بين أفلاطون وسقراط؛ علاقة ملتبسة.
محمد الحجيري.
لم يترك لنا سقراط أثراً مكتوباً. وكل
ما نعرفه عنه هو ما كتبه عنه الآخرون، خصوماً ومؤيدين. وأبرز هؤلاء جميعاً هو
أفلاطون، تلميذ سقراط النجيب.
من المعروف أن الشخصية المحورية في كل الحوارات
الأفلاطونية هو سقراط، باستثناء محاورة القوانين أو النواميس التي يغيب عنها سقراط
تماماً، وهي آخر ما كتبه أفلاطون على ما يقول مؤورخو الفلسفة اليونانية.
وغالباً ما تعبّر آراء سقراط في حواراته عن
وجهة نظر أفلاطون نفسه. إلا أن ذلك يثير الكثير من الإشكاليات. إذا كانت شخصية
سقراط مبثوثة في ثنايا كل المحاورات الأفلاطونية، فهل هذا يعني أن أفلاطون بقي
طوال حياته تلميذاً لسقراط ومعبراً عن آرائه؟ وإذا كان هناك افتراق أو تطوير لآراء
سقراط، فكيف نميّز الآراء السقراطية من تلك الأفلاطونية؟
يذهب كارل بوبر إلى أن المحاورات الأولى
لأفلاطون كانت تعكس مواقف سقراط، إلا أنه في حواراته المتأخرة أصبحت شخصية سقراط
تنقل وجهة نظر أفلاطون نفسه، لذلك نجد تناقضاً حاداً في مواقف شخصية سقراط حول نفس
الموضوعات في محاورات أفلاطون الأولى وفي محاورة تالية مثل "الجمهورية".
هذه الملاحظة لبوبر أحيت تساؤلاتٍ عديدة
سابقة لديّ حول العلاقة بين أفلاطون وسقراط، ومدى تطوير أفلاطون لأفكار أستاذه أو
الخروج عنها.
يُنسب إلى سقراط منهجه التوليدي القائم على
الحوار، والذي يدفع المتحاور إلى اكتشاف الحقائق بنفسه.
كان سقراط يردد: أنا لا أعرف إلا أني لا
أعرف شيئاً.
وكيف تعلّم إذاً؟
أنا لا أعلّم، يجيب سقراط. أنا أجعل الناس
يفكرون ويكتشفون (يولّدون) الحقائق بأنفسهم.
هل كان سقراط يحاول إظهار تواضعه بقوله أنه
لا يعرف شيئاً، أم أنه كان يقصد فعلاً ما يقول؟ وأزعم أن هناك أهميةً كبرى لهذا
السؤال.
المعرفة كامنة داخل كلٍ منا. ويستطيع كل
منا أن يكتشفها. أو بالأحرى، إن ملَكَة التفكير فطريةٌ لدى الجميع، ويستطيع الجميع
التفكير والبحث. وهنا أيضاً فرق كبير بين الحالتين: المعرفة الكامنة لدى الأفراد،
أو القدرة الكامنة لديهم على التفكير والبحث.
وما يعزّز الفرضية الثانية، أن الكثير من
الحوارات التي كانت تطرح موضوعاً للمعالجة، كانت تتركه معلقاً بعد تداول الكثير من
الأجوبة وتمحيصها.
هذه القدرة على التفكير السليم الكامنة
داخل كلٍ منا، أو هذه المعرفة الكامنة داخل كلٍ منا، وبذلك نكون نقترب من المآل
الذي تتجه نحوه نظرية أفلاطون في المعرفة، ستجعل هذه المعرفة نوعاً من التذكر.
الفيلسوف الذي لا يعرف عند سقراط، والذي
يدفعه إلى الحوار، سيصبح الوحيد القادر على الوصول إلى الحقيقة الموجودة في عالم
المثل عند أفلاطون.
من المعرفة أو القدرة على التفكير السليم
الكامنة داخل كل منا، نتجه نحو المعرفة التي هي نوع من التذكر، يتوصل كل منا إليها
بمقدار، بقدر ما تشبه الحقيقة الثابتة والأبدية الموجودة في عالم المثل. والفيلسوف
هو الذي يصل إلى تلك المعرفة بالكامل. إلى المعرفة بعالم المثل. ويعبر أفلاطون عن
هذه الفكرة في أسطورة الكهف الشهيرة.
الفرق شاسعٌ وكبير إذاً بين فيلسوف سقراط
الباحث الدائم الذي يكتشف أنه لا يعرف فيستمر في البحث، وبين فيلسوف أفلاطون الذي
وحده (أو وحدهم) يستطيع الوصول وامتلاك الحقيقة الثابتة في عالم الأفكار أو المثل،
والسابقة لكل معرفة نكتسبها الآن مهما كانت نسبتها ودرجة قربها من العالم الحقيقي،
أي عالم المثل الخالدة.
الفرق بين سقراط وبين أفلاطون إذاً هي فرق
بين الباحث الدائم الذي لا يعرف وبين الدوغمائي الوثوقي الذي يتوصل إلى اكتناه الحقيقة
واحتيازها.
ينتقد كارل بوبر هذه الدوغمائية
الأفلاطونية بحدّة وكل الدوغمائيات المشابهة، ويركز هجومه على ما يترتب عليها أو
على ما يؤسسها من نظرية سياسية تقسم المجتمع إلى طبقات: منها ما هو صالح للحكم
بفضل حكمته وقدرته على الوصول إلى "الحقيقة"، وهم طبقة الفلاسفة الحكام.
وبين بقية الطبقات من جنود ومنتجين: الطبقة الذهبية والطبقة الفضية وطبقة الحديد.
بعيداً عن تفنيد بوبر لطروحات أفلاطون،
هناك إشكالية تفرض نفسها على الذهن، وهي إشكالية نظرية بقدر ما هي إشكالية تاريخية
أو تطبيقية.
هل حقاً هناك حقيقة ثابتة ويمكن للفلاسفة
الوصول إليها؟
هل تحقق ذلك في يومٍ من الأيام؟
إذا كانت الحقيقة ثابتة ويستطيع الفلاسفة امتلاك
ناصيتها، فمن هم الفلاسفة؟ وهل فعلاً توصلوا إلى تلك الحقيقة الثابتة بطريقة
متشابهة؟
هل الفلاسفة المعاصرون لأفلاطون توصلوا إلى
نفس تلك الحقيقة أو تلك الحقائق؟
هل اتفق أفلاطون مع تلميذه أرسطو على كنه
تلك الحقيقة، إذا جاز لنا أن نعتبر أرسطو فيلسوفاً؟ وهو من هو في تاريخ الفكر
والفلسفة، هو المعلم الأول كما أسماه العرب. وهو العقل، كما أسماه أفلاطون نفسه.
وهو نفسه الذي يقول بأنه يحب معلمه (أفلاطون)، لكنه يحب الحقيقة أكثر، مشيراً بذلك
إلى خلافه مع أستاذه.
هذا يعني ببساطة بأن الفلاسفة الذين يقول
عنهم أفلاطون بأنهم سيصلون إلى عالم الحقائق الأبدية الثابتة، لم يصلوا إلى ذلك بالفعل.
ما الذي يضمن اتفاقهم كحكام للمدينة أو وصولهم إلى تلك الحقائق في عالم المثل التي
تحدث عنها أفلاطون؟
هل يكون أفلاطون هو الفيلسوف الوحيد في
التاريخ؟
وهل اتفق من نسميهم "فلاسفة" على
حقائق واحدة في تاريخ الفلسفة عبر مئات السنين، أم كانت بناءاتُهم عبارةً عن
تعارضات وأبنية مستقلة كل فلسفة تقدم وجهة نظر متمايزة عن الفلاسفة الآخرين. وهذا
التمايز هو ما يسمح باستحقاقهم لقب الفلاسفة؟ كي يكون لدينا فيلسوف جديد، فمن
الضروري أن يكون متمايزاً عن الفلاسفة الآخرين، وإلا كان في أحسن الحالات تلميذاً
لأحدهم.
هذا يعني أن فكرة الفلاسفة الذين يمسكون
بكنه الحقيقة التي ينبغي أن تكون واحدة وثابتة ما هو إلا وهم من أوهام أفلاطون
الفيلسوف الأوحد والذي كان عليه أن يكون إلهاً أبدياً يحكم العالم منذ أيامه إلى
"نهاية التاريخ".
7/9/2018.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق