الجامعة اللبنانيّة والتحوّلات البنيويّة المصيريّة
مشير باسيل عون
تردّدتُ قبل الشروع في كتابة هذا المقال لأنّ
النقاش الناشط في شأن الجامعة اللبنانيّة سلك مسالك خطيرة أضحى الكلام فيها
معرَّضًا للانحراف في التفسير والتحامل على المقاصد. في نهاية المطاف عقدتُ العزم
على الإفصاح عمّا أستنسبه من تفكّر فلسفيّ مسؤول، علَّ الإسهام الفكريّ النزيه
يرتقي بالنقاش إلى المستوى الذي ينبغي أن يرنو إليه. في مقصدي أن أضع مثل هذا
النقاش في سياق التناول الفلسفيّ الأرحب وأقرنه بالتفكّر الرصين في وقائع الاجتماع
اللبنانيّ. من الثوابت في قضيّة الجامعة اللبنانيّة أنّ واقعها لا ينفصل عن الواقع
اللبنانيّ الراهن، وأنّ النظر في مشاكلها إمّا أن يذهب مذهب الاعتراف والإقرار
والعزم على الإصلاح، وإمّا أن ينحو منحى المكابرة والإسقاط الأيديولوجيّ المغرض.
من الواضح أنّ جميع الجامعات تتعرّض لانتكاسات وتعثّرات، ويشوب أداءها بعضٌ من
التقصير، ويعتورها شيءٌ من الاضطرب المسلكيّ والبنيويّ. غير أنّ مثل هذه المعايب،
حين تصيب جامعةً كالجامعة اللبنانيّة، تتفاقم آثارُها لأنّ التركيبة البشريّة فيها
منبثقةٌ من صميم الاجتماع اللبنانيّ الفسيفسائيّ. وللمرء أن ينظر إلى الفسيفساء
إمّا نظرة إعجاب وامتداح، وإمّا نظرة تقبيح وذمّ. ونحن جميعُنا نعلم أنّ الجامعة
اللبنانيّة تكابد من الصعوبات البنيويّة والمسلكيّة ما يوشك أن يرهقها ويصدّها عن
الاضطلاع بمسؤوليّتها الأكاديميّة. من بعد التأمّل في طبيعة هذه الصعوبات، تبيّن
لي أنّ المشكلة الأخطر التي توشك أن تضعضع بنيان الجامعة اللبنانيّة تكمن في غلوٍّ
وانحراف وتراخٍ.
أمّا الغلوّ، فهو في الإصرار على إدارة ممركزة حصريّة تفصيليّة مباشرة لمؤسّسة تضمّ حوالى 80000 طالب وطالبة، وحوالى 7000 أستاذ وأستاذة، وحوالى 2000 موظّف وموظّفة. في المنطق الإدرايّ البحت، أضحى مثل هذا التكاثر لا يطيقه نظامُ الإدارة المركزيّة الواحدة. أمّا في المنطق الاجتماعيّ الثقافيّ اللبنانيّ، فإنّ الديمُغرافيا الراهنة تضطرّ إدارة الجامعة إلى تجاوز أعراف المناصفة الطائفيّة. والظنّ أنّ معايير الكفاءة العلميّة هي وحدها التي ينبغي أن تُعتمد في الانتماء إلى الجامعة اللبنانيّة. هذا القول يصحّ في المجتمعات الموحّدة، ولا يصحّ على الإطلاق في الاجتماع اللبنانيّ الفسيفسائيّ. وليس يُبطل هذه الفسيفساء اعتمادُ المعايير الأكاديميّة في التوظيف الجامعيّ. هذا إنْ اعترف الجميعُ بأنّ الأساتذة الذين يتعاقدون مع الجامعة اللبنانيّة منذ نهاية الحرب اللبنانيّة هم في أغلبهم من أهل الاستحقاق العلميّ الوطيد. النتيجة الوحيدة لاعتماد المعايير الأكاديميّة وحسب هي تهميش المسيحيّين في الجامعة اللبنانيّة لأنّ الاختلال الديمُغرافيّ سيُفضي إلى مثل هذا الواقع الجديد. أمّا إذا اقترنت المعايير الأكاديميّة بمستلزمات المعايشة اللبنانيّة الحقيقيّة، على غرار ما يجري في المجتمعات المتنوّعة (سويسرا، بلجيكا، كندا، ألمانيا)، فإنّ المجتنى يكون أنضج وأخصب وأشدّ قابليّةً للإعمار الإنسانيّ الفكريّ الراقي.
قد تباغت هذه المقاربةُ بعضًا من زملائي في الجامعة، وهم يعلمون أنّي من دعاة العَلمانيّة الهنيّة في لبنان وفي أوطان العالم العربيّ. بيد أنّ النظر المتأنّي في طرحي سيبيّن مدى ثباتي على مبدإ العَلمانيّة الهنيّة. يقيني أنّ الحلّ الواقعيّ الأنسب هو في الزمن الراهن هذه العَلمانيّة الهنيّة، وفي صلب مقتضياتها أن يصون المرءُ التنوّعَ الإنسانيّ في المجتمع، من غير أن ينتصب التصوّرُ الدينيّ الواحد مرجعيّةً حصريّةً في تدبّر المجال العموميّ اللبنانيّ. ذلك بأنّ الاجتماع الساميّ المشرقيّ العربيّ يصعب عليه الانتقالُ من التديّن الفطريّ الذي اختبره منذ أقدم العصور إلى العَلمانيّة الشاملة التي اعتمدتها معظمُ المجتمعات الغربيّة. وفي ظلّ الاحتراب الأيديولوجيّ الضارب في عمق المجتمعات العربيّة لا يمكن المجتمع اللبنانيّ أن ينأى بنفسه، فينصرف إلى عَلمانيّة شاملة في بضع من السنوات. فالطوائف اللبنانيّة، شئنا أم أبينا، ما فتئت هي مصدر الانتماء الأوّل في الوعي الفرديّ اللبنانيّ، وهي مرجع تكوّن الهويّة الذاتيّة، وهي مستند التصوّر الذاتيّ للكون وللإنسان وللتاريخ. وما من دليل على أنّ اللبنانيّين الذين يعيدون إنتاج طبقتهم السياسيّة الطائفيّة يريدون حقًّا أن يبدّلوا في مسالك ذهنيّتهم. ومن ثمّ، فإنّي أنادي بعَلمانيّة هنيّة تضع المجال العموميّ اللبنانيّ في نجوة من هيمنة التصوّرات الدينيّة الذاتيّة، وتسيّجه بأحكام الحياد التشريعيّ، ولكنّها تصون للطوائف اللبنانيّة ذاتيّتها، وتهبها القدرة على الإسهام الإيجابيّ في تهذيب الفسيفساء اللبنانيّة وصقلها وتعزيز بهائها. إنّها العَلمانيّة التي لا تطلب شيئًا لذاتها، بل جلّ مقاصدها أن تحمي الطوائف من غلوائها ومن محن استبداداتها ومن تجارب انحرافاتها. هي العَلمانيّة التي تعصم اللبنانيّين من الاحتراب لأنّها تصون الذات في كلّ ذات جماعيّة، وتراعي الاختلاف، وتعزّز التحاور والتفاعل والتعاون والتقابس. هي عَلمانيّة تقتطف محاسن العَلمانيّة الراديكاليّة الغربيّة ومحاسن الطائفيّة الراديكاليّة المشرقيّة، وتجتنب مساوئهما على حدّ السواء. ليست هي عقيدةً من العقائد، بل وظيفةٌ معياريّةٌ بها ينضبط وينتظم الحيادُ الإيجابيّ في المجال العموميّ اللبنانيّ.
العَلمانيّون الراديكاليّون الذين يريدون للجامعة اللبنانيّة في هذا السياق المتأزّم أن تعتمد حصرًا المعايير العلميّة في اختيار الأساتذة يفوتهم أنّ الجامعة اللبنانيّة يأتي إليها أناسٌ هم من نسيج الاجتماع اللبنانيّ الفسيفسائيّ الذي تنتظم أحكامُه وفاقًا للدستور اللبنانيّ الطائفيّ وللأعراف الطائفيّة السائدة في تأوّله. إصرارُهم على العَلمانيّة الراديكاليّة في الجامعة اللبنانيّة، في حين أنّ المجتمع اللبنانيّ كلّه سائرٌ اليوم في خلاف هذا الاتّجاه، يعني عمليًّا عزل اللبنانيّين المسيحيّين وعزل اللبنانيّين العَلمانيّين أنفسهم عن الاشتراك في تحمّل مسؤوليّة الجامعة اللبنانيّة. من حسنات طرحهم أنّهم يساعدون على تنقية الوعي اللبنانيّ من أضرار الطائفيّة. أمّا الطائفيّون الراديكاليّون، فإنّهم يحافظون على التوزيع الطائفيّ المختلّ باختلال الديمغرافيا اللبنانيّة، ولكنّهم يمعنون في مناصرة مصالح الطائفة وإسقاط مصلحة الجامعة اللبنانيّة، ويفاقمون التقوقعَ الطائفيّ الذي يُفضي حتمًا إلى التصارع الطائفيّ على المناصب وإلى إزكاء الفتنة والاحتراب والتقاتل.
من التطبيقات العمليّة لهذه العَلمانيّة الهنيّة في قرائن الجامعة اللبنانيّة أن يُصار فيها إلى تعزيز التنوّع على أساس الوحدة المصيريّة، وإلى مناصرة الانفتاح على أساس الانتماء المشترك، وإلى رعاية الاختلاف على أساس المسعى الفكريّ الثقافيّ الأكاديميّ الأسمى. هذا كلّه لا يتأتّى للجامعة اللبنانيّة وهي على هذه الحال من الاضطراب الكيانيّ ومن استرهاب التنوّع. عندما كانت الجامعة اللبنانيّة في مهد تأسيسها حاضنةً للنخبة من الطلّاب اللبنانيّين في قرائن الديمغرافيا السائدة في الستّينيّات من القرن العشرين، لم تكن بها حاجةٌ إلى الانتشار والتكاثر. أمّا اليوم، فالحال مختلفةٌ في لبنان، ديمغرافيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا. ومن أخطر التبدّلات الاجتماعيّة تضاؤل أعداد اللبنانيّين المسيحيّين، وتضاعف أعداد اللبنانيّين المسلمين، واندثار الانتماء العَلمانيّ الحقيقيّ الذي كان يحلم به دعاةُ التنوير والإصلاح في الاجتماع اللبنانيّ والعربيّ الحديث. فإذا أراد اللبنانيّون المسلمون، وأخصّ منهم اللبنانيّين الشيعة الذين يضطلعون اليوم بمسؤوليّة إدارة الجامعة اللبنانيّة بحسب التوزيع الطائفيّ السائد، أن يصونوا التنوّع اللبنانيّ في صلب البنى الأكاديميّة والإداريّة في الجامعة اللبنانيّة، كان عليهم أن يسارعوا إلى تعديلات خطيرة في نظام الجامعة اللبنانيّة، ومنها اعتماد معيار الكفاءة العلميّة مقترنًا اقترانًا وثيقًا بمعيار المناصفة العادل، وتعزيز اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة المنفتحة، والاضطلاع بجماعيّة المسؤوليّة المشتركة على نحو ما هو سائدٌ في الإدارة اللبنانيّة. بناءً على هذا التعديل الجوهريّ، يكون الوقت قد آن لتشريع بعض من الاستقلاليّة الإداريّة في الفروع بحيث تنشأ لنا جامعاتٌ لبنانيّةٌ في مستوى المحافظات يجمعها المسعى الأكاديميّ الواحد، والحرصُ التنوّعي الصادق، والمسؤوليّةُ الوطنيّة المرهفة، ويظلّلها مجلسٌ أكاديميّ أعلى يشرف فيها على الروح والجوهر والأسُس والأصول والمبادئ، ويرئسها نوّابٌ لرئيس الجامعة على غرار ما يجري في إدارة مصرف لبنان. أمّا التدابير الإداريّة، فيضطلع بها كلّ مجمّع على حدة. وعلى مثال المدن الإنسانيّة الراقية التي تفرّعت فيها الجامعةُ الواحدة إلى جامعات متعاضدة متكافئة متكاملة، تنصرف كلُّ جامعة لبنانيّة، وقد استرشدت خطّة التوجيه التي يضعها المجلسُ الأكاديميّ الأعلى، إلى تعزيز هذا المنحى العلميّ أو ذاك، وإلى التعمّق في هذا الحقل المعرفيّ أو ذاك، واضعةً طاقاتها في خدمة حاجات المحافظة التي تنتشر فيها. في هذا الاقتراح جرأةٌ كبيرةٌ أستمدّها من خلفيّة تصوّري للواقع اللبنانيّ الأرحب. فالجميع يدركون أنّ الاختلال الديمغرافيّ في لبنان قد يُفضي إلى انعزال اللبنانيّين المسيحيّين وانكفائهم عن المشاركة في المسؤوليّة الوطنيّة. وفي هذا أفدحُ الخسائر للرسالة اللبنانيّة الحضاريّة. وحده فعلُ الاستثناء الحضاريّ يمكنه أن يصون الواقع اللبنانيّ من هذا الانهيار. أعني بهذا الفعل أن يعمد أهلُ الكثرة اللبنانيّة، وفي مقدّمتهم اللبنانيّون الشيعة واللبنانيّون السنّة، إلى فعل تضحية حضاريّة أو إخلاء كيانيّ راقٍ يُملي عليهم فصلَ التكاثر الديمغرافيّ عن الاستئثار بالمجال العموميّ واحتكار الإدارة ومضاعفة القوّة. بفضل هذا الفعل الحضاريّ الخطير يتيح الدهر للبنان أن ينجو من منعطفات التاريخ المقبلة عليه، وتستطيع الإدارةُ اللبنانيّة أن تصون ذاتها من الغلوّ الفتّاك، ويتهيّأ للجامعة اللبنانيّة أن تستمرّ وتزهو وتتألّق. ليس في ذلك استعطاءٌ أو استرحامٌ للبقيّة الباقية من اللبنانيّين المسيحيّين، بل استنهاضٌ للواجب الوطنيّ الذي ينبغي أن تستهدي به الجماعاتُ اللبنانيّة المسلمة. ذلك بأنّ اختلال التوازن الطائفيّ في الجامعة اللبنانيّة، وهي موئلُ التفكير النقديّ والإبداع الحضاريّ في صون الهويّة اللبنانيّة وصون مبدإ التنوّع في الثقافة العربيّة وفي المجتمعات العربيّة، ينبئ عن اختلال التوازن الطائفيّ في البنية اللبنانيّة بأجمعها. وليس ينفع اللبنانيّين المسيحيّين أن يتعزَّوا بجامعاتهم الخاصّة لأنّها لن تقوى على صون الإسهام الفكريّ المسيحيّ في لبنان وفي العالم العربيّ إنْ سقط الإسهامُ الفكريّ المسيحيّ في الجامعة اللبنانيّة. وهو ساقطٌ إذا ما أصاب المسيحيّين في الجامعة اللبنانيّة إضعافٌ وإرباك وتهميشٌ فعزلٌ وإقصاءٌ.
هذا في الغلوّ وفي عواقبه وفي سبُل الانعتاق منه. أمّا الانحراف، فيتجسّد في انصراف جمع غفير من أساتذة الجامعة اللبنانيّة إلى المبايعة السياسيّة والمذهبيّة بحيث يعلو عندهم الانتماءُ الحزبيّ على أولويّات العمل الأكاديميّ البحت. ولكَم يذهلني أن أعاين أساتذةً لامعين متألّقين في ميادينهم العلميّة يُسلمون أمرهم لأولياء البلاطات السياسيّة الحزبيّة، فيلتئمون في المجالس الأكاديميّة في حضن الجامعة اللبنانيّة، وديدنهم أن يعزّزوا موقع هذا الحزب أو ذاك، أو هذه الطائفة أو تلك، أو هذا المذهب أو ذاك. وفي ظنّهم أنّ من أفضل السبُل انتصارًا لهويّتهم ولذاتيّتهم ولمنعتهم الجماعيّة الاستماتة في تفريغ أساتذة ينتمون حصرًا إلى أحزابهم ومذاهبهم، ولا ينطقون إلّا بما يمليه عليهم السلطانُ السياسيّ أو الدينيّ. حين تقتنع الأكثريّة اللبنانيّة بفوائد مثل هذا الفعل الحضاريّ، يعود الالتزام السياسيّ في الاجتماع اللبنانيّ وفي الجامعة اللبنانيّة مصدرَ إلهام وإصلاح وتغيير. أمّا ما أعاينه اليوم في الجامعة اللبنانيّة، فيخالف أبسط مبادئ الالتزام الأكاديميّ والالتزام السياسيّ. فكيف يستطيع الأستاذ الجامعيّ أن يوفّق بين منطق التفكير العلميّ الحرّ ومنطق الائتمار السياسيّ الأيديولوجيّ ؟ أفلم يتّعظ الجسمُ الأكاديميّ من التأمّل في الخيبات الوجوديّة الصاعقة التي جناها كبار أهل الفكر من مخالطة سلاطين الاقتدار السياسيّ ؟ فها هوذا أفلاطون يجرّ أذيال الخيبة من تجربته المريرة في جزيرة صقلية (سيراكوزا) حين زُيِّن له أنّه يستطيع أن يؤثّر تأثيرًا فكريًّا صالحًا في نسيب الملك المعَدّ لوراثة السلطان، فإذا به يهان ويساق عنوةً ويرمى في سوق النخاسة عبدًا للبيع والشراء ؟ وها هوذا هايدغر المفكّر الألمانيّ الشهير يختبر مرارة الائتمار بالسلطان النازيّ حين قبل رئاسة الجامعة في فرايبورغ، فلم يتورّع عن الاستقالة بعد بضعة أشهر، وفي يقينه أنّه أخضع نفسه في لحظة تخلٍّ مريرة للابتزاز والتهديد والتآمر. وها هوذا المفكّر الفرنسيّ الذائع الصيت بول ريكور ينكفئ من جامعة باريس إلى جامعة نانت الهادئة صونًا لنفسه من انحرافات اليسار السياسيّ الذي كان يحاصر العاصمة الفرنسيّة في أيّار 1968 ويضرب عليها طوقًا من الأيديولوجيا المتطرّفة. يقيني أنّ الأستاذ الجامعيّ لا يجوز له أن يخضع للأيديولوجيا السياسيّة، مهما علا شأنها واتّسقت أحوالُها في زمن من الأزمنة لأنّ مقتضيات التفكير الحرّ تناقض مسلّمات المبايعة. ولا يجوز له أن يخضع للسلطة الدينيّة لأنّها تحرمه من حرّيّة النظر الموضوعيّ في وقائع الوجود.
كرامةُ الأستاذ الجامعيّ حرّيّتُه الذاتيّة واستقلاليّتُه الفكريّة وفرادتُه الأخلاقيّة. فكيف يجوز، والحال هذه، أن يجري تعيين المسؤولين في الجامعة اللبنانيّة من رؤساء وعمداء ومدراء على أساس التأييد السياسيّ، فيما المنطق السليم يستوجب الانتخاب الحرّ من قبل الأساتذة أنفسهم، بشرط مراعاة معيار الكفاءة العلميّة وصون مقتضيات المناصفة الحضاريّة ؟ تُبكيني مسرحيّاتُ الانتخاب في مجالس الجامعة اللبنانيّة حيث يُعيَّن الرئيسُ أو العميدُ أو المديرُ وينصَّب سياسيًّا، ومن ثمّ يُنتخب انتخابًا مسرحيًّا. وليس لأحد الجرأة على التنديد بهذه المراءاة التمثيليّة. فإذا أصلحت الجامعة من نظامها، من بعد أن يقتنع أهلُها بالتحوّل البنيويّ الذي أقترحه، أمكن القول بأنّ هذه العمادة أو تلك تعود مداورةً لهذه الطائفة أو تلك، وبأنّ الأكفأ والأنزه والأعلم من هذه الطائفة أو تلك هو الذي يتسابق الأساتذةُ ديمقراطيًّا إلى انتخابه. حيئنذ تعود السلطة السياسيّةُ لا تعيّن أساتذة الجامعة اللبنانيّة ورؤساءها وعمداءها ومدراءها، بل يفرز منطقُ الكفاءة ومنطقُ المعايشة الحضاريّة الراقية أفضلَ الأساتذة للانتخاب المباشر من القاعدة. فإذا كان النظام السياسيّ اللبنانيّ مبنيًّا في جميع دوائر القرار على أصل التوزيع الطائفيّ المنصف، فلماذا لا ينقلب النظام الإداريّ في الجامعة اللبنانيّة شبيهًا بهذا النظام السياسيّ، مراعيًا خصوصيّات الاجتماع اللبنانيّ، حريصًا على ربط المناصفة الطائفيّة العادلة بمعايير الكفاءة العلميّة الراسخة ؟
أمّا التراخي، فأحمله على وجوه شتّى. ثمّة تراخٍ في قبول الأساتذة الجدُد، وتراخ في قبول الطلّاب، وتراخٍ في تجديد البرامج، وتراخٍ في وضع المعايير الأكاديميّة الصارمة وضبط سقوف المعدّلات، وتراخٍ في محاسبة الأساتذة على إنتاجهم العلميّ والموظّفين على أدائهم المهنيّ، وتراخٍ في ضبط شؤون الإدارة، وتراخٍ في ترقية الأساتذة، وتراخٍ في تصنيف الشهادات الآتية من الجامعات الخاصّة، وتراخٍ في تجويد التدريس ولاسيّما في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والتربويّة المدعوّة زورًا بالعلوم الرخوة، فيما الاجتماعُ اللبنانيّ يعوزه النضجُ الإنسانيّ الذي تضمنه له تنشئةٌ نبيهةٌ رصينةٌ راقيةٌ في هذه العلوم. ولا شكّ في أنّ جميع العهود التي تعاقبت على الجامعة اللبنانيّة كانت تسعى إلى معالجة ضروب التراخي هذه. بيد أنّ الاستنساب في تشخيص مواضع التراخي، والتساهل في الإجراءات التأديبيّة، والتغاضي المتعمّد عن التجاوزات في كلّ حقل من حقول التراخي هذه، هو الذي أفضى بالجامعة اللبنانيّة إلى ما هي عليه من معاثر ومنقلبات. وإنّ أشدّ ما يعثّرني في ضروب التراخي هذه إعراضُ الجامعة اللبنانيّة عن استخدام اللغات الأجنبيّة في نقل المعارف إلى طلّابها، ولاسيّما في العلوم الرخوة. ويُذهلني أن يتخرّج الطلّاب في هذه العلوم وهم جاهلون لكنوز الفكر التي تختزنها آدابُ الحضارات الأخرى التي يعجز العرب عن نقلها كلّها إلى لغتهم نقلًا أمينًا مبدعًا. وتشتدّ المصيبةُ حين يبلغ هؤلاء الطلّاب مرتبة التعليم في الجامعة اللبنانيّة، وهم على هذا الوهن اللغويّ الفاضح. وفي موازاة ذلك، ترتضي الجامعة أن ينتمي إلى جسمها التعليميّ من استحصل على شهادةٍ في الدكتوراه من جامعة خاصّة لا تضع في صدارة معاييرها اكتساب لغة أجنبيّة عالميّة واحدة تهيّئ صاحب الشهادة للاطّلاع الحصيف على مضامين المعارف الكونيّة والآداب العالميّة. أمّا المصيبة الأدهي، فتأتينا في الجامعة اللبنانيّة من بعض الدكاترة المتخرّجين من الجامعات الخاصّة التي تمنحهم شهادة الدكتوراه، ولكنّها تمنع عنهم التدريس في كلّيّاتها، ولسان حالها يقول بدفعهم إلى الانتظام في الجسم التعليميّ في الجامعة اللبنانيّة على سبيل التوظيف الطائفيّ لأنّ ظنّهم بجامعتنا أنّها باتت تأوي لا النابغين من الفقراء الذين ظلمهم النظام الاقتصاديّ المتوحّش، بل فقراء العقول الذين لم يبذلوا الجهود الحثيثة في تأهيل أنفسهم لمثل هذه الرسالة النبيلة.
ليس ينفع أحدًا أن يكتفي بامتداح هذا الإنجاز أو ذاك ممّا تكتسبه الجامعةُ اللبنانيّة اليوم لأساتذتها ولطلّابها من رفيع المعارف ومختمر التنشئة، وهو ما فتئ موضع تقدير وتثمين لجميع محبّيها وأصدقائها. بيد أنّ محبّة الجامعة اللبنانيّة لا بدّ لها من أن تملي علينا الإسهام الطوعيّ المستنير في إصلاحها. والإصلاح عاد لا يستقيم بتكرار المعزوفات الرتيبة المملّة. وحدهما الاعتراف الصادق بخصائص الاجتماع اللبنانيّ، والجهر بإصلاح بنيويّ منبثق من فلسفة العَلمانيّة الهنيّة، يؤهّلان الجامعة للنهوض السليم، ويبثّان في شرايينها روح المبادرة البنّاءة. لقد نظر كثيرون في أحوال الجامعة اللبنانيّة، وأنشأوا الكثير من المشاريع الإصلاحيّة شارك في إعدادها نخبةٌ من أهل الفكر والعلم والقانون في الجامعة. غير أنّ هذه المشاريع ما تجرّأت على قول قولة الحقّ في خلفيّات الانعطاب البنيويّ في الجامعة اللبنانيّة. وهاءنذا أسوق هذا التحليل الدقيق، وأقترح هذا السبيل الخطير، وأناصر هذا الحلّ الاستثنائيّ. فحين يعترف أهلُ الجامعة اللبنانيّة بهذا الغلوّ وبهذا الانحراف وبهذا التراخي، نتنادى جميعُنا إلى تحاور بنّاء يعصم جامعتنا من الانهيار، ويرتقي بها إلى مصفّ الجامعات المستقلّة المسؤولة الواعية الملتزمة المنفتحة المتنوّعة. ما خلا ذلك، خبط عشواء في مسائل متشابكة ملتبسة تزهق النفس وتميت الروح ! وإذا لم نتناصر جميعًا على هذا الإصلاح، فإنّ الجامعة اللبنانيّة ستنقلب ربيبةَ المجتمع اللبنانيّ، تنطق بمنطوقه وتتعثّر بتعثّراته وتئنّ من مصائبه، في حين أنّها هي التي يوكل إليها أن تغدو مربّية المجتمع.
أمّا الغلوّ، فهو في الإصرار على إدارة ممركزة حصريّة تفصيليّة مباشرة لمؤسّسة تضمّ حوالى 80000 طالب وطالبة، وحوالى 7000 أستاذ وأستاذة، وحوالى 2000 موظّف وموظّفة. في المنطق الإدرايّ البحت، أضحى مثل هذا التكاثر لا يطيقه نظامُ الإدارة المركزيّة الواحدة. أمّا في المنطق الاجتماعيّ الثقافيّ اللبنانيّ، فإنّ الديمُغرافيا الراهنة تضطرّ إدارة الجامعة إلى تجاوز أعراف المناصفة الطائفيّة. والظنّ أنّ معايير الكفاءة العلميّة هي وحدها التي ينبغي أن تُعتمد في الانتماء إلى الجامعة اللبنانيّة. هذا القول يصحّ في المجتمعات الموحّدة، ولا يصحّ على الإطلاق في الاجتماع اللبنانيّ الفسيفسائيّ. وليس يُبطل هذه الفسيفساء اعتمادُ المعايير الأكاديميّة في التوظيف الجامعيّ. هذا إنْ اعترف الجميعُ بأنّ الأساتذة الذين يتعاقدون مع الجامعة اللبنانيّة منذ نهاية الحرب اللبنانيّة هم في أغلبهم من أهل الاستحقاق العلميّ الوطيد. النتيجة الوحيدة لاعتماد المعايير الأكاديميّة وحسب هي تهميش المسيحيّين في الجامعة اللبنانيّة لأنّ الاختلال الديمُغرافيّ سيُفضي إلى مثل هذا الواقع الجديد. أمّا إذا اقترنت المعايير الأكاديميّة بمستلزمات المعايشة اللبنانيّة الحقيقيّة، على غرار ما يجري في المجتمعات المتنوّعة (سويسرا، بلجيكا، كندا، ألمانيا)، فإنّ المجتنى يكون أنضج وأخصب وأشدّ قابليّةً للإعمار الإنسانيّ الفكريّ الراقي.
قد تباغت هذه المقاربةُ بعضًا من زملائي في الجامعة، وهم يعلمون أنّي من دعاة العَلمانيّة الهنيّة في لبنان وفي أوطان العالم العربيّ. بيد أنّ النظر المتأنّي في طرحي سيبيّن مدى ثباتي على مبدإ العَلمانيّة الهنيّة. يقيني أنّ الحلّ الواقعيّ الأنسب هو في الزمن الراهن هذه العَلمانيّة الهنيّة، وفي صلب مقتضياتها أن يصون المرءُ التنوّعَ الإنسانيّ في المجتمع، من غير أن ينتصب التصوّرُ الدينيّ الواحد مرجعيّةً حصريّةً في تدبّر المجال العموميّ اللبنانيّ. ذلك بأنّ الاجتماع الساميّ المشرقيّ العربيّ يصعب عليه الانتقالُ من التديّن الفطريّ الذي اختبره منذ أقدم العصور إلى العَلمانيّة الشاملة التي اعتمدتها معظمُ المجتمعات الغربيّة. وفي ظلّ الاحتراب الأيديولوجيّ الضارب في عمق المجتمعات العربيّة لا يمكن المجتمع اللبنانيّ أن ينأى بنفسه، فينصرف إلى عَلمانيّة شاملة في بضع من السنوات. فالطوائف اللبنانيّة، شئنا أم أبينا، ما فتئت هي مصدر الانتماء الأوّل في الوعي الفرديّ اللبنانيّ، وهي مرجع تكوّن الهويّة الذاتيّة، وهي مستند التصوّر الذاتيّ للكون وللإنسان وللتاريخ. وما من دليل على أنّ اللبنانيّين الذين يعيدون إنتاج طبقتهم السياسيّة الطائفيّة يريدون حقًّا أن يبدّلوا في مسالك ذهنيّتهم. ومن ثمّ، فإنّي أنادي بعَلمانيّة هنيّة تضع المجال العموميّ اللبنانيّ في نجوة من هيمنة التصوّرات الدينيّة الذاتيّة، وتسيّجه بأحكام الحياد التشريعيّ، ولكنّها تصون للطوائف اللبنانيّة ذاتيّتها، وتهبها القدرة على الإسهام الإيجابيّ في تهذيب الفسيفساء اللبنانيّة وصقلها وتعزيز بهائها. إنّها العَلمانيّة التي لا تطلب شيئًا لذاتها، بل جلّ مقاصدها أن تحمي الطوائف من غلوائها ومن محن استبداداتها ومن تجارب انحرافاتها. هي العَلمانيّة التي تعصم اللبنانيّين من الاحتراب لأنّها تصون الذات في كلّ ذات جماعيّة، وتراعي الاختلاف، وتعزّز التحاور والتفاعل والتعاون والتقابس. هي عَلمانيّة تقتطف محاسن العَلمانيّة الراديكاليّة الغربيّة ومحاسن الطائفيّة الراديكاليّة المشرقيّة، وتجتنب مساوئهما على حدّ السواء. ليست هي عقيدةً من العقائد، بل وظيفةٌ معياريّةٌ بها ينضبط وينتظم الحيادُ الإيجابيّ في المجال العموميّ اللبنانيّ.
العَلمانيّون الراديكاليّون الذين يريدون للجامعة اللبنانيّة في هذا السياق المتأزّم أن تعتمد حصرًا المعايير العلميّة في اختيار الأساتذة يفوتهم أنّ الجامعة اللبنانيّة يأتي إليها أناسٌ هم من نسيج الاجتماع اللبنانيّ الفسيفسائيّ الذي تنتظم أحكامُه وفاقًا للدستور اللبنانيّ الطائفيّ وللأعراف الطائفيّة السائدة في تأوّله. إصرارُهم على العَلمانيّة الراديكاليّة في الجامعة اللبنانيّة، في حين أنّ المجتمع اللبنانيّ كلّه سائرٌ اليوم في خلاف هذا الاتّجاه، يعني عمليًّا عزل اللبنانيّين المسيحيّين وعزل اللبنانيّين العَلمانيّين أنفسهم عن الاشتراك في تحمّل مسؤوليّة الجامعة اللبنانيّة. من حسنات طرحهم أنّهم يساعدون على تنقية الوعي اللبنانيّ من أضرار الطائفيّة. أمّا الطائفيّون الراديكاليّون، فإنّهم يحافظون على التوزيع الطائفيّ المختلّ باختلال الديمغرافيا اللبنانيّة، ولكنّهم يمعنون في مناصرة مصالح الطائفة وإسقاط مصلحة الجامعة اللبنانيّة، ويفاقمون التقوقعَ الطائفيّ الذي يُفضي حتمًا إلى التصارع الطائفيّ على المناصب وإلى إزكاء الفتنة والاحتراب والتقاتل.
من التطبيقات العمليّة لهذه العَلمانيّة الهنيّة في قرائن الجامعة اللبنانيّة أن يُصار فيها إلى تعزيز التنوّع على أساس الوحدة المصيريّة، وإلى مناصرة الانفتاح على أساس الانتماء المشترك، وإلى رعاية الاختلاف على أساس المسعى الفكريّ الثقافيّ الأكاديميّ الأسمى. هذا كلّه لا يتأتّى للجامعة اللبنانيّة وهي على هذه الحال من الاضطراب الكيانيّ ومن استرهاب التنوّع. عندما كانت الجامعة اللبنانيّة في مهد تأسيسها حاضنةً للنخبة من الطلّاب اللبنانيّين في قرائن الديمغرافيا السائدة في الستّينيّات من القرن العشرين، لم تكن بها حاجةٌ إلى الانتشار والتكاثر. أمّا اليوم، فالحال مختلفةٌ في لبنان، ديمغرافيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا. ومن أخطر التبدّلات الاجتماعيّة تضاؤل أعداد اللبنانيّين المسيحيّين، وتضاعف أعداد اللبنانيّين المسلمين، واندثار الانتماء العَلمانيّ الحقيقيّ الذي كان يحلم به دعاةُ التنوير والإصلاح في الاجتماع اللبنانيّ والعربيّ الحديث. فإذا أراد اللبنانيّون المسلمون، وأخصّ منهم اللبنانيّين الشيعة الذين يضطلعون اليوم بمسؤوليّة إدارة الجامعة اللبنانيّة بحسب التوزيع الطائفيّ السائد، أن يصونوا التنوّع اللبنانيّ في صلب البنى الأكاديميّة والإداريّة في الجامعة اللبنانيّة، كان عليهم أن يسارعوا إلى تعديلات خطيرة في نظام الجامعة اللبنانيّة، ومنها اعتماد معيار الكفاءة العلميّة مقترنًا اقترانًا وثيقًا بمعيار المناصفة العادل، وتعزيز اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة المنفتحة، والاضطلاع بجماعيّة المسؤوليّة المشتركة على نحو ما هو سائدٌ في الإدارة اللبنانيّة. بناءً على هذا التعديل الجوهريّ، يكون الوقت قد آن لتشريع بعض من الاستقلاليّة الإداريّة في الفروع بحيث تنشأ لنا جامعاتٌ لبنانيّةٌ في مستوى المحافظات يجمعها المسعى الأكاديميّ الواحد، والحرصُ التنوّعي الصادق، والمسؤوليّةُ الوطنيّة المرهفة، ويظلّلها مجلسٌ أكاديميّ أعلى يشرف فيها على الروح والجوهر والأسُس والأصول والمبادئ، ويرئسها نوّابٌ لرئيس الجامعة على غرار ما يجري في إدارة مصرف لبنان. أمّا التدابير الإداريّة، فيضطلع بها كلّ مجمّع على حدة. وعلى مثال المدن الإنسانيّة الراقية التي تفرّعت فيها الجامعةُ الواحدة إلى جامعات متعاضدة متكافئة متكاملة، تنصرف كلُّ جامعة لبنانيّة، وقد استرشدت خطّة التوجيه التي يضعها المجلسُ الأكاديميّ الأعلى، إلى تعزيز هذا المنحى العلميّ أو ذاك، وإلى التعمّق في هذا الحقل المعرفيّ أو ذاك، واضعةً طاقاتها في خدمة حاجات المحافظة التي تنتشر فيها. في هذا الاقتراح جرأةٌ كبيرةٌ أستمدّها من خلفيّة تصوّري للواقع اللبنانيّ الأرحب. فالجميع يدركون أنّ الاختلال الديمغرافيّ في لبنان قد يُفضي إلى انعزال اللبنانيّين المسيحيّين وانكفائهم عن المشاركة في المسؤوليّة الوطنيّة. وفي هذا أفدحُ الخسائر للرسالة اللبنانيّة الحضاريّة. وحده فعلُ الاستثناء الحضاريّ يمكنه أن يصون الواقع اللبنانيّ من هذا الانهيار. أعني بهذا الفعل أن يعمد أهلُ الكثرة اللبنانيّة، وفي مقدّمتهم اللبنانيّون الشيعة واللبنانيّون السنّة، إلى فعل تضحية حضاريّة أو إخلاء كيانيّ راقٍ يُملي عليهم فصلَ التكاثر الديمغرافيّ عن الاستئثار بالمجال العموميّ واحتكار الإدارة ومضاعفة القوّة. بفضل هذا الفعل الحضاريّ الخطير يتيح الدهر للبنان أن ينجو من منعطفات التاريخ المقبلة عليه، وتستطيع الإدارةُ اللبنانيّة أن تصون ذاتها من الغلوّ الفتّاك، ويتهيّأ للجامعة اللبنانيّة أن تستمرّ وتزهو وتتألّق. ليس في ذلك استعطاءٌ أو استرحامٌ للبقيّة الباقية من اللبنانيّين المسيحيّين، بل استنهاضٌ للواجب الوطنيّ الذي ينبغي أن تستهدي به الجماعاتُ اللبنانيّة المسلمة. ذلك بأنّ اختلال التوازن الطائفيّ في الجامعة اللبنانيّة، وهي موئلُ التفكير النقديّ والإبداع الحضاريّ في صون الهويّة اللبنانيّة وصون مبدإ التنوّع في الثقافة العربيّة وفي المجتمعات العربيّة، ينبئ عن اختلال التوازن الطائفيّ في البنية اللبنانيّة بأجمعها. وليس ينفع اللبنانيّين المسيحيّين أن يتعزَّوا بجامعاتهم الخاصّة لأنّها لن تقوى على صون الإسهام الفكريّ المسيحيّ في لبنان وفي العالم العربيّ إنْ سقط الإسهامُ الفكريّ المسيحيّ في الجامعة اللبنانيّة. وهو ساقطٌ إذا ما أصاب المسيحيّين في الجامعة اللبنانيّة إضعافٌ وإرباك وتهميشٌ فعزلٌ وإقصاءٌ.
هذا في الغلوّ وفي عواقبه وفي سبُل الانعتاق منه. أمّا الانحراف، فيتجسّد في انصراف جمع غفير من أساتذة الجامعة اللبنانيّة إلى المبايعة السياسيّة والمذهبيّة بحيث يعلو عندهم الانتماءُ الحزبيّ على أولويّات العمل الأكاديميّ البحت. ولكَم يذهلني أن أعاين أساتذةً لامعين متألّقين في ميادينهم العلميّة يُسلمون أمرهم لأولياء البلاطات السياسيّة الحزبيّة، فيلتئمون في المجالس الأكاديميّة في حضن الجامعة اللبنانيّة، وديدنهم أن يعزّزوا موقع هذا الحزب أو ذاك، أو هذه الطائفة أو تلك، أو هذا المذهب أو ذاك. وفي ظنّهم أنّ من أفضل السبُل انتصارًا لهويّتهم ولذاتيّتهم ولمنعتهم الجماعيّة الاستماتة في تفريغ أساتذة ينتمون حصرًا إلى أحزابهم ومذاهبهم، ولا ينطقون إلّا بما يمليه عليهم السلطانُ السياسيّ أو الدينيّ. حين تقتنع الأكثريّة اللبنانيّة بفوائد مثل هذا الفعل الحضاريّ، يعود الالتزام السياسيّ في الاجتماع اللبنانيّ وفي الجامعة اللبنانيّة مصدرَ إلهام وإصلاح وتغيير. أمّا ما أعاينه اليوم في الجامعة اللبنانيّة، فيخالف أبسط مبادئ الالتزام الأكاديميّ والالتزام السياسيّ. فكيف يستطيع الأستاذ الجامعيّ أن يوفّق بين منطق التفكير العلميّ الحرّ ومنطق الائتمار السياسيّ الأيديولوجيّ ؟ أفلم يتّعظ الجسمُ الأكاديميّ من التأمّل في الخيبات الوجوديّة الصاعقة التي جناها كبار أهل الفكر من مخالطة سلاطين الاقتدار السياسيّ ؟ فها هوذا أفلاطون يجرّ أذيال الخيبة من تجربته المريرة في جزيرة صقلية (سيراكوزا) حين زُيِّن له أنّه يستطيع أن يؤثّر تأثيرًا فكريًّا صالحًا في نسيب الملك المعَدّ لوراثة السلطان، فإذا به يهان ويساق عنوةً ويرمى في سوق النخاسة عبدًا للبيع والشراء ؟ وها هوذا هايدغر المفكّر الألمانيّ الشهير يختبر مرارة الائتمار بالسلطان النازيّ حين قبل رئاسة الجامعة في فرايبورغ، فلم يتورّع عن الاستقالة بعد بضعة أشهر، وفي يقينه أنّه أخضع نفسه في لحظة تخلٍّ مريرة للابتزاز والتهديد والتآمر. وها هوذا المفكّر الفرنسيّ الذائع الصيت بول ريكور ينكفئ من جامعة باريس إلى جامعة نانت الهادئة صونًا لنفسه من انحرافات اليسار السياسيّ الذي كان يحاصر العاصمة الفرنسيّة في أيّار 1968 ويضرب عليها طوقًا من الأيديولوجيا المتطرّفة. يقيني أنّ الأستاذ الجامعيّ لا يجوز له أن يخضع للأيديولوجيا السياسيّة، مهما علا شأنها واتّسقت أحوالُها في زمن من الأزمنة لأنّ مقتضيات التفكير الحرّ تناقض مسلّمات المبايعة. ولا يجوز له أن يخضع للسلطة الدينيّة لأنّها تحرمه من حرّيّة النظر الموضوعيّ في وقائع الوجود.
كرامةُ الأستاذ الجامعيّ حرّيّتُه الذاتيّة واستقلاليّتُه الفكريّة وفرادتُه الأخلاقيّة. فكيف يجوز، والحال هذه، أن يجري تعيين المسؤولين في الجامعة اللبنانيّة من رؤساء وعمداء ومدراء على أساس التأييد السياسيّ، فيما المنطق السليم يستوجب الانتخاب الحرّ من قبل الأساتذة أنفسهم، بشرط مراعاة معيار الكفاءة العلميّة وصون مقتضيات المناصفة الحضاريّة ؟ تُبكيني مسرحيّاتُ الانتخاب في مجالس الجامعة اللبنانيّة حيث يُعيَّن الرئيسُ أو العميدُ أو المديرُ وينصَّب سياسيًّا، ومن ثمّ يُنتخب انتخابًا مسرحيًّا. وليس لأحد الجرأة على التنديد بهذه المراءاة التمثيليّة. فإذا أصلحت الجامعة من نظامها، من بعد أن يقتنع أهلُها بالتحوّل البنيويّ الذي أقترحه، أمكن القول بأنّ هذه العمادة أو تلك تعود مداورةً لهذه الطائفة أو تلك، وبأنّ الأكفأ والأنزه والأعلم من هذه الطائفة أو تلك هو الذي يتسابق الأساتذةُ ديمقراطيًّا إلى انتخابه. حيئنذ تعود السلطة السياسيّةُ لا تعيّن أساتذة الجامعة اللبنانيّة ورؤساءها وعمداءها ومدراءها، بل يفرز منطقُ الكفاءة ومنطقُ المعايشة الحضاريّة الراقية أفضلَ الأساتذة للانتخاب المباشر من القاعدة. فإذا كان النظام السياسيّ اللبنانيّ مبنيًّا في جميع دوائر القرار على أصل التوزيع الطائفيّ المنصف، فلماذا لا ينقلب النظام الإداريّ في الجامعة اللبنانيّة شبيهًا بهذا النظام السياسيّ، مراعيًا خصوصيّات الاجتماع اللبنانيّ، حريصًا على ربط المناصفة الطائفيّة العادلة بمعايير الكفاءة العلميّة الراسخة ؟
أمّا التراخي، فأحمله على وجوه شتّى. ثمّة تراخٍ في قبول الأساتذة الجدُد، وتراخ في قبول الطلّاب، وتراخٍ في تجديد البرامج، وتراخٍ في وضع المعايير الأكاديميّة الصارمة وضبط سقوف المعدّلات، وتراخٍ في محاسبة الأساتذة على إنتاجهم العلميّ والموظّفين على أدائهم المهنيّ، وتراخٍ في ضبط شؤون الإدارة، وتراخٍ في ترقية الأساتذة، وتراخٍ في تصنيف الشهادات الآتية من الجامعات الخاصّة، وتراخٍ في تجويد التدريس ولاسيّما في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والتربويّة المدعوّة زورًا بالعلوم الرخوة، فيما الاجتماعُ اللبنانيّ يعوزه النضجُ الإنسانيّ الذي تضمنه له تنشئةٌ نبيهةٌ رصينةٌ راقيةٌ في هذه العلوم. ولا شكّ في أنّ جميع العهود التي تعاقبت على الجامعة اللبنانيّة كانت تسعى إلى معالجة ضروب التراخي هذه. بيد أنّ الاستنساب في تشخيص مواضع التراخي، والتساهل في الإجراءات التأديبيّة، والتغاضي المتعمّد عن التجاوزات في كلّ حقل من حقول التراخي هذه، هو الذي أفضى بالجامعة اللبنانيّة إلى ما هي عليه من معاثر ومنقلبات. وإنّ أشدّ ما يعثّرني في ضروب التراخي هذه إعراضُ الجامعة اللبنانيّة عن استخدام اللغات الأجنبيّة في نقل المعارف إلى طلّابها، ولاسيّما في العلوم الرخوة. ويُذهلني أن يتخرّج الطلّاب في هذه العلوم وهم جاهلون لكنوز الفكر التي تختزنها آدابُ الحضارات الأخرى التي يعجز العرب عن نقلها كلّها إلى لغتهم نقلًا أمينًا مبدعًا. وتشتدّ المصيبةُ حين يبلغ هؤلاء الطلّاب مرتبة التعليم في الجامعة اللبنانيّة، وهم على هذا الوهن اللغويّ الفاضح. وفي موازاة ذلك، ترتضي الجامعة أن ينتمي إلى جسمها التعليميّ من استحصل على شهادةٍ في الدكتوراه من جامعة خاصّة لا تضع في صدارة معاييرها اكتساب لغة أجنبيّة عالميّة واحدة تهيّئ صاحب الشهادة للاطّلاع الحصيف على مضامين المعارف الكونيّة والآداب العالميّة. أمّا المصيبة الأدهي، فتأتينا في الجامعة اللبنانيّة من بعض الدكاترة المتخرّجين من الجامعات الخاصّة التي تمنحهم شهادة الدكتوراه، ولكنّها تمنع عنهم التدريس في كلّيّاتها، ولسان حالها يقول بدفعهم إلى الانتظام في الجسم التعليميّ في الجامعة اللبنانيّة على سبيل التوظيف الطائفيّ لأنّ ظنّهم بجامعتنا أنّها باتت تأوي لا النابغين من الفقراء الذين ظلمهم النظام الاقتصاديّ المتوحّش، بل فقراء العقول الذين لم يبذلوا الجهود الحثيثة في تأهيل أنفسهم لمثل هذه الرسالة النبيلة.
ليس ينفع أحدًا أن يكتفي بامتداح هذا الإنجاز أو ذاك ممّا تكتسبه الجامعةُ اللبنانيّة اليوم لأساتذتها ولطلّابها من رفيع المعارف ومختمر التنشئة، وهو ما فتئ موضع تقدير وتثمين لجميع محبّيها وأصدقائها. بيد أنّ محبّة الجامعة اللبنانيّة لا بدّ لها من أن تملي علينا الإسهام الطوعيّ المستنير في إصلاحها. والإصلاح عاد لا يستقيم بتكرار المعزوفات الرتيبة المملّة. وحدهما الاعتراف الصادق بخصائص الاجتماع اللبنانيّ، والجهر بإصلاح بنيويّ منبثق من فلسفة العَلمانيّة الهنيّة، يؤهّلان الجامعة للنهوض السليم، ويبثّان في شرايينها روح المبادرة البنّاءة. لقد نظر كثيرون في أحوال الجامعة اللبنانيّة، وأنشأوا الكثير من المشاريع الإصلاحيّة شارك في إعدادها نخبةٌ من أهل الفكر والعلم والقانون في الجامعة. غير أنّ هذه المشاريع ما تجرّأت على قول قولة الحقّ في خلفيّات الانعطاب البنيويّ في الجامعة اللبنانيّة. وهاءنذا أسوق هذا التحليل الدقيق، وأقترح هذا السبيل الخطير، وأناصر هذا الحلّ الاستثنائيّ. فحين يعترف أهلُ الجامعة اللبنانيّة بهذا الغلوّ وبهذا الانحراف وبهذا التراخي، نتنادى جميعُنا إلى تحاور بنّاء يعصم جامعتنا من الانهيار، ويرتقي بها إلى مصفّ الجامعات المستقلّة المسؤولة الواعية الملتزمة المنفتحة المتنوّعة. ما خلا ذلك، خبط عشواء في مسائل متشابكة ملتبسة تزهق النفس وتميت الروح ! وإذا لم نتناصر جميعًا على هذا الإصلاح، فإنّ الجامعة اللبنانيّة ستنقلب ربيبةَ المجتمع اللبنانيّ، تنطق بمنطوقه وتتعثّر بتعثّراته وتئنّ من مصائبه، في حين أنّها هي التي يوكل إليها أن تغدو مربّية المجتمع.
د. مشير باسيل عون
الخميس 30 آب 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق