من مقالة مطوّلة للدكتور عبد الرزّاق الدوّاي، نشرها عام 1997، مستشرفاً فيها مهمات الفلسفة في القرن الواحد والعشرين.
يمكن قراءة المقالة كاملة على رابط المقالة أدناه، وهي أيضاً منشورةٌ كاملة على المدوّنة.
المعروف عن الدوّاي متابعته للفلسفة المعاصرة، أستاذ الفكر الفلسفي و الاجتماعي المعاصر بكلية الآداب و العلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط، من مؤلفاته: " موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر"، ينتقد فيه طروحات ميشيل فوكو. "حوار الفلسفة و العلم و الأخلاق في مطالع الألفية الثالثة" كما ان له العديد من البحوث المنشورة في مجلا علمية محكّمة.
http://hekmah.org/10222-2/
عناصر تجديد محتمل في الفكر الفلسفي لبدايات
القرن 21
نعود مرة أخرى إلى مسألة العلاقة بين الحكمة
والمعرفة ونتساءل: إذا كان تطور الواقع وتطور العلوم والمعارف يساعد على إحداث
جميع هذه التغييرات التي أبرزتـها سابقا فما هي الحكمة الجديدة التي يتوجب على
الفلسفة استخلاصها وبثها؟ من باب الحذر والتروي نجيب بأنه لم يعد بإمكان الفيلسوف
المعاصر أن يتنبأ سوى بحكم مؤقتة على غرار فكرة “الأخلاق المؤقتة” التي كان ديكارت
قد اقترحها استلهاما من حال المعرفة في عصره، وإلا فإنه سيكون في موقف حرج، وقد
يزكي وبدون أن يكون ذلك هو قصده بالفعل، ما تحوم حوله من شكوك منذ زمان بأنه
دائمـا ذلك “المتنبئ” الذي لم يعد هناك حقا من يكثرت بتصديق ما يقول!
لقد أفادنا تاريخ الفكر الفلسفي على الدوام
بالحقيقة التالية: إن انتشار النـزعات الشكية واللاعقلانية يقوى عندما تكون المثل الاجتماعـية
القديمة آخذة في الاهتزاز في حين أن المثل الجديدة لم تنجح بعد في فرض نفسها،
ولاشك أن أمارات هذه الحقيقة بادية على الواقع الراهن لعصرنا. فهل يجوز لنا أن
نستشرف من وراء ذلك أن مهمة الفلسفـة في المستقبل القريب ستكون شبيهة بمهمتها في
عصر الأنوار ؟ وبعبارة أخرى هل ستستعيد الفلسفة في بدايات القرن المقبل دورها
التنويري ويغدو الصراع الفكري كما كان عليه في عصر الأنوار: العقل ضد النـزعات
الظلامية واللاعقلانية، مع ما يقتضيه الحال من تجديد وتحيين لمعاني العقل
واللاعقلانية؟ ذلك ما لا يستبعده كثير من المهتمين بمستقبل الفلسفة.[11]
ومن المألوف أن الفلسفة في فترات الانكماش
والتحول غالبا ما تشتكي بأنـها أصبحت مهمشة وبأن أهميتها قد تضاءلت بالفعل، ولـذلك
فهي تغدو في موقف متأزم يحتم عليها أن تبحث عن أدلة جديـدة لتبرير مشروعية وجودها.
ونحن نعتقد أن من بين الدلائـل الجديدة التي أصبحت متاحة لها الآن الحاجة الماسة
إليها لأن تساهم من خلال برامج التعليم الفلسفي في الإعداد والتحضير للحياة في
العالم الحالي للبشر الذي يطبعه التغير السريع وليس في عالم المثل المفارق ؛ أي
لأن تمارس دورها الثقافي وتقوم بتحليل مشاكل العصر لمساعدة المواطنين على فهمها.
وهناك مؤشرات حالية كثيرة توحي بأننا سنشهد
انبعاثا جديدا لعلاقة الفلسفة بالسياسة في مستهل القرن المقبل، على الأقل على
مستوى برامج التعليم ولعل أكثرها تجليا هذا الانتعاش الكبير للخطاب عن حقوق
الإنسان. فإذا كان تعليم الفلسفة قد زودنا إلى حد الآن بمجموعة من الرؤى العامة
التي كونـها البشر عن الحياة وعن العالم وعن العلاقات في ما بينهـم، كما أمدنا
بمعلومات ثقافية غنية وكذلك بمعطيات تاريخية، فإن كثيرا من المهتمين بالفكر
الفلسفي في عصرنا غدوا أكثر طموحا وصاروا ميالين إلى الاقتناع بأن من الممكن أن
يكون لتعليم الفلسفة أيضا، فضـلا عن مزاياه السابقة علاقة وثيقة بقضية الديمقراطية
بحيث يمكن أن يدعمها ويدافع عنها.
وربما يبدو للوهلة الأولى أن العلاقة بين
الفلسفة والديموقراطية ليست واضحة وليس لها مضمون خاص متميز وثابت، ولا غرابة في
الأمر فنحن حقا أمام مسألة “فلسفية” حديثة العهد ولا تعد من المسائل الفلسفية
الكلاسيكية، بل ولم يكن من المعتاد طرحها من قبل.[12]
حقا لقد نظر دائما إلى العلاقة بين الفلسفة
والسياسة بنوع من التوجس والحيطة، ولم تكن الفلسفة السياسية حتى الآن تحظى بصفة
عامة في التعليم الفلسفي سوى باهتمام ضئيل، بحيث يصح القول أن التفكير في قيـم
التقاليد الديموقراطية أو ما يمكن تسميته بأسس النـزعة الإنسانية الجديدة مثل
الحريات العامة وحقوق الإنسان والتعددية وحق الاختلاف والتسامح والتحاور بين
الثقافات، والحياة السياسية الدولية الجديدة، يكاد يكون غائبـا في هذا التعليم
الذي ظل محصورا ولفترة طويلة في إطار موضوعـات أخلاقية ذات طابع عام، وفي أحسن
الأحوال في فكرة الالتزام الأخلاقي من منظور النموذج الذي اقترحته في الأربعينات
الفلسفة الوجودية عند ج. ب. سارتر.
أما اليوم ونحن نشرف على القرن الواحد
والعشرين، فقد بدأنا نلاحظ أن الاهتمام الذي أصبح التعليم الفلسفي على المستوى
العالمي يوليـه للمسائل السياسية وبصفة خاصـة لمسألة الديموقراطية وحقوق الإنسان
قد تزايد كثيرا على ما كان عليه من قبل، ما يعني أن مضمون النـزعة الإنسانية قد
تزايد كثيرا على ما كان عليه من قبل، مما يعني أن مضمون النـزعة الإنسانية أصبح
يغتني بعناصر جديدة سياسية واجتماعية بفضل تقدم الوعي البشري وبفضل ما أصبح العلم
يوفره من إمكانيات للبشرية.
ومما يزكي هذا التوجه أن أغلب المؤتمرات الفلسفية
العالمية التي انعقدت في الفترات الأخيرة لم تكن مترددة إطلاقا في “الخوض” مباشـرة
في السياسية. ويجمل بنا أن نورد في هذا السياق الأفكار التالية كانت من جملـة ما
تضمنه البيان الختامي لآخر تلك المؤتمرات من حيث توقيت انعقاده : “إن مجتمعنا
يحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة إذا كان يرغب في تضامن فعال…، كما يحتاج إلى إعادة
تحديد مفهوم التقدم الاجتماعي والحقوق الخاصة،… وإلى ضرورة مراجعة التاريخ الحديث
للبشرية من أجـل تفادي الوقوع في نفس أخطاء هذا القرن الذي اتسم بثقافة الحروب”.[13]
تتوفر أمامنا إذن عناصر كثيرة لحثنا على
افتراض أن الفكر الفلسفي في القرن المقبل، وبالنظر إلى ما يمكن استقراؤه من شروطه
وتوجهاته الحالية، سيكون أميل إلى الارتباط بالسياسة وأكثر استعدادا للاهتمام بقيم
ومبادئ الديموقراطية؛ ذلك لأنه سيكون مؤهلا لتعليمها ونقلها والمساهمة بواسطتها في
تكوين وتربية المواطن. كيف لا والمطلب قـد غدا عزيزا وملحا نظرا لما بتنا نشاهده
اليوم في أنحاء عديدة من العالم من نمو لظواهر الكراهية والتطرف، ومن انتشار
لأشكال المس بالحريات العامـة وانتهاك لحقوق الإنسان، بل واللجوء حتى إلى
الاغتيالات. لقد أضحت هذه الظواهر تحتل حيزا هاما في فضائنا اليومي من خلال الصحف
ونشرات الأخبار.
وما دامت المبادئ التي تحرك الفكر السياسي لا
تظل هي عينها عبر كل الظروف والملابسات الإنسانية والاجتماعية والتاريخية، لأن من
طبيعة الأمر السياسي أنه أقل الحقول الإنسانية خضوعا للتقييمات وللأحكام النهائية،
لا يستبعد المهتمون بحقل الفلسفة السياسية في المستقبل أن تطرأ على مبدأ
الديموقراطية نفسه تغييرات يمكن أن تمس جوهره ومسلسل تطبيقه، وبصفة خاصة في الدول
ذات التقاليد الديموقراطية العريقة التي قد تكتشف مثلا أهمية الديموقراطية
المباشرة بعدما فضلت إلى حد الآن الديموقراطية التمثيلية. أما في مناطق العالم
التي لا تزال تـهيمن فيها الثقافة المقدسة للسلطة، أو التي لم تعرف الإرهاصات
الأولى للديموقراطية إلا في فترة متأخرة فمن المرجح أن انتشار قيم الديموقراطية
فيها سيتحقق ببطء ولكن الدلائل الحالية تجيز القول بأن معطيات القرن المقبل لن
تسمح لـها أبدا بالتقوقع أو بالتراجع إلى الوراء.
حقا إن غياب إيديولوجيا كبرى كانت حتى الأمس
القريب تحفز العزائم وتشحذها، وتعتبر “مستقبل البشرية”، من شأنه أن يقوي الميل إلى
الامتثال ويضعف بالتالي من إمكانيات الفلسفة للدعوة إلى الثورة أو التمـرد. لأنه
بات مفروضا على الفيلسوف أن يفكر بطريقة مغايرة لما تعوّده من قبل وطيلة عقود من
السنين. ولكن في منظورنا لا يمكـن أن يعتبر غياب تلك الإيديولوجيات دليلا كافيا
على مصداقية فكرة “نـهاية الإيديولوجيا” رغم ما تتسم به من جاذبية وإغراء. فما دام
الإنسان يحن ويفكر ويحلم ويأمل ويطمح فسيظل أبدا “حيوانا إيديولوجيا”.
والإيديولوجيا في العمق وكما وصفها عن حق
الفيلسوف الفرنسي الراحل لوي ألتوسير “خالدة” ولن تتوقف أو تنتهي في عصـر معين،
وكل ما في الأمر أنها تنحو إلى التجدد باستمرار، وذاك ما لا نفتأ نشهده بالفعل
وحتى الآونة الأخيرة: فعلى أنقاض تلك التي قيل أنـها توارت سرعان ما ظهرت في
السنوات القريبة الماضية إيديولوجيات جديـدة في صيـغ نظريات جذابة ذاع صيتها بسرعة
فائقة. ونذكر من
بينها بصفة خاصة نظريات: “النظام العالمي الجديد”، و”نـهاية التاريخ”، و”هيمنة
الفكر الأوحد”، و”حتمية صراع الحضارات” ومن المرجح ألا تتـاح لبعض هذه النظريات
حتى فرصة العبور إلى القرن 21 نظرا لتسـرعها وتـهافتها!
فهل سيستفيد الفكر الفلسفي، وفي بدايات القرن
المقبل على الأقل، من دروس وعبر وحتى لا نقول من “أخطاء” القرن الذي نودعه، فيصيغ
فلسفة ملابسات الواقع الجديد الذي يشهد كون علاقة الإنسان مـع محيطه ومع الزمن
بدأت تعرف تحولا جذريا؛ والذي يتسم بسرعة أفول الحقائق والقيم وتراجع أوهام
المثقفين، أم أنه سيستكين إلى ممارسة لعبة النسيان؟
وهل لا يزال حقا في مقدور الفيلسوف المعاصر
أن يحذو حذو سلفه كانط (Kant) فيدعو إلى التضحية بالعلم من أجل الإيمان، ويغض الطرف عن العلاقة
ما بين اللاشعور والوعي مثلا، أو بين الجينات ومصائرنا، ويتجاهل بالتالي
الإمكانيات الهائلة التي أصبحت توفرها ثورة المعرفة وعلـوم الاتصال، وذلك لكي ينقد
ويحافظ على تصورات معينة عن الإنسان وعن الوعي وعن الإرادة الحرة وأخلاق الواجب؟
لا نظن أن مهنة الفيلسوف في المستقبل ستبقى
هي مواصلة للتقليد السقراطي أي الاستمرار في البحث عن الحقيقة عن طريق التامل
والحوار وطرح الأسئلة، ونعتقد أنـها ستكون بالأحرى محاولات دؤوبة لفهم واستيعاب
التحولات الكبرى ودلالات إنجازات البحث العلمي على الصعيد العالمي وآثارها على
أحوال الوضعية البشرية، وذلك لغاية إعادة سبك وصياغة وإنشاء مفاهيم حديثة للمساهمة
في التنوير والتوعية بقيم الحكمة الإنسانية الجديدة.
ولا نبتدع جديدا عندما نكرر القول بأن لكل عصر
حكمته، وحكمة مطالع القرن الأول في هذه الألفية الثالثة كما بدأ يتراءى لنا الآن
هي العودة مجددا إلى الإنسان وإلى الأخلاق وإلى السياسة ولكن اعتمادا على تعدد
المناظير كقيمة جديدة. ولا نخفي أننا
نشاطر هنا وجهة النظر التي تراهن على فرضية أن التعددية والنسبية هي التي ستكون
السمة الأساسية لثقافة القرن المقبل، على الأقل للعقود الأولى منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق