أُصُول الفلسفةِ
القاريةِ: من كانط إلى المثالية الألمانية
سايمون كريتشلي
ترجمة: أحمد شكل
مراجعة: مصطفى محمد فؤاد
ترجمة: أحمد شكل
مراجعة: مصطفى محمد فؤاد
كانت فكرة كتابة تاريخ الفلسفة بطريقة منهجية وجدلية وسيلةً شائعة
جدًّا للشروع في اتباع التقليد الفلسفي القاري منذ رائعة هيجل «فنومينولوجيا
الروح»، ذاك الكتاب الذي ظهر في عام ١٨٠٧ وجمع بين كلا النهجين. ويمكن للمرء أيضًا
أن يجد الأسلوب نفسه مُتبعًا في أعمال أخرى أكثر معاصَرةً، مثل: كتاب يورجن
هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (١٩٦٨)، وكتاب فوكو «تاريخ الجنون في العصر
الكلاسيكي» (١٩٦١)، وكتاب دريدا «في علم الكتابة» (١٩٦٧). وهذا الأسلوب أقل شيوعًا
بكثير في التقليد الفلسفي الأنجلو أمريكي.
(١) هوسرل أَم كانط؟
طريقتان لبدء الفلسفة القارية
اسمح لي أن أبدأ بتناوُل طريقتين مختلفتين
لتمييز الفلسفة القارية عن الفلسفة التحليلية. يمكن للمرء أن يتصوَّر كتابًا حول
الفلسفة القارية، يبدأ تاريخ هذا الموضوع في حوالي عام ١٩٠٠ بنشر كتاب هوسرل
«مباحث منطقية»، وهو ما يُطلِق عليه هايدجر العملَ «الثوري»، الذي بدأ التقليد
الذي يُسمَّى الفنومينولوجيا. ويمتلك هذا النهج ميزةَ تذكيرِ القراء بأن التقسيم
المعاصر (أو في الواقع، الفجوة الواسعة) المتمثِّل في الفلسفة التحليلية والقارية،
هو في جوهره تقسيمٌ بين التقاليد المستوحاة من الفلسفة الثورية في المنطق واللغة
لِجوتلوب فريجه — مثل الأعمال المبكرة لِفيتجنشتاين، والوضعية المنطقية لحلقة
فيينا وفلسفة اللغة الأنجلو أمريكية — وبين تلك المستمَدة من المواجهة النقدية مع
فنومينولوجيا هوسرل، مثل الوجودية والتفكيكية. وكان يوجد تواصُل كبير بين فريجه وهوسرل،
وفي عام ١٨٩٤ نشر فريجه مراجعةً نقدية متعمقة لكتاب
هوسرل الأول؛ «فلسفة علم الحساب» (١٨٩١)، أدَّتْ إلى تغيُّر كبير في وجهات نظر
هوسرل حيال العلاقة بين المنطق وعلم النفس؛ بمعنى أن المنطق لا يمكن — كما
كان يعتقد هوسرل في البداية — أن يُرَد إلى علم النفس.
ما هي الفلسفة القارية؟
الفلسفة القارية هي اسم
لفترة تمتد لمائتَيْ سنة في تاريخ الفلسفة، تبدأ بنشر الفلسفة النقدية لِكانط في
ثمانينيات القرن الثامن عشر. وحفَّز ذلك ظهورَ الحركات الفلسفية الرئيسية التالية:
(١) المثالية والرومانسية
الألمانية وما تلاها (فيشته، وَشيلينج، وَهيجل، وَشليجل، وَنوفاليس، وَشلايرماخر،
وَشوبنهاور).
(٢) نقد الميتافيزيقا (أو
ما وراء الطبيعة) و«سادة الشك» (فيورباخ، وَماركس، وَنيتشه، وَفرويد، وَبرجسون).
(٣) الفلسفة الوجودية
والفنومينولوجيا الألمانية (هوسرل، وَماكس شيلر، وَكارل ياسبرس، وَهايدجر).
(٤) الفنومينولوجيا،
والهيجلية، واللاهيجلية الفرنسية (كوجيف، وَسارتر، وَميرلو-بونتي، وَليفيناس،
وَباتاي، وَدي بوفوار).
(٥) التأويلية (ديلتاي،
وَجادامير، وَريكور).
(٦) الماركسية الغربية
ومدرسة فرانكفورت (لوكاتش، وَبنجامين، وَهوركهايمر، وَأدورنو، وَماركوزه،
وَهابرماس).
(٧) البنيوية الفرنسية
(ليفي-شتراوس، وَلاكان، وَألتوسير)، وما بعد البنيوية (فوكو، وَدريدا، وَدولوز)،
وما بعد الحداثة (ليوتار، وَبودريار)، والنسوية (إيريجاري، وَكريستيفا).
بطبيعة الحال، الغريب بشأن هذين التقليدين
المتباينين ظاهريًّا المتمثلين في الفلسفة التحليلية والفنومينولوجيا؛ هو أن
كليهما له أصول مشتركة من وسط أوروبا في أعمال الفيلسوف برنارد بولزانو الذي كان
يعيش في براغ، وَفرانز برنتانو الذي كان أستاذًا جامعيًّا في فيينا وأشار إلى أن
سيجموند فرويد الشاب كان من بين طلَّابه. باختصار، ما
أخذه فريجه وهوسرل من بولزانو هو فكرة أن الأفكار ليست خبرات عقلية ذاتية،
ولكنْ لها محتوًى موضوعي قادر على التحليل، في حين أن ما أخذاه من فرانز
برنتانو هو أطروحة القصدية؛ وهي أن كل فكرةٍ موجَّهةٌ نحو أشياءَ في العالم
وليست حبيسة خزانة في الوعي. غذت هاتان الفكرتان رفض الشكوكية والنسبوية، وما كان
يُسمَّى «النفسانية»؛ وهي وجهة النظر التي تطورت في ألمانيا في أوائل القرن
التاسع عشر، بأن جميع المسائل المنطقية والفلسفية يمكن ردها إلى آليات نفسية. وتَمسَّك هوسرل بتفسير نفسي للمنطق والحساب حتى أقنعه فريجه
بخلاف ذلك. وكان نقد النفسانية إلى جانب الرفض القاطع لأي محاولة لرد الفلسفة إلى
العلم التجريبي، هما الأمرين اللذين يجمعان بين فلسفة اللغة لِفريجه
وَفنومينولوجيا هوسرل. وهكذا، يتضح لنا أن الفلسفتين التحليلية والقارية
لهما نفس الأصول التاريخية، وتنتميان لمصدر جغرافي مماثل في دول وسط أوروبا
الناطقة بالألمانية، ولهما عدو فلسفي مشترك. والطريقة الوحيدة لإعادة التواصل بين
الفلاسفة هي من خلال العودة إلى النقطة التاريخية والمفاهيمية التي تفرَّع عندها
هذان التقليدان.
هذه هي استراتيجية مايكل دوميت في كتابه
الكبير التأثير، المنشور في عام ١٩٩٣ «أصول الفلسفة التحليلية». يروي دوميت تاريخ
الفلسفة التحليلية بدايةً من فريجه فصاعدًا، على أمل محمود بأن تقديم فهم أكثر
وضوحًا للماضي الفلسفي سيكون مقدمةً لنوع من الفهم المتبادل بين الفلاسفة
المعاصرين. ووصف دوميت الوضع الحالي بكلمات قاتمة ملائمة:
لا أقصد التظاهُر بأن الفلسفة في التقليدين
هي في الأساس نفسها؛ فمن الواضح أن هذا سيكون سخيفًا. يمكننا إعادة تأسيس التواصل
فقط من خلال العودة إلى نقطة التفرع؛ فلا فائدة الآن في الصياح من على جانبي هذه
الهوة السحيقة. ومن الواضح أن الفلاسفة لن يصلوا لاتفاق أبدًا. مع ذلك، إنه لَأمرٌ
مؤسف إذا لم يَعُدْ باستطاعة بعضهم التحدث مع بعض أو فهم بعضهم بعضًا؛ فمن الصعوبة
تحقيق مثل هذا الفهم، لأنك إذا كنت تعتقد أن هناك أشخاصًا يسيرون على الطريق
الخطأ، فربما لن تمتلك أي رغبة في التحدث معهم أو خوض عناء انتقاد وجهات نظرهم.
ولكننا وصلنا لمرحلة كما لو أننا نعمل على مواضيع مختلفة.
وعلى هذا النحو، فإن السياق الفلسفي
المعاصر يتناقض على نحو سلبي للغاية مع السياق الفلسفي في بداية القرن العشرين.
كتب دوميت:
كان فريجه مؤسس الفلسفة
التحليلية، وكان هوسرل مؤسس المدرسة الفنومينولوجية؛ وهما حركتان فلسفيتان مختلفتان جذريًّا. في عام ١٩٠٣ مثلًا، كيف كانا
سيبدوان لأي طالبِ فلسفةٍ ألمانيٍّ عرف أعمالهما؟ بالتأكيد، لن يبدوَا مفكرَين
متعارضَين بشدة؛ بل كانا سيظهران متقاربين في التوجُّه كثيرًا، على الرغم من بعض
الاختلاف في الاهتمامات.
ثم يمضي دوميت، على نحو مثير، في مقارنة
فريجه وَهوسرل بنهرَي الراين والدانوب، «اللذين ينبع أحدهما على مسافة قريبة جدًّا
من الآخَر، ويتبعان مسارين متوازيين تقريبًا لفترةٍ ما، حتى يتفرَّعَا في اتجاهين
مختلفين تمامًا ويصبَّا في بحرين مختلفين». وعلى الرغم من أنه من الواضح — بالنسبة
إلى دوميت على الأقل — أن راين فريجه هو المسار الصحيح للفكر (في حين أن دانوب
هوسرل يتدفق نحو بحر المثالية الأسود الخاص بالفلسفة القارية)، فإن هذه صورة
موجَّهة وموحية تزعزع التمييزَ بين تقليدَي الفلسفة على نحوٍ رائع جدًّا.
استراتيجية دوميت مُقنِعة، وسأستخدمها
ضمنيًّا في مناقشتي حول الصراع بين التصور العلمي والتصور التأويلي للعالم في
الفصل السادس؛ وأعني تحديدًا أن إحدى طرق تحقيق الفهم المتبادل بين أطراف هذا
الصراع هي تتبُّع مصدره الفلسفي في المواجهة بين هايدجر وَكارناب.
ومع ذلك — وهذه هي الطريقة الثانية للتمييز بين التقليدين الفلسفيين — إذا أردنا أن
نفهم طبيعة الفلسفة في التقليد القاري، فأعتقد أنه من الضروري أن نبدأ بِكانط،
الذي يُعَدُّ، كما ذكرتُ سابقًا، آخِر شخصية فلسفية عظيمة مشتركة بين الفلسفة
التحليلية والفلسفة القارية، والذي أعلن عن انفصالهما. بادئ ذي بدء، يوجد سببان
بسيطان جدًّا للبدء بِكانط بدلًا من هوسرل؛ أولًا: التطورات التي شهدتها الفلسفة
القارية خلال القرن العشرين لا يمكن فهمها إلى حدٍّ كبير عند عدم الإشارة إلى بواكيرها
في القرن التاسع عشر، وبخاصةٍ فكرُ هيجل وَماركس وَنيتشه. وينطبق هذا بصفة خاصة
على الفلسفة الفرنسية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، التي ربما تُوصَف على نحوٍ جيد
في سياق سلسلة من عمليات الرجوع إلى هيجل (بالنسبة إلى أعمال ألكسندر كوجيف
والأعمال المبكرة لِجان بول سارتر)، أو نيتشه (بالنسبة إلى أعمال ميشيل فوكو وَجيل
دولوز)، أو ماركس (بالنسبة إلى أعمال لوي ألتوسير). ثانيًا: تاريخ الفلسفة في
الدول غير الناطقة بالإنجليزية في القرن التاسع عشر — في بريطانيا على الأقل — لا
يتم تضمينه للأسف على نحو كافٍ في المناهج الدراسية بأقسام الفلسفة بالجامعات؛ حيث
إنه لا يزال من الممكن الحصول على درجةٍ علميةٍ في الفلسفة دون أن تجب عليك قراءة
الكثير — إنْ قرأتَ أي شيء من الأساس — من الفلسفة الألمانية بين كانط وَفريجه؛
ولذا فإنه لا يزال من الضروري محاولة سدِّ هذه الثغرة. [في الجامعات البريطانية، لا تتضمن مناهج الدراسة بأقسام الفلسفة ما
يكفي عن تاريخ الفلسفة في الدول غير الناطقة بالإنجليزية..]
(٢) طريقتان لقراءة كانط
الكثير من الفروق بين
الفلسفة التحليلية والقارية يعتمد ببساطة على «كيفيةِ» قراءة المرء لِكانط، و«الجوانبِ» التي يركِّز عليها المرء في فكره؛ وهذا يعني ما إذا كان
الشخص مهتمًّا فحسب بالقضايا المعرفية الموجودة في عمله النقدي الأول «نقد العقل
المحض» (١٧٨١)، أو بالطموحات المنهجية الأكبر في عمله النقدي الثالث «نقد مَلَكَة
الحكم» (١٧٩٠). وأود أن أستكشف هذه الفكرة بعمق أكثر قليلًا.
إذا كان الشخص يركِّز على كتاب «نقد العقل
المحض»، فإنه عادةً ما يكون مهتمًّا بنجاح حجة الاستنتاج المتعالي؛ هنا كانط يحاوِل
أن يُظهِر أنه من أجل اختبار الأشياء بأي نحو، يجب أن نفترض وجود عمليات ما
يسمِّيه «مقولات الفهم»؛ ومن ثَمَّ وجود ذاتٍ إنسانيةٍ تفهم؛ أيْ تَجْمَع الفوضى
المزعجة الناشئة من الخبرة الحسية في شكل مفاهيم. وهكذا، كما
يقول كانط: «الأشياء تتوافق مع المفاهيم، وليست المفاهيم هي التي تتوافق مع
الأشياء.» وستُوجَه هذه القراءة لفكر كانط من خلال مسألةِ ما إذا كان ينجح
في توفير أساس صحيح للمعرفة التجريبية ومواجهة تحدي شك ديفيد هيوم، أم لا. ادَّعى
كانط أن هيوم أيقظه من «سباته الدوجماتي»، من خلال توضيح أننا إذا أخذنا تحدِّي
الشك هذا بجدية، فإننا لا يمكننا أبدًا أن نكون متأكدين ممَّا إذا كانت مفاهيمنا —
الكامنة في الأحاسيس والانطباعات العابرة — مقابلةً على نحوٍ كافٍ للأشياء في
ذاتها ومنتجة للمعرفة أم لا. وردُّ كانط هو تحويل المسألة برمتها، من خلال التأكيد
على أنه على الرغم من أننا لا يمكننا أبدًا معرفة الأشياء في ذاتها، فإن عناصر
تمثيلاتنا لها تتطابقُ مع مفاهيمنا لها على نحوٍ كافٍ للمعرفة. وهذا التحول هو ما
يدعوه كانط «التحوُّل الثوري» في الفلسفة. والعالم التجريبي هو في الواقع حقيقي
بالنسبة إلينا، ولكن من أجل تفسير كيفية فهمنا للعالم يجب أن نفترض منطقيًّا، أو
بلغة كانط «على نحوٍ متعالٍ»، وجود ذات أو وعي يوحِّد ما ينتج عن الحدس في شكل
مفاهيم. وهذا هو الشكل الأولي لأطروحة ما يُسمَّى «المثالية المتعالية»، الأطروحة
التي يعتقد كانط أنها متسقة مع الواقعية التجريبية. وبالقراءة من خلال وجهة النظر
تلك، فإن المساهمة الفلسفية الكبرى لِكانط تقع في مجال نظرية المعرفة، وضمنيًّا
فلسفة العلم. في الواقع، كانت هذه هي طريقة قراءة
كانط على نحو كبير لدى المدرسة الكانطية الجديدة، التي هيمنت على الفلسفة
الأكاديمية الألمانية والفرنسية في الفترة من عام ١٨٩٠ حتى أواخر عشرينيات القرن
العشرين. لقد كانت طريقة القراءة المعرفية لِكانط تلك لدى بيتر ستراوسون وغيره، هي
التي سيطرت على فهم التقليد الأنجلو أمريكي لفلسفة كانط حتى وقت قريب إلى حدٍّ ما.
ومع ذلك، فإن طموح عمل كانط «نقد مَلَكَة
الحكم» مختلفٌ إلى حدٍّ ما؛ فقد حاول بناء جسرٍ بين
مَلَكات الفهم (مجال نظرية المعرفة المعنِيِّ بمعرفة الطبيعة) والعقل (مجال
الأخلاق المعنِيِّ بالحرية)، من خلال نقد مَلَكة الحكم. وسيكون الحكم
الوسيط بين عالَمَي الطبيعة والحرية، وسينسق عناصر الفلسفة النقدية في نظامٍ ما.
وإذا ما سلك المرء هذا المسار، فإن القضية الأساسية لفلسفة كانط تصبح معقولية
العلاقة بين العقل المحض والعقل العملي، أو الطبيعة والحرية، أو وحدة النظرية
والتطبيق. كما سنرى لاحقًا، هذا هو بالضبط المسار الذي اتبعَتْه المثالية
الألمانية لدى فيشته، وَإف دبليو جيه شيلينج، وَهيجل، والرومانسية الألمانية
المبكرة لدى فريدريك شليجل وَنوفاليس. ويمكن القول إن هذا هو المسار الذي اتبعَتْه
الفلسفة القارية منذ ذلك الحين.
(٣) كانط وَهامان: نقد
العقل المحض، والحاجة لنقدِ النقد
اسمح لي أن أحاول شرح كيف نصل من فلسفة
كانط إلى الفلسفة المثالية الألمانية بشيء من التفصيل، من خلال محاولة إعادة بناء
بعض سياق الفلسفة فيما بعد كانط. عانى مشروع التنوير الألماني بأكمله — الذي كان
مستندًا إلى سيادة العقل — نوعًا من الانهيار الداخلي. يمكن وصف المشكلة ببساطة
كما يلي: سيادة العقل تتمثَّل في ادِّعاء أن العقل بإمكانه انتقاد كل معتقداتنا.
فكما كتب كانط في مقدمة الطبعة الأولى من عمله «نقد العقل المحض»:
عصرنا هو عصر النقد بدرجة كبيرة، ويجب أن
تخضع جميع معتقداتنا للنقد؛ فالدين بقدسيته، والدولة بهيبتها، لا يمكنهما إعفاء
أنفسهما من الخضوع لهذا النقد دون إثارة أي شكوك بشأنهما.
ولكن إذا كان ذلك صحيحًا — إذا كان العقل
يستطيع انتقاد كل شيء — فمن المؤكد أنه يجب أيضًا أن ينتقد نفسه؛ لذلك، يجب أن
يوجد نقدٌ للنقد إذا أردنا أن يكون النقد فعَّالًا حقًّا. هذه هي وجهة نظر يوهان
جورج هامان، ناقد كانط الأول الأكثر تأثيرًا، الذي كان يسكن معه في مدينة
كونيجسبرج، والذي صاغ مفهوم «نقد النقد»، الذي لا يزال مصطلحًا شائعًا جدًّا في
الفلسفة الألمانية. إذا كان كانط يمثِّل عقلانية
التنوير ويحاول الدفاع عنها، فإن هامان هو صوت مناهَضة التنوير التي من شأنها أن
تزدهر في الحركات الجمالية والثقافية المسمَّاة ﺑ «العاصفة والاندفاع» والرومانسية
الألمانية المبكرة. وخضع هامان لتحوُّل ديني درامي بعد بعض المغامرات
المثلية المثيرة، خلال رحلة عمل فاشلة في لندن عام ١٧٥٨. وتُعَدُّ قصة علاقة هامان
اللاحقة بِكانط — حيث استعان صاحب عمل هامان السابق في ريجا بِكانط لإعادة المتدين
الذي وُلِد من جديد إلى طريق العقل — مادةً لأفضل الروايات التاريخية.
ولكن هذا ليس موضوعنا. في عام ١٧٨٤، ألَّف
هامان «نقدُ نقدِ العقل المحض» [بعد صدوره "نقد العقل.." بثلاث سنوات]؛
حيث انتقد شكلية كانط، وتحديدًا مغالاته حيال الطابع الشكلي للمعرفة، والإيمان
بأنه يمكن فصل العقل عن الخبرة؛ أي إنه يمكن فصل ما هو قبلُ عمَّا هو بعدُ.
ويُعَدُّ نقد هامان مقدمةً لنقد صديقه — ورفيقه لفترةٍ طويلة في الواقع — فريدريك
هاينريش جاكوبي، وكذلك نقد هيجل. وهو يأخذ الشكل
التالي: تنقسم فلسفة كانط النقدية إلى سلسلة من الثنائيات المعيبة (الشكل في مقابل
المحتوى، الإحساس في مقابل الفهم، العقل في مقابل الخبرة، الطبيعة في مقابل
الحرية، المحض في مقابل العملي، وما إلى ذلك)، وتُعَدُّ سيادة العقل العملي مجرد
شكلية فارغة للواجب المجرد. بالنسبة إلى هامان — في تنبؤ غريب آخَر
بالتطوُّرات الفلسفية اللاحقة، التي تُسمَّى الانعطاف اللغوي — فإن الفصل بين
العقل والخبرة، أو الشكل والمضمون، أمرٌ مستحيل؛ لأن الفكر يعتمد على اللغة، التي
بطبيعة الحال تكون مزيجًا من الاثنين معًا. من أين بالضبط تستقي التمييز
بين المفهوم والحدس في الاستخدام الفعلي للُّغة؟ يقول هامان: «القدرةُ الكاملة على
التفكير لا تعتمد على اللغة فحسب … ولكن تقبع اللغة أيضًا في قلب سوء فهم العقل
لنفسه.»
لذلك، إذا كان
يجب أن ينتقد العقلُ كلَّ الأشياء، فيجب أن يوجد نقدٌ للعقل. ولكن إذا كان الأمر
كذلك، فما الذي يمنع نقد النقد هذا من الوقوع في الشك؛ الشك الجذري والتام؟
كما يشير فريدريك بايزار: «ثمة كابوس يلوح في الأفق
الذي يتمثَّل في أن النقد الذاتي للعقل ينتهي إلى العدمية؛ الشك في وجود كل شيء.
وكان هذا الخوف هو جوهر أزمة التنوير.» وكما سأحاول وأناقش فيما يلي، فإن
مفهوم العدمية هو أفضل ما يسمح للمرء بالتمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة
القارية. وكانت هذه القضية تقع في جوهر اثنين من الصراعات الأكثر أهميةً في أواخر
القرن الثامن عشر في ألمانيا، وكان جاكوبي في قلب كليهما: صراع وحدة الوجود، وصراع
الإلحاد.
(٤) صراع وحدة الوجود
وصراع الإلحاد: انعكاسات عمل جاكوبي
بدأ صراع وحدة الوجود بنشر عمل جاكوبي
«رسائل حول مذهب سبينوزا» في عام ١٧٨٥، الذي كان عبارة عن مراسلاته مع موزس
مندلسون بشأن الاعتراف الصادم المتأخِّر لِجي إي ليسينج بتأثُّره الشديد بأفكار
سبينوزا. وشارَكَ معظمُ أفضل العقول في هذا العصر في هذا الصراع، بما في ذلك
مندلسون وَكانط وَيوهان هيردر وَيوهان فولفجانج فون جوته وَهامان. كان باروخ دي
سبينوزا يُصوَّر بنحو كاريكاتوري ساخر حتى وقت هذا الصراع إما في صورة فيلسوف
عقلاني مؤمن بوحدة الوجود وإما في صورة ما هو أسوأ؛ شيطان مُلحِد. وكان لهذا
الصراع أثرٌ جانبي يتمثَّل في وضع حدٍّ لهذه الصورة الكاريكاتورية، وقد بلغ ذروته
في وصف نوفاليس لِسبينوزا بأنه «الثمل بحب الرب»، ولكن لم تكن هذه هي المشكلة
الحقيقية؛ فَجاكوبي يستخدم اعتراف ليسينج بتأثُّره الشديد بالفكر الاسبينوزي
لتقديم نقدٍ داخلي للتنوير. كان جاكوبي يسعى لإيضاح أن فلسفة سبينوزا هي مثال
للعقلانية، وأنه إذا التزم الشخصُ بالعقلانية على نحوٍ منتظِمٍ، فإنها تؤدي إلى
الإلحاد؛ لذلك، على النقيض من كانط «التنويري»، يؤدِّي العقل إلى انهيار أي أساس
للاعتقاد الديني أو الحياة الأخلاقية. يضيف جاكوبي
أنه إذا كان الأمر كذلك، فإن لدينا خيارًا واضحًا وقاسيًا إلى حدٍّ ما، لا بد أن
نتخذه: إما أن نعتنق الإلحاد العقلاني للتنوير، وإما أن نرفضه من خلال قفزة
إيمانية غير عقلانية. ويجد جاكوبي مصدرَ
إلهامٍ لهذا في قراءته لأعمال باسكال، الذي يرى أنه «لا يوجد شيء متسق للغاية مع
العقل مثل عملية إنكار العقل تلك»؛ بمعنى أن الإعمال الصحيح للعقل يوصل إلى النقطة
التي علينا أن ندرك فيها ما يكمن وراءه؛ مجال الإيمان. وكانت نسخة جاكوبي
من رؤية باسكال مهمة أيضًا لناقد ديني آخَر للعقلانية العلمانية جاء لاحقًا، وهو
سورين كيركجور. إن مسألة وضع العقل والعقلانية في مقابل لاعقلانية كثيرٍ من الوجود
الإنساني؛ تمثِّل صراعًا يقع في قلب الخلافات في التقليد الفلسفي القاري حتى يومنا
هذا؛ على سبيل المثال: في جدال الحداثة/ما بعد الحداثة، الذي ميَّزَ فترةً كبيرة
من ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين. وكان بايزار محقًّا في قوله: «ليس من
قبيل المبالغة أن نقول إن هذا الجدل حدَّد واحدة من القضايا المميزة للتقليد
الفلسفي القاري ككلٍّ؛ وهي مسألة سلطة العقل. لقد بدأ ما يُسمَّى «مأزق ما بعد
الحداثة» فعليًّا حينها في عام ١٧٨٦.»
والمسألة الأخرى التي تحدِّد مسار الفلسفة
القارية هي صراع الإلحاد، الذي بدأ في عام ١٧٩٨، والذي أدى في عام ١٧٩٩ إلى عزل
فيشته عن منصبه الأكاديمي في جامعة ينا بتهمة الإلحاد. ويكمن أصل هذا الصراع في
نشر العديد من الكتيبات المسيئة المجهولة المصدر في عام ١٧٩٨، والتي أعقبت نشر
مقالاتٍ في إحدى المجلات، على يد فيشته والفيلسوف غير المعروف كثيرًا الآن فريدريك
سي فوربج، حول مكانة الدين والأخلاق. إن قصة إقالة فيشته مؤسِفة إلى حدٍّ كبيرٍ، وتتشابه بعض الشيء مع مشكلة إلحاد بِبرتراند راسل في
نيويورك في عام ١٩٤٠؛ حيث مُنِع من تولِّي منصبه في كلية سيتي كوليدج بنيويورك،
بناءً على حملةِ تشهيرٍ شُنَّت ضده لإعلانه الإلحاد وإبدائه آراءً ليبرالية حول
مسألة الأخلاقيات الجنسية. ووُصِف اللورد راسل من جانب جوزيف جولدشتاين — محامي
السيدة جين كاي التي قادت الحملة ضد راسل — بأنه «فاسق، وشبق، وشهواني، وداعر،
ومصاب بالهوس الشبقي، ومحرِّض على الشهوة الجنسية، ووَقِح، وضيق الأفق، وكاذب،
ومجرد من المبادئ الأخلاقية». يا له من قَدْح فظيع! ولكن الفلاسفة منذ زمن
سقراط يُتَّهمون بإفساد أخلاق الشباب. وعلى الرغم من أن ينا في تسعينيات القرن
الثامن عشر لم تكن تمامًا مثل مانهاتن في أربعينيات القرن العشرين، فإنه ينبغي أن
نتذكَّر أنها كانت المركزَ الفلسفي للحياة الفكرية في ألمانيا خلال هذه الفترة،
وموطنَ العديد من أعظم العقول في ذلك الوقت (فيشته، والأخوَيْن شليجل، وَنوفاليس،
وَشيلينج)، والبوتقةَ التي وُلِدت منها الرومانسية الألمانية المبكرة أو رومانسية
ينا.
على الرغم من أن التفاصيل التاريخية لهذا
الصراع مثيرة للاهتمام ومُحبِطة قليلًا في نفس الوقت، فإنها تصبح مهمة فلسفيًّا
عندما يعبِّر جاكوبي عن رأيه في عام ١٧٩٩ في عمله «رسالة إلى فيشته». ونجد في هذا
النص أول توظيف فلسفي لمفهوم «العدمية»؛ فكما أشار جاكوبي ببساطة، وجهةُ نظر فيشته
— المعروفة باسم مثالية فيشته — عدميةٌ. وما يعنيه
بهذا يجب أن يُفهَم في ضوء تراجُع النقد الكانطي للميتافيزيقا التقليدية المذكور
سابقًا، الذي لا ينكر الإدراك المعرفي للبشر للكيانات المتخيَّلة من جانب
الميتافيزيقا الكلاسيكية (الرب والروح) فحسب، ولكن يستبعد أيضًا إمكانية معرفة
الذوات أو الأشياء في ذاتها وما وصفه كانط بأنه الأساس «الحقيقي» للذات، والذي لا
يمتلك وجودًا ظاهريًّا. تمثَّلت فرضيةُ جاكوبي الأساسية في أن إحياء فيشته
للمثالية المتعالية لِكانط، يؤدِّي إلى «أنا» فقيرة لا يوجد لديها معرفة بالأشياء
في ذاتها. وهي عدمية لأنها لا تسمح بوجود شيء خارج أو منفصل عن الأنا، والأنا في
حد ذاتها ليست سوى نتاج «قوة التخيُّل الحرة». ويحتجُّ جاكوبي، في فقرة استثنائية،
قائلًا:
إذا كان أكبر ما أستطيع تأمُّله،
وما يمكنني التفكير فيه، هو الأنا خاصتي الفارغة والنقية، العارية والمحضة،
باستقلالها وحريتها؛ إذن، فالتأمل الذاتي العقلاني — العقلانية — سيكون بالنسبة
إليَّ لعنة، وسأكون آسفًا على وجودي.
وفي مقابل ما يراه جاكوبي على أنه أحادية
مثالية لفيشته، دعا لشكل من أشكال الثنائية الفلسفية؛ حيث إنه وراء الانشغال
الفلسفي بالحقيقة، يقع مجال الحقيقية، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق
الإيمان أو القلب. مرة أخرى، نقد جاكوبي لِفيشته يذكِّرنا بقوةٍ بنقد باسكال
لِديكارت؛ حيث إن العدمية هي التهمة التي وجَّهتها نظرةُ العالم المسيحي للعقلانية
العلمانية؛ ومن ثَمَّ فإن الاختيار الوجودي الذي يواجهنا — والذي لا يمكن إثباته
بعقلانية ولكن يجب علينا أن نُراهِن عليه — هو بين مثالية فيشته، وهي عدمية لأنها
لا توفر معرفةً بأي شيء خارج تقديرات الأنا، وثنائية جاكوبي، التي وصفها بسخرية
ذاتية بأنها «وهمية» لأنها تدَّعِي أن الرب هو جوهر العقل دون أن تتمكَّن من إثبات
ذلك بعقلانية. ويخلص جاكوبي قائلًا:
لكن الإنسان أمامه اختيار واحد: العدمية أو
وجود إله. إذا اختار الإنسان العدمية، فإنه يجعل من نفسه إلهًا؛ أي إنه يجعل من
الوهم إلهًا؛ لأنه في حالة عدم وجود إله، يستحيل أن يكون الإنسانُ وكلُّ ما يحيط
به إلا وهمًا. أعود وأكرِّر: إما أن يكون الإله كيانًا حيًّا قائمًا بذاته،
وموجودًا خارج نفسي، وإما أن أكون أنا الإله. وهما أمران لا ثالث لهما.
عند إنكار وجود إله، فإننا نخاطر بتحويل
الإنسان إلى إله؛ وهذا يعني وجود إغراء كإغراء بروميثيوس في مثالية كانط وَفيشته؛
حيث يتحوَّل الإنسان إلى نسخةٍ طبق الأصل من الإله، ويخلق من العدم (تجدر الإشارة
إلى أن رواية ماري شيلي «فرانكنشتاين» (١٨١٩) كان عنوانها الفرعي «بروميثيوس
الحديث»؛ حيث طارد شيءٌ مشوَّهُ الخلقةِ العقلانيةَ العلمية للتنوير).
لإظهار بعض من آثار هذا الفكر على التقليد
الفلسفي القاري، اسمحْ لي أن أقدِّم بعضَ الأمثلة الأخرى. إذا كانت العدمية هي
اتهامٌ للأنا الفلسفية، حيث تَبخَّر في الهواء كل ما كان راسخًا في النظرة
العالمية التي سبقتْ ظهورَ كانط، فإن المرء يجد تأكيدًا غريبًا لنقد جاكوبي في
أنانية كتاب ماكس شتيرنر الاستثنائي «الأنا وذاتها» (١٨٤٤)، وهو الكتاب الذي
تَعرَّض لنقد طويل ولاذع من قِبل ماركس وفريدريك إنجلز في عملهما «الأيديولوجيا
الألمانية» (١٨٤٦). ما انتقده جاكوبي على أنه عدمية احتفى به شتيرنر على نحوٍ
فوضويٍّ على أنه تحرُّر للفرد. فإذا كنتُ عدمًا أو لا شيء، كما يقول شتيرنر،
«فإنني لستُ عدمًا بمعنى الفراغ، ولكنني العدم المبدع، العدم الذي أخلُق منه أنا
كمبدعٍ كلَّ شيء». وكنتيجة خاطئة لمحاولته إظهار أن نقد هيجل ولودفيج فيورباخ
للدين لا يزال متشابِكًا بقوة مع النماذج الدينية في التفكير، يجيب شتيرنر على
مسألة «ماهية الإنسان» من خلال تحويل الأنا إلى نسخةٍ طبق الأصل من الإله؛ فيصبح
الإنسان السبب ذاتي التسبُّب، وهي ذاتية التسبُّب الخاصة بالنظرية اللاهوتية
للقرون الوسطى. ولاستباق وجودية سارتر، التي وجد فيها شتيرنر صدًى مثيرًا بعد قرن
من الزمن، في عالم ملحد عدمي، يمتلك البشر حريةً عاطفيةً ليصبحوا مثل الإله. هذا
هو السبب في ختم سارتر كتابه «الوجود والعدم» بعبارة «الإنسان عاطفة لا جدوى منها».
ويجد المرء أيضًا صدًى لنسخة جاكوبي من
رهان باسكال في تصوير فيودور دوستويفسكي لشخصية كيريلوف العدمي في روايته
«الشياطين» (١٨٧١).
إن كلَّ مَن يرغب في الحرية الأسمى يجب أن
يجرؤ على قتل نفسه؛ فالذي يجرؤ على قتل نفسه قد تعلَّمَ سرَّ الخداع. فبخلاف ذلك
لا توجد حرية؛ هذا كل شيء، وبخلاف ذلك لا يوجد شيء. إن الذي يجرؤ على قتل نفسه هو
إله. والآن يمكن للجميع فعل ذلك كي لا يوجد أي إله، ولا يوجد أي شيء؛ ولكن لم يفعل
ذلك أحدٌ حتى الآن.
هذا هو الموقف الذي يصفه دوستويفسكي ﺑ
«الانتحار المنطقي»؛ وهذا يعني — كما يقول في مذكراته — إنه بعد أن يرفع البشر
أنفسهم فوق مستوى البهائم، فإن الفكرة «الأساسية» و«الأعظم» و«الأسمى» للوجود
البشري تصبح ضروريةً للغاية: الاعتقاد بخلود الروح. وبمجرد أن ينكسر هذا المعتقد،
كما رأى دوستويفسكي في العدمية أو اللاتفريقية لدى الطبقات المثقفة الروسية في
ستينيات القرن التاسع عشر، فإن الانتحار هو الحل المنطقي الوحيد؛ ومن ثَمَّ، وجدنا
كيريلوف الذي فقد الإيمان بخلود الروح يحاول تأليف كتاب يدرس الأسباب التي تجعل
الناس لا يقتلون أنفسهم.
وهكذا، يمكن للمرء أن يقول إنه يوجد مسار
في التقليد الفلسفي القاري من نقد كانط في أعمال هامان وجاكوبي، حتى أفكار
كيركجارد وَشتيرنر وَدوستويفسكي — الدينية والإلحادية — المناهِضة للعقلانية،
وصولًا إلى وجوديةِ ما بعد الحرب الفرنسية لِسارتر وَكامو.
(٥) توحيد ثنائيات كانط
كان التأثير المشترك لنقد فلسفة كانط في
ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر هو أن إيمان التنوير بالعقل بدا مشكوكًا فيه
على نحوٍ أكبر من أي وقتٍ مضى؛ فكما أشار بايزار: «لم يكن كانط مانعًا لمسيرة
التدمير الذاتي للعقل نحو الهاوية، ولكنه كان مشجعًا عليها.» ومن الواضح أن قضيةَ
معرفة ما إذا كانت هذه النظرة لِكانط لها ما يبررها من الناحية الفلسفية أم لا؛
قضيةٌ منفصلةٌ. الهدف هنا هو أن سلسلةً كاملة من المناقشات التي تحدِّد التقليد
الفلسفي القاري بدأت من هذه النقطة، ورأيي هو أن الفلسفة القارية يجب أن تُفهَم
على هذا الأساس.
اسمح لي أن أختتم هذا الفصل بالعودة إلى
الجدل السابق الذي مفاده أن كانط ترك لنا سلسلةً من الثنائيات التي بحاجةٍ إلى
التوحيد؛ وهذا هو أحد الاعتراضات التي قدَّمَها الفيلسوف الذي اعتبره كانط أفضل
ناقد له، وهو سالومون ميمون. ونُشِرت انتقادات ميمون
في عام ١٧٩٠ تحت عنوان «مقال عن الفلسفة المتعالية». وتتمثَّل وجهة نظره الأساسية
في أن ثنائية كانط بين الفهم والإحساس، التي تقع في جوهر المثالية المتعالية،
متطرِّفةٌ وعميقةُ الأثر لدرجة أنها تمنع إمكانية التفاعل بين المفهوم المسبق
والحدس التجريبي؛ وهذا يعني أن حجة الاستنتاج المتعالي تُبطَل عن طريق الثنائيات
ذاتها التي افترضها كانط من أجل تنفيذ هذا الاستنتاج. هذا ما يُغرَم بعض فلاسفة
التقليد القاري بتسميته «التناقض الذاتي الأدائي».
المهم هنا هو إدراك كيف أثَّرت انتقادات
ميمون على فلسفةِ ما بعد كانط. كيف يمكننا التغلُّب على الثنائيات الخاطئة لنظام
كانط؟ المطلوب هو مبدأ موحِّد أسمى من شأنه أن يكون في مأمن من هذه الانتقادات.
وانطلاقًا من هذا السؤال بدأتْ مثالية فيشته والمثالية الألمانية. وجد فيشته هذا المبدأ الموحِّد في نشاط الذات، فتوحَّدت
ثنائية النظرية والتطبيق في التأمل الذاتي للذات؛ وعيها للحرية. وكانت هذه
هي وجهة النظر التي درسها فيشته في كتابه المشهور «مذهب العلم» (١٧٩٤). أما على
النقيض، بالنسبة إلى شيلينج الشاب، كان المبدأ الموحِّد هو مفهوم القوة أو الحياة،
المذكور في فلسفته المبكرة حول الطبيعة؛ وبالنسبة إلى
هيجل، كان مفهومَ الروح؛ وبالنسبة إلى آرثر
شوبنهاور، كان مفهومَ الإرادة؛ وبالنسبة إلى نيتشه، كان القوةَ؛ وبالنسبة إلى
ماركس، كان مفهومَ الممارسة؛ وبالنسبة إلى فرويد، كان اللاوعي؛ وبالنسبة إلى
هايدجر، كان الوجودَ. ويمكن أن تمتدَّ هذه القائمة إلى ما لا نهاية. الهدف
هنا هو تأكيد أن القضية الأساسية للفلسفة القارية نشأت من هذه الانتقادات لِكانط،
ويجب أن تُفهَم في هذا السياق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق