في المعرفة
أندريه كونت سبونفيل
ترجمة حسن أوزال
إن الأعين لا تستطيع أن ترى
طبيعة الأشياء."
لوكريتوس
ملخص:
أن نعرِف يعني أن نفكِّر في ما يوجَد:
فالمعرفة علاقة ـ تطابق وتماثل وتلاؤم ـ بين الفكر والعالم، الذات والموضوع. على
هذا النحو نعرِفُ أصدقاءنا وحيَّنا وبيتَنا، وكلُّ ما نتصوّرُه ذهنياً عندما
نستحضر هذه الأشياء يتوافق على وجه التقريب مع ما هو موجود في الواقع. إن عبارة
"على وجه التقريب" هذه هي ما يميّز المعرفة عن الحقيقة. لأننا قد ننخدِع
في ما يخُصّ أصدقاءنا؛ ولن نعرف أبداً كل ما يتصّل بحيِّنا؛ بل يحصل حتى في ما
يتعلّق ببيتِنا، أن نجهل الكثير. فمَن منّا يعلم أن بيتَه لن يهاجمَه النمل أو
أنه، بعكس ذلك، مشيَّدٌ على كنوزٍ مجهولة؟ ليس ثمّة إذاً مِن معرفة مطلقة ولا من
معرفة تامة ولا من معرفة لا نهائية. هل تعرف حيَّك؟ أكيد، لكنك لِتعرفَه كلَّه يلزمك
أن تصف لنا كل الأزقّة المتواجدة به وكلَّ عمارة في هذه الأزقّة، وكلَّ شقّة في
هذه العمارة، وكل ركنٍ في هذه الشقّة، وكل حبّةِ غبار مترامية في كل ركن، وكل
ذرّةٍ في كلِّ حبّة، وكل ألكترون في كل ذرة... فهل تستطيع ذلك؟ لعل الأمرَ يستدعي
عِلماً مطلقاً وعقلاً لامتناهياً: لكن لا الأول ولا الثاني في وسعنا إدراكُه..
لكن هذا لا يعني، بالرغم من ذلك، أننا لا
نعرف أيَّ شيء؛ وإلا فكيف يتسنّى لنا أن نميّز بين المعرفة والجهل؟ إن سؤال
مونتاني: ما الذي أعرفه؟، وسؤال كانط: ما الذي بوسعي أن أعرفَه؟ كيف؟ وبأية شروط؟،
هما سؤالان يفترضان تصوّر حقيقةٍ ممكنة على الأقل. أما إذا كانت هذه الأخيرة
مستحيلة، فلن يكون باستطاعتنا أن نفكر، ولا جدوى من الفلسفة.
إن الحقيقة هي ما هو موجود (حقيقة الوجود)
أو ما يتوافق بالضبط مع ما هو موجود (حقيقة المعرفة)؛ لذلك فما من معرفةٍ هي
الحقيقة: لأننا لسنا نعرف أبداً وعلى نحوٍ مطبق ما هو موجود ولا كل ما هو
موجود، ما دام أننا لا نستطيع أن نعرف
الأشياء إلا عبر حواسِّنا عقولِنا ونظريّاتِنا. كيف إذاً لمعرفةٍ مباشرة أن تكون
ما دامت كلُّ معرفةٍ بطبيعتها هي وساطة؟
ذلك أن أبسط أفكارِنا تحمل بصمةَ جسدِنا
وفكرِنا وثقافتِنا. بل كلُّ فكرةٍ من أفكارِنا هي إنسانيةٌ وذاتيّة ومحدودة، ولا
يمكنها بالتالي أن تتوافق كلياً مع تعقيد الواقع اللامتناهي.
"إن الأعين البشريّة لا تستطيع أن
تدرِك الأشياء إلا بحسب صوَرِها المعرفيّة"، على حدّ توكيد مونتاني، ولا
يمكنُنا أن نفكّر فيها، كما يوضح كانط، إلا بحسب صور فهمنا. ذلك أنّ أعيُناً غير
هاته، سوف تُرينا حقلاً آخر، بينما عقلٌ مغاير لهذا العقل هو من سيتصوّر هذا
الحقل، على نحوٍ مخالف تماماً؛ وسوف يبتكر دماغٌ آخر لربما في يومٍ من الأيام
رياضيات أخرى وعلم فيزياء آخر وبيولوجيا أخرى..
كيف لنا إذاً أن نكون على علمٍ بالأشياء
كما هي وبحذافيرها، ما دام أن معرفتها تعني دوماً إدراكَنا لها أو تصوّرَنا لها
على نحو ما نتمثّلها لا غير؟
من البداهة بمكان والحالة هاته، أننا لسنا
في اتصال مباشر بما هو حقيقي (لا نستطيع أن نعرفَه إلا عبر أحاسيسنا وعقولنا
والأدوات التي نوظفها عند الملاحظة والقياس وكذلك عبر مفاهيمنا ونظرياتِنا..)،
مثلما لسنا في اتصال مطلق بالمطلق ولا في انفتاح لا محدود على اللامحدود. فكيف لنا
أن نكون على علمٍ تام بالأشياء ما دمنا مفصولين عن الواقع بواسطة الوسائل ذاتها
التي تُسعفنا على إدراكه وفهمه: كيف يتسنّى لنا استيعابه كلّياً؟
لا وجودَ لمعرفةٍ إلا بالنسبة إلى ذات ما.
بل كيف لهذه المعرفة مهما بلغت من العلميّة أن تكون موضوعيّة بصورةٍ كلّية؟
إن المعرفة والحقيقة مفهومان مختلفان، إلا
أنهما كذلك متداخلان حدّ التعاضد. فما من معرفةٍ تكون هي الحقيقة، لكن كل معرقة لا
تكون حقيقيّةً لن تغدو قط معرفة (ستغدو هراءً وخطأً ووهماً..)، وما من معرفةٍ تكون
مطلقة؛ لكنها لا تكون معرفة ـ وليس مجرّد اعتقاد أو رأي ـ إلا بقدْر ما تسمح به
وتنطوي عليه من إطلاقيّة.
ولنأخذ على سبيل المثال حركة الأرض حول
الشمس، فإنه لا أحد يعرفها معرفة مطلقةً وكلّية وتامّة. لكننا مع ذلك نعلم أنّ هذه
الحركة قائمة الذات وهي حركة دوران. أما نظريات كل من كوبرنيك ونيوتن فهي ستظل
مهما كانت نسبيّة (ما دامت مجرّد نظريات) أكثر حقيقية ويقينيّة ـ أي أكثر إطلاقيّة
ـ من نظريات "هيبارك" أو بطليموس. وبالمثل نقول إن النظريّة النسبية
أكثر إطلاقيّة (وليست كما يُعتَقد أحياناً، جرّاء اسمها، محض نسبيّة) من نظريّة ميكانيكا
الأجرام السائدة في القرن الثامن عشر، بحيث أن الأولى تفسّر الثانية، بينما
الثانية لا تفسّر الأولى. ولَئن اعتبرنا أنّ كلّ معرفةٍ هي نسبيّة فإن ذلك لا يعني
أنّ كل المعارف على قدمٍ وساق. ذلك أن التطوّر لا جدال فيه منذ نيوتن حتى
أينشتاين، ومنذ بطليموس حتى نيوتن. لذلك ثمّة تاريخ للعلوم ولذلك يكون هذا التاريخ
معيارياً وغير قابل للرجعة في الآن نفسه؛ لأنه لا يفتأ يقابل الأكثر أحقيّة
بالأقلّ أحقّية، ولأننا لا نقع أبداً في الأخطاء التي استوعبناها ونحّيناها
جانباً. وهذا ما أوضحه باشلار وبوبر، كلٌّ منهما بطريقته. فما من علمٍ قطعي، لكن
إذا كان تاريخ العلوم هو "التاريخ غير القابل للرجعة من بين كل التواريخ، كما
يقول باشلار، فذلك ليس إلا لأن التطوّر التاريخي قابلٌ للبرهنة والإثبات، ما دام
أن هذا التطوّر هو ما يمثّل ديناميّة التراث العلمي". لذلك أيضاً نقول إنه ما
من نظريّة حقيقيّة بالمطلق ولا حتى قابلة للاختبار كلّياً. لكنه ينبغي عليها ما
دامت نظريّة علميّة أن تسمح بإمكانيّة المواجهة بالتجربة وأن تُختبَر وأن تفنَّد
على حدّ قول بوبر، وبتعبير آخر، أن نستطيع في أسوأ الأحوال أن نُبرِزَ بطلانها.
أما النظريات التي تصمد أمام هذه
الاختبارات، فهي ما يحُلّ محلّ النظريات التي تفشل وذلك إما باستدماجها وإما
بتجاوزها. بدهي إذاً أن يُعَدَّ كل هذا بمثابة انتقاء حضاري للنظريات (تماماً على
نحو ما يقصده دارون بالانتقاء الطبيعي للأجناس)، بفضله تتطور العلوم، لا بانتقالها
من يقين إلى يقين آخر كما قد نخال أحياناً، بل بـ "ازديادها تعمّقاً وتخلّصاً
من الأخطاء" على حد تعبير "كافاييس"، أو بعبارةٍ أخرى، والكلام هذه
المرّة يعود إلى "بوبر"، "بفضل المزيد من البحث والتخلّص من
الأخطاء". لذلك يمكننا القول إن كل نظريّة علميّة هي دوماً جزئيّة، وتبقى
مؤقّتة ونسبيّة، دون أن يدفعَنا ذلك على كلّ حال، إلى رفضها كنظريّة أو تفضيل
الجهل أو الخرافات عليها، إذ سيغدو ذلك عزوفاً عن كل نزوعٍ معرفي. إن تطوّر العلوم
الأكثر إثارةً وجدارةً هو ما يثبت في الآن ذاته نسبيّتها (على اعتبار أن كل علمٍ
مطلق ليس بوسعه أن يتطوّر أبداً) ويؤكّد حقيقتها الجزئية على الأقل (إن علومَنا لو
لم تكن تتنطوي على قدْرٍ من الحقيقة لما استطاعت أبداً أن تتطوّر ولما اعتُبِرت
أصلاً علوماً).
هكذا سنتحاشى على الأقل الخلط ما بين
المعارف والعلوم، وسنتفادى اختزال هذه في تلك. ذلك أنك تعرف عنوانك وتاريخ ميلادك
مثلما تعرف جيرانك وأصدقاءك وأذواقَك، وأخيراً فأنت تعرف كل تلك الأشياء التي
تُعَدّ بالآلاف والتي ليس ثمّة من علم يعلّمك إياها أو يضمنها لك. تبعاً لذلك فإن
الإدراك هو قبل كلّ شيء آخر معرفةٌ كما أن التجربة معرفة، حتة ولو كانت ملتبسة
(وهي ما يسميها اسبينوزا بالمعرفة من الدرجة الأولى)، بل بدونها يغدو كل علمٍ
مستحيلاً أما "الحقيقة العلميّة" فلا يمكننا اعتبارُها إذاً من قبيل
الترّهات، ذلك أن ثمّة حقائقَ غير علميّة مثلما ثمة نظرياتٌ علميّة سنكتشف في يومٍ
من الأيام أنها ليست حقيقية في شيء.
تصوّرْ معي مثلاً لو تمّ استدعاؤك للإدلاء
بشهادة ما أمام المحكمة، أما المطلوب منك فليس هو أن تثبِت علمياً هذه المسألة أو
تلك، بل أن تقول فقط ما تعتقده، أو بالأحرى ما تعرفه. قد يحدث أن تخطئ، أكيد، لذلك
يكون تعدّدُ الشهادات أمراً مستحَبّاً. لكن هذه التعدّدية ذاتها لا معنى لها إلا إذا
افترضنا أنّ ثمّة حقيقةً ممكنة؛ حقيقةٌ بدونها لن يتحقق العدل، إذ كيف سنميّز ما
بين المذنب والبريء إذا استحال علينا بلوغ الحقيقة أو إذا انعدمت الحقيقة؟ كيف
سنفصل ما بين شهادةٍ صحيحةٍ وأخرى مزوّرة؟ بل كيف سنميّز العدل عن الخطأ القضائي؟
ولماذا نتحارب مع منكري المحرقة والظلاميين والكاذبين؟
إن الأهم من كل هذا هو عدم الخلط ما بين
الارتيابية والسفسطائية. فأن تكون ارتيابيّاً، مثل "مونتيني"
و"هيوم"، هو ما يعني أن تعتقد مثلهم بأنه ليس ثمّة من شيء حقيقي ولهم في
ذلك حجج دامغة.
ولَئن كنا ندعو الحقيقة كل ما نعجز عن الشك
فيه؛ فما الذي يثبته عجزٌما؟ لا سيما إذا اتحضرنا أن الناس كانوا موقنين طيلة آلاف
القرون بأن الأرض ثابتة لا تتحرّك أبداً. بدهي إذاً أن كل يقين هو معرفةٌ مبرهَنٌ
عليها. والحال أن براهيننا لا تكون سليمة إلا بقدر ما يكون عقلُنا كذلك؛ لكن كيف
لنا أن نثبِت أنه على حقٍّ ما دام أنه هو ذاته أداةٌ للإثبات؟ "إننا، بحسب
مونتيني، بحاجةٍ إلى أداة للحكم كلما أردنا أن نصدر حكماً على ما نتلقّاه من
مظاهرَ إثر مشاهدتِنا للأشياء". لكننا لكي نختبر رجحان هذه الأداه نحتاج إلى
برهان، ولكي نختبر البرهان نحتاج إلى أداة، هكذا يتبدى أننا نطوف في دائرة فارغة.
إنها دائرة المعرفة التي تمنعنا من ادعاء الإطلاقية. فهل نخرج منها؟ لا يمكننا ذلك
إلا بففضل العقل أو التجربة؛ لكن لا الأول ولا الثانية يستطيعان ذلك، التجربة
لأنها ترتبط بالحواس، أما العقل فلأنه يتوقف على نفسه. "لكن، ما دام أن الحواس
لا تستطيع أن توقِف معركتنا لأنها مطليّة هي ذاته باللايقين، فليس علينا إلا أن
نعوّل على العقل، يواصل مونتيني، لكن لا عقلَ يصلُح دون عقلٍ آخر، وهكذا نتدحرج
إلى ما لا نهاية". ليتبدّى أنه لا اختيار لنا إلا ما بين الدائرة والتقهقر
إلى ما لانهاية؛ مما يعني ألا اختيار لدينا، على اعتبار أن هذا نفسه الذي يجعل
المعرفة ممكنةً (الحواس والعقل وإصدار الأحكام) هو ما يحول دون جعلها يقينيّة.
يقول "جيل لوكيي"،
تمجيداً لـ "هيوم" وانتصاراً للتسامح، في إحدى عباراته الرائعة: "إن
علينا، عندما نؤمن إيماناً راسخاً بأننا نملك الحقيقة، أن نعرف بأننا نؤمن بها، لا
أن نؤمن بأننا نعرفها".
فضلاً عن ذلك، نسوق لكم أيضاً هذه العبارة
الجميلة التي تعود لـ "مارسيل كونش"، وبصدد مونتيني، حيث يؤكد أنه لا
أحد يشكّ في أننا نملك يقينيات أغلبها تبدو لنا يقينيات حقّة (يقينيات ذات أسس
مطلقة أو مبرهنٌ عليها كلّياً)؛ لكن "اليقين بأن ثمّة يقينيات حقة ليس أبداً
إلا يقيناً محتملاً". يلزمنا أن نستنتج من ذلك أن اليقين الأكثر صلابة هو بكل
دقّة يقينٌ يكاد لا يثبت أيّ شيء، إذ ليس ثمّة من براهين مقنعةٌ كلّياً.
بعد هذا كلّه، هل ينبغي لنا إذاً أن نكُفَّ
عن التفكير؟ أبداً، "من الممكن أن تكون هنالك براهين حقيقية، يلاحظ باسكال،
لكننا لسنا متأكدين من ذلك"، ولا يمكننا بالتالي أن نبرهن عليه ما دام أن كل
برهان يقوم على افتراضه. إن القضية التي تقول بوجود "براهين حقيقية"
فرضيةٌ غير قابلة للبرهنة. كما أنّ القضيّة التي تقول إن "الرياضيات
حقيقية" لا تقوم على برهانٍ رياضي. والأمر ذاته بالنسبة للقضية القائلة إن
"العلوم التجريبية علومٌ حقّة" فهي غير قابلة لاختبار تجريبي. لكن ذلك
لا يمنعنا من تعاطي الرياضيات أو الفيزياء أو البيولوجيا، مثلما لا يمنعنا من أن
ندرك أن برهاناً ما أو تجربةً ما هي ذات قيمة أسمى وأحسن من مجرّد رأي. أما أن
يكون كل شيء مثارَ الشكّ فذلك ليس حجّة تدفعنا إلى أن نتوقف عن البحث عن الحقيقة؛
لأنه، كما يلاحظ ذلك باسكال مرّةً أخرى، ليس من اليقين في شيءٍ أبداً، كون كل شيء
غير يقيني. ولَئن كان هذا هو ما يمنح الحق للارتيابيين، فهو ما يحرمهم في الوقت
ذاته من كل إثبات. المجد إذاً للبيرونيّين ولـ مونتيني. ذلك أن الارتيابية ليست
نقيض العقلانية؛ بل هي عقلانيّة واضحة، تمضي إلى أبعدَ ما يُتصوَّر، تمضي إلى حدٍّ
يشك فيه العقل من فرط التدقيق في يقينه الظاهر. لأنه ما الذي بوسع مظهرٍ أن يثبته؟
أما السوفسطائية فهي شيءٌ آخر؛
إنها لا تعني أن نتصوّر بألا شيء يقينيّ، بل تعني أن نتصوّر بألا شيء حقيقي. وهذا
ما لم يسبق أبداً لمونتيني ولا لهيوم أن كتباه. كيف لهما لو كانا يظنّان ذلك أن
يتفلسفا؟ وكيف لهما أن يفعلا ذلك؟ فالارتيابية نقيض الدوغمائية، والسوفسطائية
نقيضٌ للعقلانية بل للفلسفة. إذا ما
الذي سيتبقّى من عقلنا لو صحّ القول بألا شيء حقيقي؟ وكيف يمكننا أن نتناقش وأن
نحاجج ونعرف؟ "وهل لكل واحدٍ حقيقتُه؟" لو صح القول بذلك ما كانت هنالك
حقيقةٌ أبداً، ما دام أنّ الحقيقة لا قيمة لها إلا إذا كانت كونيّة. ربما لا أحد
سواك يعرف أنك الآن تقرأ هذا الكتيّب مثلاً، وبالرغم من ذلك، فنحن أمام حقيقةٍ
كونيّة، فلا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، في كل بقاع العالم وفي كلّ العصور، إلا إذا
كان جاهلاً أو كذاباً. لذلك فـ "الكوني هو فضاء الأفكار"، كما كان يقول
"آلان"، وهو ما يجعلنا سواسية، على الأقل على مستوى الحق، أمام الحقيقي.
ذلك أن الحقيق ليست مِلْكاً لأحد؛ ولذلك فهي تنتمي كحقٍّ إلى الجميع. فالحقيقة لا
تُستَعبَد؛ وجرّاء ذلك فهي حرّة ومحرِّرة.
أما أن يكون السوفسطائيون على ضلال فهو ما
لا يمكننا بالتأكيد أن نثبته (ما دام أن كلّ إثباتٍ يفترض على الأقل فكرة
الحقيقة)؛ لكن أن يكونوا على صواب فهو ما لا يمكننا تصوّره دون تناقض. لو لم تكن
هنالك حقيقة، ما كان حقيقياً اعتبارُنا أنْ ليس هنالك من حقيقة. لو كان كلُّ شيءٍ
خطأ، كما كان يريد نيتشه، لغدا من الخطأ اعتبارنا أن كلَّ شيءٍ خطأ. تبعاً لذلك،
فالسوفسطائية في تناقض (خلافاً للارتيابية) ولا تفتأ تخرّب نفسها كفلسفة. أما
السوفسطائيون فلا يكترثون للحقيقة، فهل يزعجهم أدنى تناقض؟ بل وما حاجتهم إلى
الفلسف؟ لكن الفلاسفة منذ سقراط كانوا أكثر انشغالاً بها (أي بالحقيقة). ولهم في
ذلك حججهم التي هي العقل ذاته وعشقهم للحقيقة. لو أنه لا شيء حقيقي لكان بمكنتنا
أن نفكر في أيّ شيء، وهو ما يناسب جيداً السوفسطائيين؛ لكن حينئذٍ لن يكون في
وسعنا أن نفكّر إطلاقاً، وهو ما يؤدي إلى موت الفلسفة.
أدعو سوفسطائية، كل فكر ينذر نفسه لشيء آخر
عدا ما يبدو حقيقياً، أو كل فكرٍ يُخضِع الحقيقة لشيء آخر عدا ذاتها (من قبيل
أخضاعها للقوّة، للمصلحة، للرغبة، للأيديولوجيا...). أما المعرفة فهي ما يصوننا
منها على المستوى النظري مثلما تصوننا منها النزاهة على المستوى العملي. ذلك أنه
لو كان صحيحاً ألا شيء حقيقي وألا شيء خاطئ، لما كان هنالك فرقٌ بين المعرفة
والجهل ولا بين النزاهة والخداع. بل لن تبقى مع هذا الوضع العلوم ولا الأخلاق ولا
الديموقراطية. لو كان كلُّ شيءٍ خطأً لكان كلّ شيءٍ مسموحاً به: بوسعنا أن نزوّر
التجارب أو البراهين (طالما أنه لا واحدةَ منها صحيحة)، مثلما بوسعنا أن نضع
الخرافة على قدمٍ وساق مع العلوم (ما دام ألا حقيقة تفصل بينهما)، كما بوسعنا
أيضاً أن نحاكِم إنساناً بريئاً (طالما أنه لا وجود لأي اختلاف حاسمٍ ما بين
شهادةٍ حقيقيّة وأخرى مزوّرة)، كما بوسعنا أن ندع المجرمين أحراراً (ما دام أن
تجريمهم ليس صحيحاً)، كما أنه قد نسمح
لأنفسنا أن نكون منهم (ما دام أنه حتى لو كنا مجرمين فليس حقيقياً اعتبارُنا
كذلك)، وأخيراً بوسعنا أن نسحب المصداقيّة من كلّ علمليّة انتخابية كيفما كانت، (ما
دام أن أيّ انتخابٍ لا قيمةَ له إلا إذا كنا حقاً على علمٍ بنتائجه)، إلى هذا
الحدّ، مَن ذا الذي لا يدرك مخاطر هذا الوضع؟ فلو كان بوسعنا أن نفكر في أيّ شيء
لكان بوسعنا أن نفعل أيّ شيء، وهكذا تؤدي السوفسطائية إلى العدميّة، مثلما تؤدي
العدميّة إلى التوحّش.
وهذا ما يمنح المعرفة بُعْداً روحياً
وحضارياً. يتساءل كانط: "ما التنوير"؟ ويجيب بأنه خروج الإنسان من
قصوره؛ لكننا لن نخرج منه إلا بفضل المعرفة: "كن شجاعاً لبلوغ المعرفة، تجرّأ
على استعمال فهمِك الخاص، ذلك هو شعار التنوير". إن كل معرفةٍ، بالرغم من
أنها ليست أبداً ذات نزوعٍ وعْـظيّ (أن تعرف ليس يعني أن تقاضي، وأن تُقاضي ليس
يعني أن تعرف)، فهي مع ذلك درسٌ في الأخلاق؛ لأنه لا أخلاقَ ممكنة بدونها ولا
ضدّها.
لذلك وجب علينا البحث عن الحقيقة، كما يقول
أفلاطون، "بكلّ أرواحِنا"، على اعتبار أن الروح ربما ليست شيئاً آخرَ
غير هذا البحث.
لذلك أيضاً لن
نكُفَّ أبداً عن البحث عنها. ليس لأننا لن نعرف أيّ شيء، وهو ما ليس صحيحاً أبداً،
بل لأننا لن نعرف أبداً كلّ شيء. إن أرسطو العظيم هو من سبق له أن عبّر
بحسّه الدقيق عن هذه المسألة قائلاً: "إن البحث عن الحقيقة هو، في الوقت
ذاته، أمرٌ صعبٌ ويسير؛ إذ لا أحد يستطيع أن يحوزها كلّياً، ولا أن يخفق في
إدراكها بالمرّة".
ولَئن كان هذا هو ما يسمح لنا بأن نتعلّم
على الدوام، فهو أيضاً ما يدحض أطروحة الدوغمائيين (الذين يزعمون أنهم يمتلكون
الحقيقة كلّياً)، ويفنّد السوفسطائيين (الذين يدّعون ألا وجود للحققة، أو أنها
مستحيلة المنال بالمطلق).
إلى هنا يلزمنا التوكيد بوجود حيّزٍ ما بين
الجهل المطلق والمعرفة المطلقة، هو حيّزُ المعرفة وتطوّر المعارف. فحظٌّ سعيد
للجميع.
المرجع:
André Comte-Sponville, presentation de la philo…
مقالات أخرى لـ سبونفيل:في الأخلاق
http://mohamad-philo.blogspot.com/2016/07/blog-post_49.html
في الحرّية
http://mohamad-philo.blogspot.com/2016/07/blog-post_56.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق