الشيء في ذاته.
الشيء في ذاته.
قبل ديكارت، كان العالم موجوداً ومن
البديهيات.
وهذا العالم يساهم في تشكيل وعيِنا عنه.
مع
ديكارت، أصبح الوعي موجوداً. وهو الذي يسعى للبرهان على وجود العالم وعلى
فهمه.
مع كانط، استمرت الأولوية لوجود الوعي، أو
لوجودِ قوالبِ العقل الأولية، التي تساهم في تشكيل الوعي بالعالم.
الوعي بالعالم إذاً يتشكل بناءً على شكل
العقل وشروطِه أو الطريقةِ التي يستطيع من خلالها فهمَ العالم.
بدايةً، كان العالم يأتي إلى العقل ليحدِثَ وعياً يشبه العالمَ ذاتَه.
مع كانط، أصبح العالم يأتي إلى العقل ليحدث
وعياً يشبه العقل ذاتَه. أو وعياً لم يعد يشبه العالم ذاته، بل يرتبط بقدرة العقل
وطريقته في الفهم.
كان العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً
مطابقاً للعالم أو يمكن له أن يكون مطابقاً.
مع كانط، أصبح العقل يذهب إلى العالم
ليفهمَه، أو يذهبُ إليه ليستحضرَه بطريقته هو وبناء على شروطه هو، أي بناءً على شروط
العقل ذاته.
لم يعد الوعيُ المطابقُ للعالم ممكناً أو في
متناوَل الوعي. أصبح عالماً مقفلاً على كل وعيٍ موضوعيّ: أصبح "شيئاً في
ذاته".
أصبحنا لا نملك إلا وعيَنا عن العالم، أما
وعيُ العالم كما هو فلم يعد ممكناً. لم يعد من الممكن فصل فهم العالم عن الأداة
التي تقوم بهذا الفهم.
مع هوسرل، لم يعد بإمكان العقل أن يذهبَ إلى
"اللامكان" كما كان الأمر عند ديكارت. (الأناوحدية، أو اكتفاء العقل بذاته حتى لو لم يكن العالَمُ موجوداً).
العقل الذي لا يجد مكاناً يذهب إليه أو
موضوعاً يعقله، لن يكونَ عقلاً.
هوسرل هنا يشبه كانط أكثر مما يشبه ديكارت.
رغم أنه انطلق بتأملات "ديكارتية".
كان كانط يعتبر بأن عقلاً بدون موضوع
للتعقل هو عقل فارغ. وبأن موضوعاً بدون "تعقيل"، أو بدون أن تُفرض عليه
قوالب العقل أو قوانينُه، هو نوعٌ من الفوضى.
لكن هوسرل يذهب بجيوش العقل محاولاً هدم
جدران "الشيء في ذاته" التي أقامها كانط.
يعتبِر هوسرل بأن معرفة هذا الشيء في ذاته
ممكنة، بل يذهب إلى القول بأن لا وجود لهذا "الشيء في ذاته"، ولا وجود إلا
لما يظهر للوعي، أو للظواهر.. وبأن معرفة ماهية هذه الظواهر هي معرفة ممكنة.
يبحث هوسرل عن حدس الماهيات، أي عن وعيها
مباشرةً.
نحن حين نرى طاولةً حمراء، فإننا نعي اللون
الأحمر بشكل مباشر.. ونتحدث عنه، حتى لو لم نرَ إلا هذا الشيء الأحمر.
لسنا بحاجة إلى التجريد الذهني: أي لسنا
بحاجة إلى أن نرى الدجاجة الحمراء والوردة الحمراء والطاولة الحمراء وغيرها من
الأشياء ذات اللون الأحمر حتى نستخلص مفهوم اللون الأحمر كما كان يذهب إلى ذلك
أرسطو في رده على أستاذه أفلاطون.
أفلاطون الذي كان يرى أن مثال أو فكرة
اللون الأحمر سابقة في الوجود على وجود الأشياء الحمراء.
نحن نحدس اللون الأحمر مباشرة وليس كنوع من
التجريد الذهني الناتج عن الصفة المشتركة للأشياء المتعددة الحمراء.
وكذلك نحن نحدس ماهيات بقية الأشياء مثل
هذه الطاولة أو الكرسي أو غير ذلك.
الحواس لا تقدم لنا كل معطيات الكرسي في آن
واحد.
حدس ماهية الكرسي هو حدس عقلي مباشر. لا هو ناتج عن التجربة الحسية وحدَها، ولا هو تجريد ذهني ناتج عن المشترك بين التجارب الحسية الكثيرة.
والتجربة الحسية لا تقدم لنا إلا الجزئيات
ولا يمكن أن تكون سبباً للماهيات أو الكليات.
الماهيات ناتجةٌ عن الحدس الماهوي المباشر.
يحاول هوسرل المصالحة بين الذات والموضوع
في تشكيل الوعي.. وهذا ما قال به كانط.
لقد حاول هدم جدار "الشيء في
ذاته" لولوج ماهية الأشياء.. محاولاً تخطي حواجز كانط التي وضعها بين الوعي بالعالم
وحقيقة ذلك العالم أو "الشيء في ذاته" المقفل والممتنع عن الكشف عن ذاته كما هو.
لكن إذا كان فهمي لهوسرل صحيحاً، فأظنه قد
بقي أمام تلك الأسوار ولم يستطع تجاوزها.
أظن أن نقده ربما نجح في زحزحة التجريدات
التي قال بها أرسطو: يمكن لنا حدس الكليات لا كنوع من التجريد الذي تقدمه التجربة
الحسية بل كنوع من الحدس المباشر.
لكن أظن أنه ما زال بيننا وبين ماهية الشيء
في ذاته جدران كانطية عالية ربما يستحيل تجاوزها.
يبدو أن هوسرل بتصويبه على كانط لم يصب إلا
بعضاً من الإرث الأرسطي..
والله أعلم..
محمد الحجيري (عن الفيسبوك)
5 آذار 2017
تعليقات على المنشور:
Khalil El-Saghir
محمد الحجيري
Jamal Naim
لقد خضت يا صديقي في موضوعاتٍ شائكة، في الحقل الذي افتتحه ديكارت، أعني به حقل الذاتيّة الذي ميّز الفلسفة الحديثة والذي حقّق قممه العاليه مع كنط ومن ثمّ مع هوسيرل الذي أسّس على ديكارت، لكن كمنطلقات وتوجّهات وليس كمضمون للمذهب الديكارتي، وقام بنقد لكنط، محاولًا تجاوزه، فلم يكتفِ بالحدس الحسي، فقال بالحدس المقولي أيضًا، أو بالأحرى بالحدس الحسي- المقوليّ. حاول هوسيرل تجاوز البنية الذهنية المجاوزة الكنطية، لكنّه، في رأيي، تابع طريقه، فقال بالأنا المحض المطلق الذي بإمكانه أن يؤسس كل موضوعيّة، متابعًا الثورة الكوبرنيقوسيّة الكنطيّة التي جعلت الأشياء تدور حول الذات لا العكس، أي دوران الذات حول الموضوع. الكوجيتو أو الأنا أفكّر، حقل الذاتيّة، الثورة الكوبرنيقوسيّة، البنية الذهنيّة المجاوزة، القوالب الذهنيّة النشطة أو الأفاهيم الفاهميّة المحضة، نشاطيّة الفاهمة، الأنا المحض المطلق... كلّها مصطلحات مفتاحيّة لإمكان السير في الطريق الوعر الذي سلكته يا صديقي. وأنا أرى أنّك كنت موفّقًا الى حدٍ كبير. فهنيئًا لك، فأنت محاربٌ من طرازٍ رفيع وتطرق موضوعات هي أشبه ما تكون بحجارة كبيرة تُرمى في المياه العقلية الراكدة ، مياهنا نحن.
محمد الحجيري
شكراً لك يا دكتور جمال. شهادتك أعتز بها كثيراً.
وإن كنت أعرف أني ما زلت في طور التمرين، وربما كان سابقاً لأوانه أن أتحدث عن هوسرل.. لكن في كل الأحوال سأتراجع عن كل فهم سيتبين لي أنه غير دقيق.
وإن كنت أعرف أني ما زلت في طور التمرين، وربما كان سابقاً لأوانه أن أتحدث عن هوسرل.. لكن في كل الأحوال سأتراجع عن كل فهم سيتبين لي أنه غير دقيق.
Khalil El-Saghir
تساؤل (دون ادعاء بخبرة فلسفية!)، ألا يجوز أن يكون الحدس الماهي للأشياء (الكرسي الأحمر مثالاً) هو حدس مباشر وآنيّ فقط فيما التجريد الذهني، المفهومي الأرسطي، هو تراكم وتفاعل الحدس الذهني للأشياء عبر الزمن؟
بطبيعة الحال، إن فهمي للكرسي الأحمر الآن هو غيره بعد حين. حتى الفوضى تصبح أكثر اتساقاً وانتظاماً في وعينا مع الوقت.
بطبيعة الحال، إن فهمي للكرسي الأحمر الآن هو غيره بعد حين. حتى الفوضى تصبح أكثر اتساقاً وانتظاماً في وعينا مع الوقت.
محمد الحجيري
أرسطو كان يقول بأن مفهوم "الأحمر" قد جاء كتجريد ناتج عن رؤيتي لهذا الشيء الأحمر ولذاك الشيء الأحمر ولشيء ثالث وهكذا..
وحين أتحدث عن اللون الأحمر بشكل مطلق دون أن يرتبط بموضوعٍ محدد، فإنما جاء فهمي لذلك بسبب تجريدي السابق لمفهوم الأحمر من خلال الأشياء الجزئية الحمراء.
وهو بذلك كان يرد على أستاذه أفلاطون الذي كان يقول بأن اللون الأحمر كمفهوم سابق في وجوده لوجود الأشياء الحمراء.. هناك مثال الأحمر السابق لوجود الأشياء المادية.
لنأخذ مثالاً آخر.
أفلاطون يعتبر بأن القول بأن زيداً إنسان ما كان ممكناً لولا وجود مثال الإنسان في عالم المثل. زيد إنسان لأنه يشترك أو يشبه مثال الإنسان أو الفكرة الثابتة الموجودة بشكل واقعي في عالم المثل.
أرسطو يرى بأن لا وجود لمثال الإنسان السابق لوجود الأفراد.
"إنسان" ما هي إلا كلمة. لا وجود واقعياً لها قبل وجود الأشخاص.
ما يوجد في الواقع هو زيد وعمر وفلان وغيرهم.. ثم جاءت كلمة إنسان كتجريد للصفات المشتركة بين كل الأفراد..
الإنسان كمفهوم ليس سابقاً على وجود الأفراد. هو تجريد تم استخلاصه من الحالات الجزئية المتعددة.
هوسرل لا يرى ضرورة لهذا التعدد ثم التجريد من الخبرات المتشابهة المتعددة. لسنا بحاجة إلى أشياء متعددة حمراء لنستخلص منها فكرة اللون الأحمر. يمكن حدس ذلك مرة واحدة حتى لو لم تتعدد التجارب.
هذا إذا كان فهمي صحيحاً للمسألة المطروحة.
وحين أتحدث عن اللون الأحمر بشكل مطلق دون أن يرتبط بموضوعٍ محدد، فإنما جاء فهمي لذلك بسبب تجريدي السابق لمفهوم الأحمر من خلال الأشياء الجزئية الحمراء.
وهو بذلك كان يرد على أستاذه أفلاطون الذي كان يقول بأن اللون الأحمر كمفهوم سابق في وجوده لوجود الأشياء الحمراء.. هناك مثال الأحمر السابق لوجود الأشياء المادية.
لنأخذ مثالاً آخر.
أفلاطون يعتبر بأن القول بأن زيداً إنسان ما كان ممكناً لولا وجود مثال الإنسان في عالم المثل. زيد إنسان لأنه يشترك أو يشبه مثال الإنسان أو الفكرة الثابتة الموجودة بشكل واقعي في عالم المثل.
أرسطو يرى بأن لا وجود لمثال الإنسان السابق لوجود الأفراد.
"إنسان" ما هي إلا كلمة. لا وجود واقعياً لها قبل وجود الأشخاص.
ما يوجد في الواقع هو زيد وعمر وفلان وغيرهم.. ثم جاءت كلمة إنسان كتجريد للصفات المشتركة بين كل الأفراد..
الإنسان كمفهوم ليس سابقاً على وجود الأفراد. هو تجريد تم استخلاصه من الحالات الجزئية المتعددة.
هوسرل لا يرى ضرورة لهذا التعدد ثم التجريد من الخبرات المتشابهة المتعددة. لسنا بحاجة إلى أشياء متعددة حمراء لنستخلص منها فكرة اللون الأحمر. يمكن حدس ذلك مرة واحدة حتى لو لم تتعدد التجارب.
هذا إذا كان فهمي صحيحاً للمسألة المطروحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق