عن فيلم مريم المجدلية (2018)
يروي فيلم مريم
المجدلية (2018) إخراج غارث ديفيس Garth Davis حكاية امرأة اسمها مريم المجدلية نسبة للبلدة التي نشأت
وترعرت فيها وهي مجدلة. إنّ قصةَ الفيلم مأخوذة من الإنجيل ولكن الفيلم لا يلتزم حرفيّاً
بكل ما وردَ في رواية العهد الجديد عن سيرة السيد المسيح. تدعو كاتبتا سيناريو
الفيلم هيلين إيدميندسون وفيليبا غوسليت المشاهدين إلى إعادة النظر في دور المرأة
في حياة السيد المسيح، في مرحلة التبشير التي دامت 3 سنوات، وفي علاقة المسيح
بمريم المجدلية وعلاقتها هي بالتلاميذ الإثني عشر.
من هي مريم
المجدلية كما ورد في الكتاب المقدس؟
يقول الكتاب
المقدس إنّ مريم كانت من النساء الأوائل اللواتي آمنّ بالسيد المسيح وبرسالته
السماوية وهي أيضاً الشاهدة الأولى على قيامته من بين الأموات. ومن الواضح من
رواية الأناجيل الأربعة أنها تبعت السيد المسيح من مكان إلى آخر إلا أنّ الإنجيل
لا يعترف بالمجدلية كواحدة من التلاميذ الاثني عشر: أخرج منها السيد المسيح سبعة
شياطين (لوقا 8)، كانت واقفة أمام الصليب على عكس معظم التلاميذ الذين هربوا خوفاً
من الاضطهاد، رافقت الرّب إلى القبر وسهرت هناك لتطويبه بالعطور وظهرَ لها أخيراً
الملاك وبشّرها بقيامته؛ وأيضاً في إنجيل يوحنا (الفصل 20) ظهر لها المسيح نفسه
طالباً منها أن تبشّر التلاميذ بقيامته من بين الأموات. إذاً فمريم المجدلية مميزة
جداً في نظر السيد المسيح لأنه اختارها دون غيرها لتنقل بُشرى الخلاص للتلاميذ
الذين أخذوا على عاتقهم نقل هذه البُشرى إلى البشرية جمعاء، فجاءت ولادة الكنيسة
وانتشرت إثرَ ذلكَ المسيحية في العالم.
ماذا يقول
الفيلم عن مريم المجدلية؟
تأخذنا كاتبتا
السيناريو في رحلة إلى بلدة مجدلة حيثُ نتعرّف على عائلة مريم المجدلية التي تعيش
من صيد السمك. تعملُ النساء في مجدلة داخل وخارج البيت لكنّهنَّ لا يتمتّعنَّ بأي
استقلالٍ مادّي ويفتقرنَ إلى الحريّة في إتخاذ القرار فيما يتعلّق بأمور الزواج،
التعبير عن الرأي، التحرّك دونَ وجود وصي أو مُحرم، الاختلاط بالرجال وغيرها. تنحدرُ مريم من عائلة يهودية
تعيشُ طقوسَ الإيمان حيث تذهبُ مع عائلتها كلّ يوم سبت لتأدية الفروض الدينية في
الكِنيس. تواجه المجدلية عدة تحدّيات في الفيلم لكونها تختلف عن باقي النساء فهي
تتمتع بمواهب قد تكون خارقة وهي أيضاً لا تُريد الزواج مُتحدّيةً عائلتها ومجتمعها
في سبيل معرفة ماذا يمكن لامرأة في ذلك العصر أن تفعل باستثناء الإنجاب. أرادت
مريم أن تقرر مصيرها بنفسها، أن يكونَ لها آراؤها الخاصة، أن تخرجَ في الليل متى
تشاء، لكن كلَّ ما حلُمت به كانَ من المُحرّمات. تعلمُ مريم إنّ كلّ ما
يريده المجتمع لها، لا تريده هي لنفسها لذا تمرّدت ورفضت ذاك العريس الأرمل أبو
الأولاد الذي اختاره أبوها وأخوتها لها وهربت من البيت ليلة خطوبتها. هربت إلى
الكِنيس لأنه لا ملاذَ آخر لها، فحتى لو أرادت ألا تعود إلى بيت أبيها فما هو
مصيرها في ذاكَ الزمن البائس سوى الضياع والاستغلال. تمثّلُ مريم المجدلية العديد
من النساء اللواتي كان لديهنّ أحلامهنّ الخاصة إلا أنّ المجتمع الذكوري بسلطته
الأحادية وأدَ حريتها وبترَ خياراتها وحجبَ صوتها وقامَ أيضاً بشيطنتها من باب
السيطرة عليها ومعاقبتها. وهكذا كان مصيرُ مريم بعد هروبها من بيت والدها يوم
خطوبتها لعريسها المشؤوم حيثُ رأى والدها وأخوتها أنها تسببت لهم بالعار فقاموا
بمواجهتها وتذكيرها بواجباتها وبالدور الذي لابدَّ لها أن تقوم به فهي برأيهم لم
تُخلق لتكونَ رجلاً أو تتصرفَ كالرجال. لم تكتفِ هذه العائلة بما ألحقته بمريم من
أذى نفسي ومعنوي بل جاءها أخوها الأكبر دانيال ليلاً وأخذها إلى البحر حيثُ كان
ينتظرها والدها وأخوتها وبعض الحاخامات الذين قرروا جميعاً أنّ مريم مسكونة
بالشياطين ومن واجبهم الديني والاجتماعي طرد هذه الشياطين عنها. لذا قاموا
بإغراقها في البحر عدة مرات إلى أن فقدت وعيها تماماً لعلّها تُشفى من الأفكار
الشيطانية التي لا تناسب النساء على حدّ زعمهم. ندمَ أبوها ندماً شديداً على ما
فعله بمريم لأنها لما تعد كما كانت مريم المرِحة، مريم الحالمة، مريم النقيّة،
مريم المُحبّة، العامِلة، الفاعِلة، المُعزّية والجميلة. همدت مريم في الفراش ولم
تعد تتحرك أو تكلّم أحداً إلى أن جاء الشافي (أي المسيح) لزيارتها في بيتها حيثُ
أبرأها لا من الشياطين بل بأن قال لها ساخراً بالمجتمع وخرافاته: “أين هي
الشياطين؟ أنا لا أرى أحداً منها.” فقامت مريم على الفور عندما أكّد لها السيد
المسيح أنها هي من تُقرر كيف وأين تجد الله لا المجتمع. هي من تختار الطريق
والطريقة لا أحدَ غيرها فأعادَ لها ثقتها بنفسها بعد أن تعرّضت للعنف النفسي
والجسدي وما أسهل وما أكثر ما نتعرّض اليوم في مجتمعاتنا الذكورية للقهر والتعنيف
والغسيل الذهني الذي يُبعدنا عن أنفسنا وأجسادنا وعن صوت الله في قلوبنا وضمائرنا.
لا يُطلعنا
الإنجيل على هذه التفاصيل المتعلّقة بحياة مريم المجدلية بل يكتفي بالخطوط العريضة
لقصة حياة السيد المسيح، وهذا ما فسحَ المجال للكثير من التساؤلات وفتح الباب
للكثير من الكتّاب لإعادة كتابة العديد من القصص الواردة في الإنجيل كقصة دافينشي كود للكاتب دان براون، سالوميه للكاتب أوسكار وايلد، أليعازر ومحبوبه للأديب جبران خليل جبران. وها
هما الكاتبتان هيلين إيدميندسون وفيليبا غوسليت تفعلان الأمرَ عينه حيثُ أضافتا
الكثير من التفاصيل الجديدة إلى قصة مريم وهذا برأيي يدفعنا للتساؤل ويشجّعنا على
رؤية النص المقدّس بعيداً عن أيدي رجال الدين ونظرتهم الذكورية المسيطرة على
مفاتيح النص ومعانيه العديدة. ثمّة دعوة من خلال الفيلم لكي نقارن بين الكتاب
المقدس وسيناريو الفيلم لا أن ننساق وراء التفسيرات الجاهزة دون مساءلة هذه
التفسيرات ومَنْ وراءها. فالعبادة كما يقول الفيلسوف الصوفي مانلي بالمر هول Manly Palmer Hall هي لله وليست للتفاسير
والاجتهادات الفقهية (حكمة العارفين 49). وما أكثر ما نغرق اليوم في عبادة التفاسير ونتقاتل ونقتل باسمها
مُتناسين ومتجاهلين الله، فنخلقَ من هذه التفاسير أصناماً جديدة تحاصرنا فتصبحَ
هذه الأخيرة هي الفاعلة فينا لا يد الله. قد يعتقد البعض من “المؤمنين” أنّ ما
يفعله هؤلاء الكتّاب ليس سوى الإساءة للكتب المُقدّسة وذلك بتضليل المشاهدين
والقرّاء من خلال طرح رؤى جديدة لا فائدة ولا جدوى منها. ولكن هذا التصوّر مُنافٍ
للطبيعة البشرية التي تمتاز بالتنوّع والإبتكار والتجديد فما شهدته الكنيسة من
تصحيح وتحديث لمفاهيمها القديمة منذُ ولادتها إلى يومنا هذا لهو أكبر دليل على
تطوّر العقل البشري لأنّ مصير التقوقع الديني المؤسساتي الزوال والإندثار لذا ليس
ثمّة مفرّ لمؤسساتنا الدينية سوى التطوّر ومُحاكاة روح العصر. وتتجلّى هذه
المُحاكاة من خلال الاطّلاع على آخر الأبحاث العلمية والانخراط في البحث العلمي من
قبل الفقهاء والعلمانيين على حدٍ سواء، تفعيل دور المرأة في المؤسسات الدينية
والمجتمع، فتح الباب لتفاسير جديدة وإن كانت لا تتماشى مع الاجتهادات الفقهية
السائدة دون اللجوء لتكفير وشيطنة الآخرين.
شكّلَ لقاء
المجدلية بالسيد المسيح نقطة تحوّل في حياتها حيثُ أدركتْ الآن أكثر من أي وقت مضى
أنّ الله يكمنُ في الصمت الناتج عن الخلوة مع النفس، في الغفران والمسامحة، في
أعمال الرحمة والمساعدة. أن نختلي بأنفسنا عما أصدره المجتمع من جدالات وخصومات،
أن نختلي بأنفسنا عن الأحكام المُسبقة والصور النمطية السائدة stereotype، أن نختلي بأنفسنا عن الجهل والخرافات، أي
أنه أصبحَ بإمكاننا كما فعلت المجدلية سماع صوت الله الكامن فينا. هكذا كان لقاؤها
بالمسيح عندما كانت على فراش الألم بعدما عانت من الصدمة، ثمّ استفاقت ولبّت
النداء. لم تلبّ
نداء الزواج كما أراد لها المجتمع بل انجذبت إلى أعمال وتعاليم السيد المسيح الذي
كان حينها في مجدلة مع تلاميذه يُبشّر ويشفي ويُعمّد الكثيرين من الذين آمنوا. لم
تتجرّأ النسوة الإقبال على العِماد مع الرجال إلا أنّ مريم المجدلية فعلت وتحدّت
العائلة والمجتمع مرّة ثانية، ليس هذا وحسب بل تركت بيتَ أبيها وأخوتها وإنضمّت
إلى التلاميذ وراحت تبشّر وتُعلّم وتُعمّد. فأصبحت واحدة من تلاميذ السيد المسيح
تأكلُ معهم وتسافرُ معهم وبهذا اختارت الطريق والطريقة. إنّ انضمامها إلى جماعة
التلاميذ يعني أنها كانت تنام في العراء وتختلط بالرّجال وبهذا قامت مع السيد
المسيح بإزاحة الستار عن الكثير من المفاهيم الدينية-الاجتماعية الخاطئة وذلك من
خلال فتح باب التلمذة والتعليم الديني للنساء، كما أنها شجّعت الكثيرات على
الانخراط بالإيمان المسيحي بخرقها لحجاب الخوف وإزالة تحريم الاختلاط بين
الجنسين.
يسلّطُ الفيلم
الضوء على علاقة التلاميذ الذكور بالمجدلية وكيف أنّهم لم يتقبّلوا وجودها بينهم
حتى بعدَ موت السيد المسيح وقيامته. كانت هذه العلاقة تتصف بالاضطراب والقلق والخوف
من وجود امرأة وسطهم؛ فالمرأة في نظر ذاك المجتمع تمثّلُ الشرور والفوضى، الغريزة
والضعف. رغم أنّهم قبلوا السيد المسيح مُخلّصاً على حياتهم وفادياً للإنسانية إلا
أنّهم لم يتحرروا بالكامل من الجهل والتخلّف والأفكار المُسبقة وعجزوا أيضاً عن
فهم الكثير من تعاليمه. كانت المرأة بالنسبة للسيد المسيح تمثّلُ الحياة والابتكار
والخلق والمجتمع بأسره ولذا دعاها لتكونَ معه في مسيرته التبشيرية التي دامت 3
سنوات بحسب رواية الإنجيل. دعاها لتكونَ مُمثّلة للإنسانية، فاعِلة لا مسلوبةَ
الإرادة والهويّة. إنّ وجودها بين التلاميذ كان بمثابة معركة وجود حيث حاول البعض
منهم إسكاتها وتهميشها لكونها امرأة إلا أنها أثبتت وجودها بالكلمة والفعل وكان
لها فكرها الثاقب وحضورها العذب. يتأرجح الصراع بين التلاميذ ومريم فيميل تارةً
إلى الخمود وربّما القبول الظاهري (لحقيقة وجودها في الفضاء العام وفي الفضاء
الكهنوتي الذي كان إلى ذلك الحين محصوراً بالذكور) ويميلُ تارةً أخرى إلى الرفض
والشجب وحتى الطّرد. وهذا بالفعل ما حدثَ مع مريم فبعدَ موت السيد المسيح وقيامته،
جاءت مسرعةً إلى التلاميذ لتزفَّ لهم الخبر السار بُشرى خلاص البشرية الذي تحققَ
بموت وقيامة السيد المسيح فلم يُصدّقوها بل شكّكوا بصحّة ما تقول. لكنّ مريم قابلت
إزدراءهم لها بمحبّة وانفتاح وأثبتت أنّها الوحيدة التي لم تقبل الدعوة وحسب بل
تحوّلت أيضاً لأنّها اختبرت الولادة الجديدة بالمسيح يسوع فأصبحت هي ملكوتاً
لذاتها. هنا نرى
أنّ لحظة قيامة السيد المسيح من القبر هي لحظة ولادة مؤسسة دينية لا تُمثّله
بالضرورة لكنها تمثّل بطرس (وهو أحد التلاميذ ومؤسس الكنيسة) الذي لم يقبل شهادة مريم. إنّ
بطرس شكّك بصحتة شهادة مريم وواجه البُشرى المعطاة لها بإزدراء وتهكّم وانضمّ إليه
التلاميذ مُتسائلين لماذا يظهر المسيح القائم لامرأة ولا يظهر لهم. أرادت كاتبتا
السيناريو من هذه النهاية المفاجئة للفيلم التوقّف عند أمور عديدة وهي:
أولاً، اعتقدَ
التلاميذ ممثلّو الشعب اليهودي والكنيسة أنّ الملكوت السماوي يتطلّب انقلاباً ثورياً
على الامبراطورية الرومانية التي كانت تعيثُ فساداً وخراباً في الأراضي المقدّسة
وأنّ السيد المسيح هو القائد العسكري الذي سيقود اليهود إلى التحرير من براثن
الاحتلال لكن ولخيبتهم الكبيرة لم يحدث شيء من هذا. بل جاء المسيح ليفحص القلوب
ويداوي المرضى ويُعزي الحزانى والمتألمين مُعلناً لهم أنّ الملكوت الحقيقي يبدأ من
الداخل ولا يأتي من الخارج. لم يفهم التلاميذ شيئاً مما قال ولذا رفضوا شهادة
المجدلية.
ثانياً، لم تكن
لشهادة المرأة أية قيمة في ذلك العصر فهي بنظرهم مخلوق ناقص لكنّ السيد المسيح
أكّد بمنحه الشهادة لمريم أنّها تستحق وأنّها لا تختلف عن الرجل في شيء. بالتركيز
على تمكين دور المرأة من خلال الفيلم أرادت الكاتبتان تسليط الضوء على مدى صعوبة
إحداث تغيير في المجتمع
لكنّ رواية الإنجيل تختلف تماماً عن الفيلم حيث اعترف
التلاميذ بشهادة المجدلية وظهر لهم المسيح القائم لاحقاً وراحوا يبشّروا في الأرض
كلّها إتماماً لما أعلنه الرّب في مسيرته التبشيرية القصيرة.
ثالثاً،
إنّ رفض التلاميذ لشهادة المجدلية ولقيامة السيد المسيح يمثّلُ لحظة مفصلية في
الفيلم ويشكّل إنشقاقاً واضحاً مفاده التشكيك بتعاليم الكنيسة التي نعرفها اليوم
وكأنّ الكاتبتان تريدان القول: الكنيسة ليست كنيسة السيد المسيح بل هي كنيسة بطرس
والتلاميذ الذين استثنوا مريم المجدلية ورفضوا قيامة الرّب وهذا من وجهة الكتاب
المقدّس كلام غير دقيق لأنّ الكنيسة اليوم تعترف بقيامة السيد المسيح بناءً
على شهادة المجدلية والتلاميذ من بعدها.
رابعاً، تقصّدت
الكاتبتان إرباك المُشاهد حيثُ لم ينتهِ الفيلم بالتشكيك بقيامة الرّب وحسب بل لم
يتمّ تسليط الضوء على صعوده إلى السماء. بعدَ أن رفضَ التلاميذ تصديق شهادة
المجدلية ذهبت وحدها إلى القبر حيثُ كان ينتظرها المسيح وأخبرها ما معناه أنه ليس
هناك فائدة تُرجى منهم؛ لن يتغيّروا. في الكتاب المقدّس وبعد ظهور المسيح القائم
للتلاميذ وغيرهم من المؤمنين لمدة قاربت الأربعين يوماً صعدَ إلى السماء بالجسد
ليرسلَ للتلاميذ المُعزّي أي الروح القدس. أعتقد أنّ الكاتبتان تقصّدتا تلك
النهاية الغريبة للفيلم لفتح الباب للكثير من التساؤلات: هل حقاً صعد السيد المسيح إلى السماء
بالجسد؟ أم هل بقي في الأراضي المقدّسة ثمّ رحل لاحقاً إلى الهند مع مريم المجدلية
ومات هناك بعد مدة طويلة من الزمن (التعاليم السرّية 551-554)؟
خامساً، لا
تنتظروا الملكوت السماوي. ليسَ ثمّة جنّة ولا نار، لا عقاب ولا ثواب. الملكوت
السماوي هو أنتَ وأنتِ عندما تدركون صوت الله الكامن فيكم. الملكوت هو الآن وفي كل
لحظة وهذا ما رددته المجدلية في الفيلم حتى النهاية.
استطيع القول مما
سبق إنّ محاولة هيلين إيدميندسون وفيليبا غوسليت وضع القصة في قالب نسوي لم تكن
محاولة ناجحة تماماً لأنّ مقاربتهما للنص الأصلي والنص المُبتكر افتقدت للموضوعية
والإقناع فيما يتعلّق بصحة شهادة مريم المجدلية وعدم تجاوب التلاميذ معها. وربما
خلافاً لهذا الرأي لم تعتمد الكاتبتان بالكامل على رواية الكتاب المقدس بل كانت
المقاربة أيضاً مع إنجيل مريم المجدلية وهو من الأناجيل المنحولة التي لا تعترف
بها الكنيسة. يزعم إنجيل مريم المجدلية أنّ المجدلية كانت التلميذة الوحيدة التي
فهمت رسالة السيد المسيح السماوية وهذا ما جعلها على خلاف مع بطرس كما بيّن
الفيلم. تاريخيّاً،
كان ثمّة خلاف دائم بين الكنائس الشرقية والكنائس الغربية حول هويّة مريم المجدلية
حيثُ اعتقدت الكنائس الغربية أنّ المجدلية هي نفسها مريم الخاطئة (العاهرة) التي
ركعت عند قدمي المسيح وغسلتهما بأثمن العطور (لوقا 7). استمرّ هذا الالتباس حتى
القرن العشرين إلى أن اعترفت الكنائس الغربية بأنّ مريم المجدلية ومريم الخاطئة
هما شخصيتان مختلفتان. لذا سعت الكاتبتان من خلال الفيلم لإبراز هذه الخلافات حول هوية
ودور مريم المجدلية في حياة السيد المسيح ونشأة الكنيسة، ومن خلال اعتمادهما على
انجيل مريم المجدلية أرادت كل من هيلين إيدميندسون وفيليبا غوسليت مُساءلة السلطة
الكهنوتية البطريركية الحاكمة والتي إلى يومنا هذا ترفض أن تمنح المرأة حقها في
الكهنوت لئلّا تبشرّ وتعظ وتمارس الأسرار المقدّسة ويكون لها رأيها في المحاكم
الروحية وقوانين الكنيسة.
«أيّها الأصدقاء، ليس هناك أصدقاء!»
أرسطو
«وقبل كل شيء ينبغي أن نثق
بأنّه لا صديق، ولا من يتشبه بالصديق!»
أبو حيان
التّوحيدي
الصداقة من
المفاهيم الّتي ناقشها الفلاسفة بكثير من الاهتمام، وقد احتلت مكاناًّ بارزاً في
فكر فلاسفة اليونان القدماء، كسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم. وينظر إلى مفهوم
الصداقة من داخل مبحث الأخلاق، لأنّها قيمة أخلاقيّة مركزيّة وعنصر جوهري في الحياة
الصالحة[1] . علاوة على ذلك، فقد شدد عدد كبير من الفلاسفة على أهمية الصداقة، لا
فقط في الحياة الأخلاقيّة فحسب، وإنّما أيضاً في الحياة العمليّة.
غير أن الباحث
ميشيل حنا متياس يرى في كتابة عن الصداقة أن الصداقة باعتبارها قيمة أخلاقيّة
مركزيّة غابت عن الفلسفة خلال الأربعمائة سنّة الماضيّة. وذلك راجعٌ، في نظره، إلى
تَغَير في فهم الفلاسفة واللاّهوتيين لطبيعة السّلوك الأخلاقيّ، ولحدوث تحولات
نموذجيّة أخلاقيّة منذ تراجع الفلسفة الهلنستية [2] وإعادة النّظر في الفلسفة.
ويرى الباحث
ميشيل أنّه على عكس فلاسفة العصور الوسطى والحديثة لم يتخلّ فلاسفة العصور القديمة
على اعتبار الصّداقة من شروط الحياة الأخلاقيّة. ولهذا نجد أن الفيلسوف أبيقور
يكتب:
«بين جميع الأشياء الّتي
تستثمرها الحكمة لإنجاز نعمة الحياة الكاملة، امتلاك الصداقة أفضلها.»
ونجد الفيلسوف
ديمقريطس يقول:
«حياة الفرد ليست جديرة بأن
تعاش من دون صديق واحد على الأقل»
لكن أهم فيلسوف
قديم ناقش الصداقة باعتبارها قيمة مركزية في التّنظير الأخلاقي هو أرسطو.
وقد اعتبر أرسطو
الصداقة نوعاً من أنواع المحبّة أو العاطفة. وفي نظره أن هناك ثلاثة أمور تدفع
الفرد إلى أن يحبّ الإنسان الآخر؛ وبالتّالي، هناك ثلاثة أنواع من الصداقة: صداقة
تقوم على المنفعة، وصداقة تقوم على اللّذة، وصداقة تقوم على الخير. والصداقة الّتي تقوم على
المنفعة هدفها مصلحة ما، وليس حبّاً لميزات الأصدقاء الأخلاقيّة. وهذا النّوع من
الصداقة يكون بين الفقير والغني، أو الجاهل مع العالم ..إلخ، أي مع أشخاص متفاوتين
في الميزات. أمّا الصداقة الّتي تقوم على اللّذة فهدفها تحقيق المتعة، وهي من أقوى
المشاعر الّتي تحرك الشباب. أمّا النّوع الثالث من الصداقة فهو الصداقة الّتي تقوم
على الخير، وتنشأ هذه الصداقة بين أناس صالحين ومتشابهين في محبّة الخير، فتكون
الصفات الخيرة في شخص ما هي ما تدفعنا لصداقته، وهذا النوع الأخير من الصداقة هو
الحقيقي، فالصداقة الحقيقية لا تقوم على اللّذة والمنفعة، وإنّما على الخير.
هكذا، نجد أن
أرسطو يُعلي من قيمة الصّداقة الّتي تقوم على الخير، ويجعلها الصّداقة الحقيقيّة
من بين كلّ الصداقات الأخرى، لأنّ الصّداقة الّتي تقوم على الخير ننشد فيها
الصّديق لذاته وليس لأي ميزة عارضة يمتلكها وقد تزول في أي لحظة. ومن هنا،
فالأصدقاء الحقيقيون، حسب تصور أرسطو، هم الجديرون بالمحبّة لأنّهم أخيار، ولأنّهم
كذلك، أي أخيار، فإنّهم مصدر اللّذة والمنفعة الحقيقتين، لأنّ الخير نافعٌ دائماً،
ولا يمكن أن يكون مؤدياً أبداً.
إنّ الصداقة من
المفاهيم الفلسفيّة الّتي تجعلنا نفكر في علاقتنا بالآخر، بل إنّها تعد من
العلاقات الإيجابيّة الّتي يمكن أن تبنى مع الغير. ولكن، مع ذلك، يحق لنا أن نفكّر
في وجود الصداقة، فإذا كانت معرفة الغير غير ممكنة حسب تصور فلاسفة كبار أمثال
سارتر ومالبرانش، فإنّه ينبغي أن نشك في وجود الصداقة.
والحقّ أن
الصداقة مرتبطة بالنّفس الإنسانيّة الّتي يصعب معرفتها، لأنّها في تغير مستمر،
فالفرد في تفكك دائم، وفي بناء نفسي يوميّ. وقد ذكر أبو حيان التّوحيدي في
كتابه ” الصداقة والصديق” على لسان أبو سليمان أن الصداقة تصح أو لا تصح على حسب
مكانة أصحابها الاجتماعيّة، فالملوك مثلاً جلوا عن الصداقة، والتّجار لا تخلص لهم
لغياب المروءة عنهم، أمّا الكتاب وأهل العلم فتصح لهم الصداقة بشرط ألا يكون بينهم
تحاسد وتماري وتماحك. وهكذا، فالصداقة مرتبطة بالوسط الاجتماعي، وكذلك بالأخلاق
الفاضلة.
والمقصود
بالأخلاق الفاضلة هنا أخلاق الإيثار والتضحية والصدق والوفاء، فمع الأنانيّة
والنّرجسيّة والكذب يستحيل الحديث عن الصداقة، أو حتّى ما يشبه الصداقة، وإن
نشأت فإنّ هذه الصّداقة هي صداقة المنفعة أو اللّذة وليست صداقة الخير الّتي أعلى
أرسطو من قيمتها واعتبرها الصداقة الحقيقية من بين كل أنواع الصداقات الممكنة.
ترتيباً على ما
سبق يمكن أن نقول: إذا أردنا التّفكير في وجود الصداقة، فإنّه ينبغي علينا ألا
نفكر في وجودها خارج نطاق طبيعة النّفس البشريّة، ولهذا فالصداقة قد توجد في زمن
معين، لكنها سرعان ما تخمد وتختفي، إمّا بفعل ظروف الحياة، أو بسبب تغير الفرد،
ومن هنا، فالصداقة ليست مقاماً، إن شئنا الحديث بلغة الصوفيّة، وإنّما هي حال
يزول. ولهذا فإنّها تتشارك مع الحبّ ومع مختلف العواطف الإنسانيّة في كونها ليست
دائمة، مما يحتم علينا أن نحرص على رعايتها والحفاظ عليها أطول مدة ممكنة،
أي مدة وجودنا المؤقت على هذه الأرض.
إن الصداقة مثال
جميل من أمثلة محبّة الإنسان لأخيه الإنسان، مثال ينسينا تصور هوبز المتشائم عن الطبيعة
الإنسانيّة وعن حالة الطبيعة. وقد انتبه الفلاسفة منذ القدم إلى أهمية الصداقة في
الحياة السياسيّة، إذ رأى اليونانيون أنّه من الشروط الأساسيّة لقيام الحياة
الفاضلة داخل المدينة وجود الصداقة بين المواطنين. ولهذا فإن الصداقة من الطرق
الّتي توصلنا إلى السعادة الّتي ينشدها الإنسان ويبحث عنها، لأنه لا سعادة بدون
مدينة فاضلة، ولا مدينة فاضلة بدون صداقة بين المواطنين!
إلا أن الصداقة
باعتبارها مفهوما تبقى مثالاً، أي فكرة كلية مجرّدة، نقترب منها حيناً، ونبتعد
عنها في أحايين كثيرة، ولهذا فإنها، ككلّ الأفكار المثالية، تحتاج للمؤمنين بها،
والمؤمنون دائماً قلة في واقع مادي لا يرتفع!
*******
هوامش:
1 ـ ميشيل حنا متياس، الصداقة،
سلسلة عالم المعرفة، عدد: 444، يناير 2017.
2 ـ المرحلة الهلنستية هي مرحلة
في تاريخ الفلسفة تميزت بتشبع الفلسفة بالحكمة المشرقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق