انفعالات النفس،
القسم الثاني
المقالة الثالثة والخمسون: التعجّب: L’admiration
حين يفاجئنا أول لقاء لغرضٍ معيّن ونحكم
عليه بأنه جديد أو مختلف جداً عن كل ما كنا نعرفه سابقاً، أو عما كنا نفترض بأنه
سيكون عليه، فإن هذا يدعونا إلى التعجب منه وتأخذنا الدهشة به. ولما كان مثل هذا
الأمر يمكن أن يحصل قبل أن نعرف على الإطرق إن كان هذا الغرض مناسباً لنا أو عكس
ذلك، لذا فإنه يبدو لي بأن التعجب هو أول جميع الانفعالات. وليس له من نقيض لأن
الغرض الذي يمثل أمامنا، لو لم يكن يحوي بذاته شيئاً بفاجئنا، لما كنا تأثرنا به،
ولكنا نظرنا إليه دون أيِّ انفعال.
Art. 53. L’admiration.
Lorsque la
première rencontre de quelque objet nous surprend, et que nous le jugeons être
nouveau, ou fort différent de ce que nous connaissions auparavant ou bien de ce
que nous supposions qu’il devait être, cela fait que nous l’admirons et en
sommes étonnés. Et parce que cela peut arriver avant que nous connaissions
aucunement si cet objet nous est convenable ou s’il ne l’est pas, il me semble
que l’admiration est la première de toutes les passions. Et elle n’a point de
contraire, à cause que, si l’objet qui se présente n’a rien en soi qui nous
surprenne, nous n’en sommes aucunement émus et nous le considérons sans
passion.
المقالة الرابعة والخمسون: الاحترام
والاحتقار، النبل أو التعجرف، التواضع أو الدناءة.
يلحق بالتعجب l’admiration [الإعجاب] الاحترام أو الاحتقار حسب ما يكون
عليه موضوع تعجبنا من كِبر أو صغر، وهكذا نستطيع أن نحترم أنفسنا أو أن نحتقرها،
ومن هنا جاءت الانفعالات ثم عادات الشهامة أو التعجرف والتواضع أو الدناءة.
Art. 54. L’estime et le mépris, la générosité ou l’orgueil, et l’humilité ou la bassesse.
A
l’admiration est jointe l’estime ou le mépris, selon que c’est la grandeur d’un
objet ou sa petitesse que nous admirons. Et nous pouvons ainsi nous estimer ou
nous mépriser nous-mêmes ; d’où viennent les passions, (374) et ensuite
les habitudes de magnanimité ou d’orgueil et d’humilité ou de bassesse.
المقالة الخامسة والخمسون: التبجيل
والازدراء.
غير أننا حين نحترم أو نحتقر أغراضاً
[موضوعاتٍ] أخرى نعتبرها كأسباباٍ مستقلةٍ قادرة على عمل الخير أو الشر، فإن
التبجيل يتأتى من الاحترام، ومن الاحتقار العادي يتأتّى الازدراء.
(56): الحب والكره.
(57): الرغبة.. تتطلع دوماً نحو المستقبل.
المقالة 58: الرجاء، التخوّف، الغيرة،
الاطمئنان والقنوط.
إنه يكفينا أن نفكّر بأنّ اكتساب خيرٍ ما
أو الهرب من شرٍّ ما أمرٌ محتمل كي نشعر بأننا مدفوعون إلى الرغبة فيه، ولكن حين
نأخذ بعين الاعتبار مدى حظِّنا الظاهر في الحصول على ما نرغب فإن من يصوََّر لنا
بأنّ حظَّنا كبير يثير فينا الرجاء، وأما ما يصوّر لنا بأن حظّنا ضعيفٌ وقليل فإنه
يثير فينا التخوّف، وما الغيرة إلا نوعٌ من هذا التخوّف. وحين يبلغ الرجاء ذروته
يغيّر طبيعته ويسمى اطمئناناً أو تأكداً ووثوقاً. أما ذروة التخوف فإنها تصبح
القنوط.
المقالة الستون: التأنيب
إن نحن صممنا على عملٍ معيّن قبل أن نتخلص
من التردّد فإن هذا يولّد عندنا تأنيبَ الضمير، وهو لا يتطلع، كما الانفعالات
السابقة، نحو الزمن الآتي ولكنه يخص الحاضر أو الماضي.
المقالة 62: الحسد
.. أما حين نعتبر الناس غير مستحقين لما
يصيبهم فإن الخير يثير فينا الحسد في حين أن الشر يثير الرأفة، وهما نوعٌ من
الحزن.
[أما حين نعتبر الناس غير مستحقين لما يصيبهم
من الخير فإن ذلك يثير فينا الحسد، أما حين يصيبهم من الشر ما لا يستحقون فإن ذلك
يثير فينا الرأفة]
المقالة السابعة والستون: الاشمئزاز
والتأسف والابتهاج.
إن طول فترة الخير [الرخاء] يسبّب، في بعض
الأحيان، الضجر والاشمئزاز، في حين أن طول فترة الشر [الشدّة] يخفّف الحزن.
وأخيراً فمن الخير الماضي يأتي التأسف، وهو أحد أنواع الحزن، ومن الشر الماضي يأتي
الابتهاج l’allégresse وهو نوع
من الفرح.
المقالة الثامنة والستون:
لماذا كان تعداد الانفعالات هذا مختلفاً عن التعداد المتداول بين الجميع.
هذا هو الترتيب الذي يبدو لي
الأفضل من أجل تعداد الانفعالات. وإني أعرف أني هنا أبتعد عن رأي جميع الذين كتبوا
قبلي حول الموضوع، وهناك سبب وجيه لذلك. فهم يستمدّون تعدادهم من تمييزهم داخل
النفس الحسّية لنزوعين يسمّون أولَّهما النفس الشهوانية والثاني النفسَ الغضبية*.
ولمّا كنت لا أعرف وجود أي تمييز في النفس يجعل منها أجزاء متعددة كما بيّنت
سابقاً، فإنه يبدو لي أن قول الآخرين لا يعني شيئاً آخر سوى أنّ للنفس قوّتين:
الأولى هي أن ترغب والثانية هي أن تغضب. ولمّا كانت النفسُ تملك بالطريقة عينها
القوّة التي تمكّنها من التعجّب والحب والرجاء والخوف، وكذلك أن تتلقى في ذاتها كل
بقيّة الانفعالات، أو أن تقوم بالأعمال التي تدفعها إليها هذه الانفعالات، فإني لا
أرى لماذا شاء السابقون أن ينسبوا كل هذه الانفعالات إلى الشهوة أو الغضب. هذا عدا
عن أن تعدادهم لا يشمل على الإطلاق كل الانفعالات الأساسية كما يفعل تعدادي. إني
أتكلم عن الانفعالات الرئيسية لأنه من الممكن أن نميّز العديد من الانفعالات
الأخرى الخاصة، وعددها غير محدّد.
(*هامش: هذا التمييز الذي
لعب دوراً هاماً في كل العصر الوسيط، والذي ينسبه ديكارت إلى كلّ الأقدمين، لأنه
يحاول باستمرار أن يقلّل من أهمّية ما جاءوا به كيّ يسدّد ضربةً قاضيةً إلى
الفلسفة السكولائية التي أصبحت متعصّبة تعصّباً أعمى للأقدمين. ورد عند أفلاطون في
حوار الجمهورية، الكتاب الرابع، [من] الفصل الثاني عشر إلى الفصل الخامس عشر..،
حيث يؤكد بأن في نفس الفرد مبادئ ثلاثة متميّزة هي العقل والغضب والشهوة، وقد مرّت
هذه المبادئ من الأفراد إلى الدول فأنجبت النفسُ الغضبية الشعوب العنيفة وهي
الشعوب الشمالية، في حين أن النفس الشهوانية أنجبت الشعوب التي تحب الربح والكسب
كالمصريين والفينيقيين، وأما النفس العاقلة فأنجبت الشعب الذي يهوى العلم، وهو
بالطبع، حسب رأي أفلاطون، شعب أثينا. ويصبح العدل لدى الفرد هو أن يقوم كل جزء من
النفس بوظيفته، فعلى العقل أن يأمر وعلى النفس الغضبية أن تطيع. ويقيم أفلاطون
مقارنةً بين الفرد والدولة/ المدينة، ففي هذه الأخيرة رغم تشعب حاجات أفرادها
طبقات ثلاث أساسية: طبقة العمّال المنتجين والحرفيين والتجار وتلسيطر عليهم شهوة
الكسب، وطبقة الجنود وتسيطر عليهم النفس الغضبية وفضيلتُها الأساسية الشجاعة،
وطبقة "الحرّاس" أي طبقة الحكام الذين يرعون شؤون المدينة. والعدل هنا
على صعيد الدولة يصبح أيضاً أن تقوم كل طبقةٍ بوظيفتها، ومن الطبيعي أن تكون
القيادة بين أيدي الحرّاس، لأنهم يشكلون طبقةً من العقلاء تخضع أحكامُها لأوامر
العقل. (جورج زيناتي)).
المقالة التاسعة والستون: في
أنه ليست هناك سوى ستة انفعالات بدائية.
غير أنّ عدد الانفعالات
البسيطة والبدائية ليس بكبير. لأننا لو استعرضنا كل تلك التي عددتها لأمكننا أن
نلاحظ بسهولة أن ليس هناك سوى ستة تنطبق عليها هاتان الصفتان، وهذه الانفعالات
الستة هي التالية: التعجب والحب والكره والرغبة والفرح والحزن. والواقع أن كلّ
الانفعالات الأخرى تتألف من بعض هذه الانفعالات الستة، أو أنها بعض أنواعها.
المقالة الثانية والسبعون: قوّة التعجّب
.. [إن] قوة [التعجّب] تتوقف على أمرين
اثنين هما الطابع الجديد أولاً ثم حيازة الحركة التي يسببها التعجب لكل قوتها منذ
بدايتها، إذ إنه من المؤكد بأن مثل هذه الحركة لها مفعول أقوى من الحركات التي
تبدأ ضعيفةً ثم تكبر رويداً رويداً، إذ إن هذه الأخيرة يمكن تغيير مجراها بسهولة..
المقالة 73
.. إن الدهشة هي إفراط في
التعجب، وهذا الإفراط لا يمكن أن يكون إلا سيئاً.
المقالة 74
مما قلناه سابقاً نستطيع بسهولة أن نعرف
بأن منفعةَ جميع الانفعالات ليست إلا في أنها تقوي
الأفكار وتطوّل فترة بقائها في النفس، هذه الأفكار التي من الأفضل للنفس أن تحتفظ
بها، وبدون الانفعالات فإنها تزول بسهولة.
أما الشرّ الذي يمكن لها أن
تسبّبه فيتأتّى فقط من أنها تقوّي هذه الأفكار وتحفظها أكثر من الحاجة، أو أنها
تقوي بعض الأفكار الأخرى وتحفظها في حين أنه ليس من صالحنا التوقف عندها.
المقالة الخامسة والسبعون: لماذذا ينفع
بشكلٍ خاص التعجب.
من الممكن أن نقول بأن
التعجّب نافعٌ بشكلٍ خاص في أننا نستطيع بفضله أن نتعلّم وأن نحفظ في ذاكرتنا
الأشياء التي كنا نجهلها سابقاً. ذلك أننا لا نتعجّب إلا من كلّ ما يبدو لنا
نادراً واخارقاً. ولا شيء يمكن أن يبدوَ كذلك إلا حين نكون نجهله، أو لأنه يختلف
عن الأشياء التي عرفناها، لأن
هذا الاختلاف هو الذي يجعلنا نسميه خارقاً وغيرَ عاديّ. هذا مع العلم أن الشيء
الذي نجهله لو أنه مثُل من جديد أمام ذهننا أو أمام حواسِّنا فإننا لا نحفظه في
ذاكرتنا إلا إذا كانت الفكرة التي نكوّنها عنه قد قوّاها في دماغنا انفعالٌ معيّن
[التعجّب]، أو بفضل مثابرة دماغِنا الذي تسوقه إرادتُنا إلى انتباه معيّن وتفكير
خاص. أما بقيّة الانفعالات فإنها قد تنفع من أجل التنبّه للأشياء التي تبدو جيّدة
وتلك التي تبدو سيّئة. غير أننا لا نملك سوى التعجب
أمام الأشياء التي تبدو فقط نادرة. وكذلك فإننا نرى
أن الناس الذين ليس عندهم أيُّ ميلٍ طبيعيٍّ لمثل هذا الانفعال هم في العادة من
كبار الجهلة.
المقالة السادسة والسبعون: في ماذا يمكن أن
يضر [التعجب] وكيف يمكننا أن نستعيض عن نقصه
يحصل في كثيرٍ من الأحيان أن نتعجب أكثر
مما ينبغي وأن نندهش حين ندرك أشياء لا تستحق أن نعتبرها إلا قليلاً أو حتى لا
تستحق أيّ اعتبار على الإطلاق، ولا يحصل أن نتعجّب أقلّ مما تستحق الأشياء بكثير.
إن حدوث مثل هذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى تعطيل عمل العقل أو انحرافه (*). لهذا،
ومع أنه من المستحسن أن نولد ونحن نملك بعض الميل نحو هذا الانفعال لأنه يهيّئنا
لاكتساب العلوم، إلا أن علينا أن نبذل جهدنا فيما بعد لنتخلّص من هذا الميل إلى
أقصى ما نستطيع، لأنه من السهل الاستعاضة عن نقصه
باللجوء إلى التفكير والانتباه الخاص الذي يمكن دوماً لإرادتنا أن تجبر ملكة فهمنا
عليه، كلما حكمنا بأن الشيء الماثل أمامنا يستحق عناء مثل هذا الانتباه. ولكن ليس
هناك من علاج لمنع التعجب بإفراط سوى اكتساب معرفة أشياءَ عديدة، والتمرن على
التفكير في كل الأشياء التي قد تبدو الأكثر ندرة والأشد غرابة.
(*) يحاول ديكارت، كلما سنحت الفرصة، أن يقلل من أهمية ما جاء به
التراث الفلسفي قبله، وذلك لهدف واضح هو محاربة الفلسفة "الرسمية"
السائدة في أوروبا في زمنه والموروثة من أرسطو بشكلٍ خاص، إذ إن أنصار هذا
الفيلسوف اليوناني بلغ بهم التعصب له حد التحجر والقول بأن أرسطو قد قال كل شيء،
وليس من مكان لمزيد أو لجديد، وهو هنا يهاجم بلا شك أرسطو وقوله في كتاب "ما
بعد الطبيعة" بأن الاندهاش هو ال1ي دفع المفكرين الأولين إلى التأمل والنظر
الفلسفي. ولقد كان هناك العديد من التأويلات لهذا القول في كل الفلسفة السكولائية،
مما جعل الشعور بالاندهاش والتعجب يعتبر من أعظم انفعالات العالِم في حين أنّ
ديكارت، رغم اعترافه ببعض منفعة مثل هذا الانفعال في البداية، يعتبر أنه في نهاية
المطاف يشكل عائقاً أمام عمل العقل وتقدمه.
هذا مع العلم أن أفلاطون يشارك تلميذه في تعظيم أمر الاندهاش، إذ كان
قد كتب في حوار ثا أطاطيس (تييتيت) بأن ليس للفلسفة من أصل آخر غير الاندهاش.
(جورج زيناتي)
المقالة 77
.. بالرغم من أن المعتوهين والأغبياء هم
وحدَهم الذين يفتقدون بطبيعتهم وجود أيِّ ميلٍ نحو التعجّب، فإن هذا لا يعني بأن
الأكثر ألمعيةً هم دوماً اكثر الناس ميلاً نحو هذا الأمر. إذ إن هؤلاء هم بشكلٍ
أساسي أولئك الذين رغم أنهم يملكون حساً سليماً لا بأس به إلا أن فكرتهم عن أنفسهم
لا تجعلهم يتعتبرون أنفسهم على درجةٍ عاليةٍ من الفطنة.
المقالة الثامنة والسبعون: في أن الإفراط
فيه [في التعجب] يمكن أن يصبح عادةً حين نفشل في تصحيحه.
ومع أن هذا الانفعال [أي الاندهاش] يتناقص،
على ما يبدو، مع كثرة الاستعمال ـ إذ إننا كلما التقينا أكثر أشياءَ نادرةً تثير
تعجّبنا كلما اعتدنا أن نتوقف عن الإعجاب بها، وبدأنا نفكر بأن تلك التي سنصادفها
في المستقبل ليست سوى أشياءَ عادية مبتذلة ـ إلا أنها [إلا أنّه = أي الانفعال أو
التعجب] حين [يكون مفرطاً ويجعلنا] نوقف
كل انتباهنا عند أول صورة ترتسم لدينا للأغراض التي تمثل أمامنا، دون أن نكتسب أية
معرفة أخرى حولها، [فإنه يترك] بعدها عادةً تهيّئ النفس لتتوقف بالطريقة عينها
أمام جميع الأغراض التي تمثل أمامها حين تبدو لها جديدة ولو بمقدار ضئيل جداً.
وهذا ما يطيل مرض كل الفضوليين بشكلٍ أعمى، أي كل أولئك الذين يبحثون عن الأغراض
النادرة للإعجاب بها لا لمعرفتها، ذلك أن هؤلاء يصبحون رويداً رويداً معجبين بشكلٍ
يجعل الأشياء التي لا أهمية لها على الإطلاق لا تقلّ قدرةً على استيقافهم من
الأشياء التي يكون البحث عنها أكثر منفعة (*).
(*) هامش:
إن كان أرسطو ومن قبله أفلاطون قد جعلا من
الاندهاش والتعجب السمة الأولى للعالم والأب الحقيقي للمعرفة والتفلسف فإن ديكارت
يعتبر مثل هذا الانفعال نقصاً يجب التخلّص منه، وموقفه هذا يبدو مستهجناً للوهلة
الأولى، ولا نفهم لماذا يعتبر التعجب عادةً سيّئةً تعطل التفكير وتشلّه، والواقع
أنّ مثل هذا الموقف لا يمكن أن يُفهَم إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن ديكارت
ينتمي هنا إىل حضارةٍ جديدة لا يهمها التأمل بإعجاب واندهاش في ظواهر الطبيعة،
لاحترام الطبيعة في نهاية المطاف والسير مع قوانينها. اليونانيون رددوا باستمرار
مقولة احترام الطبيعة وخضوع الإنسان العاقل لقوانينها، واللاهوتيون جعلوا من
الطبيعة حقلَ تأمّلٍ واندهاش أمام سرّ عظمتها وكمال انسجامها. والكنيسة جعلتها
مليئة بالأرواح والعجائب والمعجزات، أما ديكارت فلا يعتبرها أكثر من آلةٍ كبيرة
معقّدة، العقلُ البشريُّ قادرٌ على حلّ كل أواليتاتها مهما كانت تبدو غريبةً
ومذهلة، ومن هنا كان لا بدّ من انتزاع صفة التقديس عن الطبيعة وكل الظواهر
لمعاملتها كآلات لا تكتم أيّ سرّ، ومن هناكانت خطورة الاندهاش والتعجّب لأنهما
يتركان العقل في منتصف الطريق منبهراً متأملاً بدل أن يحاول معرفة سلسلة الأسباب
وتشابكها. التعجب يوقف التقدم العلمي أما المعرفة فإنهاتشق الطريق نحو حلّ كل
أسرار الطبيعة، ذلك أن الهدف الأخير للعلم، في نظر ديكارت، ليس احترام الطبيعة ولا
التأمل فيها، بل تسخيرها وإخضاعها، عن طريق معرفة قوانينها، لمنفعة الإنسان،
المنفعة المادية المباشرة عن طريق التكنيك. التعجب يحجب في نهاية المطاف رؤية
النافع الذي أصبح في الحضارة الغربية هو الأهم والأساس في حين أنه كان المحتقر
والمهمَل لدى اليونان.
وفي عصرنا الراهن تعود مشكلة احترام
الطبيعة أو تسخيرها للمنفعة المادية لتتخذ بعداً مأساوياً، بعد أن أصبح علمُ
الإنسان يهدد وجوده في بيئته الطبيعية. ويعتقد الفيلسوف الفرنسي الشاب لوك فيري
بأن أنصار البيئة الراديكاليين في عصرنا يريدون استبدال حقوق الإنسان التي نادت
بها الثورة الفرنسية بحقوق الطبيعة [أظن أن الأصح لغوياً القول: "يريدون أن
يستبدلوا بحقوق الإنسان التي نادت بها الثورة الفرنسية حقوقَ الطبيعة"]، وهم
ينحدرون فلسفياً من سبينوزا الذي عادل بين الطبيعة والله، ومن نيتشه الذي نادى
بمذهبٍ حيوي يرفض كل القيم السائدة باسم الحياة. والخيار المطروح في عصرنا فلسفياً
هو العودةُ إلى الوثنية اليونانية التي تحترم الطبيعة وتقدّسها، أو الإيمان
بالإنسان وتقدمه المستمر بفضل التكنيك، كما يريد [لوك] فِيري المدافعُ العنيد عن
إنسانوية جديدة عقلانية، تقوم على حرية الإنسان وبحثه الدؤوب عن المساواة التي
تفتقر إليها الطبيعة. (زيناتي، تعليقاً على المقالة الثامنة والسبعين لديكارت)
المقالة الرابعة والثمانون:
.. بالرغم من أنّ الكراهية تتعارض مباشرةً
مع الحبّ إلا أننا لا نميّز فيها أنواعاً مختلفةً بقدر أنواع الحبّ..
المقالة الخامسة والثمانون:
.. ومن هنا يولد نوعان من الحب، والنوع
الأول هو الحب الذي عندنا للأشياء الصالحة les choses bonnes ،
والثاني هو الحب الذي عندنا للأشياء الجميلة، وهذا النوع يمكن أن نطلق عليه اسم
البهجة كي لا نخلط بينه وبين النوع [الأول]، أو بينه وبين الرغبة التي يطلَق عليها في الغالب اسم الحب...
وبالطريقة نفسها، يولد أيضاً نوعان من
الكراهية، أحدهما ينسَب إلى الأشياء السيّئة والآخر إلى الأشياء البشعة، وهذا
الأخير يمكن أن يُطلَق عليه اسم النفور أو الاشمئزاز كي نميّزه عن غيره. ولكن أهمّ
ما يجب ملاحظته هنا هو أن هذين الانفعالين، انفعال البهجة وانفعال النفور اعتادا
أن يكونا أعنف من بقية أنواع الحب أو الكراهية، ذلك أن
ما يأتي إلى النفس عن طريق الحواس يؤثر فيها أكثر من ذلك الذي يصوّره لها العقل،
هذا عدا عن أن هذين الانفعالين يملكان في العادة قدْراً أقل من الحقيقة حتى إننا
نستطيع أن نقول إنهما من بين جميع الانفعالات هما اللذان يخدعان أكثر من غيرهما،
وبالتالي فعلينا أن نكون حذرين أشد الحذر منهما.
Art. 85. De
l’agrément et de l’horreur.
Et je ne trouve
qu’une seule distinction considé rable qui soit pareille en l’une et en
l’autre. Elle consiste en ce que les objets tant de l’amour que de la haine
peuvent être représentés à l’âme par les sens extérieurs, ou bien par les
intérieurs et par sa propre raison. Car nous appelons communément bien ou mal
ce que nos sens intérieurs ou notre raison nous font juger convenable ou
contraire à notre nature ; mais nous appelons beau ou laid ce qui nous est
ainsi représenté par nos sens extérieurs, principalement par celui de la vue,
lequel seul (392) est plus considéré que tous les autres. D’où naissent deux
espèces d’amour, à savoir, celle qu’on a pour les choses bonnes, et celle qu’on
a pour les belles, à laquelle on peut donner le nom d’agrément, afin de ne la
pas confondre avec l’autre, ni aussi avec le désir, auquel on attribue souvent
le nom d’amour ; et de là naissent en même façon deux espèces de haine,
l’une desquelles se rapporte aux choses mauvaises, l’autre à celles qui sont
laides ; et cette dernière peut être appelée horreur ou aversion, afin de
la distinguer. Mais ce qu’il y a ici de plus remarquable, c’est que ces
passions d’agrément et d’horreur ont coutume d’être plus violentes que les autres
espèces d’amour ou de haine, à cause que ce qui vient à l’âme par les sens la
touche plus fort que ce qui lui est représenté par sa raison, et que toutefois
elles ont ordinairement moins de vérité ; en sorte que de toutes les
passions, ce sont celles-ci qui trompent le plus, et dont on doit le plus
soigneusement se garder. (393)
المقالة السادسة والثمانون: الرغبة.
إن انفعال الرغبة هو هياج في النفس تسبّبه
الأرواح التي تعدّها كي تريد [النفسُ] للمستقبل الأشياء التي تتصوّر أنها مناسبة.
وهكذا فإننا لا نرغب فقط بوجود الخير الغائب، ولكننا نرغب كذلك في المحافظة على
الحاضر. أضف إلى ذلك أننا نرغب في غياب الشرّ سواءٌ أكان ذلك الذي نحن فيه، أو ذلك
الذي نعتقد أنه سيحلّ بنا في زمن آت. [مقارنة مع اسبينوزا وهيغل]
المقالة التسعون:
.. وضعت [الطبيعةُ] بعض الانطباعات في
الدماغ التي تجعلنا، في سنٍّ معينة وفي زمن معيّن، نعتبر أنفسنا ناقصين، وكما لو
لم نكن سوى نصفٍ لكلٍّ يجب أن يكون شخصٌ من الجنس الآخ نصفه الثاني، حتى إن اكتساب هذا النصف تصوّره لنا الطبيعة بطريقةٍ
مشوّشة كما لو كان أعظم كل الخيرات التي يمكن أن تخطر ببالنا. (ديكارت؛ انفعالات
النفس)
هامش: ما ينسبه ديكارت هنا إلى الطبيعة،
كان قد عبّر عنه أفلاطون في حوار "المأدبة" المكرّس للحب، في أسطورةٍ
شهيرة هي أسطورة الخنثى le mythe d’androgyne التي هي ذكر وأنثى في آن
معاً، إذ كان الإنسان في القدم ذكراً وأنثى معاً في شخصٍ واحد، وكان قوياً فتجرأ
على محاولة ارتقاء السماء من أجل محاربة الآلهة، فغضب هؤلاء منه وتشاوروا في ما
بينهم وقرروا إضعافه عن طريق قسمه إلى قطعتين، قطعةٌ ذكر وأخرى أنثى، وبعد أن أصبح
كل واحد منما اثنين أخذ يبحث عن نصفه الآخر وحين يجده يكون العطف والحب ومنتهى
السعادة، ولا يعود النصفان يحتملان أن يفترقا ولو للحظة. (زيناتي؛ ص 62)
المقالة 125
والحال أنه بالرغم من أن الضحك يبدو أحد
أهم الشارات الأساسية للفرح فإن هذا الأخير لا يستطيع مع ذلك أن يتسبب بالضحك إلا
حين يكون معتدلاً وقد امتزج ببعض التعجب أو الحقد، إذ إننا نجد بالتجربة أننا حين
نكون في فرحٍ شديد فإن موضوع هذا الفرح لا يجعلنا البتّة ننفجر ضاحكين، بل حتى لا
يمكننا بسهورة أن نفعل ذلك بسبب آخر إلا حين نكون حزنين، والسبب في ذلك أنه في حال
الفرح الشديد تكون الرئة ممتلئةً دوماً بالدم بحيث إنها لا يمكن أن تنفخ أكثر
بدفعاتٍ جديدة.
المقالة 136
هناك صلةٌ بين نفسنا وجسدنا وهي أننا حين
نربط مرّةً بين عملٍ جسدي وفكرةٍ معيّنة فإن أحدَهما لا يعود يحضر أمامنا بعد ذلك
دون أن يحضر الآخر أيضاً..
.. وكمثلٍ فإنه يمكننا أن نعتقد بسهولة بأن
النفور الغريب الذي ينتاب البعض فيمنعهم من تحمّل رائحة الورد أو وجود قطٍ أو ما
شابه ذلك، لا يأتي إلا من أنهم في مطلع حياتهم قد أَلحَقت بهم الإساءةَ مثلُ هذه
الموضوعات، أو أنهم قد تألموا مشاركةً مع شعور أمهم التي لحقتها الإساءة، وهي
حامل، ذلك أنه من المؤكد بأن هناك صلةً بين كل حركات الأم وحركات الجنين الذي في
بطنها، حتى أنّ كل ما ينافي أحدهما يضرّ بالآخر. ورائحة الورد يمكن أن تكون قد
تسبّبت بصراعٍ حاد لطفلٍ حين كان ما يزال في المهد، وكذلك فيمكن أن يكون قدٌ قد
أخافه كثيراً، دون أن يتنبّه أحدٌ لذلك، ودون أن يبقى في ذاكرته أي أثر لهذا
الحادث، مع أن فكرة النفور التي استحوذت عليه عندها تجاه الورد أو القطّ تظل
مطبوعةً في دماغه حتى نهاية حياته.
المقالة 137
في استعمال الانفعالات
الخمسة التي فُسِّرت هنا، بما هي انفعالات ترتبط بالجسد
بعد أن أعطينا تحديدات الحب
والكراهية والرغبة والفرح والحزن، وبعد أن عالجنا كل الحركات الجسدية التي تسبب
هذه الانفعالات أو تصاحبها لم يبقَ أمامنا هنا سوى النظر في استعمالها. وحول هذا
الأمر فإن ما يسترعي الانتباه هو أنها، حسب سنّة الطبيعة، تختص كلها بالجسد ولا
تعطَى هذه الانفعالات للنفس إلا بما هي متصلة بالجسد، حتى إن استعمالها الطبيعي هو
في دفع النفس للقبول والمساهمة بالأفعال التي يمكن أن تُستَخدَم في حفظ الجسد أو
في جعله يصبح بطريقةٍ أو بأخرى أكمل من السابق. وفي هذا المعنى فإنّ الحزن والفرح
هما أولُ انفعالين يُستَخدَمان؛ ذلك أنّ النفس لا تتنبّه مباشرةً للأشياء المضرّة
بالجسد إلا عن طريق إحساسِها بالألم الذي يولِّد عندها أولاً انفعال الحزن، ثم
كراهية ما يسبِّب هذا الألم، وثالثاً الرغبة في التخلّص منه.
كما أن النفس لا تتنبّه
مباشرةً للأشياء النافعة للجسد إلا بنوعٍ من الدغدغة الملذّة التي تثير فيها
الفرح، فتولّد بعد ذلك حبَّ ما نعتقده سبب هذه الدغدغة، وكذلك الرغبة في اكتساب ما
يمكن أن يجعلَنا نستمرّ في هذا الفرح أو أن ننعم فيما بعد من جديد بفرحٍ مماثل.
وهذا ما يرينا بأن هذه الانفعالات الخمسة كلها نافعة كثيراً بالنسبة إلى الجسد، بل
إن الحزن، بمعنىً ما هو أول وضروري أكثر من الفرح، وكذلك الحال للكره بالنسبة
للحب، لأن دفع الأشياء التي تضر ويمكنها أن تهدم أهم من اكتساب الأشياء التي تضيف
كمالاً نستطيع أن نستمرَّ في الحياة بدونه.
المقالة 138
في عيوبها [أي الانفعالات] وفي وسائل إصلاح
هذه العيوب
ومع أنّ هذا الاستعمال الذي تكلمنا عنه هو
أكثر استعمال طبيعي تستطيع الانفعالات أن تستخدمَه، ومع أنّ كل الحيوانات غير
العاقلة لا تتصرّف في حياتها إلا تحت تأثير حركاتٍ جسدية شبيهة بالحركات التي
تتبعها الانفعالات لدينا نحن، وتحثّ النفسَ على القبول بها، فإنه ليس حسناً
باستمرار، خصوصاً وأنّ هناك أشياءَ عديدةً ضارّةً بالجسد لا تسبّب في البدء أيَّ
حزنٍ بل إنها تعطينا الفرح، وكذلك فهناك أشياءُ نافعةٌ للجسد مع أنها تكون مزعجةً
في بداية الأمر. أضفْ إلى ذلك أنّ الانفعالات تُظهِر دوماً تقريباً، سواءٌ الخيرات
أم السيّئات التي تمثّها، أكبر مما هي في الواقع وأهمّ بكثير، حتى إنها تدفعنا إلى
البحث عن بعضها، والهروب من البعض الآخر بحماسٍ وعنايةٍ أكثر مما ينبغي ومما
يناسب، كما أننا نرى بأن البهائم غالباً ما يخدعها الطعم، وأنها كي تتجنّب بعضَ
الشرور الصغيرة تقع في ما هو أسوأ بكثير، لهذا وجب علينا أن نعود إلى التجربة،
ونستخدم العقل كي نميّز بين الخير والشر فنعرف القيمة الحقيقية لكلٍ منهما كيّ لا
نأخذ أحدَهما ونحن نظنه الآخر، ونلهث بشدّة وراء لاشيء.
المقالة 139
في استعمال هذه الانفعالات عينها بما هي
انفعالات تنتمي إلى النفس، وأولاً في الحب.
ما قلناه كان يكفي لو لم نكن نملك في
ذواتنا سوى الجسد، أو لو كان هذا الأخير يشكل جزأنا الأفضل. ولكن ولما كان جسدُنا هو الجزء الأقل أهمّية وجب علينا أولاً أن
نتفحّص الانفعالات بما هي أمورٌ تنتمي إلى النفس التي تعتبر الحب والكراهية يأتيان
من المعرفة ويسبقان الفرح والحزن، إلا حين يقوم هذان الأخيران مكان المعرفة، وهما
في الواقع نوعان من أنواع المعرفة. وحين تكون هذه المعرفة حقيقية أي حين تكون
الأشياء التي تحملنا على حبها هي حقاً أشياءَ جيدة وصالحة، وتلك التي تحملنا على
كرهها هي حقاً سيّئة، فإن الحب يكون أفضل بكثير من الكراهية ولا يمكنه أن يكون أكثر
مما ينبغي، ولا يتأخر على الإطلاق من إثارة الفرح. إني أقول بأن مثل هذا
الحب هو في غاية الصلاح لأنه يصلنا بخيرات حقيقية، ويعطينا كمالاً موازياً لها.
وأقول أيضاً بأنه لا يمكنه أن يكون أكثر مما ينبغي، ذلك أن كل ما يستطيع الحب
الأشد والأكثر تطرفاً أن يفعله هو أن يصلنا بالتمام بهذه الخيرات حتى إن الحب الذي
نخص به ذواتنا لا يقيم أي تمييز بينها، وهذا ما أعتقد أنه لا يمكن أن يكون أبداً
سيّئاً. هذا الحب يتبعه بالضرورة الفرح، لأنه يصوّر
لنا ما نحبّه كخير ينتمي لنا ويخصنا.
المقالة 140
في الكراهية
الكراهية على العكس من ذلك لا يمكن أن تكون
قليلة بحيث إنها لا تضر.
وهي ليست أبداً دون حزن. إني أقول بأنها لا
يمكن أن تكون أقل مما ينبغي [أي غير مضرّة] بسبب أننا لا نندفع نحو عمل تحت تأثير
كراهيتنا للشر إلا ونستطيع أن نندفع بطريقة أفضل تحت تأثير حبنا للخير الذي هو
نقيضه، على الأقل حين يكون هذا الخير وهذا الشر معروفين جيداً. وذلك لأني أعترف
بأن اكراهية الشر التي لا تتجلّى إلا بالألم هي ضرورية بالنسبة للجسد، غير أني لا
أتكلم هنا إلا عن الكراهية التي تأتي عن طريق معرفةٍ أوضح، وأنا لا أنسبها إلا
للنفس. وأقول أيضاً بأنها ليست أبداً دون حزن بسبب أن الشر لمّا كان مجرد حرمان لم
يعد من الممكن تصوره دون ذات حقيقية يكون فيها، وليس هناك من شخصٍ حقيقي لا يملك
في ذاته بعض الطيبة، وهذا يؤدي إلى أنّ الكره الذي يبعدنا عن شرٍّ معيّن يبعدنا
بالوسيلة ذاتها عن الخير المتصل بهذا الشخص، والحرمان من هذا الخير تتمثّله نفسُنا
كعيبٍ يلحق بها مما يجعله يثير فيها الحزن. فمثلاً إن الكره الذي يبعدنا عن
العادات السيّئة لأحد الناس يبعدنا بالوسيلة ذاتها عن محادثته التي كان من الممكن
أن نجد فيها، لولا حقدنا، بعضَ الخير، فنستاء لأننا قد حرمنا من مثل هذا الأمر.
وهكذا بالنسبة لجميع الأحقاد فإننا نلمس فيها كلِّها موضوع حزن.
المقالة 141
في الرغبة وفي الحزن والفرح
بما يخصّ الرغبة فمن الواضح بأنها حين
تنبثق من معرفة حقيقية فإنها لا يمكن أن تكون سيّئة، شرط ألا تكون مفرطة على
الإطلاق، وأن تضبطها هذه المعرفة. ومن الواضح أيضاً بأن الفرح لا يمكن إلا أن يكون
جيداً وصالحاً، في حين أن الحزن لا يمكن إلا أن يكون سيئاً بالنسبة إلى النفس لأنه
في الحزن يكمن كل الانزعاج الذي تتلقاه النفس من الشر، وفي الفرح يكمن كل التمتع
في الخير الذي يخصها، حتى أنه لو لم يكن لدينا جسد البتة لتجرّأت أن أقول بأنه ما
كان في مقدورنا أن نستسلم كثيراً إلى الحب والفرح أو أن نتجنب غالباً الكره
والحزن، غير أنّ الحركات الجسدية التي تصاحبها يمكن أن تكون كلها مضرة بالصحة حين
تكون عنيفةً جداً، وعلى العكس من ذلك فإنها قد تكون نافعةً للصحة حين لا تكون إلا
معتدلة.
المقالة 143
في هذه الانفعالات عينها بما هي انفعالات
ترتبط بالرغبة
من الواجب الملاحظة تماماً بأن ما قلتُه
لتوّي حول هذه الانفعالات الأربعة لا يحصل إلا حين نعتبرها فقط في ذاتها ولا
تحملنا على القيام بأي عمل. ذلك أنها بما هي انفعالات تثير فينا الرغبة التي عبر
طريقها تنظم عاداتنا وأخلاقنا فمن المؤكد بأن كل الانفعالات التي سببها خاطئ يحكم
أن تضر، وعلى العكس من ذلك فإن كل الانفعالات التي سببها مصيب يمكن أن تخدم، بل إن
انفعاليّ الفرح والحزن حين يكونان متساويين في الاستناد إلى أساسٍ خاطئ فإن الفرح
في العادة يكون أشد ضرراً من الحزن، لأن هذا الأخير حين يلزمنا جانب التحفظ
والتخوّف يعدنا بطريقة ما إلى الحيطة والحذر، في حين أن الآخر يجعل الذين يستسلمون
له جسورين وغير مبالين.
المقالة 144
في الرغبات التي يتوقف حدوثها علينا
ولكن، بما أن هذه الانفعالات لا يمكنها أن
تحملنا على القيام بأي عملٍ إلا عن طريق الرغبة التي تثيرها، لذا فإن هذه الرغبة
بشكلٍ خاص هي ما يجب أن نهتم بتنظيمه، وفي هذا يقوم النفع الرئيسي لعلم الأخلاق.
والحال أنه كما قلتُ سابقاً فإن الرغبة تكون دوماً جيدة
وصالحة حين تتبع معرفةً حقيقية، وبالتالي فإنه لا يمكنها إلا أن تكون سيّئة حين
تكون مؤسسة على خطإٍ ما. ويبدو لي أنّ الخطأ الذي نرتكبه في العادة في ما
يخص الرغبات هي أننا لا نميّز بالقدر الكافي بين الأشياء التي تتوقف كلية علينا
والأشياء التي لا تتوقف علينا أبداً. ذلك أنه بالنسبة إلى الأِياء التي لا تتوقف
إلا علينا أي على حرية اختيارنا فإنه يكفي أن نعرف بأنها جيدة وصالحة كيلا نعود
نستطيع أن نقول بأننا نرغب فيها بأكثرَ مما يجب من الحدة والحميّة، بسبب أن القيام
بإنجاز الأشياء الجيدة التي تتوقف علينا هو من أمور اتّباع الفضيلة، ومن المؤكد
أنه لا يمكن أن تكون لدينا رغبةٌ حادة للفضيلة أكثر مما تنبغي، أضف إلى ذلك أن ما
نرغب فيه بهذه الطريقة لا يمكن أن يفلت منا النجاح فيه، ولأنه يتوقف علينا وحدَنا
فإننا نتلقى منه دوماً كل الرضا الذي كنا نتوقّعه منه (*).
غير أنّ الخطأ الذي جرت العادة على ارتكابه
في هذا الشأن ليس أبداً أننا نرغب أكثر مما يجب بل على العكس في أننا نرغب أقل
بكثير مما يجب، والعلاج الأعظم ضد هذا الأمر هو تحرير الروح، بقد ما يستطاع، من كل
أصناف الرغبات الأخرى الأقل منفعةً، ثم محاولة معرفة
حسنة ما نرغب فيه بوضوح تام وتفحص هذه الحسنة بعناية.
puis de tâcher de connaître bien
clairement et de considérer avec attention la bonté de ce qui est à désirer.
(*) هامش
تختصر هذه المقالة علمَ الأخلاق عند ديكارت
وعلاقته بالانفعالات، فالرغبة حين تستند إلى حريتنا وتقرر إرادتُنا بأنها صالحةٌ
لا يعود هناك من معنى لأيّ اعتدال أو عدم إفراط، فعمل الخير لا حدود له سوى حدود
الحرية المنفتحة على اللانهاية، وبالتالي فمهما كانت حماستُنا واندفاعُنا
وحميّتُنا وتهورُنا كبيرةً فإنها تظل أقلَّ بكثير من أفق الحرية اللامتناهي. هناك
إذاً نوعٌ من الديالكتيك القائم بين الرغبة المنغمسة في عمل الخير، والتي تظل مهما
كبرت متناهيةً، وبين الفضيلة الأم للحرية وهي النبل أو الكرم التي لا حدود لها.
وهذا الموقف يتناقض بطبيعة الحال مع موقف الرواقيين الذين اعتبروا كل الانفعالات
كمرضٍ يجب العمل الدؤوب على استئصاله للوصول إلى حالة الدعة والطمأنينة التي تميّز
الحكيم. وكذلك فإن هذا الموقف يتعارض، ولو ظاهرياً، مع موقف أرسطو في تحديد
الفضيلة بأنهااعتدال بين إفراطين، فالشجاعة مثلاً هي موقف وسط بين التهور والجبن.
وهذا التحديد للفضيلة كان عزيزاً جداً لدى الأكويني الذي قال "في الوسط تقف
الفضيلة".
بقي أن نشير إلى أنّ أرسطو في الكتاب
العاشر والأخير من كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخوس" يتخلى عن كل اعتدال
حين يتحدث عن الفضيلة الأعظم للإنسان وهي التأمل النظري "ثيوريا" الذي
يولّد الحكمة، "صوفيا"، إذ يقول بأن الإنسان، على هذا المستوى، لا يقلّد
أعمال البشر بل يحاكي سلوك الآلهة، هذا مع العلم بأن التأمل هنا لا ينتمي إلى عالم
الرغبات والأهواء، وبالتالي فهو بعيد عن ميدان الانفعالات لأن فعل محض.
المقالة 145
في الرغبة التي لا تتوقف إلا
على الأسباب الأخرى، وفي ما هو الحظ.
في ما خص الأشياء التي لا
تتوقف البتّة علينا، مهما كانت جيدة وصالحة يجب ألا نرغبَها بهوَس، وذلك ليس فقط
لأنها يمكن ألا تحصل أبداً، وبالتالي تحزننا بقدر ما كنا قد تمنيناها، وإنما بشكلٍ
أساسي بسبب أنها حين تشغل فكرنا فإنها تلهينا عن التوجه بعاطفتنا إلى أشياءَ أخرى
يتوقف اكتسابُها علينا. وهناك علاجان عامان لمثل هذه الرغبات التي لا طائل تحتها:
أولهما النبل الذي سأتكلم عنه فيما بعد، أما الثاني فإنه يجب علينا أن نفكر غالباً
في العناية الإلهية وأن نتصور بأنه من المستحيل لأي شيء أن يحصل بغير الطريقة التي
عينَتْه بها منذ الأزل هذه العناية الإلهية. حتى أنه أصبح كنوع من القدَر أو من
الضرورة التي لا تتغير والتي علينا أن نعارضها مع الحظ لنهدمه كوهم لا يتأتّى إلا
من خطإٍ تقع فيه ملَكةُ الفهم عندنا. وذلك لأننا لا نستطيع أن نرغب إلا في ما
نعتبره بطريقةٍ أو بأخرى ممكناً، ونحن لا يمكننا أن نعتبر ممكنةً الأشياءَ التي لا
تتوقف البتّةَ علينا، إلا بقدر ما نظن أن حصولها يتوقف على الحظ، أي إننا نحكم
بأنها يمكن أن تقع وأنه في الماضي قد وقع مثلُها. والأمر أنّ مثل هذا الرأي لا
يستند إلا إلى أننا لا نعرف كل الأسباب التي تساهم في كل معلول، ذلك أنه حين لا
يقع شيءٌ كنا قد اعتبرنا أنه يتوقف على الحظ، فهذا يشهد بأن أحد الأسباب التي كانت
ضرورية لحصوله قد غاب، وبالتالي فإن هذا الشيء كان مستحيلاً بالإطلاق، ولم يحدث أن
وقع شيء مثيله أي أنْ وقع شيءٌ كان قد غاب عن إحداثه سببٌ كهذا، ولذا فإننا لو لم
نكن قد جهلنا هذه الحقيقة في السابق لما اعتبرنا أنه كان ممكناً، ولما كنا بالتالي
قد رغبنا فيه.
تعليق:
الفكرة الأساسية في هذا النص
لديكارت هي دعوتنا بعدم المبالغة في رغبةِ أشياءَ لا يتوقف حصولُها علينا. أولاً
لأن هذا لن يغيّر في مسار الأمور شيئاً، وثانياً لأنه يصرف نظرنا وجهدنا وتوجيه
إرادتنا نحو أشياء يمكن لنا أن نكون مؤثرين في حصولها.
هذه الأمور غير الخاضعة
لإرادتنا، لا يمكن ولا يجب علينا أن نراهن على حصولها اعتماداً على الصدفة أو
"الحظ". فهي خاضعةٌ لقانون الحتمية الأزلي في الطبيعة، ولا بأس أن يدعوه
ديكارت بـ "العناية الإلهية".
أما ما نسميه بالحظ، فما هو
إلا نوعٌ من الفهم الخاطئ. حين تتشابه الأسباب وتؤدي إلى نتائج مختلفة، فذلك لا
علاقة له بالحظ. إنه ببساطة قصور في الفهم جعلنا نظن أن الأسباب المختلفة هي
أسبابٌ متشابهة.
ديكارت هنا يتحدث كعالم
فيزياء (بمقاييس علم الفيزياء في عصره والذي كان ديكارت نفسه أحد علمائه، أقصد عصر
الحتمية الطبيعية والتي ستخضع للتشكيك في الفيزياء المعاصرة)، أما تسميته تلك
الحتمية بالعناية الإلهية فلا يبدّل في الجوهر شيئاً، طالما أن العناية الإلهية هي
نفسها قوانين الطبيعة، أو فلنقل انسجاماً مع ما ذهب إليه النص الديكارتي بأن
قوانين الطبيعة الحتمية هذه هي صنعةٌ أو صناعة إلهية، بعيداً عن الفهم
"الغزالوي" (نسبةً إلى الغزالي) لهذه العناية، والتي تجعلها تتدخل في كل
لحظة للمحافظة على إطراد قوانين الطبيعة أو خرقها.
الملاحظة الثانية، هي أن
ديكارت الذي يتبنى الحتمية المطلقة لظواهر الطبيعة، ينسب إلى الإرادة البشرية
الحرية المطلقة التي تتشابه مع الصفات الإلهية في لاتناهيها.
فكرة حرية الإرادة هي فكرة
ميتافيزيقية بامتياز، ولا يمكن البرهان عليها تجريبياً، وكانت دوماً موضعاً لوجهات
نظر متباينة عند الفلاسفة وعند علماء الكلام والفقهاء.
ما يهمنا هنا هو الاختلافات
عند الفلاسفة، لقد أدت الأبحاث على اللاوعي والدوافع اللاواعية وبخاصة مع فرويد
(وقبله شوبنهاور وفلاسفة آخرون) إلى تنحية هذه الحرية واعتبارها وهما وغروراً يصيب
الوعي حين يقرر بإرادته، بينما يكون هذا القرار في الواقع قد تم تصنيعه في كواليس
اللاوعي الخلفية التي تغيب عن المجال البصري لرقابة الوعي المخدوع.
لكن الأهم من كل هذا هو
الموقف الذي اتخذه أهم فلاسفة العقلانية من موضوع حرية الإرادة، وهو الفيلسوف
الهولندي اسبينوزا الذي جاء بعد ديكارت بحوالي النصف قرن، والذي لن يستثني الإرادة
الإنسانية من حتميته الطاغية، مشبّهاً وهم الإرادة الحرة بوهم الحجر المقذوف به في
الهواء، الذي إذا قيّض له أن يمتلك وعياً، لظن بأنه قد اختار مساره بملء إرادته
"الحرة".
بين
الفلسفة والمنطق (مسوّدات)
لطالما تساءلت إن كان الفلاسفة يخضِعون قضاياهم إلى قواعد المنطق ويقيسونها عليها قبل النطق بها؟
وهل هم يختلفون في ذلك عن الآخرين؟
هل كنا بحاجة إلى علم المنطق الذي وضعه أرسطو لنستطيع التمييز بين الاستنتاج الصحيح من الخاطئ؟
قرأت عبارةً لديكارت يقول فيها:
"..
إن الرغبة تكون دوماً جيدة
وصالحة حين تتبع معرفةً حقيقية، وبالتالي فإنه لا يمكنها إلا أن تكون سيّئة حين
تكون مؤسسة على خطإٍ ما."
. Or, comme j’ai tantôt dit qu’il [= le désir] est toujours bon lorsqu’il suit une vraie connaissance, ainsi il ne peut manquer d’être mauvais lorsqu’il est fondé sur quelque erreur
تساءلت هل هذا الاستنتاج يلتزم فعلاً القواعد التي وضعها أرسطو؟
لن أناقش القضية الأولى: إن الرغبة تكون دوماً جيدة وصالحة حين تتبع معرفةً حقيقية. لأن مناقشة هذه القضية تستلزم العودة إلى توضيح سابق لديكارت ودفاعٍ عنها.
لكن لو سلّمنا بصحتها، فهل تنتج عنها القضية الثانية؟
القضية الأولى تعني: المعرفة الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ جيدة.
القضية الثانية تعني: المعرفة الخاطئة تؤدي حتماً إلى رغبةٍ سيّئة. أو: المعرفة غير الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ غير جيدة أو إلى رغبةٍ سيّئة.
هل صحة القضية الأولى تؤدي منطقياً إلى صحة القضية الثانية؟
أين نجد الإجابة عن هذا السؤال في منطق أرسطو؟
لا أعرف بالضبط.
ربما وجب البحث عن ذلك في مربع أرسطو المنطقي.
لكن هذا الشكل لا ينتمي إلى أيٍ من الأشكال المعروضة في المربع المذكور.
ليكون هذا الاستنتاج صحيحاً من الناحية الصورية، يجب أن نضيف على القضية الأولى: المعرفة الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ جيدة، قضيةً مضمرَةً أخرى هي: لا تنتج الرغبة الجيدة إلا عن معرفة حقيقية.
وهي قضية تساوي ما استنتجه ديكارت. لكن هذه القضية بحاجة إلى برهان مستقل ولا تنتج عن المقدمة أو القضية الأولى.
وللتوضيح يمكن عرض بعض الأمثلة لتوضيح أن الشكل الأول لا يؤدي منطقياً إلى الشكل الثاني.
لو قلنا بأن كل لبناني عربي، فهذا لا يعني بأن كل غير لبناني غير عربي.
هذا الشكل لا يسمح بالاستنتاج. بمعنى أن الاستنتاج منه قد يكون صحيحاً وقد لا يكون.
مثال على إمكان صحة النتيجة: لو قلنا بأن كل فرنسي يحمل الجنسية الفرنسية، لصح القول بأن غير الفرنسي لا يحمل الجنسية الفرنسية.
أو لو قلنا: كل إنسان يملك ملَكة اللغة، لصح القول بأن غير الإنسان لا يملك ملَكة اللغة.
لكن هذا لا يعني بأن هذا الشكل هو قاعدة منطقية تسمح بالاستنتاج.
قد نقول بأنه : بالحرارة تتبخر الماء، لكن لا يصح القول بأنه بغير الحرارة لا تتبخر الماء.. ويمكن سوق الكثير من الأمثلة.
السؤال باختصار: هل يراعي الفلاسفة دائماً قواعد المنطق في استنتاجاتهم؟
وهل من يقرأ ويحاجج الفلاسفة ينتبه إلى استخدام قواعد المنطق في المحاججة؟
أم إن كتاب المنطق لأرسطو كتِب ليوضع على الرف بعد أن نتعلمه دون محاولة الاستفادة منه في الاستنتاج وفي المحاججة؟
. Or, comme j’ai tantôt dit qu’il [= le désir] est toujours bon lorsqu’il suit une vraie connaissance, ainsi il ne peut manquer d’être mauvais lorsqu’il est fondé sur quelque erreur
تساءلت هل هذا الاستنتاج يلتزم فعلاً القواعد التي وضعها أرسطو؟
لن أناقش القضية الأولى: إن الرغبة تكون دوماً جيدة وصالحة حين تتبع معرفةً حقيقية. لأن مناقشة هذه القضية تستلزم العودة إلى توضيح سابق لديكارت ودفاعٍ عنها.
لكن لو سلّمنا بصحتها، فهل تنتج عنها القضية الثانية؟
القضية الأولى تعني: المعرفة الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ جيدة.
القضية الثانية تعني: المعرفة الخاطئة تؤدي حتماً إلى رغبةٍ سيّئة. أو: المعرفة غير الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ غير جيدة أو إلى رغبةٍ سيّئة.
هل صحة القضية الأولى تؤدي منطقياً إلى صحة القضية الثانية؟
أين نجد الإجابة عن هذا السؤال في منطق أرسطو؟
لا أعرف بالضبط.
ربما وجب البحث عن ذلك في مربع أرسطو المنطقي.
لكن هذا الشكل لا ينتمي إلى أيٍ من الأشكال المعروضة في المربع المذكور.
ليكون هذا الاستنتاج صحيحاً من الناحية الصورية، يجب أن نضيف على القضية الأولى: المعرفة الحقيقية تؤدي حتماً إلى رغبةٍ جيدة، قضيةً مضمرَةً أخرى هي: لا تنتج الرغبة الجيدة إلا عن معرفة حقيقية.
وهي قضية تساوي ما استنتجه ديكارت. لكن هذه القضية بحاجة إلى برهان مستقل ولا تنتج عن المقدمة أو القضية الأولى.
وللتوضيح يمكن عرض بعض الأمثلة لتوضيح أن الشكل الأول لا يؤدي منطقياً إلى الشكل الثاني.
لو قلنا بأن كل لبناني عربي، فهذا لا يعني بأن كل غير لبناني غير عربي.
هذا الشكل لا يسمح بالاستنتاج. بمعنى أن الاستنتاج منه قد يكون صحيحاً وقد لا يكون.
مثال على إمكان صحة النتيجة: لو قلنا بأن كل فرنسي يحمل الجنسية الفرنسية، لصح القول بأن غير الفرنسي لا يحمل الجنسية الفرنسية.
أو لو قلنا: كل إنسان يملك ملَكة اللغة، لصح القول بأن غير الإنسان لا يملك ملَكة اللغة.
لكن هذا لا يعني بأن هذا الشكل هو قاعدة منطقية تسمح بالاستنتاج.
قد نقول بأنه : بالحرارة تتبخر الماء، لكن لا يصح القول بأنه بغير الحرارة لا تتبخر الماء.. ويمكن سوق الكثير من الأمثلة.
السؤال باختصار: هل يراعي الفلاسفة دائماً قواعد المنطق في استنتاجاتهم؟
وهل من يقرأ ويحاجج الفلاسفة ينتبه إلى استخدام قواعد المنطق في المحاججة؟
أم إن كتاب المنطق لأرسطو كتِب ليوضع على الرف بعد أن نتعلمه دون محاولة الاستفادة منه في الاستنتاج وفي المحاججة؟
22 حزيران 2019
قصتي مع الفلسفة.
بدأت قصتي مع الفلسفة حين
كنت في الثلاثين من عمري.
كان ذلك عام 1989.
وما فكرت يوماً بدراسة الفلسفة.
كان لديّ عشقٌ لمادتيّ الفيزياء والرياضيات. وصادفت في حياتي الدراسية تألقاً حتى ما قبل إنهاء المرحلة الثانوية، تلتها مرحلة من الإحباطات.
في عام 1982 كنت ما زلت حياً.
تركت مقاعد الدراسة الثانوية في العام 1979، ثم عدت إليها، بتعثّر، عام 1984 لأحصل على الشهادة الثانوية.
سافرت إلى فرنسا لمتابعة دراستي الجامعية، وصادفت فيها سنواتٍ من التعثّر، وما أطال بقائي في فرنسا لسنوات صديقٌ، هو الآن أستاذٌ جامعيّ، كنا ندرسُ معاً. وحين قررت العودة إلى لبنان، رفض صديقي خلدون ذلك بقوّة.
هو كان يتدبّر أمور دراسته، من خلال منحةٍ دراسية كان يحصل عليها شقيقه في كندا، فكان يحصل على نصف تلك المنحة.
ولما قررت العودة إلى لبنان، جُنّ جنونه وقال: إما أن نبقى معاً، أو أن نرجع معاً.
وبقينا.
تقاسمنا دريهماتِه معاً لعام كامل.
لن أطيل الحديث عن ذلك. باختصار، هربت من ذلك الصديق. غادرت إلى لبنان، بعد أن أمضيت أشهراً عند صديق قديمٍ لي في باريس.
لقد بعثت إليه برسالة من المطار لحظة مغادرتي، لأنه لم يكن يقبل فكرة أن يعود أحدُنا بينما يبقى الآخر.
.. اعتدْتُ منذ سني مراهقتي على المطالعة وجمع الكتب.
في المرحلة المتوسطة قرأت مجموعة جبران. ولما طلب منا أستاذ اللغة العربية أن نكتب موضوعاً بشكل اختياري، ثم نقرأه في الصف على مسمع الآخرين، قرأت موضوعاً متخيَّلاً عن شابٍ وفتاة، أحبا بعضهما، ولما لم يوافق الأهل على ذلك الحب، ألقيا بنفسيهما في النهر.
لاقى الموضوع استحسان الجميع، وعلّق الأستاذ على الموضوع بالقول: أنت تقرأ جبران..؟
قلت نعم.
وما زلت إلى اليوم أمقت جبران و"أجنحته المتكسّرة" وأغلبَ ما كتَب ولا أنصح أحداً بقراءته.
إنه صاحب الحلول "الخنفشارية".
كان ذلك عام 1989.
وما فكرت يوماً بدراسة الفلسفة.
كان لديّ عشقٌ لمادتيّ الفيزياء والرياضيات. وصادفت في حياتي الدراسية تألقاً حتى ما قبل إنهاء المرحلة الثانوية، تلتها مرحلة من الإحباطات.
في عام 1982 كنت ما زلت حياً.
تركت مقاعد الدراسة الثانوية في العام 1979، ثم عدت إليها، بتعثّر، عام 1984 لأحصل على الشهادة الثانوية.
سافرت إلى فرنسا لمتابعة دراستي الجامعية، وصادفت فيها سنواتٍ من التعثّر، وما أطال بقائي في فرنسا لسنوات صديقٌ، هو الآن أستاذٌ جامعيّ، كنا ندرسُ معاً. وحين قررت العودة إلى لبنان، رفض صديقي خلدون ذلك بقوّة.
هو كان يتدبّر أمور دراسته، من خلال منحةٍ دراسية كان يحصل عليها شقيقه في كندا، فكان يحصل على نصف تلك المنحة.
ولما قررت العودة إلى لبنان، جُنّ جنونه وقال: إما أن نبقى معاً، أو أن نرجع معاً.
وبقينا.
تقاسمنا دريهماتِه معاً لعام كامل.
لن أطيل الحديث عن ذلك. باختصار، هربت من ذلك الصديق. غادرت إلى لبنان، بعد أن أمضيت أشهراً عند صديق قديمٍ لي في باريس.
لقد بعثت إليه برسالة من المطار لحظة مغادرتي، لأنه لم يكن يقبل فكرة أن يعود أحدُنا بينما يبقى الآخر.
.. اعتدْتُ منذ سني مراهقتي على المطالعة وجمع الكتب.
في المرحلة المتوسطة قرأت مجموعة جبران. ولما طلب منا أستاذ اللغة العربية أن نكتب موضوعاً بشكل اختياري، ثم نقرأه في الصف على مسمع الآخرين، قرأت موضوعاً متخيَّلاً عن شابٍ وفتاة، أحبا بعضهما، ولما لم يوافق الأهل على ذلك الحب، ألقيا بنفسيهما في النهر.
لاقى الموضوع استحسان الجميع، وعلّق الأستاذ على الموضوع بالقول: أنت تقرأ جبران..؟
قلت نعم.
وما زلت إلى اليوم أمقت جبران و"أجنحته المتكسّرة" وأغلبَ ما كتَب ولا أنصح أحداً بقراءته.
إنه صاحب الحلول "الخنفشارية".
كنت أقرأ كتباً لا أفهمها،
وأجمع كتباً لا أعرف عنها شيئاً.
ما زلت أذكر أني قرأت كتاباً عن علم النفس الاجتماعي، في وقت لم أكن قد سمعت بعلم الاجتماع أو بعلم النفس.
وأذكر أيضاً أني قرأت "هكذا تلكلم زرادشت" لـ نيتشه.
ربما هو نوعٌ من الادعاء بالتميّز. في كل الأحوال هو نوعٌ من الادعاء الفارغ.
عام 1989، تناولت من "مكتبتي" كتاباً من "سلسلة عالم المعرفة" الكويتية، التي كنت أحرص على جمع أعدادها، كتاباً اسمه "حكمة الغرب".
لم أكن أعرف ماذا تعني "حكمة" ولا ما هو موضوع الكتاب.
وجدتُني أكتشف متعةً غريبةً في ذلك الكتاب، إنه كتابٌ في تاريخ الفلسفة للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل.
بعد قراءة الكتاب، قصدت مباشرة الجامعة اللبنانية في زحلة وتسجلت في قسم الفلسفة.
بدأت أصبحُ شخصاً آخر. وإن كانت بدايات التحول قد حدثت خلال وجودي في فرنسا، وكان لحواراتي مع صديقي خلدون تأثيرٌ كبيرٌ في ذلك.
لم نكن ننتمي إلى نفس الخلفية الفكرية.
هو كان شيوعياً، وأنا لم أكن كذلك. كنت أقرب إلى "المحافَظة".
لكن تلك الحوارات كانت البذرة التي أبعدت كلينا عن مسلّمات كانت تبدو لنا من اليقينيات.
لا عاد هو هوَ، ولا أنا بقيتُ أنا.
حصلت على إجازة جامعية في الجامعة اللبنانية في صيدا.
وما زلت أشعر أني ما زلت على ضفاف الفلسفة.
ما غيَّرَتْهُ الفلسفةُ فيَّ ليس المعلومات التي أضافتها، بل في طريقة مقاربتي للأمور.
أصبحت حين أدخل في نقاش مع الغير، أشعر بالمتاريس الدوغمائية التي يتمترسون خلفها.
الوحيد الذي كان يجلعني أشعر بتخلفي في التفكير، وبدوغمائيتي، هو أستاذي جورج زيناتي، أستاذ الفلسفة المعاصرة في الجامعة.
والآن؟
هل ما زلت أعتبر أن الأفضل لي كان دراستي للفيزياء؟
لا.
كان من حسن المصادفات أني تعرفت إلى سفينة الفلسفة.
نعم، هي سفينة للإبحار، ليس إلا.
ما يزعجني هو تعليمُ مادةِ الفلسفة، وليس تعلّمُها.
أودُّ لو يمكنني أن أعلِّم الرياضيات، وأقرأ الفلسفة والتاريخ.
معاناة أن تعلّم مادة تجهد نفسك لإقناع الآخرين بجدواها.
قد يصلون إلى هذه القناعة بعد سنوات..
ما زلت أذكر أني قرأت كتاباً عن علم النفس الاجتماعي، في وقت لم أكن قد سمعت بعلم الاجتماع أو بعلم النفس.
وأذكر أيضاً أني قرأت "هكذا تلكلم زرادشت" لـ نيتشه.
ربما هو نوعٌ من الادعاء بالتميّز. في كل الأحوال هو نوعٌ من الادعاء الفارغ.
عام 1989، تناولت من "مكتبتي" كتاباً من "سلسلة عالم المعرفة" الكويتية، التي كنت أحرص على جمع أعدادها، كتاباً اسمه "حكمة الغرب".
لم أكن أعرف ماذا تعني "حكمة" ولا ما هو موضوع الكتاب.
وجدتُني أكتشف متعةً غريبةً في ذلك الكتاب، إنه كتابٌ في تاريخ الفلسفة للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل.
بعد قراءة الكتاب، قصدت مباشرة الجامعة اللبنانية في زحلة وتسجلت في قسم الفلسفة.
بدأت أصبحُ شخصاً آخر. وإن كانت بدايات التحول قد حدثت خلال وجودي في فرنسا، وكان لحواراتي مع صديقي خلدون تأثيرٌ كبيرٌ في ذلك.
لم نكن ننتمي إلى نفس الخلفية الفكرية.
هو كان شيوعياً، وأنا لم أكن كذلك. كنت أقرب إلى "المحافَظة".
لكن تلك الحوارات كانت البذرة التي أبعدت كلينا عن مسلّمات كانت تبدو لنا من اليقينيات.
لا عاد هو هوَ، ولا أنا بقيتُ أنا.
حصلت على إجازة جامعية في الجامعة اللبنانية في صيدا.
وما زلت أشعر أني ما زلت على ضفاف الفلسفة.
ما غيَّرَتْهُ الفلسفةُ فيَّ ليس المعلومات التي أضافتها، بل في طريقة مقاربتي للأمور.
أصبحت حين أدخل في نقاش مع الغير، أشعر بالمتاريس الدوغمائية التي يتمترسون خلفها.
الوحيد الذي كان يجلعني أشعر بتخلفي في التفكير، وبدوغمائيتي، هو أستاذي جورج زيناتي، أستاذ الفلسفة المعاصرة في الجامعة.
والآن؟
هل ما زلت أعتبر أن الأفضل لي كان دراستي للفيزياء؟
لا.
كان من حسن المصادفات أني تعرفت إلى سفينة الفلسفة.
نعم، هي سفينة للإبحار، ليس إلا.
ما يزعجني هو تعليمُ مادةِ الفلسفة، وليس تعلّمُها.
أودُّ لو يمكنني أن أعلِّم الرياضيات، وأقرأ الفلسفة والتاريخ.
معاناة أن تعلّم مادة تجهد نفسك لإقناع الآخرين بجدواها.
قد يصلون إلى هذه القناعة بعد سنوات..
لكننا الآن..
محمد الحجيري 21/6/2016
***
المقالة 146
في الرغبات التي تتوقف علينا وعلى الغير
يجب إذاً الرفض الكلي للرأي الشعبي الشائع والقائل بأن هناك
خارجَنا حظاً هو الذي يجعل الأشياء تحصل أو لا تحصل، حسب ما يلذّ له. وكذلك يجب أن
نعرف بأن كل شيء تسيّره العناية الإلهية، وقرارها الأزلي هو في غاية العصمة
والثبات حتى أنه باستثناء الأشياء التي أراد هذا القرار نفسُه أن تتوقف على حرية
اختيارنا علينا أن نفكر بأنه لا شيء يحصل بالنسبة لنا دون أن يكون ضرورياً وكقدَرٍ
لا مفرّ منه، حتى أننا لا يمكننا، دون الوقوع في الخطأ، أن نرغب في أن يقع بطريقةٍ
أخرى.
(*) هامش:
يميّز ديكارت بين التأثّرات émotions التي تأتي من النفس مباشرةً دون صلةٍ بالجسد وبين الانفعالات passions التي ترتبط دوماً بتغيرات
فيزيولوجية جسدية تحرك هذه الآلة التي هي جسدُنا. (زيناتي)
حين نقرأ مغامراتٍ غريبةً في كتاب، أو
نشاهدها ممثَّةً أمامنا على خشبة مسرح، فإن هذا يثير فينا أحياناً الحزن وأحياناً
الفرح أو الحب أو الكره، وبشكلٍ عام كل الانفعالات حسب تنوع الأغراض والمواضيع
التي تُعرَض أمام خيالِنا، ولكن مع هذا فإننا نتلذّذ بأن نشعر بها وقد أثيرت في
نفوسنا، وهذه اللذة هي فرحٌ عقلاني يمكن أن تتولّد كذلك من الحزن أو من أيٍّ من
الانفعالات الأخرى. (المقالة 147)
والحال أنه لمّا كانت هذه التأثرات
الداخلية تصيبنا في الصميم وتؤثر فينا عن كثب، وبالتالي فإنّ لها علينا سلطةً أقوى
من سلطة الانفعالات التي تختلف عنها وتصادفها معها، فقد كان من المؤكد حين
يكون لدى نفسِنا دوماً ما يكفيها ويرضيها في أعمق أعماقها بأن جميع الاضطرابات
التي تأتيها من الخارج لا تملك أية قدرة على الضرر بها، بل إن هذه الاضطرابات تنفع
في زيادة فرحها، فذلك أنها حين ترى أن هذه الاضطرابات لا تستطيع أن تسيء إليها فإن
هذا الأمر يجعلها تعرف مدى كمالِها. ومن أجل أن تمتلك نفسُنا ما يرضيها ويكفيها
فهي لا تحتاج إلا إلى اتباع الفضيلة بالضبط. ذلك أن من عاش دون أي توبيخٍ على
الإطلاق من ضميره بأنه قد تخلف مرةً عن عمل
كل الأشياء التي أعتقد بأنها الأفضل (وهذا ما أسميه هنا اتباع الفضيلة)
فإنه يتلقى بالمقابل رضا على درجةٍ من القوّة تجعله سعيداً وتجعل أعنف جهود
الانفعالات لا تملك ما يكفي من مقدرةٍ لإزعاج هدوء نفسه.
[مثل شخص يتعرّض لألم جسدي من أجل إنقاذ
عزيزٍ عليه].
المقالة 152
لأيّ سبب يمكن أن يحترم
المرء نفسه
ولمّا كان أحد الأقسام
الرئيسية للحكمة معرفة بأية طريقة ولأي سبب على كل واحد أن يحترم نفسه أو يحتقر
ذاته، فإني سأحاول هنا أن أقول رأيي. إني لا ألاحظ فينا سوى شيءٍ واحد يستطيع أن
يعطينا الحق الصحيح في أن نحترم أنفسنا وذلك هو استعمال حريتنا في الاختيار والسيادة
التي لنا على إرادتنا. ذلك أن الأعمال التي تتوقف على حرّية الاختيار هذه تستحقّ
وحدَها أن تكون عن حقٍّ موضع تقريظنا أو ملامتنا. وحرّية الاختيار تجعلنا بطريقة
معيّية شبيهين بالله حين تجعلنا أسياد أنفسنا، شرط ألاّ نفقد أبداً، تحت تأثير
الجبن، الحقوق التي تعطينا إياها. (*)
(*) هامش:
كانت ملكة السويد كريستين قد طلبت إلى
ديكارت أن يخبرها برأيه في الخير الأعظم، وقد أجابها برسالة كتبها لها في العشرين
من تشرين الثاني سنة 1647م بأن "حرّية الاختيار هي في ذاتها الشيء الأنبل
الذي يمكن أن يكون فينا خصوصاً، وأنها بطريقة معيّنة تجعلنا شبيهين بالله،
وبالتالي فإن استعمالها الجيد هو أعظم كل خيراتنا".
وهو في هذهالمقالة يكرر ما كتبه إلى
الملِكة ويؤكد من جديد بأن الحرية وحدَها هي التي تُدخِل بُعدَ اللامتناهي الحقيقي
إلى تناهي الجسد البشري، وبالتالي لا يمكن أن يكون فوقها أيّ خيرٍ يتجاوزُها.
(زيناتي)
المقالة 153
بما يقوم النبل
وهكذا فإني أعتقد بأن النبل الحقيقي الذي
يجعل الإنسان يحترم نفسه إلى أعلى درجةٍ يمكنه بحق [بجدارة] أن يحترم ذاته بها،
يقوم في جزء منه فقط في أنّ هذا الإنسان يعرف بأن ليس هناك من شيءٍ ينتمي له بحق
ويخصه مثل التصرف الحرّ في إرادته، وأنه لا يمكن أن يقرَّظ أو يُلام إلا لحسن
استعماله أو لسوء استعماله لهذه الحرية الموضوعة تحت تصرّفه. والجزء الآخر للنبل
يقوم على أنّ الإنسان يشعر في نفسه بتصميم حاسم وثابت في أن يستعمل هذه الحرية
استعمالاً جيداً، أي في ألا تنقصه الإرادة أبداً كي يبادر إلى عمل كل الأشياء التي
يحكم أنها الأفضل وينفّها، وهذا هو اتباع الفضيلة بالتمام.
المقالة 154
في أن النبل يمنعنا من أن نحتقر الآخرين
إن الذين يملكون مثل هذه المعرفة عن أنفسهم
ومثل هذا الشعور يقتنعون بسهولة بأن كلَّ واحدٍ من بقية البشر يستطيع أيضاً أن
يمتلك مثل هذه المعرفة وهذا الشعور ذاته، لأن ليس في هذا الأمر أيّ شيء يعتمد على
الغير. لهذا فإنهم لا يحتقرون أبداً أيَّ شخص. (*)
(*) هامش:
إن ديكارت هنا ينظّر لمفهوم "الكرامة
الإنساينة"، وذلك قبل الألماني كانط بأكثر من قرن، وهذا المفهوم سيأخذ أهمية
سياسية كبرى في عصرنا.
المقالة 155
بما يقوم التواضع الفاضل
وهكذا فإن أنبل الناس اعتادوا أن يكونوا
أكثرهم تواضعاً، ولا يقوم التواضع الفاضل إلا على أن التفكير الذي نقوم به حول ضعف
طبيعتنا، وحول الأخطاء التي قد نكون ارتكبناها في الماضي، أو أننا قادرون على
اقترافها والتي لا تقل عن الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها الآخرون، هو السبب في أننا
لا نفضّل أنفسنا على أيّ أحد من الناس، وأننا نعتقد بأن الآخرين الذين يملكون
مثلنا تماماً حرية الاختيار يستطيعون هم أيضاً أن يستعملوا هذه الحرية استعمالاً
حسناً.
المقالة 157
في التعجرف
إن كل الذين يكوّنون رأياً حسناً عن أنفسهم
لأيّ سببٍ آخر [غير الإرادة الحرة والتصميم على استعمالها استعمالاً جيداً] مهما
كان هذا السبب لا يملكون النبل الحقيقي، ولكنهم يملكون فقط عجرفاً هو دوماً في
غاية السوء، وهو كذلك خصزصاً وأن السبب الذي من أجله يحترم الإنسان نفسه في هذه الحال
هو سببٌ خاطئ، وأكثر الأسباب خطأً يحصل حين يكون المرء متعجرفاً متكبراً دون أي
موضوع أو مبرّر، أي دون أن يعتقد بأنه يملك في ذاته استحقاقاً معيّناً يجب أن
يقيَّم ويُحترَم من أجله، ولما كان لا يقيم أيَّ وزنٍ للاستحقاق ويظن أنّ المجد
ليس سوى تعدٍّ واغتصاب، [يتم الاعتقاد] بأن أولئك الذين ينسبون إلى أنفسهم الكثير
من المجد يملكون بالفعل الكثيرَ منه. إن مثل هذا العيب منافٍ تماماً للعقل ومحال،
حتى أني أكاد لا أصدّق أنّ من الممكن أن يكون هناك
أناسٌ استسلموا له لو لم يمتدَح أيُّ إنسان دون وجه حق. غير أن التملّق قد أصبح
شائعاً في كل مكان حتى أنه لم يعد هناك من إنسان مهما كان قليلَ الشأن غير كامل
إلا ويرى نفسه يُحترَم من أجل أشياءَ لا تستحق أيَّ ثناء، بل حتى من أجل أشياءَ
تستحق الملامة والتأنيب، وهذا ما يعطي الفرصة إلى أكثر الناس جهلاً وأشدّهم حماقةً
بأن يقعوا في هذا النوع من التعجرف.
المقالة 158
.. إن هذه الخيرات والحسنات هي في غالبيتها
من طبيعة خاصة حتى أنها لا يمكن أن تتوزّع على العديدين، وهذا ما يجعل المتعجرفين
يحاولون أن يحطوا من شأن كل بقية البشر،
المقالة 159
في التواضع الشائن
بخصوص الحقارة أو التواضع الشائن فإنها
تقوم بشكلٍ رئيسيّ على أن المرء يشعر بأنه ضعيف أو قليل الحزم، ولا يدرك كل منفعة
حرية اختياره [الترجمة الحرفية: وأنه لا يملك التصرف الكامل بحرّية اختياره]، لذا
فإنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من القيام بأشياءً يعلمُ بأنه سيندم عليها في ما بعد.
وتقوم أيضاً على أنّ المرءَ يعتقد بأنه لا يستطيع أن يستمر في الوجود بذاته ولا أن
يستغني عن أشياء عديدةٍ اكتسابُها يتوقف على الغير.
غالباً ما يحصل بأن الذين
يملكون أحقرَ النفوس هم أكثرُ الناس تغطرساً وتعالياً، كما أنّ أكثر الناسِ نبلاً
هم أكثرُ الناس تواضعاً واتضاعاً. ولكن في حين نرى أنّ أولئك الذين لهم نفسٌ قويّة
ونبيلةٌ لا يغيّرون البتّة من مزاجِهم أمام ما يحصل لهم من نجاحات وازدهار أو
معاكساتٍ وفشل، نرى في المقابل أنّ الذين لهم نفسٌ ضعيفة ودنيئةٌ لا يتصرّفون إلا
سعياً وراء الثروة، والنجاح يملأهم زهواً بقدر ما يجعلهم الفشلُ متواضعين. بل إننا
غالباً ما نرى أهم يذلّون أنفسهم بطريقةٍ مخجلةٍ أمام أولئك الذين ينتظرون منهم
مكسباً أو يخشَوْن منهم شراً، وفي الوقت عينه فإنهم يتعالَوْن بلا حياء على أولئك
الذين لا يأملون منهم شيئاً، ولا يخشون منهم أيّ مكروه.
المقالة 160
ما هي حركة الأرواح في هذه الانفعالات [أي
في النبل والحقارة]
في ما عدا ذلك فإنه من السهل أن نعرف بأن
التعجرف والحقارة ليسا من العيوب فحسب بل إنهما من الانفعالات كذلك، بسبب أن
التأثر بهما يبدو واضحاً في الخارج على أولئك الذين ينتفخون أو يخورون فجأةً بفعل
حادثةٍ جديدة. ولكن يمكننا أن نشك في أن يكون النبل والتواضع، وهما فضيلتان، من
الانفعالات كذلك لأن حركاتِهما تظهر أقل، ويبدو أنّ الفضيلة لا تتمشّى مع الانفعال
كما هو الحال مع الرذيلة. غير أني لا أرى البتّة من سببٍ يمنع حركة الأرواح التي
تستخدم في تقوية فكرةٍ تستند إلى أساسٍ سيّئ من أن تقوي هي نفسها الفكرة التي
تستند إلى أساسٍ مصيب. وبما أنّ التعجرف والنبل لا
يقومان إلا على الرأي الجيد الذي يملكه المرء حول نفسه، ولا يختلفان إلا في أنّ
هذا الرأي غيرُ مصيب في الأول ومصيب في الآخر، لذا فإنه يبدو لي أنّ بإمكاننا أن
ننسبهما إلى انفعال واحد تثيره حركة مؤلفة من حركات التعجب والفرح والحب، أكان ذلك
بالنسبة للرأي الذي نكوّنه عن أنفسِنا أو عن الشيء الذي يجعلنا نحترم نفسنا
ونقدّرُها، وعلى العكس من ذلك فإن الحركة التي تثير التواضع الفاضل أو الشائن تتألف من حركات التعجب
والحزن والحب الذي عندنا نحو ذواتنا، وقد امتزج بالكره الذي عندنا نحو عيوبِنا
التي تجعلنا نحتقر نفسَنا. إنّ كل الاختلاف الذي ألاحظه في هذه الحركات هو أنّ حركة التعجب لها خاصتان: الأولى هي أن المفاجأة تجعلها
قويّة منذ بدايتها، والثانية هي أنها متساوية في استمراريتها، أي إنّ الأرواح
تستمر في التحرك بذات الوتيرة في الدماغ. ومن هاتين الخاصتين فإن الأولى
نصادفها أكثر في التعجرف والحقارة مما نصادفها في النبل والتواضع الفاضل، وعلى
العكس من ذلك فإنّ الخاصة الأخيرة تلاحَظ أكثر في النبل والتواضع الفاضل مما
تلاحَظ في التعجرف والحقارة. وسبب ذلك هو أن العيوب تأتي عادةً من الجهل، وأنّ أقل
الناس معرفةً بأنفسهم هم الذين يتعرّضون أكثر لأن يتعجرفوا أو أن يذلّوا أنفسهم
أكثر مما عليهم أن يفعلوا، لأنّ كل ما يحصل لهم منجديد يفاجئهم، وبالتالي فإنهم
ينسبونه إلى أنفسهم فيعجبون لأنفسهم فيحترمون أنفسَهم أو يحتقرون ذواتَهم حسب ما
يحكمون على ما حلّ بهم، إن كان لصالحهم أو عكس ذلك.
ولكن لمّا كان ما يحدث غالباً هو أنه بعد
شيءٍ يجعلهم يتعجرفون يحصل شيءٌ آخر يذلّهم، لذا فإن حركة انفعالاتهم تكون
متغيّرة. وعلى العكس من ذلك ليس في النبل أيُّ شيء لا يتماشى مع التواضع الفاضل،
وليس هناك أيُّ شيءٍ يمكنه أن يغيّر النبل والتواضع، وهذا ما يجعل حركاتِهما
راسخةً وثابتةً ودوماً مشابهةً كثيراً لنفسها. إلا أنا لا تتأتّى كثيراً من
المفاجأة، ذلك أنّ الذين يحترمون أنفسَهم بمثل هذه الطريقة يعرفون بما يكفي ما هي
الأسباب التي تجعلهم يحترمون أنفسَهم، وفي كل حال فإننا نستطيع أن نقول بأنّ هذه
الأسباب مذهلةٌ تماماً (أي المقدرة على استعمال حرّية الاختيار التي تجعلنا نقدّر
أنفسَنا، وعاهات الشخص الذي تكمن فيه هذه المقدرة، هذه العاهات التي تجعله لا يحترم
نفسَه كما ينبغي) حتى أننا كلما تصوّرناها من جديد أعطتنا دوماً تعجباً جديداً.
المقالة 161
كيف يمكن للنبل أن يُكتَسَب
وعلينا أن نلاحظ بأن ما يسمّى عادةً بالفضائل هو عاداتٌ في النفس تُعِدّها [أي
العادات تعدّ النفس] لأفكارٍ معيّنة، [ورغم] أنها [أي العادات] تختلف عن هذه
الأفكار، إلا أنها تستطيع أن تولّدها والعكس صحيح، أي إن الأفكار يمكن أن تولّد
هذه العادات. ويجب أن نلاحظ كذلك بأنّ هذه الأفكار يمكن أن تولّدها النفسُ وحدَها،
غير أن ما يحصل غالباً هو أنّ حركةً معيّنة للأرواح تقوّيها فتكون عندها أفعالاً
للفضيلة، وهي معاً انفعالاتٌ للنفس. وهكذا، ومع أنّه ليس هناك من فضيلةٍ يبدو أن
الأصل الحسن يساهم فيها كما يساهم في الفضيلة التي تجعل المرءَ يرفض أن يحترم نفسه
إلا بمقدار قيمته الحقيقية، ومع أنه كذلك من السهل الاعتقاد بأنّ كل الأنفس التي
يضعها الله في أجسادِنا ليست متساويةً في النبل والقوّة (وهذا هو السبب الذي حدا
بي إلى أن أسمّي هذه الفضيلة كرم الأخلاق حسب استعمال لغتنا الفرنسية (النبل) بدل
أن أدعوها بالشهامة حسب استعمال المدرسة السكولائية حيث هذه الفضيلة ليست معروفةً
كثيراً) فإني أقول بالرغم من ذلك بأنه من المؤكد أن التربية الجيدة تنفع كثيراً في
تصحيح عيوب الأصل الآتية مع الولادة. ومن المؤكد أنّ التربية الجيدة تنفع كثيراً
في تصحيح عيوب الأصل الآتية مع الولادة. ومن المؤكد كذلك أنه لو شغلنا أنفسَنا
كثيراً في النظر إلى حرّية الاختيار وإلى عظمة المكاسب التي تأتينا من قرارِنا
الحازم بأن نستعملها استعمالاً حسناً، وكذلك لو تأملنا من الناحية الثانية عدم
جدوى كل الجهود التي يبذلها الطموحون دون أية منفعة، لاستطعنا عندها أن نثير في
ذاتنا حبّ النبل، وبعد ذلك نكتسب فضيلة النبل التي هي بمثابة مفتاحٍ لكل الفضائل
الأخرى، وعلاج عام لكل اختلالات الانفعالات، ويبدو لي أن مثل هذا الاعتبار يستحق
أن نتنبّه له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق