مدرسة فرانكفورت
كارل بوبر (أسطورة الإطار)
سمعت لأول مرة عن مدرسة فرانكفورت إبّان
الثلاثينيات، ولكن بناءً على بعض القراءات التجريبية قرّرت آنذاك، وأ،ا صادق
الضمير، ألا أطالع إنتاجها.
وكما ذكرتُ في مقالي "العقل أم
الثورة؟"، طولبت في العام 1960 أن أفتتح المناقشة في مؤتمر بمدينة توبنجن،
وأخبروني أن أدورنو سوف يتولّى التعقيب على كلمتي. وقادني هذا إلى محاولةٍ أخرى
لقراءة منشورات مدرسة فرانكفورت وخصوصاً كتب أدورنو.
يمكن تقسيم معظم أعمال أدورنو إلى ثلاث
مجموعات. الأولى هي مقالاته في الموسيقى والآداب، أو الثقافة، وقد وجدتها بعيدةً
عن ذائقتي. [..] وتصادف أن تتسم هذه المقالات بأنها لا علاقة لها بالمسائل
الاجتماعية.
ثم تأتي المجموعة الثانية من الكتب، في
الإبستمولوجيا أو الفلسفة. وهي تبدو تماماً شيئاً من ذلك النوع الذي يطلق عليه
بالإنكليزية "تخاريف وخزعبلات" (أو بالألمانية ألاعيب وهراء).
وطبعاً، كان أدورنو هيغلياً وبالمثل
ماركسياً. وأنا معارضٌ لكلا الاتجاهين: للماركسية، وبوجه أخص للهيغلية.
بالنسبة إلى ماركس، أكنّ احتراماً عظيماً
له كمفكّر وكمناضل من أجل عالمٍ أفضل، على الرغم من أنني أختلف معه في عديدٍ من
النقاط ذات الأهمية الحاسمة. وقد نقدتُ نظرياتِه بإسهابٍ وافر. ليس من السهل
دائماً أن تفهم تفصيلياته، لكنه يبذل دائماً قصارى ما يستطيعه لكي يكون مفهوماً،
وذلك لأنّ لديه ما يقوله، ويريد أن يفهمه الناس.
أما بالنسبة لأدورنو، فإني لا أستطيع
الاتفاق ولا اختلاف مع القطاع الأكبر من فلسفته. وعلى الرغم من بذل غاية الجهد
لفهم فلسفته، تبدو لي بأسرها، أو في معظمها، مجرد حشد ألفاظ. لا شيء لديه البتّة
ليقوله، وهذا اللاشيء يقوله بلغةٍ هيغلية.
ولكن هناك المجموعة الثالثة من كتاباته.
المقالات التي تنتمي إلى هذه المجموعة الثالثة أساساً شكاوى من العصر الذي نعيش
فيه. ولكن بعضها شائق بل ومثير للمشاعر. إنها تعطينا تعبيراً مباشراً عن مخاوفه:
عن قلقه، كما يسميه هو شخصياً، وعن حزنه العميق. كان أدورنو متشائماً. وبعد أن
اعتلى هتلر مقاليد السلطة ـ ويقول إن هذه واقعةٌ فاجأته بوصفه سياسياً ـ أصابه
اليأس من البشر، وتخلّى عن إيمانه بالإنجيل الماركسي للخلاص. إنها نبرة قنوط بالغ
تصدر عن هذه المقالات ـ نبرة مأساوية يائسة. (104)
ولكن على قدر ما نجد تشاؤمية أدورنو
فلسفية، على قدر ما نجد محتواها الفلسفي صفراً. إن أدورنو يعارض الوضوح بقصدٍ
وتعمّد. بل إنه في أحد المواضع يشيد بأن الفيلسوف الألماني ماكس شيلر طالب
بـ"مزيد من الظلام" منوّهاً إلى الكلمات الأخيرة لغوته، الذي طالب بمزيدٍ
من النور.
ويصعب أن نتفهم كيف يطالب ماركسيٌّ مثل
أدورنو بالظلام. كان ماركس، بالقطع، نصيراً للتنوير. أما أدورنو فقد نشر، برفقة
هوركهايمر، كتاباً بعنوان "ديالكتيك التنوير" حيث يحاولان أن يبيّنا أن
صميم فكرة التنوير، بتناقضاتها الداخلية، تفضي إلى الظلام ـ الظلام الذي يدّعون
أننا نعيش فيه الآن. وبطبيعة الحال، هذه فكرة هيغلية. ومع هذا نبقى أمام لغز، وهو
كيف يمكن لمفكر اشتراكي، أو ماركسي، أو ذي نزعةٍ إنسانية، مثل أدورنو أن يرتدّ قافلاً
إلى مثل هذه الرؤى الرومانتيكية، ويرفع شعار "مزيدٍ من الظلام" على شعار
"مزيد من النور". وقد عمل أدورنو بشعاره عن طريق نشر كتابات يتعمّد أن
تكون غامضةً وتحمل طابع النبوءة. ولا يمكن تفسير هذا إلا بتقاليد الفلسفة
الألمانية في القرن التاسع عشر، وبنشأة "فلسفة النبوءة"، كما أسميتها في
كتابي "المجتمع المفتوح" ـ نشأة مدرسة من نسميهم المثاليين الألمان. لقد
نشأ ماركس نفسه في هذه التقاليد، لكن كان له رد فعل قويّ ضدها. وفي كتابه
"رأس المال" أبدى ملحوظةً بشأنها، وبشأن الجدل، ظلت دائماً مثار إعجابي.
قال ماركس في "رأس المال": "لقد أصبح الديالكتيك في صورته التي
تعمي الأبصار البدعةَ الشائعة السائدة في ألمانيا". ولا يزال الديالكتيك
البدعةَ الشائعة السائدة في ألمانيا. ولا يزال "في صورته التي تعمي
الأبصار".
على أنني أود أن أقول بضع كلماتٍ أيضاً عن
هوركهايمر. بالمقارنة مع أدورنو، نجد كتابات هوركهايمر هي الوضوح ذاته. لكن ما
يسمى "نظرية هوركهايمر النقدية" خواء وفراغ ـ إنها خلوٌ من المضمون. وهذا
ما أقرّه بدرجةٍ أو بأخرى ناشر كتابِه "النظرة النقدية"، حين كتب يقول:
"من المستحيل تقريباً أن تصب تصور هوركهايمر في قالب قضايا قابلة
للفهم". وكل ما يبقى هو نزعةٌ تاريخانية ماركسية ملتبسة وتفتقر إلى الأصالة:
لم يقل هوركهايمر شيئاً يمكن الدفاع عنه إلا وقيل من قبل بطريقةٍ أفضل. ويمكن القول
إن آراءه غير ذات أهمية من الناحية الموضوعية، بما فيها تلك الآراء التي أوافقه
عليها.
إذ إنني عثرت في كتابات هوركهايمر على بعض
القضايا التي يمكن أن أتفق معه فيها. بل ويمكن أن أوافقه على صياغته لأهدافه
القصوى. بعد أن رفض هوركهايمر النزعة اليوتوبية، في المجلد الثاني من كتابه
"النظرية النقدية"، يقول: "على الرغم من كل شيء، فإن فكرة
مجتمع المستقبل بوصفه تجمعاً للأحرار.. لهي فكرةٌ ذات مضمون ينبغي أن تناصره خلال
كل تغير (تاريخي)". وأنا بالقطع أوافق على هذه الفكرة، فكرة مجتمع من
الآحرار (وأيضاً على فكرة مناصرته). إنها فكرة ألهمت
بالثورتين الأمريكية والفرنسية. ولسوء الطالع، ليس لدى هوركهايمر أي شيء ذي
قيمة ليقوله بشأن كيفية الاقتراب من هذا المثل الأعلى المنشود.
في واقع الأمر، يرفض هوركهايمر إمكان إعادة
صياغة ما يسمى بـ "النظام الاجتماعي"، يرفض هذا من دون أيّ حجة، وبليّ
عنق الوقائع التاريخية. ويعادل هذا لاقول: دع الجيل الحالي يقاسي ويهلك ـ لأن كل
ما نستطيع أن نفعله هو أن نستعرض قبح العالم الذي نعيش فيه، وأن نصب اللعنات على
الذين يقومون بقمعنا، على "البورجوازية". وتلك هي الخلاصة النهائية لما
يسمى بالنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت.
إن إدانة ماركس ذاته لمجتمعنا لها مغزاها:
لأن نظرية ماركس تستبقي الوعد بمستقبل أفضل. أما إذا تخلينا عن هذا الوعد، كما فعل
أدورنو وهوركهايمر، فتغدو النظرية خاويةً وغير مسؤولة. لهذا السبب وجد أدورنو أن
الحياة لن تكون جديرةً بأن تعاش. ذلك أن الحياة لن تكون بأن تعاش إلا إذا استطعنا
العمل من أجل عالمٍ أفضل الآن، ومن أجل المستقبل القريب جداً.
إنها لجريمةٌ، أن نبالغ في
قبح ووضاعة العالم: العالَم قبيح، لكنه أيضاً جميلٌ جداً، لا إنساني، لكنه أيضاً
إنساني جداً. وتهدده أخطارٌ عظمى. أخطرها الحرب العالمية. إنها تقريباً في خطورة
الانفجار السكاني. لكن هناك الكثير من الخيرات في هذا العالم. إذ إن ثمّة قدراً
كبيراً من الإرادة الخيّرة، الملايين من الناس الذين يعيشون الآن ويمكن عن طيب
خاطر أن يخاطروا بحياتهم إذا اعتقدوا أن ذلك يمكن أن يجعل العالم أفضل. (106)
نستطيع الآن أن نفعل الكثير لتخفيف
المعاناة، والأهم لكي نضاعف من الحرية الإنسانية الفردية. يمكن بسهولة أن يخذلنا
التاريخ، وأيضاً أن تخذلنا الثورة. كان هذا الخذلان من نصيب مدرسة فرانكفورت،
وأسفر عن يأسِ وقنوط أدورنو. لا بدّ أن ننتج أفكاراً نخضعها للاختبار النقدي،
أفكاراً حول ما يمكن وما ينبغي أن نفعله الآن، ولا بد أن نفعله الآن.
ولنجمل كل هذا بتعبير لريمون آرون، إنني
أنظر إلى كتابات مدرسة فرانكفورت باعتبارها من قبيل "أفيون العقول". (107)
(*) هامش للمترجمة: تقول يمنى الخولي بأن
"بوبر الذي يسرف في ضرورة الترحيب بالرأي الآخر وبكل الحلول المطروحة
للمشكلات.. يكاد يفقد أعصابه ويتجاوز الحدود لدرجة اللسان السليط حين يناقش خصومه
في الرأي. وهذه اللهجة الحادة التي رأيناها في حديثه عن مدرسة فرانكفورت تذوى أمام
شراسة هجومه وتجاوزه الحدود أحياناً في حديثه عن فتجنشتين والوضعية المنطقية
وهيغل. (275)
ملاحظة: اللافت أن المترجمة تنتقد بوبر
خلال حديثه عن "فكرة مجتمع المستقبل بوصفه تجمعاً للأحرار.. ألهمت بالثورتين
الأميركية والفرنسية". وتقول بأنه كان يجب أن يذكر الثورة الفرنسية أولاً
لأنها حصلت تاريخياً قبل الثورة الأميركية.
ما تقوله المترجمة غير صحيح. فقد حصلت
الثورة الأميركية قبل الثورة الفرنسية بحوالي عقد من السنين. ثانياً، حتى لو كان
ذلك صحيحاً، فإن الأمر لا يستحق التعليق عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق