوجود قدر من التعارض بين الحداثة والتحديث. فالمفهوم الأول، يتخذ طابع بنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة بين المستويات المذكـورة، منظورا إليها من خلال منظور أقرب ما يكون إلى المنظور البنيوي، بينما يكتسي مفهوم التحديث مدلولا جدليا وتاريخيا منذ البداية من حيث إنه لا يشير إلى القسمات المشتركة بقدر مـا يشير إلى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات، وإلى طابعها التحولي. وعندما يختار المرء الدخول إلى هذا الموضوع من الزاوية الأولى، زاوية الحداثة، فإنه يجد نفسه محكوما بضرورة الاهتمام بالثوابت والقواسم والسمات المشتركة، مهملا الخصوصيات ومظاهر التباين، كما يجد نفسـه مدفوعا إلى عدم التركيز على الوقائع والأحداث والتواريخ والفواصل، موليا الاهتمام الأكبر للمنحنيات العامة في كل مستوى. في هذه المحاولة سأحاول، قدر الإمكان، التركيز على التحولات الفكرية العامة للحداثة على كافة هذه المستويات، محاولا الجمع بين المنظـور البنيوي الذي يحاول تتبع السمات الأساسية للحداثة، والمنظور التاريخي الذي يحاول متابعة التحولات التدريجية والانفصالية أحيانا، التي تطال هذه السمات نفسها. كما سأحاول أيضا، من خلال تتبع التحولات الفكرية الكبرى المصاحبة للحداثة، التمييز قدر الإمكان بين مستويين في هذه التحولات الفكرية : المستوى الإبستيمولوجي والمستوى الفلسفي، وذلك على الرغم من تداخل هذين المستويين وتشابكهما إلى حدود كبيرة. 1 ـ في المعرفة تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من "المعرفة" التأملية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التقليدية تتسم بكونـها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية ـ فهي أقرب أشكـال المعرفة إلى النمط الشعري ـ الأسطوري القائم على تملي جماليات الأشياء وتقابلاتـها ومظاهر التناسق الأزلي القائم فيها. أما المعرفة التقنية فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الحسابي، أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية والتكميم. النموذج الأمثل لـهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية التي أصبحت نموذج كل معرفة. هذا النمط من المعرفة تقني في أساسه، من حيث إن المعرفة العلمية استجابة للتقنية وخضوع لمتطلباتـها [؟]. فالتقنية كما أوضح هيدجر ذلك ليست مجرد تطبيق للعلم عبر إرادة الإنسان، بل هي ما يحدد للعلم نمط معرفته المطلوب. فالعلم الحديث علم تقني في جوهره أي خاضع لما تقتضيه التقنية بالدرجة الأولى، أي التكميم منهجا وطريقة والتحكم والسيطرة غاية.
 ضمن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة المنهـج أهمية قصوى. فالمنهج، من حيث هو تنظيم وتحقيب لعملية المعرفـة، وطريقة في التناول تؤدي إلى تحقيق التقدم في المعرفة، وتقود إلى اكتساب القدرة على تملك الأشياء، يقود بالضرورة إلى إضفاء طابع تقني على المعرفة العلمية1. إن المعرفة الحداثية معرفة علمية بمعنى أنـها معرفة تقنية، أي في خدمة التقنية، وبالتالي فهي معرفة حسابية وكمية وأداتية همها النجاعة والفعالية وغايتها السيطرة، الداخلية والخارجية، على الإنسان وعلى الطبيعـة، أو بعبارة أدق إنها سيطرة على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان. وارتباط المعرفة بالسيطرة والقوة لا يطال الطبيعة والعلوم الطبيعية وحدها، بل يطال الإنسان والعلوم الإنسانية ذاتـها حين يختلط هم المعـرفة والتحرر بـهمِّ السيطرة والتحكم. عقل الحداثة عقل أداتي والمعرفة الحداثية معرفة تقنية بمعنى أنـها إضفاء للطابع التقني على العلم، لكنها بنفس الوقت ومن حيث هي إضفاء للطابع العلمي على العلوم الإنسانية والاجتماعية على وجه الخصوص، فهـي إضفاء للطابع التقني على الثقافة ككل. في هذا السياق تصبح أشكال المعرفة غير المنطبعة بالطابع العلمي، أي بالطابع التقني، أشكالا دنيا من المعرفة، ومن ثمة الـهجومات المختلفة، ذات النفس الوضعي، التقني، على الفلسفة مثلا، باعتبارها معرفة متجاوزة. فالمعرفة الحقة هي المعرفة العملية الاختبارية لا النظرية التأملية إذ أن الممارسة تحوز الأولوية القيمية والإبستمولوجية على النظرية2.
وهذه المعرفة العلمية ـ التقنية لا تكتفي بالحط من قيمة الأنماط المعرفية الأخرى، بل تطال الفضاء الثقافي كله، وتتحول إلى ثقافة وإيديولوجيا بل إلى ميتافيزيقا أيضا. يصبح العلم ـ التقني ثقافة تحل محل الثقافة التقليدية وتكيفها بالتدريج، مؤطرة المجتمع العصري، مزودة إياه بمشاعر الـهوية والانتماء وبمعرفة وأخلاق. كما يتخذ العلم التقني مصدرا للشرعية السياسية أي نواة لإيديولوجيا سياسية. ولعل الديموقراطية، كتكنولوجيا سياسية، هي في أحد أوجهها تعبير عن هذا النوع الجديد، الدنيوي، من المشروعية القائمة على العلم كتقنية. بل إن هذا المركب المعرفي الجديد ينتزع بالتدريج صورة ميتافيزيقا أي تبشيرا بالأمل, ووعدا بالخلاص، ومصدرا واهبا للمعنى.
 2 ـ في الطبيعة الحدث الفكري الأساسي في تاريخ الفكر الغربي الحديث، هو نشوء ما اصطلح على تسميته بالعصر العلمي ـ التقني ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي. ويشكل منشأ هذا العصر الجديد تحولا أساسيا في النظر إلى الطبيعة. وقد كانت هذه الأخيرة في العصور الوسطى نظاما متكاملا يتسم بنوع من التناسق الأزلي الذي يعكس الحكمة العلويـة المبثوثة في كافة أرجاء الكون والمحققة لمظاهر كمالاته الروحية. هذا التحول المفصلي في تاريخ علم الطبيعة تمثل في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس مفتتحا الانتقال الحديث من العالم المغلق إلى الكون اللانـهائي. لكن النقطة الجوهرية في هذا التحول هي النظـر إلى الطبيعة كامتداد كمي هندسي وحسابي، وهو التحول الذي حدث مع غاليلو. لقد أصبحت الطبيعة امتدادا Rex extensa متجانس العناصر لا فرق ولا تميز بين مكوناتها ولا تخضع لتراتب انطولوجي كما كان الأمر في الفكر القديم والفكر الوسطوي. فالمكان عبارة عن وحدات أو نقط متجانسة، والزمان بدوره آنات متجانسة، مما مهد لقبول التصور الرياضي الميكانيكي للطبيعة، وهو التصور الذي يفرغ الطبيعة من أسرارها لينظر إليها ككم هندسي ممتد قابل للحساب وخاضع لقوانين الرياضة. فنـزعُ الطابـع الإحيائي السحري عن الطبيعة هو الوجه الآخر في النظر إليها من خلال مفاهيم رياضية تعتبر الطبيعة ـ كما قال غاليلو ـ كتابا مفتوحا بلغة المثلثات والمربعات والأشكال الهندسية. والعلاقة القائمة بين عناصر الطبيعة هي علاقات ميكانيكية وديناميكية خاضعة لقانون العلية. ويشكل هذا القانون نقلة نوعية في فهم العلاقة بين الظواهر لأنه ينتقل بـها من مستوى التفاعلات العضوية المحملـة بالأسرار والألغاز إلى تفاعلات القوى والكميات القابلة للرصد والحساب، أي من التصور العضوي والغائي إلى التصور الميكانيكي والديناميكي العلّي. والطريف في الأمر هو أن ليبنتس الذي صاغ وطور مبـدأ العلة (مبدأ العقل Principe de raison)، قد طور في نفس الوقت تصورا ديناميا غائيا للمادة والكون حين اعتبر أن طبيعة الأجسام ليسـت هي الامتداد بل القوة أي النـزوع والقدرة على الفعل ورد الفعل، كما ساهم في إرساء التصور الرياضي للطبيعة عندما اعتبر أن الله، وهو يمارس الحساب، يخلق أفضل العوالم الممكنة. وهكذا حول العلم الحديث الطبيعة إلى معادلات رياضية وأشكال هندسية أي إلى هياكل عظيمة فارغة كما يقول برتراند راسل3، أو إلى مجـرد مخزن للطاقة منذورٍ لأن يتحول إلى موضوعات قابلة للاستهلاك، كما يقـول هيدجر4. وقد أبدى العلم الحديث منذ البداية تواضعا معرفيا جما إذ رسم لنفسه حدودا في فهمه للطبيعة. فهو لم يدع أبدا أنه يسعى إلى فهم الجواهـر والأشياء في ذاتـها، بل قصر مسعاه منذ البداية على محاولة فهـم الظواهر مركزا على ما هو قابل منها للرصد وللتعبير الكمي. ومن ثمة طغت روح النسبية على أحكامه ونظرياته، بل إن البحث العلمي اتسم في الأغلب الأعم بنـزعة مواضعاتية [تواضعيّة]  (conventionnaliste)  واضحة. فالخطوات والاحتياطات المنهجية التي يلجأ إليها العالم هي نوع من الاختيار القبلي للموضوع، اختيار للمجال الذي يجب أن يظهر فيه الموجود، ولزاوية النظر إليه. فالموجود هنا –بلغة هيدجر- لا يظهر من تلقاء ذاته بل يرغم على الظهور وفق الخطاطات والتصميمات المسبقة وشبكات التأويل التي تخضعه لـها وتدرجه في سياقها5.
3 ـ في الزمن والتاريخ إذا كان المسار الطويل الذي تدرجت فيه الحداثة في تصورها للطبيعة هو تبين أن كينونة الطبيعة تتمثل في الدينامية والآلية بدل الغائية، فقد وازى هذا التطور، فيما يخص تصور الزمن والتاريخ، تحول فكري قاد إلى إظهار أن كينونة التاريخ تتمثل في الصيرورة، أو بعبارة أخرى فإن تحول الكينونة إلى فعل وصيرورة ابتدأ في الطبيعة ثم سرى إلى التاريخ. فقد أصبـح التاريخ سيرورة Processus وصيرورة Devenir أي مسارا حتميا تحكمه وتحدده وتفسره عوامل ملموسة كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس، أو حروبـهم وصراعاتـهم من أجل الكسب، وكالصراع العرقـي، أو القبلي، أو المذهبي أو غيره. وبعبارة أخرى فإن غائية التاريخ بدأت تختفي وتتضاءل لصالح الميكانيزمات الداخلية والحتميات المختلفـة التي تتدخل في تحديده تحديدا لا تعرف وجهته إلا من خلال مقارنة العوامل الفاعلة فيه. وبعبارة ليوستروس فقد أصبح التاريخ توسطا بين الواقع6 والمثال، عبر حركة تطورية مستقيمة الاتجاه. فمثلما نـزع العلم عن الطبيعة طابعها السحري والإحيائي، فقد نـزعت المعرفة والممارسة الطابع الأسطوري عن التاريخ بنفي طابعه الغائي والنظر إليه باعتباره مجرد حركة تطورية مستقيمة تتحكم فيها عوامل داخلية قد تكون هي المحددات الاقتصادية (ماركس) أو التقنية أو السيكولوجية (فرويد) أو غيرها. وقد قاد ربط تطور التاريخ بعوامل تاريخية محددة وملموسة إلى تطور نـزعة تاريخانية ترجع كل شيء للتاريخ وتشرطه به لدرجة أنه تم وسم الحداثة بكونـها عبادة للتاريخ 7 (Idolatrie de l'histoire) الذي أصبح هو المصدر أو المنتج الأساسي للمعنى. وقد واكب التحول في مفهوم التاريخ تحول آخر طال مفهوم الزمن. فقد تمثلت الحداثة للوعي الفلسفي في القرن الثامن عشر مع هيجل كفترة جديدة جدة راديكالية بالقياس إلى ما سبقها من عصور، وخاصة ابتداء من القرن الخامس عشر والأحداث الثلاث الكبرى التي راوحت حواليه: اكتشاف العالم الجديد، النهضة الأوربية والإصلاح الديني. وقد كان هيجل هو أول من طرح قطيعة الحداثة مع الإلـهامات المعيارية للماضي، التي هي غريبة عنها، طرحا فلسفيا8. يتميز زمن الحداثة بأنه زمن كثيف، ضاغط، ومتسارع الأحداث، فهو يعاش كمادة فريدة 9 (denrée rare) تتمركز حول حاضر مشرئبٍّ إلى الآتي. فالحاضر هو اللحظة التي يتم فيها انتظار الانتقال المتسارع لمستقـبل مختلف كلي. وهذا الحاضر، الذي تمثله في نظر هيجل الأنوار والثورة الفرنسية، يمثل "البـزوغ الرائع للشمس" الذي يقطع مع العالم القديم وينشئ عاملا جديدا كليا. يبدو إذن أن زمن الحداثة زمن متجه نحو المستقبل الذي يكتسب بالتدريج دلالات يوتوبية عبر تجربة تتنامى فيها بالتدريج المسافة بين الحاضر والمنتظر، وتطغى على قاموسها مصطلحات التطور، والتقدم والتحرر والأزمة10. عصر الحداثة هو العصر الذي يختل فيه التوازن بين الماضي والمستقبل، فهو العصر الذي يحيا بدلالة المستقبل، وينفتح على الجديد الآتي، وبالتالي لم يعد يستمد قيمته ومعياريته من عصور ماضية، بل يستمد معياريته من ذاته11، وذلك عبر تحقيق قطيعة جذرية مع التراث والتقليد. إذا كان الزمن التقليدي متمحورا على الماضي فإنه حتى عندما يشرئب إلى المستقبل، فهو ينظر إليه باعتباره استعادة إسقاطية للماضي في المستقبل، إذ أن الزمن في المنظور التقليدي يتميز بالحضور الكثيف للماضـي وبقدرته على تكييف كل الآنات الأخرى. أما زمن الحداثة فيتسم بالفاصل المتزايد بين "فضاء التجربة" و"أفق الانتظار"، وهو الفاصل الذي لا يني يتزايد باستمرار لدرجة تجعل البعد اليوتوبي مطالبا للمفهوم الحداثي للزمن. لكن الانتظارات والآمال التي يحملها زمن الحداثة تحمل بشائر المستقبل المنتظر حدوثه داخل خط الزمان نفسه عبر نقلات كميـة أو نوعية لا تقع خارج أفقه، وبذلك يمارس الوعي التاريخي الحداثي استدماجا مستمرا للانتظارات الكبرى البعيدة المدى، إما عبر التقنية أو من خلال الإيديولوجيات المحملة بالطوبي. ومن ثمة مجاسدة مفهوم التقدم للمفهوم الحداثي للزمن مجاسدة كمية وكيفية في نفس الآن. مما يكسب مفهومي التاريخ والزمن من جديد بعدا غائيا وإن كان تاريخانيا هذه المرة. يمكن أن نطلق على التصور الجديد للتاريخ والزمن اسم النـزعة التاريخانية وهي النـزعة التي بدأت تطال ـ بموازاة تبلور وتغلغل روح الحداثة ـ كافة مجالات الحياة الإنسانية، وعلى رأسها المجال السياسي الـذي تنطلق داخله دينامية تمايز واستقلال تدريجي عن المجال الديني، وتتبلور فيه شرعية جديدة قوامها استمداد السلطة لشرعيتها من الشعب، وتتطور فيه آليات جديدة للحكم قائمة على فكرة التعاقد، والانتخاب، والمراقبة، وفصل السلط، والمشاركة الواسعة في إدارة الشأن السياسي.
4 ـ في الإنسان تميز فكر الحداثة، وثقافة الحداثة بإيلاء الإنسان قيمة مركزية نظرية وعملية. ففي مجال المعرفة أصبحت ذاتية العقل الإنساني هي المؤسسة لموضوعية الموضوعات12. وتم إرجاع كل معرفة إلى الذات المفكرة أو الشيء المفكر Res Cogitaus أو الكوجيتو13. المفارقة الكبرى في تصور فكر الحداثة للإنسان هي أنه عندما يجعل الإنسان مركزا مرجعيا للنظر والعمل، وينسب إليه العقل الشفاف، والإرادة الحرة، والفاعلية في المعرفة وفي التاريخ، فهو بنفس الوقت يكشف بجلاء عن مكوناته التحتية، ومحدداته العضوية الغريزية والسيكولوجية ودوافعه الأولية (الجنس، العدوان، البحث عن الربح، التغذية…)14. وهكذا تلتقي النظرة الحداثية للإنسان، من حيث هي إضفاء صبغة طبيعية على الإنسان، بإضفاء صبغة تاريخية على الطبيعة، وإضفاء صبغة طبيعية على التاريخ. والفلسفة ومعظم العلوم الطبيعية والاجتماعية تنخرط في هذه الحركة ابتداء من الفيزياء الفلكية إلى الأنتروبولوجيا الإحيائية إلى الماركسية إلى التحليل النفسي إلى العلوم السلوكية المعاصرة. غير أن هذا التصور العقلاني للإنسان الذي بلوره فكر الحداثة الأوربية سرعان ما تعرض للمراجعة والنقد. فمقابل هذا التصور العقلاني للإنسان كذات مركزية، عاقلة وعارفة، مريدة وفاعلة، بدأ يتبلور خط فكري معاكس قوامه أن الإنسان ذات مشروخة ومشروطة، غير عارفة بذاتـها، وخاضعة لحتمية البنيات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية واللسانية والرمزية التي تحددها معا، ذات يداهمها اللاعقل والوهم والمتخيل من كل جانب. لقد أدت الثورات المعرفية الكبرى التي حصلت منذ نهاية القرن الماضي في الفكر الغربي (الثورة اللغوية، الثورة الإبستمولوجية، الثورة البنيوية، الثورة التاريخية) إلى فصل المعنى عن الوعي، والمعرفة عن اليقين، والمعنى عن التمثل، مبينة أن المعاني لا تصدر عن ذات سيكولوجية أو ترانسندنتالية، وإنما تتولد في اللغة ومنظومات القرابة ومختلف المنظومات الرمزية، وأن الذات ليست فاعلا بقدر ما هي حصيلة مفاعيل15. وقد أطلق ريكور على هذا التوجه اسم فلسفة الوجس16. غير أن هذه المراجعات لم تمس جوهر التصور الحداثي للإنسان بل سعت فقط إلى تلطيف وتنسيب عقلانيته ووعيه بذاته وحريته وفاعليته. الحداثة والفاعل يمكن أن نميز، فيما يخص فواعل الحداثة بين الفواعل السوسيولوجية، والفواعل الفكرية. الصنف التفسيري الأول نجده لدى ماكس فيبر وكارل ماركس، والصنف الثاني نجد نموذجه لدى بعض الفلاسفة كهيجل وهيدجر. التفسير السوسيولوجي يرجع نشأة الحداثة إلى الدور الفاعل للمنشأة الرأسمالية والإدارة البيروقراطية كمؤسستين عقلانيتين، عقلنت أولاهما العملية الاقتصادية، وعقلنت الثانية نظام تسيير المجتمع. يرى ماكس فيبر أن هناك علاقة داخلية حميمية بين العقلانية والحداثة. وإذا كانت العقلنة اتخذت طابعا مؤسسيا منظما في الاقتصاد والإدارة، فإنـها مع ذلك عملية شاملة اكتسحت المجتمع الغربي كله. وقد أدت عملية نزع الطابع السحـري عن العالم إلى تفكيك التصورات التقليدية وتولد ثقافة دهرية من طلب المسيحية نفسها. وفي سياق هذه العملية تطورت العلوم التجريبية، واستقلت الفنون، وتشكلت دوائر الثقافة خاضعة لمعايير داخلية خاصة مرتبطة بالممارسة17. وبعبارة أخرى، وأخذا بتأويلات هابرماس لنظرية الحداثة عند فيبر، فإن العقلنة لم تقتصر على إضفاء طابع دنيوي على الثقافة، بل دفعت أساسا إلى تطور المجتمعات الحديثة. لقد تمايزت البنيات الاجتماعية الجديدة، وتباينت المجالات الثقافية متمحورة حول مركزين ناظمين ومنظمين لنمط الحياة الجديدة وهما النشأة الرأسمالية والجهاز البيروقراطي للدولة، اللذين هما مركزان متنافذان من الناحية الوظيفية. وقد اكتسحت الأنشطة العقلانية بالقياس إلى غاياتـها في مجالي الاقتصاد والإدارة الحياة اليومية، وأشكال الحياة التقليدية، تلك التي كانت متمحورة حول التنظيمات الحرفية، وفككتها بالتدريج كبنيات وكثقافة18. ومن ثمة الأهمية القصوى والحاسمة لكل من الاقتصاد والسياسة في المجتمع الحديث. يربط ماركس نشأة الحداثة بالرأسمالية كنظام اقتصادي، وبالبورجوازية كقوة بشرية تحديثية. ففي "البيان الشيوعي" يكيل ماركس أعظم المدائح للبورجوازية من حيث أنـها "عندما استولت على السلطة وضعت حدا للعلاقات الإقطاعية والبطركية والعاطفية"، وأدخلت تغيرات ثورية على أدوات وعلاقات الإنتاج، "فهذه الانقلابات الثورية المستمـرة في أساليب الإنتاج، وهذا التزعزع غير المنقطع في النظام الاجتماعي بأسـره، وهذا القلق والاضطراب الدائبان، كل ذلك يميز عصـر البورجوازية عن العصور السالفة كلها". إن سائر العلاقات الاجتماعية المتوارثة، الجامدة المتجلدة، وما تجره وراءها من مواكب الأوهام والأفكار القديمة المبجلة تكنس وتندثر، أما التي تـحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل أن يصلب عودها. فكل ما هو صلب يتبخر، وكل ما هو مقدس، يدنس". بل إن "البورجوازية تجتاح الكرة الأرضية بأسرها، تحثها الحاجة إلى الأسواق الجديدة دائما". لقد أخضعت البورجوازية الريف للمدينة، وخلقت مدنا عظيمة، وزادت بصورة مفرطة سكان المدن على حساب سكان الأرياف وبذلك انتـزعت قسما كبيرا من السكان من بلاهة حياة الحقول. وقد خلقت البورجوازية قوى منتجة أكثر عددا وأعظم جبروتـا كما خلقت سائر الأجيال مجتمعة. فقد قامت بإخضاع قوى الطبيعة والآلات وتطبيق الكيمياء على الصناعة والزراعة والملاحة بالبخار، والسكك الحديدية، والبرق الكهربائي وعمران قارات كاملة، وحفر القنوات للأنهار. وفي عهدها اتحدت مقاطعات بكاملها بمصالحها وقوانينها وحكوماتـها وتعريفاتـها الجمركية المختلفة واجتمعت في أمة واحدة وفي مصلحة وطنية وطبقية واحدة وراء حبل جمركي واحد19. وعلى وجه العموم فإن المادية التاريخية ترجع التحولات الاجتماعية إلى التناقض بين علاقات الإنتاج القائمة وقوى الإنتاج الجديدة، إلا أن ماركس في هذا النص من "البيان" يسند إلى البورجوازية، بروحها الثورية الإدارية المغامرة، كل التحولات الكبرى التي شهدتـها أوربا بالانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، مما يجعل موقف ماركس في هذه المسألة مراوحا بين إيلاء الأولوية في التغيير للعنصر الإرادي البشري أحيانا وللعوامل البنيوية التقنية والاقتصادية أحيانا أخرى. هناك نموذج آخر للتفسير مختلف كليا نجده لدى كبار الفلاسفة الذين يرجعون التحولات الكبرى في تاريخ المجتمعات، وفي التاريخ البشـري عامة إلى تحولات فكرية وفلسفية, فهيدجر يرى أن المصادر التاريخية لثقافة ما أو لمجتمع ما يحدده مسبقا فهم كل ما يمكن أن يحصل في العالم20، وهو الفهم الذي يلزم ويوجه كل مجموعة بشرية إلزاما وتوجيها ضمنيا أشبه ما يكون بحتيمية قدرية مضمرة. وهذا الفهم المسبق تتضمنه الميتافيزيقا. فهي التي "تؤسس عصرا وتمنحه من خلال تأويل محدد للموجود، ومفهوم معين عن الحقيقة مبدأ تشكله الأساسي"21. وهذا قانون فلسفي يشمل كل العصور"
 فكيفما كانت الطريقة التي يتم بـها تأويل الموجـود، سواء كروح بالمعنى الوارد لدى النـزعة الروحية، أو كمادة وقوة بالمعنى الوارد لدى الاتجاه المادي، أو كصيرورة وحياة، أو كتمثـل، أو كإرادة، أو كقوام جوهري  (Substance)، أو كذات فاعلة، أو كطاقة، أو كعود أبدى لذات الشيء، فإن الموجود يظهر كموجود على ضوء الوجود"22. وهذه الفكرة نجدها متداولة في الفلسفة الألمانية منذ هيجل الذي كان قد اعتبر تاريخ الفلسفة مفتاحا لفلسفة التاريخ كما أن تاريخ الغرب الحديث حسب هيدجر يجسد أساسه في تاريخ الميتافيزيقا الغربية، التي تشكل "التاريخ المخفي للغرب"23. وحتى إذا كان من العسير، من خلال المنظور الهيدجري، أن نرجع نشأة الحداثة إلى "فاعل"، لأن الأمر عنده يتعلق بتحولات قدرية في معنى الموجود وتصور الحقيقة، أكثر مما يتعلق بفعل فاعل، فإن ممن الممكن، من باب المجاز، اعتبار ديكارت (وكذا ليبنتس) هو بطل الحداثة ورائدها. علـى الرغم من أن هيدجر يتتبع جذور نشأة العقلانية الحديثة إلى التحول الذي حدث مع أفلاطون، والذي تجسد في الانتقال من الفيزيس إلى الايدوس. ففلسفة ديكارت تجسد هذا التحول الكبير الذي دشن مطلع العصور الحديثة وجعل الذات "مركزا ومرجعا للموجود بما هو كذلك. وذلك لم يكن ممكنا إلا بشروط تحول معنى الوجود كليا (…) إذ أصبح ينظر إلى الموجود في كليته على أنه لا يوجد حقا، ولا يكون موجودا إلا إذا كان محط تمثل وإنتاج (…). وأصبح يُبحث عن وجود الموجود ويعبر عنه في الوجود ـ المتمثل للموجود"24. يربط هيدجر إذن نشأة الحداثة بالحدث الفلسفي المتمثل في جعل الذات مركزا ومرجعا. لكن مضمون هذه الذات المرجعية هو العقل والإرادة، وهو كونـها عقلا حاسبا وحسابيا بالمعنى اللاتيني لكلمة Ratio. هذا العقل الحسابي ـ الأداتي ـ حسب تسمية رواد مدرسة فرنكفورت، يجد تعبيره في العلم كمنظور حسابي وكمي للأشياء المدركة والقابلة للاستعمال25، وفي التقنية كتحريض للطبيعة وإرغام لـها على أن تسلم طاقتها وتكشف أسرارها. يبدو من خلال استعراض المواقف المختلفة من مسألة فواعل الحداثة أنه حتى وإن اختلفت الفئات ومن ثمة المؤسسات التي يكِلُ إليها المفكرون دورا مولّدا أو محركا للحداثة (الرأسماليون، الإداريون، المثقفون، الساسة، العسكر…إلخ) فإنه يكاد يكون هناك نوع من الإجماع على تبلور ثقافة عقلانية شكلت الأرضية الفكرية والإيديولوجية الحافزة على انطلاق مخاض الحداثة. السمات الفلسفية يربط العديد من الدارسين نشأة الحداثة بمبدأ الذاتية. وهذا المفهوم متعدد الدلالات فهو يشكل مضمون ما سمي بالنـزعة الإنسانية. ومن ثمة فهو يعني مركزية مرجعية الذات الإنسانية وفاعليتها وحريتها وشفافيتها وعقلانيتها. كان هذا المفهوم يحيل لدى هيجل على دلالات أخرى يوجـزها هابرماس في أربع دلالات ملازمة: 1 ـ الفردانية، وتعني أن الفرادة الخاصة جدا هي التي لـها الحق في إعطاء قيمة لادعاءاتـها. 2 ـ الحق في النقد، ويعني أن مبدأ العالم الحديث يتطلب أن على كل فرد أن يتقبل فقط ما يبدو مبررا ومقنعا. 3 ـ استقلالية الفعل، فمن خصائص العصور الحديثة تهيؤها لتقبل ما يفعله الأفراد والاستجابة له. 4 ـ الفلسفة التأملية ذاتـها، فمن خصائص العصور الحديثة كذلك عند هيجل أن الفلسفة تدرك الفكرة التي تجتاز وعيا بذاتـها26. يرى هيجل أن مبدأ الذاتية هذا بدلالاته المختلفة قد فرضته الأحداث التاريخية الكبرى: الإصلاح الديني، والأنوار، والثورة الفرنسية.
فمع الإصلاح البروتستاني لدى لوثر أصبح الإيمان الديني مرتبطا بالتفكير الشخصي، وكأن العالم القدسي قد أصبح واقعا مرتبطا بقرارنا الشخصي. فهذا الإصلاح قام على التأكيد على سيادة الذات، وأبراز قدرتها على التمييز والاختيار باعتباره حقا من حقوقها، في حين كان الإيمان التقليدي قائما على ضرورة الإتباع والخضوع للقوة الآمرة للتراث والتقليد.
كما أن الثورة الفرنسية وإعلان مبادئ حقوق الإنسان قد فرضت مبدأ حرية الاختيار، بمقابل الحق التاريخي المفروض، كقاعدة أساسية للدولة27. هكذا أصبح مبدأ الذاتية محددا في كل مجالات الفعل، ومحددا في كل أشكال الثقافة الحديثة. فالحق والأخلاق أصبحا قائمين على الإرادة الحالية الحاضرة للإنسان في حين أنـها كانت من قبل مدونة ومملاة على الفرد. كما أصبحت الذاتية أساس المعرفة العلمية التي تكشف أسرار الطبيعة بقدر ما تحرر الذات العارفة، فالطبيعة تصبح جملة قوانين شفافة ومعروفة من طرف الذات. وعلى وجه العموم فإن الحياة الدينية، والدولة، والمجتمع، وكذا العلم والأخلاق والفن تبدو جميعا كتجسيد لمبدأ الذاتية. هذا المبدأ الذي يظهر كذاتية مجردة في الكوجيتو الديكارتي أو الوعي الذاتي المطلق لدى كنط28. ومن زاوية أخرى فإنه يمكن القول بأن الأنشطة المعرفية في مجال العلم والأخلاق والفن كانت قد تمايزت واستقلت معاييرها الداخلية، كما أن دائرة المعرفة كما يقول هيجل، قد تمايزت عن دائرة الإيمان، وكل هذه الدوائر ظلت بمثابة تعبير عن مبدأ الذاتية29. السمة الأساسية الملازمة للذاتية هي العقلانية بمعنى إخضاع كل شيء لقدرة العقل التي هي بحث دؤوب عن الأسباب والعلل، ومن ثمة الارتباط الحميم لمبدأ السبب أو العلة بمبدأ العقل (Principe de Raison). وهذا المبدأ عبرعنه لأول مرة ليبنتس في الصيغة التي تقول لا شيء بدون علة، وبفضله يصبح كل من الواقع الطبيعي والواقع التاريخي معقولا أو عقلانيا (أو قابلا للتفسير) بالنسبة للذات30.هكذا يصبح كل شيء مفحوصا ومفهوما بل ومحكوما من طرف العقل. وعبره يتحقق الإنسان من سيادته النظرية على العالم الذي يغدو شفافا وخاليا من الأسرار31. هذه العقلانية الحسابية الصارمة أو الأداتية سواء في مجال المعرفة العلمية والتقنية أو في مجال الإدارة والتسيير هي شكل من أشكال السيطرة والقوة، ومن ثمة ارتباط العقلانية بالسيطرة سواء تعلق الأمر بالسيطرة الكوكبية للتقنية المنفلتة من عقالها أو بالنـزعة الكليانية السياسية. إن العقلانية الأداتية سيطرت على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان، وسيطرت على هذا الأخير عبر السيطرة على الطبيعة بواسطة التقنية، فالحداثة في عمقها مشروع تندغم فيه بصورة رفيعة إرادة الهيمنة بإدارة التحرر. ترتبط بالعقلانية الأداتية وما ينتج عنها من سيطرة، سمة فلسفية أخرى أساسية تسم العصور الحديثة وهي غياب المعنى32، وانتفاء المقاصد الغائية الكبرى التي كانت تشد وتزين العالم التقليدي. فنتيجة اكتساح ثقافة الحداثة لكل القطاعات الاجتماعية، وعقلنتها لكل مستويات الوجود الاجتماعي هي خسوف المعاني الكبرى، أوبتعبير ماكس فيبر افتقاد العالم لسحره (Ent zauberung). ورغم أن هيدجر يستعمل مصطلحا آخر (Ent Gotterung) للتعبير عن نفس الفكرة فإنه يجمل في النهاية هذه السمة في لفظ العدمية، ويعني بـها افتقاد القيم العليا لقيمتها، وغياب الأهداف الكبرى، وانعدام الجواب عن السؤال البسيط: لماذا؟33 والعدم المعني هنا حركة تاريخية أصيلة وليست رأيا لهذا الفرد أو ذاك وليس حتى ظاهرة تاريخية بين ظواهر أخرى، بل هو بالأحرى، في جوهره، الحركة الأساسية في تاريخ الغرب الحديث34. وغياب المعنى، الملازم للعصور الحديثة، ليس سمة منعزلـة، بل هو الوجه الآخر لانتصاب الذاتية معيارا، ولظفر العقلانية الأداتية التي تشكل "عالما مروضا"، ولانفلات العلم التقني، وتحوله إلى أداة سيطرة على الطبيعة والإنسان، لدرجة يبدو معها أن "غياب المعنى ناتج عـن الطابع النهائي الحاسم لبداية الميتافيزيقا الحديثة"35. ولعل النعوت التي تطلق على عصرنا هذا عصر الموضة، عصر الفراغ، عصر التفاهة والهشاشة (la médiocrité, l'ephemère) تعكس صدى هذه السمات المتحدث عنها، والتي وازت في نشأتـها تبلور مفهوم الحداثـة نفسه كما نجد ذلك لدى الشاعر الفرنسي بودلير الذي يعرف "الحداثة بأنها ما هو عابر، وفرار fugitif وعارض contingent.." (بودلير: رسام الحياة الحديثة). إلا أن هذا الفراغ الناتج عن غياب المعـاني الكبرى غالبا ما " يتم ملؤه باستكشاف تاريخي وسيكولوجي للأساطير"36، وباستثمار أقانيم جديدة كالإيديولوجيات اليوتوبية الكبرى الواعدة بالسعادة والحرية والمساواة، والأبطال الجماهيريين لهذا العصر في مختلف المجالات كأبطال الرياضة والسياسة والسينما والغناء والموضة.
الحداثة ومفعولاتـها تتميز الحداثة بأنها تحول جذري على كافة المستويات: في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي التاريخ. إنها بنية فكرية كلية. وهذه البنية عندما تلامس بنية اجتماعية تقليدية فإنـها تصدمها وتكتسحها بالتدريج ممارسة عليها ضربا من التفكيك ورفع القدسية. تستخدم الحداثة أساليب رهيبة في الانتشار والاكتساح. فهي تنتقل كالجائحة في الفضاءات الثقافية الأخرى إما بالإغراء والإغواء عبر النماذج، والموضة والإعلام، أو عبر الانتقال المباشر من خلال التوسع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري أو الغزو الإعلامي بمختلـف أشكـاله إلى غير ذلك من القنوات والوسائل. وعندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنـها تولد تمزقات وتخلق تشوهات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم. وذلك بسبب اختلاف وصلابة المنظومتين معا. فللتقليد صلابته، وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وطرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها ؛ كما أن للحداثة قدراتـها الخاصة على اكتساح وتفكيك المنظومات التقليدية، وأساليبها في ترويض التقليد، ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه. فالصراع بين المنظومتين صراع معقد وشرس بل قاتل. وقد سبـق لي أن تحدثت في مكان آخر عن العلاقة الاستعارية بين التقليد والحداثة. فكثيرا ما يتلبس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيف والاستمرار بينمـا تتلبس الحداثة بالتقليد أحيانا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها. وهذا التزاوج نشهده في كافة مستويات الكل الاجتماعي، نشهده في التلاقح بين منظومتي القيم، وفي المستوى الإدراكي، والسلوك الفردي، في المعرفة، في الاقتصاد وفي السياسة. ففي المجال السياسي مثلا يحصل تمازج بين مصدرين للشرعية السياسية: الشرعية التقليدية المستمدة من الماضي، والتراث والأجداد، وشرعية المؤسسة العصرية القائمة على أن الشعب هـو مصدر السلط. وهذا التمازج والاختلاط يطال الخطاب السياسي والإيديولوجي، والسلوكات السياسية، ويطبع المؤسسات السياسية، والثقافـة السياسية برمتها. وهو على الرغم من كل مظاهر التعايـش تمازج صراعي في عمقه. هذه الحالة البينية هي حالة طويلة الأمد إذ أنها لا تحسم بتحويل إرادي للمؤسسات أو للمنظومات القانونية بل عبر تحولات بعيدة المدى. وانتقال منظومة ثقافية تقليدية إلى الحداثة هو في الغالب انتقال عسير مليء بالصدمات الكوسمولوجية، والجراح البيولوجية أو الخدوش السيكولوجية للإنسان، وكذا بالتمزقات العقدية لأنه يمر عبر "قناة النار"، أي عبر مطهر العقل الحديث والنقد الحديث. وكل ثقافة لم تتجشم مثل هذه المعاناة المرة تظل تراوح مكانها على عتبة الحداثة، وفي عدم قدرة على الحكم على نفسها بسبب عدم قدرتها على رؤية ذاتـها من الخارج، وهذه القدرة لا يمكن اكتسابـها إلا بموضعة الذات وإخضاع المسلمات لمحك العقل والنقد، والحد.
المصدر: مجتمعنا


الأحد، 19 نوفمبر 2017

فلسفة؛ مدونة فلسفية مغربية (الفلسفة في البكالوريا المغاربية)



فلسفة؛ مدونة فلسفية مغربية (الفلسفة في البكالوريا المغاربية)





تأملات ديكارتية"([1]) إدموند هوسرل

ترجمة وتقديم: الطيب بوعزة
        بدعوة من "معهد الدراسات الجرمانية" و"الجمعية الفرنسية للفلسفة" ألقى هوسرل في الثالث والخامس والعشرين من شهر فبراير 1929 أربع محاضرات. في مدرج ديكارت بجامعة السوربون. هذه المحاضرات التي سيعيد صياغتها في شكل كتاب اختار له عنوان "تأملات ديكارتية"، أرسله إلى الفيلسوف الفرنسي إ.ليفناس، الذي سيقوم بترجمته إلى الفرنسية بالاشتراك مع ج.بيفر. والواقع أنه ليس من باب المجاملة ولا من مستلزمات الإيتيكت أن يخاطب هوسرل جمهوره الفرنسي بمحاضرات وتأملات ينعتها بالديكارتية، بل إن العلاقة بين الديكارتية والفينومينولوجيا بقدر ما هي علاقة إشكالية نقدية هي علاقة وطيدة، فديكارت هو بالنسبة لهوسرل الفيلسوف الذي قام بأهم اكتشاف في تاريخ الفلسفة أي اكتشاف قارة الكوجيتو، كما أنه يسمي الفينومينولوجيا في متنه هذا بكونها "ديكارتية جديدة". غير أن هذا لا يعني أن الفلسفة الهوسرلية مجرد طبعة جديدة للفلسفة الديكارتية، بل ثمة اختلاف منهجي وفلسفي ملحوظ بين المشروع الفلسفي الهوسرلي والمشروع الديكارتي فإذا كان ديكارت ينطلق من الشك، وإذا كان هذا الشك الديكارتي يطال وجود العالم فإن هوسرل ينطلق من "الإيبوخي" أي من التعليق، أي وضع العالم بين قوسين للإمساك بالشعور، ليتمكن بعد ذلك من نزع الأقواس عن العالم ودراسته كموضوع شعور. وإذا كان الحدس الديكارتي هو أساس حدس الكوجيتو، فإن الحدس الهوسرلي هو فضلا عن ذلك إنصات إلى الأشياء ذاتها بالعود إليها. كما أن مدلول الأشياء لا يعني، عند هوسرل، الموضوعات الحسية بمدلولها الوضعي، بل الشيء عند هوسرل هو الظاهرة ومحتواها العقلي، أي الظاهرة والماهية. إلا أن هذا العود إلى الأشياء ذاتها ليس خروجا من الكوجيتو أو ارتحالا عن أرضه، بل ليس ثمة -حسب هوسرل- فاصل بين الكوجيتو والكوجيتاتوم بين النويز والنويم. وهذا التعالق والتلازم يرتقي بالفينومينولوجيا إلى مستوى الثورة على نظرية المعرفة التقليدية ببنياتها الموروثة التي عادة ما تفصل بين الذات والموضوع، وهي ثورة تسعى على المستوى الإبستمولوجي إلى تجاوز الاستحالات التي تسقط فيها نظرية المعرفة التقليدية بفواصلها تلك. إلا أن هذا الارتباط بالكوجيتو وعدم الارتحال عنه له في الفكر الفينومينولوجي مدلول نقدي من جهة علاقة الفينومينولوجيا بالديكارتية. فالموقف النقدي من ديكارت يمس بالضبط النوى المفهومية المركزية في الديكارتية أي الكوجيتو: فهوسرل يرى أن ديكارت لم يقدر قيمة هذا الاكتشاف، ولم يسكن قارة الكوجيتو، وذلك بسبب تشغيله للمنهج الرياضي فاستحال الكوجيتو عنده إلى مقدمة استنباطية ليس غير، بينما كان عليه -حسب هوسرل- أن يسكن الكوجيتو ويقيم بداخله، ويستكشفه. وهذا هو المشروع الفلسفي الهوسرلي في متنه هذا "تأملات ديكارتية"، إنه إذا أردنا اختصاره في أوجز تعبير يمكن أن نقول: إنه استكشاف الكوجيتو.
        فماذا يجد هوسرل بداخل الكوجيتو؟
        إنه يجد كل شيء: فالكوجيتو حسب هوسرل ليس فقط "أنا أفكر" بل فيه أيضا موضوع التفكير، وهو أيضا كينونة متعالية، بل وذاتية بينية متعالية، تحضر بداخلها ذوات متعددة. وهذا الاستحضار للغير داخل الكوجيتو يعتبره هوسرل تجاوزا للسقوط في الأنا وحدية التي انزلق فيها كوجيتو ديكارت.
        وفي هذا التمهيد، الذي نقدم في ما يلي ترجمته الكاملة، نجد بالإضافة إلى علاقة الفينومينولوجيا بالديكارتية. قراءة هوسرلية لوضعية الفلسفة والعلم في بداية القرن العشرين، تلك الوضعية التي يصفها ب"الأزمة" والتي يعتبر أن الحل الأساسي لتجاوزها هو إعادة تأسيس الفلسفة والعلوم السائدة على أساس فلسفي جديد/قديم، أساس يتم تحصيله باستعادة التأمل الديكارتي، وتشغيله من جديد، وتجنيبه المزالق التي سقط فيها ديكارت.
        فلننصت إليه يتحدث عن ماهية "التأملات الديكارتية" وقيمتها.
النص
        تمهيد
        1- "تأملات ديكارت" نموذج أصيل للعود الفلسفي إلى الذات:
        إنني أشعر بالسعادة لتمكني من الحديث عن الفينومينولوجيا المتعالية في هذه الدار الموقرة المتميزة بين كل الدور التي يزدهر فيها العلم الفرنسي. وإن لدي أسبابا خاصة تفسر شعوري هذا، تتمثل في كون الدفعات الجديدة التي تلقتها الفينومينولوجيا إنما يرجع الفضل فيها إلى رونيه ديكارت، مفكر فرنسا الأكبر، إذ من خلال دراسة "تأملاته"، استطاعت الفينومينولوجيا الناشئة حديثا أن تتحول إلى نموذج جديد للفلسفة المتعالية، إلى درجة يمكن أن نسميها على وجه التقريب ديكارتية جديدة، على الرغم من كونها وجدت نفسها مضطرة إلى استبعاد -تقريبا- كل المضمون المذهبي المعروف عن الديكارتية، ومضطرة إلى تبديل بعض القضايا الديكارتية تبديلا جذريا.
        وبالنظر إلى هذه الاعتبارات أعتقد أنه باستطاعتي ن أكون واثقا، سلفا، في أنني سأجد لديكم حفاوة مشجعة، إذا ما اخترت كنقطة انطلاق لي، من بين الموضوعات التي تعالجها تأملات في الفلسفة الأولى، تلك الموضوعات التي لها قيمة خالدة، في نظري، وخاصة إذا ما حاولت أن أحدد فيما بعد السمات المميزة للتحولات والتجديدات التي أدت إلى ميلاد المنهج والقضايا المتعالية.
        ما يلفت انتباه كل مبتدئ في الفلسفة هو نظام أفكار "التأملات"، وتسلسلها المدهش، فلنذكر هنا بالفكرة الموجهة لهذه التأملات: إنها تهدف إلى إصلاح جذري للفلسفة، بحيث تصبح علما قائما على أسس مطلقة، وإن هذا الهدف يتطلب، حسب ديكارت، إصلاحات موازية في كل العلوم، لأن -هذه العلوم- ليست في نظره سوى الأجزاء التي يتكون منها العلم الكلي، أي الفلسفة. ولا يمكن لهذه العلوم أن تصبح علوما بحق إلا باندراجها داخل الوحدة النسقية للفلسفة. والحال أنه إذا نظرنا إلى هذه العلوم، في سياق تطورها التاريخي، سنلاحظ أن الذي ينقصها هو خاصية الحقيقة، تلك الخاصية التي تسمح لها بأن ترجع كلها في نهاية التحليل إلى حدوس مطلقة لا يمكن تخطيها. لهذا يصبح من الضروري إعادة تأسيس البناء الذي يمكن أن يطابق فكرتنا عن الفلسفة كوحدة كلية للعلوم، والقائمة على أساس مطلق. إن ضرورة إعادة البناء هذه، التي فرضت نفسها على ديكارت، تجسدت لديه في شكل فلسفة متجهة نحو الذات.
        حقا لابد، في البداية، لكل من يريد أن يصبح فيلسوفا أن يعود إلى ذاته ولو مرة واحدة أثناء حياته، وأن يحاول في داخل ذاته قلب كل المعارف التي سلم بها حتى ذلك الحين، ثم بعد ذلك يحاول إعادة بنائها من جديد. إن الفلسفة -الحكمة- هي على نحو ما عمل شخصي بالنسبة للفيلسوف، فالفلسفة ينبغي أن تنشأ بوصفها فلسفته، وأن تكون حكمته هو، ومعرفته الخاصة، التي على الرغم من أنها تنزع نحو ما هو كوني، فإنها يجب أن تظل نتيجة لتحصيله الشخصي، وأن يكون بمقدوره تبريرها، من ولها وخلال كل مرحلة من مراحلها، باعتماد على حدوسه المطلقة. ومنذ اللحظة التي قررت فيها السعي نحو هذه الغاية، هذا القرار الذي هو وده القادر على أن يكفل لي الحياة والنمو الفلسفيين، فإنني أكون ضمنيا قد اعترفت في الوقت نفسه بما في معرفتي من فقر. ومنذ تلك اللحظة تبين لي أنه لابد أن أتساءل ابتداء: كيف يتأتى لي إيجاد منهج يمنحني طريقا أسلكه فأصل إلى العلم الحقيقي. إن تأملات ديكارت إذا ليست مجرد عمل خاص بالفيلسوف ديكارت وحده، ولا هي بالأحرى مجرد أسلوب أدبي استعمله لعرض رؤاه الفلسفية. بل إن هذه التأملات -هي على العكس من ذلك- ترسم النموذج الأصيل لنوع التأملات الضروري لكل فيلسوف يبدأ عمله، والتي هي وحدها الكفيلة بتوليد فلسفة ما.
        وإذا التفتنا الآن إلى محتوى "التأملات"، الذي يبدو غريبا بالنسبة لنا حاليا، سنجد فيه عودا ثانيا إلى "أنا" الفيلسوف، بمعنى جديد وأكثر عمقا، وهو عود إلى "أنا" الأفكار الخالصة. ويتم هذا العود بمنهج الشك الشهير والمدهش. ومادام لا يعرف له هدفا غير الوصول إلى معرفة مطلقة، فهو لذلك يمتنع عن الاعتراف بالوجود لأي شيء، ما لم يكن هذا الشيء في مأمن تام من كل ما يمكن أن يضعه موضع الشك. إنه يخضع كل ما يبدو مؤكدا في عالم التجربة والفكر إلى نقد منهجي، من جهة إمكانيات الشك التي يمكن أن يستحضرها، ويحاول اكتساب مجموعة من المعطيات البدهية بداهة مطلقة، وذلك بنفي كل ما يمكن أن يؤدي إلى الشك فيها. وإذا طبقنا هذا المنهج على يقين التجربة الحسية التي يعطى لنا فيها العالم في الحياة اليومية، سنرى أن هذا اليقين لا يثبت بتاتا أمام النقد. ولذا فإنه في هذه المرحلة الأولية، لابد من وضع وجود العالم موضع التعليق. أما فيما يخص الحقيقة المطلقة، التي لا يشوبها شك، فإن الذات المتأملة لا تستبقي سوى ذاتها، وذلك من حيث هي أنا خالص لأفكارها، إنها تحتفظ بذاتها وكأنها موجود لا يمسه شك، ويستحيل حذفه من الوجود، حتى ولو كان هذا العالم غير موجود. وابتداء من هذه اللحظة فإن الأنا الذي تم إرجاعه على هذا النحو سيحقق نمطا من التفلسف هو نمط الأنا وحدي، وسيتجه نحو البحث عن طريق برهانية يستطيع أن يجد من خلالها في داخله الخاص خارجية موضوعية. إننا نعلم كيف نهج ديكارت مبتدئا بالاستدلال على وجود الله، وحقيقته، ليستنبط موضوعية الطبيعة، وثنائية الجواهر المتناهية، وبكلمة موجزة، إننا نعلم كيف استنبط الأرضية الموضوعية للميتافيزيقا وللعلوم الموضوعية، كما استنبط هذه العلوم نفسها. وكل هذه الاستدلالات تتم باتباع المبادئ المحايثة للأنا، التي هي مبادئ فطرية فيه.
2- ضرورة إنجاز بداية جديدة وجذرية في الفلسفة:
        إن كل ما ذكرناه هو من فعل ديكارت. بيد أننا نتساءل: هل يستحق الأمر أن نتعب أنفسنا في سبيل الكشف عن معنى خالد يكمن خلف هذه الأفكار؟ وهل تزال لهذه الأفكار قدرة على دفق قوى جديدة وحية في زماننا هذا؟
        إنها بالتأكيد واقعة تدفع نحو التفكير: فالعلوم الوضعية لم تعر "التأملات" كثير اهتمام، مع أن هذه التأملات كانت تهدف إلى أن تقدم لها الأساس العقلي المطلق. صحيح إن هذه العلوم أخذت تشعر اليوم في سياق تطورها بالغموض الذي يلف أسسها ذاتها، بعد التطور الرائع الذي شهدته خلال القرون الثلاثة السابقة. لكنها رغم ذلك لم تحاول الرجوع إلى "تأملات ديكارت" حتى في الإطار الذي تحاول فيه تجديد أسسها. وإن الذي يسترعي الانتباه، من جهة أخرى، هو أن تصبح "التأملات" معاصرة في حفل الفلسفة الآن، وأن يكون هذا بمنحى خاص جدا، وهذا راجع بالضبط إلى ما تحمله هذه "التأملات" من عود إلى "الأنا أفكر" الخالص. فديكارت يفتتح بتأملاته نمطا جديدا في التفلسف، إذ بمجيئه غيرت الفلسفة وجهتها تغييرا كليا، وانتقلت بنقلة جذرية، من الموضوعية الساذجة إلى الذاتية المتعالية، تلك الذاتية التي يبدو أنها في سير حثيث نحو التشكل في صورة نهائية، على الرغم من كون المحاولات المتجددة باستمرار، والتي كانت تسعى إلى تحقيق هذا الهدف، كانت دائما ناقصة. لكنني أتساءل هنا: أيمكن أن يكون هذا السعي الدائم خلوا من معنى خالد؟ ألا يحملنا التاريخ هذه المهمة النبيلة فنكون من ثم مدعوين نحن جميعا إلى المشاركة في إنجازها؟
        إن حالة الانقسام التي توجد عليها الفلسفة حاليا، والنشاط المضطرب الذي تبذله، يدعونا إلى التفكير فانطلاقا من منظور الوحدة العلمية لا تزال الفلسفة الغربية، منذ منتصف القرن الأخير، في حالة من الانحطاط البين، بالمقارنة مع العهود السابقة. إذ اختفت الوحدة تماما، سواء في رسم الهدف أو في وضع الإشكاليات أو تحديد المنهج. ولقد تحول الإيمان الديني عند بداية العهد الحديث إلى مجرد تعاقد خارجي، ثم ما لبث أن أمسك إيمان جديد بالإنسانية العاقلة وأخذ يرقيها: إنه الإيمان بفلسفة وعلم مستقلين. ومنذ ذلك الحين أصبح من اللازم أن توجه الثقافة الإنسانية بأكملها، وتضاء برؤى علمية، ومن ثم تصلح وتطور إلى ثقافة جديدة ومستقلة.
        إلا أن  هذا الإيمان الجديد ما لبث أن أصابه الفقر خلال الزمن، فكف بالتالي عن أن يكون إيمانا حقيقيا. ولم تكن هذه النتيجة بلا سبب، إذ ماذا نملك بالفعل؟ إنه بدل فلسفة واحدة وحية، نملك ركاما من التآليف الفلسفية، الذي يتنامى إلى ما لا نهاية، ولكنه مفتقر إلى الرابط الداخلي. وبدل الصراع الجاد بين النظريات المتضاربة التي تدل حتى في خصامها دلالة كافية على تضامنها الداخلي، وعلى الاشتراك في الأسس، وإيمان أصحابها الذي لا يتزعزع بفلسفة حقيقية، لدينا أشباه عروض وانتقادات، ولدينا فقط ما يشبه التعاون الحقيقي، والتعاضد في العمل الفلسفي. أما الجهود المتبادلة، والإحساس بالمسؤوليات، وروح التعاون الجاد، الذي يستهدف تحقيق نتائج ذات قيمة موضوعية، أي نتائج طهرها النقد المتبادل، وقادرة على الصمود أمام كل نقد لاحق، فليس ثمة أي شيء من هذا له وجود الآن. إذن كيف يكون بالإمكان وجود بحث وتعاون حقيقيين؟ أليس هناك عدد من الفلسفات يساوي تقريبا عدد الفلاسفة؟ وبالتأكيد هناك أيضا مؤتمرات فلسفية، ولكن ليست الفلسفات هي التي تلتقي فيها، بل الذي يلتقي فيها هم الفلاسفة فقط، فالذي ينقص هده الفلسفات هو "مكان" روحي مشترك، حيث يمكنها أن تتلامس ويخصب بعضها بعضا. صحيح إن الوحدة ربما تكون محفوظة على نحو أفضل داخل بعض "المدارس" أو "الاتجاهات" ولكن هذه الانقسامية إلى مدارس هي ذاتها التي تسمح لنا بالتشبث بتقويمنا للحالة العامة التي توجد عليها الفلسفة، أو على الأقل التشبث بالنقاط الأساسية لهذا التقويم.
        أليس هذا الواقع المشؤوم يشبه إلى حد بالغ، الواقع الذي صادفه ديكارت في شبابه؟ أليس هذا أوان إحياء نزعته الجذرية في الفلسفة؟ ألا يجب علينا إخضاع الإنتاج الفلسفي المكثف، الذي يصدر في أيامنا هذه إلى القلب الديكارتي، هذا الإنتاج المضطرب الذي اختلطت فيه التقاليد الكبيرة بالبدايات والمحاولات الجديدة، مع أبحاث أدبية دارجة، لا تجهد نفسها لكي تعطي، بل تكتفي بإحداث أثر فقط. ألا نحتاج إذا إلى "تأملات في الفلسفة الأولى" جديدة؟ أليست هذه الفوضى التي تطبع الواقع الراهن راجعة إلى أن دفعات "التأملات" فقد فقدت ما فيها من حيوية أولى، بسبب اختفاء روح المسؤولية الفلسفية الجذرية؟ ما هو المعنى الأساسي لكل فلسفة حقة؟ أليس هو السعي إلى تخليص الفلسفة من كل حكم مسبق ممكن، لنجعل منها علما مستقلا بالفعل، علما يتحقق بالبداهات النهائية المستمدة من الذات نفسها، والتي يجد فيها العلم تبريره المطلق؟ أليست هذه الضرورة التي لا يعتقد أحد في كونها مبالغة، تنتمي إلى ماهية كل فلسفة حقة؟
        لقد أدى الحنين إلى فلسفة حية، في أيامنا هذه إلى نهضات عديدة. إلا أننا نتساءل: أليست النهضة الفلسفية الوحيدة المثمرة حقا هي بطبيعة الحال تلك التي تقوم على بعث "تأملات ديكارتية" جديدة، ليست من أجل تبني هذه التأملات في كل أجزائها، ولكن من أجل الكشف عن المعنى العميق للعود الجذري إلى "الأنا أفكر" الخالص؟ لكن تحيى من بعد القيم الخالدة التي تصدر عنه؟ إن هذا هو على الأقل، الطريق الذي قادنا إلى الفينومينولوجيا المتعالية.
        وسوف نجتاز هذا الطريق معا، وسنبحث كفلاسفة عن نقطة انطلاق، ونحن لا نملكها بعد، فلنحاول أن نتأمل على الطريقة الديكارتية، ومن البدهي أنه يجب علينا التحلي بيقظة نقدية كبيرة وأن نكون على استعداد دائم لتغيير الفلسفة الديكارتية القديمة، حيثما تدعون الضرورة إلى ذلك.
        ويجب علينا أيضا أن نجنح إلى الوضوح، وأن نتجنب بعض الأخطاء المغرية التي لم يعرف لا ديكارت ولا خلفاؤه من بعده تجنب السقوط في مزالقها.

الديمقراطية عند جون ستيوارت ميل؛ بابلو سيمون؛ ترجمة ياسين السويحة.





الديمقراطية عند جون ستيوارت ميل

عن موقع الجمهورية على الرابط التالي:

هل يمكن للديمقراطية أن توجد دون أن يكون الشعب قد تربّى على الحفاظ عليها؟ هل يجب على الحكومات أن تعزّز التنشئة الأخلاقية لمواطنيها؟ لِمَ تُعتبر الحرّيّة مهمّة في نظام ديمقراطي؟ وكيف يتلاءم هذا مع نظام حُكم تمثيلي، يتخذ القرار فيه عدد قليل من الناس؟ كنا قد ناقشنا بعض هذه الأسئلة في بلدنا لمرّات عديدة. أول سؤالين، تحديداً، يطفوان على السطح في كلّ مرّة يناقَش فيها تعديل القوانين الناظمة للعملية التربوية، ونتساءل عندها عن دور الدولة في التعليم. أمام هذا النوع من السجالات تتساوى دوغمائية اليمين واليسار –لنتذكّر الشقاق حول مادّة التربية من أجل المواطنة– السؤالين الأخيرين، وهما أكثر عموميّة، يمسّان السجال بين المبادئ الليبرالية والديمقراطية من جهة، والحُكم الذاتي في المجتمع من جهة أخرى 1.
جون ستيوارت ميل (١٨٠٦-١٨٧٣) هو أحد أوائل المشتغلين على القضايا المطروحة أعلاه. هو مفكّر مبكّر، وسياسي ليبرالي، وفيلسوف وكاتب، وهو أحد أهم العقول في عصره. تطوّر تفكير ميل من مذهب المنفعة الكلاسيكي إلى مراجعات أكثر اكتمالاً للنفعيّة، وقدّم أطروحات تجيب على الأسئلة الكبرى الكلاسيكية حول الحُكم الصالح والتمثيل السياسي، وهي إجابات ذات تأثير كبير على النظريّات السياسية اللاحقة، وتساهم في بناء مفهوم عن الإنسان بكونه قادراً على إنجاز تنمية متناسقة، متأسّسة على مجتمع حرّ ومتعلّم. أقدّم، في هذا المقال، بعض النقاط الأساسية في فكر جون ستيوارت ميل وفي منظوره للديمقراطيّة، وسيكتشف القارئ بسهولة أن بعض أفكاره ما زالت قيد الاستخدام، ولو بشكل غير مباشر، في السجال السياسي المعاصر.
نهاية المساواة في المُتعة
تمركزت أولى إسهامات ميل في الفكر السياسي حول مراجعة أطروحات جيرمي بينثام 2 حول مذهب المنفعة بطريقة نقدية، حيث انشغل بالرؤى المخفّضة للحياة الإنسانية التي كانت المنفعة تنحاز لها. الإنسان، حسب بينثام، كائن معرّض لمُتَع وآلام، وسلوكه يتحدّد بأشكال مختلفة الإنحياز لمصالحه، من جهة، وبمشاعره من جهة أخرى، إيجابيّة كانت مشاعره أم سلبيّة. بدوره، رأى ميل أن هذا التعريف قاصر عن التفريق بين حياة أي حيوان وحياة البشر، لذلك أدخل تمييزات نوعيّة بين المُتَع، حيث أن بعضها، خصوصاً تلك العقلانية والروحانية (الفنون، الفلسفة…) هي مُتَع عليا بالمقارنة مع مُتَع الجسد. لذلك يرى ميل أن السعادة لا تتحقّق فقط عبر حياة ذات مُتَع جسدية ودون آلام، بل أيضاً بالوصول إلى مُتَع عليا، حتى لو كلّفت آلاماً أو تنازلات عن مُتَع أدنى.
اعتبر ميل أن أصل وجود مُتَع متمايزة يعود إلى وجود قِيَمٍ عليا بحدّ ذاتها عند الإنسان، وهذه القيم العليا هي الدافعة باتجاه وجود مُتَع عليا. يُرافع ميل عن هذه الفكرة بقوله «من الأفضل للمرء أن يكون سقراطاً مستاءً من أن يكون خنزيراً سعيداً». تنبع أهمية هذا التمييز من تأثيراته الثلاث على الفكر السياسي لجون ستيوارت.
يتمثّل التأثير الأول في علاقة التمييز بين المُتَع العليا وتلك الأدنى بنظرية ميل حول التقدّم الإنساني، حيث أن مجتمعاً يسعى أفراده لإحراز المُتَع العليا هو أكثر تقدماً في حضارته. هكذا، يرى ميل أن تحفيز العمل على إحراز المُتَع العليا هو، بحد ذاته، دفْع باتجاه تقدّم المجتمع. ثانياً، يرى ميل أن الحرّيّة الاجتماعية شرط أساسي لتكريس ثقافة المُتَع العليا، حيث أن المجتمع الحرّ هو وحده القادر على أن يكون متحضراً. أخيراً، إمكانية البشر على الحياة المشتركة بعدالة تتناسب طرداً مع سعيهم لإحراز مُتَع عليا أكثر من المُتَع الأدنى.
تُشكّل أطروحات ميل تغييرات كبيرة في النواة النظرية النفعيّة، رغم أن الجوهر هو نفسه: الفكرة، فرديّةً كانت أم مجتمعيةً، صالحة بقدر نفعها في إنجاز أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من البشر. لكن أفكار ميل مسّت الأسس السياسيّة للنظرية، حيث أضافت إمكانية تمييز «الحُكم الصالح» وفقاً لنظرية المنفعة: هو ذاك الأكثر «تقدميّة»، الأكثر تعزيزاً للبحث عن المُتَع العليا الإنسانيّة. هذه الملامح صالحة لإكمال النظرية على المستوى الفردي، وهي أيضاً ضرورية لإحراز صيغة التنظيم السياسي الأمثل.
يجدر هنا التذكير بأن النفعيّة الكلاسيكية، باعتبارها أن متعة مشاهدة مباراة كُرة قدم متساوية مع متعة قراءة كتاب، تحمل أسساً جذريّة في ديمقراطيتها: إن كانت المُتَع متساوية، فالمصالح يجب أن تكون متساوية أيضاً (لذلك، كان النفعيّون الكلاسيكيون روّاداً في المطالبة بعموميّة حقّ الاقتراع). مع ذلك، يرى ميل أن الحُكم الصالح ليس فقط ذلك الذي يسعى لإحراز أكبر قدر من المتعة التي يفضّلها مواطنوه، بل أن من واجبه أن يسعى لتربية مواطنيه على التماس مُتَع أعلى. بالتالي، التربية الأخلاقيّة هي إحدى مسؤوليات المجتمع الصالح.
يعتبر ميل، متفقاً مع أسس الليبراليّة العقديّة، أن الفرد سابق على الدولة، لكنه يرى أن الفرد المقصود ليس الإنسان بوضعه الحالي، بل كما يمكن أن يكون بوجود تربيّة ملائمة ضمن مجتمع جيّد التنظيم. لا يعني هذا أن ميل رافَعَ عن وجود نموذج واحد وواجب التعميم للحياة الإنسانيّة، بل اعتبر أن هناك تنوعاً كبيراً في الطاقات البشريّة، وأن على المجتمع أن يوفّر الشروط اللازمة لكي يكتشف كلّ إنسان مهاراتِه ويطوّرها بما يخدم الصالح المجتمعي. يشدّد ميل على أن توفّر فرص لممارسة المهارات الإنسانيّة بشكل فاعل هو الطريق الوحيد للوصول إلى هذا الهدف المرجوّ. لذلك، ينادي بأن الحرّيّة هي شرط جوهري، لا يمكن الاستغناء عنه، لتقدّم المجتمع.
عن الحرّيّة
ولِد كتاب ميل الأشهر كاحتجاجٍ على أخلاقويّة العهد الفيكتوري في إنكلترا، ويرافع فيه عن حياة سياسيّة مبنيّة على الحرّيّة الفرديّة، بحكومة أكثر مسؤوليّة وإدارات أكثر فعاليّةً ومتحرّرة من الفساد.
كغالبيّة ليبراليي تلك الحقبة، رأى ميل مخاطر كثيرة في التوجّهات الديمقراطيّة السائدة في مجتمع القرن التاسع عشر، خصوصاً ما أسموه حينها «طغيان الأكثريّة»، حيث رأى ميل أن مخاطر الطغيان لا تأتي فقط من الاستخدام المتعسّف لأجهزة الدولة، بل أيضاً من سلوكيات الرأي العام المتأثّر بالأفكار المسبقة والعادات والتقاليد، الذي قد لا يتسامح مع توجهات وسلوكيات منشقّة، خارج السياق، أو، ببساطة، مختلفة. لذلك، انشغل ميل بمحاولة التوفيق بين مشاركة الجميع في الحكم، والقلق من استخدام السلطة من قبل الجمع، الفاقد للأساس المعرفي حول الحُكم الصالح، من أجل تحقيق مصالحه الذاتيّة.
اعتبر ميل أن السياسة الديمقراطيّة هي آلية جوهريّة للتطوّر الأخلاقي لدى الأفراد، ورأى أن المشاركة السياسيّة تتظافر مع التربية الملائمة لإخراج مواطنين صالحين. دون ذلك، يرى ميل أن الحُكم الإداري سينحو نحو التمدّد، وسيعجز المواطنون الفاقدون للمعرفة عن السيطرة على أصحاب السلطة. لذلك، الديمقراطيّة الفعليّة هي آليّة مقاوِمة للبيروقراطيّة، متجنّبة للروتين التنظيمي، ومدافعة عن الحرّيّة الفردية.
في كتابه عن الحرّيّة يُشير ميل إلى الفرديّة كنقطة فارقة في مفهوم الحرّية. تعزيز الفرديّة يعني تطوير استطاعات الفرد، ويشترط تحقيق هذا التطوير نقطتين: الحرّيّة، وتنوّع المواقف.
يرى ميل أن تطوير الفردانيّة يعني التأكيد على إمكان المرء أن يكون مختلفاً، ويعتبر أن هذا المبدأ سارٍ على المثقفين والمتعلّمين وعلى الذين ليسوا كذلك على حدّ سواء. كما قيل أعلاه، ورغم التمييز بين المُتَع العليا والأدنى، لا ينبغي أن تتم قولبة حياة البشر حسب نفس النموذج، فالفرديّة مرادف للأصالة. هذا ما يدعو ميل للاحتجاج المستمر على احتكار الذائقة المجتمعية لبناء القوانين والأعراف الاجتماعيّة، ويقول إن الذائقة الاجتماعية غير عقلانية في مراحل كثيرة، ومبنيّة على الجهل في أماكن أخرى. الفرديّة مضادّة للضحالة.
ما سبق ذكره يعني لستيوارت ميل ضرورة إدخال مبدأ التسامح، حتى لو حمل في طيّاته قلة احترام للآخر: أنا أتسامح مع معتقداتك رغم أنني متأكد من أنها خاطئة ولا معنى حقيقي لها. مع ذلك، تختفي أسس النقد العقلاني دون التسامح. بإمكاننا أن نناقش ونهاجم ونرفض ونُدين بكل حماس، لكننا لا نستطيع أن نُلغي خصمنا، لأن هذا الإلغاء ليس إلا تحطيماً عامّاً لا يُميّز بين الإيجابيات والسلبيّات، ويتساوى في خطورته مع الانتحار الثقافي للمجتمع ككل. لذلك، يرى ميل أن الاحترام المتشكّك لأفكار الخصم أفضل من اللامبالاة أو الرياء.
نشأ جون ستيوارت ميل فكرياً تحت إشراف والده، جيمس ميل 3، ومُعلّمه، جيرمي بينثام، وفق مبادئ المذهب النفعي، الذي تتمركز أسسه حول فكرة أن تقييم صحّة الفعل من عدمه ينطلق من مدى نفع نتائج هذا الفعل في تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر قدر ممكن من الناس. لكن ميل، في انعطاف كبير، رأى لاحقاً أن هذا المبدأ يمكن أن يُستخدم أحياناً لتبرير اقتطاع حقوقٍ فرديّة، خصوصاً الحرّيّة، باسم الصالح العام. لذلك يرى أن المبرر الوحيد المقبول للمسّ، الفردي أو الجماعي، بالحرّيّة الفعّالة للآخر هو الدفاع عن النفس. بمعنى آخر، المبرِّر الوحيد لاستخدام القوّة ضد فرد في مجتمع متحضّر هو منعه من إيذاء الآخرين، ومعنى الأذيّة هنا لا يشمل المصالح الجسديّة والأخلاقيّة للأفراد ذاتهم: لا يصحّ إجبار إنسان من فعل ما لا يرغب، أو عدم فعل ما يرغب، فقط لأن فرداً آخر، أو جماعة، ترى أن هذا «أفضل» أو «أسلم» أو «أكثر منطقيّة» بالنسبة لهذا الفرد. للإنسان أن يكون كامل السيادة على نفسه وجسده وروحه. الإنسان سيّد على نفسه.
هذا المبدأ، «مبدأ الأذيّة» هو الأساس لوجود الحرّية. وتالياً، هو الشرط الجوهري للحُكم الصالح.
الشروط اللازمة للحُكم التمثيلي
يبدأ ستيوارت تأملات حول الحُكم التمثيلي، وهو مؤلّفه الأوسع في الفلسفة السياسيّة، بسؤال قديم: هل وُجِد الحُكم بشكل طبيعي أم نشأ مصلحياً؟ إن كان الحُكم شأناً مصلحياً، إذن لا حدود لخيارات نمط الحكم، وكلّها ممكنة. لكن، إن كان الحُكم مُعطىً طبيعياً فلا خيارات ممكنة باعتبار أن نمط الحُكم متضمّن وثابت في طبيعيّته.
يرفض ستيوارت مِيل صلاحيّة أيّ من الاحتمالين وحده، ويعمل على إبراز تنوّع المكوّنات الذي تقدّمه كلّ منهما، مشيراً إلى ضرورة وجود شروط ثلاثة لدى أيّ شعب كي يًثمر نظامَ حُكم خاصٍ به. 1/ الأول هو أن يكون الشعب مستعداً لقبول نظام الحُكم هذا؛ 2/ الثاني هو أن يفعل الشعب ما يلزم لضمان استمراره؛ 3/ والثالث أن يُقدّم لنظام الحُكم ما يسمح له بتنفيذ مقاصده. تنبع إمكانية تحقيق هذه الشروط إيجاباً من تربية الشعب نفسه، ونمط الحُكم الخاص هذا يتحدّد بالاقتراع ضمن هذه الشروط نفسها.
كما قيل أعلاه، من أدلّة الحُكم الصالح مقدرة هذا الحُكم على تنمية مقدرات وذكاء أفراد مجتمعه. هناك أيضاً دليل آخر هو أن يكون هذا الحُكم قادراً على استغلال جودة صفات المواطنين. لذلك، يجب على الحُكم أن يحسّن المجتمع عن طريق التربية، وأن يحسّن استخدام المواصفات العالية الناتجة عن تطوّر المجتمع.
يفتح هذا الجدال باباً لدخول ما يبدو، من حيث المبدأ، تناقضاً في الخطاب: أليس من الأفضل إذاً البحث عن «مستبدّ طيب» (الملك-الفيلسوف) بدل السعي وراء الحُكم التمثيلي؟ ألا يكفي إمساك شخص متمكّن وذي معرفة بمسؤوليات الحُكم لتربية الشعب؟ يعرض ميل، في كتابه، الإيجابيات المفترضة التي يمكن أن تأتي من حُكم مستبد «مستنير»، متمكّن معرفياً وراقٍ أخلاقياً، لكن ميل يتابع عرضه بتعداد ما يعتبر أنها عوامل أساسيّة ضدّ هذه الفكرة، وأحد هذه العوامل ينهل من نظرية بينثام: حقوق ومصالح أي فرد مصانة فقط حينما يكون هذا الفرد مستعداً وقادراً على الدفاع عنها. في نظام حُكم استبداديّ، ولو كان «طيّباً»، تبقى حقوق الناس –وهي بشكل أو بآخر حدود للسلطة– بيد ضمانات الحاكم المستبدّ وحده.
قد توجد أمثلة أو حالات حمى فيها المستبد حقوق الناس، لكن أخذ الطبيعة البشريّة بعين الاعتبار تجعل من المفضّل عدم الاعتماد على الاستبداد. هذه الفكرة مدعمّة بالسوابق التاريخيّة، والتي علّمتنا أن الشعوب الحرّة تقدّمت أكثر وأسرع من الشعوب الواقعة تحت نير الاستبدادات.
تأتي المحاججة الثانية ضد فكرة المستبد الطيّب من العلامات الفارقة في نظرية ستيوارت ميل: الاستبداد، أياً كان تقييمه، يحتاج لانصياع جزء من الجسم الشعبي، أي، بمعنى آخر، لخموله. حسب ميل، يُفترض أن يكون الامتياز في المعرفة والعمل والأخلاق من الأهداف العليا التي يسعى الحُكم الطيّب لتحقيقها بين مواطنيه، وهذه كلّها نتائج للفعاليّة والإيجابيّة. لذلك، يرى ميل أن الحُكم الشعبي هو البناء الأمثل، وذلك لسببين: لأنه يحفظ الحقوق الفرديّة، ولأنه يحفّز الترقّي الأخلاقي والمعرفي.
عدا ذلك، لا يعتبر ستيوارت ميل أن الحُكم التمثيلي هو البنيان السياسي الأفضل فحسب، وإنما يرى أنه نمط الحُكم الممكن الوحيد في العالم الحديث. مع ذلك، يرى أن الوصول لدرجة ملائمة من النضوج الديمقراطي هو شرط لازم لهذا الاعتبار. هناك حيث «ما زال هناك دروس لم تتعلمها الشعوب» ربما تكون أنماط حُكم أخرى أكثر ملاءمةً. على سبيل المثال، من الأسهل تعلّم النظام والانضباط من حاكم عسكري، وتجاوز الروح المَحَلَّويّة من ملك يفرض مركزية الحكم. لكن، بالقفز على هذه النواقص (التي لم يرَها ميل إشكالية بشكل كبير في إنكلترا عصره)، من المؤكد أن نظاماً تمثيلياً للحُكم، مُشكّلاً بالطرق الملائمة، هو السبيل الأمثل للنهوض بالشعب وتحقيق التقدم نحو مراحل مجتمعيّة أكثر تقدّماً.
الحكم والتمثيل والمشاركة
ينادي ستيوارت ميل بديمقراطيّة قويّة تُشكّل ثقلاً مضادّاً لدولة مُفرِطة التمددّ والتدخّل. وحدها الديمقراطية قادرة على مقاومة البيروقراطيّة. أفكار ستيوارت ميل في هذا المجال مشابهة لما سيقوله ماكس فيبر 4 أوائل القرن التالي.
حسب ميل، واتفاقاً مع الرأي الليبرالي السائد، لا مكان اليوم لنظريّة المدينة اليونانيّة القديمة، حيث أن مفاهيم الحُكم الذاتي، أو حُكم المجالس المفتوحة، غير قابلة للتطبيق في مجتمع يتجاوز حجمه مدينةً صغيرة. في أحجامٍ أكبر من المراكز السكانيّة الصغيرة، لا يمكن للأفراد أن يشاركوا إلا في جزء صغير من الشؤون العامة، هذا عدا الصعوبات الجغرافيّة والمادّية أمام مقدرة كلّ السكان على الاجتماع في مكان مشترك وزمان واحد. هذه صعوبات كبيرة أمام المجتمعات الصغيرة، وفي المجتمعات الأكبر تغدو هذه الصعوبات مستحيلات.
يرى ميل أن قوننة وتسيير الشؤون العامة في مجتمع ذي كثافة سكانية عالية أعقد بكثير من مقدرات أي نظام ديمقراطي مُباشر. عدا ذلك، يُشير إلى خطر ذوبان طاقات الأشخاص ذوي الكفاءة والمعرفة والخبرة ضمن بحر الأشخاص العاديين في حالةِ حُكم الجميع بالتساوي. بالإمكان، حسب ميل، التصدّي لهذه المخاطر تدريجياً عن طريق اكتساب الخبرة في الشؤون العامّة (الاقتراع، الثقافة القانونية، المشاركة الواسعة في الإدارة المحلّية…)، لكن هذا ليس إلا حلّاً جزئياً للمشكلة الكبيرة. لذلك، يعتبر ميل أنّ الأسلوب الأمثل للحُكم في ظروف الحداثة هو التمثيلي، حيث يمارس الشعب السلطة عن طريق الانتخاب الدَّوري لنوّابه.
إلى جانب حرّيّة التعبير والصحافة والاجتماع، لنظام الحُكم التمثيلي إيجابيّات أخرى واضحة، فهو يوفّر الآليات التي تضع السلُطات المركزية تحت السيطرة والرقابة، ويرسّخ برلماناً يعمل كحارس للحرّيات وكمركز للعقلانية والسجال، ويعمل، عبر المنافسة الانتخابيّة، على تنمية مهارات الريادة والمعرفة لدى عموم الشعب. يؤكّد ميل أنه لا يوجد بديل للنظام التمثيلي يمكن أن يُرغب به، رغم وعيه لبعض نواقصه، والأثمان الغالية لبعض أُسُسِه.
رغم الخطاب الواضح الانحياز لصالح نظام الحُكم التمثيلي، يمكن ملاحظة أن ثقة ستيوارت ميل بالناخبين والمنتخِبين منخفضة للغاية. دافَعَ ميل بوضوحٍ عن ضرورة إقرار الاقتراع العام لجميع المواطنين، لكنه اقترح نظاماً انتخابياً معقّداً للغاية، يبغي عبره منع احتمال سيطرة الجموع –لا سيما الطبقة العاملة– على النظام العام بـ«جهلها».
طالما هناك مستويات علم وكفاءة الأفراد متنوّعة، ولا سيما أن أقلّية منهم قادرة على تحقيق مستويات متقدّمة من الكفاءة، أليس من المشروع الاعتقاد بوجوب أن يكون لبعض الأشخاص تأثير أكبر على الحُكم من غيرهم؟ للأسف –ونقول «للأسف» باعتبارها برأينا نقطة سلبية في فكره– اعتنق ميل هذه الفكرة ورافع عنها. لا شكّ أنه كان مُدافعاً صلباً عن حقّ الاقتراع العام لجميع البالغين، لكنّ ميل رأى أيضاً أن قيمة صوت ذوي المعرفة والثقافة يجب أن تكون أعلى من قيمة صوت العوامّ. لذلك، اتّخذ ميل من الهرم المهني وسيلة لتوضيح قيمة الأصوات: أولئك الذين يمتلكون معرفةً واطلاعاً أكبر (وهم، يا للمصادفة، ذوو الدخل الاقتصادي الأعلى، وذوو الامتيازات الاجتماعيّة) لا يجب أن يخسروا الانتخابات أمام أصحاب الكفاءات الفكرية والعلمية المتواضعة، أي، بعبارة أوضح، الطبقة العاملة.
لا تكفي نُظُم الانتخاب من أجل تجنّب حُكم الطبقات الفاعلة، أو الحُكم الأناني للطبقات المالكة، بل من الضروري أن توجد آليات تضمن فاعليّة الحُكم. لكن، كيف يمكن ضمان هذه الفاعلية؟ حسب ميل، هناك فارق جذري بين مراقبة ومحاسبة شؤون الحُكم من جهة، والحُكم بحدّ ذاته من جهة أخرى. شؤون الحُكم بحاجة لعمل اختصاصي واحترافي، ومن شأن تدخّلات أكبر للناخبين، أو تضخّم في حجم النوّاب أو المؤسّسات التمثيلية في تسيير شؤون الحُكم، أن تعني فعاليّة أقل لعمليّة الحُكم ذاتها.
البرلمان مكلّف بتعيين الأفراد المناسبين في المناصب التنفيذية، وعليه أن يتصرّف كمجلس تُناقش فيه المتطلّبات والحاجات، وله أن يقول الكلمة الأخيرة بخصوص إقرار التشريعات أو رفضها، لكن على البرلمان ألا يتدخّل في تفاصيل صياغة التشريع وإدارتها، لأن هذه الشؤون لا تدخل ضمن صلاحياته.
من وجهة نظر ميل، يمزج نظام الحُكم التمثيلي بين المسؤوليّة والحِرفيّة والخبرة: بإمكان الحُكم التمثيلي أن يتمتّع بإيجابيات الحُكم البيروقراطي، لكن دون مساوئ الأخير وسلبياته، التي تُمسَح بفضل الحيويّة التي توفّرها الديمقراطيّة لنظام الحكم. حُكم الخبراء والديمقراطيّة متساويان في الأهمية بالنسبة لميل، ودافع بقوّة عن ضرورة كلّ منهما لحسن سير الآخر، واعتبر أن تحقيق التوازن بينهما هو أكثر الشؤون صعوبة وتعقيداً ومركزيّة في فنّ الحُكم.
رؤية ستيوارت ميل
في أطروحاته، عمل ستيوارت ميل على دمج أفكار ديمقراطيّة مع توجهاتٍ لصالح حماية الأقلّيات. لا شكّ أنه كان نقدياً بعمق تجاه الفروقات العميقة في الدخل والثروة والُسلطة، ورأى، خصوصاً في كتاباته الأخيرة، أن هذه الفروقات تُعرقِل تنمية الشطر الأعظم من البشر، خصوصاً الطبقات العامِلة، لكنّ هذه الأفكار تصطدم مع بعض الطروحات التي قدّمها حول المساواة السياسيّة والاجتماعيّة.
بالإمكان اعتبار موقف ستيوارت ميل ضرباً من «النخبويّة التربويّة»، حيث أنه يبرّر ضرورة وضع أصحاب التنشئة المعرفية الأفضل في مراتب أعلى في المجتمع. يكاد يكون، في هذا المجال، تحديثاً لفكرة الفلاسفة-الملوك، حيث يعتبر أن القيادة السياسية للمجتمع يجب أن تكون للطبقة المتعلّمة والمثقفة، صاحبة الوزن الانتخابي الأكبر حسب رؤيته للنظم الانتخابيّة، هذا رغم أنه يصل إلى هذه النتيجة عبر مرافعته عن أهمية التربية والتعلّم كقوى مفتاحية للحرّيّة والاستقلاليّة.
للأسباب المذكورة أعلاه، لديّ مواقف متناقضة من فكر ستيوارت ميل. لديه مواقف ملتزمة بالتنمية الأخلاقيّة لجميع الأفراد، لكنه، في الوقت نفسه، يُدافع عن فروقات عميقة بين البشر لأجل أن يتمكّن المُربّون من تثقيف الجهلة. هكذا، نرى أن ستيوارت ميل يقدّم أفكاراً مهمّة وواجبة الدراسة لصالح فكرة الدولة الديمقراطيّة، لكن مع أخذ بعض المسافة مع الخطوات العمليّة التي اقترحها، حيث أنها، فعلياً وفي المحصلّة، معرقِلة لتطبيق ديمقراطيّة حقّة.
ثانياً، نرى في أفكار ستيوارت ميل حول اقتصاد السوق الحرّ السياسي، والمرافعة عن محدودية تدخّل الحكومة في شؤون السوق، مقدّمة للفكر الليبرالي الاقتصادي الكلاسيكي. حسب هذه المواقف، يجب على النظام القانوني أن يُتيح أكبر قدر ممكن من الحرّيّة للمواطنين –بشكل أساسي ضمان حرّيّة التملّك والعمل الاقتصادي– بما يُتيح لهم أن يعملوا، دون قيود، من أجل تحقيق الأهداف التي وضعوها لنفسهم. هذه الضمانات تُتيح نموّ أصحاب المقدرات الأكبر، وتكفل مستوىً من الحرّيّات السّياسيّة والاقتصاديّة سيكون، على المدى البعيد، إيجابياً للجميع.
ثالثاً، نرى أن ميل قد قضى الشطر الأكبر من عمره مدافعاً عن رأيه بأن على الدولة الليبراليّة أن تكون حياديّة (أي أن يكون الأفراد أحراراً بأكبر قدر ممكن)، لكن هذا الكلام يتناقض مع بعض أفكاره التي تبدو إصلاحيّة أو تدخّليّة، حيث أن للدولة الديمقراطية الليبراليّة، حسب ميل، دوراً فاعلاً في حماية حقوق الأفراد، وسنّ القوانين من أجل حماية الجماعات والأقليات الإثنيّة، وأيضاً من أجل تمكين المرأة. لكتابه استعباد النساء مكانة مرموقة في الأدبيات النسويّة الكلاسيكية.
عدا ذلك، لو أخذنا مبادئ الحرّيّة حسب ميل بعين الاعتبار، وبحثنا في تلك الحالات التي يُفترض، حسب هذه المبادئ، أن يجري تدخّل سياسي لمنع إيذاء الآخرين، سنجد أن هذه المبادئ تتعارض بشدّة مع فكرة السوق الحرّ. الصحّة والضمان الاجتماعي وأمن العمل، الحفاظ على الصحّة العامة والحماية من الفقر (فعلياً، كلّ النواحي التي اعتنت بها فكرة «دولة الرّفاه» بعد الحرب العالميّة الثانية)، كلّها مفاهيم يمكن أن تندرج ضمن تشريع فعل الدولة من أجل منع إيذاء الآخرين.
لا شكّ بأن ستيوارت ميل يعرض أُسُسَاً للفكر النخبوي الثقافي، وفي ذات الوقت الذي يؤسس لفكر التدخّل الاجتماعي. كل ذلك في نتاج فكري ثريٍّ بقدر ما هو، في بعض المراحل، متناقض مع نفسه.
(عن مجلة جوت داون الثقافية الإسبانية)