الجمعة، 10 مارس 2017

المنهج التفهمي في علم الاجتماع؛ إعداد محمد الحجيري.



أوغست كونت: 1798ـ 1857
فلهلم دلتاي: 1833ـ 1911
دوركايم (1858ـ1917)
ماكس فيبر: 1864ـ 1920
المنهج التفهمي في علم الاجتماع
(إعداد محمد الحجيري)


مقدمة:

تُعتبر دراسة الظاهرة دراسةً موضوعيةً مطلباً وشرطاً أساسياً في المعرفة العلمية. وينبغي على العالم مراقبة هذه الظاهرة والانصات إليها بعيداً عن العامل الذاتي والأفكار المسبقة والاعتقادات الدينية والفلسفية والإيديولوجية وغيرها، وذلك من أجل تقديم تفسيرٍ دقيقٍ لهذه الظاهرة والوقوف على الأسباب المتحكّمة فيها.

   حضر هذا المطلب بقوة لدى المؤسسين الأوائل للعلوم الإنسانية. فقد سمى أوغست كونت علم الاجتماع بالفيزياء الاجتماعية اقتداء بالفيزياء من أجل دراسة وضعية موضوعية للظواهر الاجتماعية والخروج بها من دائرة التأمل الفلسفي والمعرفة العامية العفوية، حيث تطغى أحكام الذات، إلى المعرفة العلمية حيث الموضوعية. وهو ما سعى إليه أيضا إميل دوركايم الذي وضع أسس علم الاجتماع في كتابه "قواعد المنهج السوسيولوجي"، إذ دعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية كأشياء مستقلة عن ذات الباحث وتُمْكِن ملاحظتُها من الخارج. ويلحّ دوركايم على ضرورة التخلي عن الأحكام المسبقة عند الملاحظة وأن يكتفي الباحث بتحديد الخواص الخارجية المستقلة للموضوع بتخليصه من مظاهره الفردية الذاتية ما دامت الظاهرة تتميز بالإكراه الخارجي المفروض على الأفراد.

ـ لكن العلوم الانسانية في سعيها المتواصل إلى التحرر من قيود الإرث الفلسفي التأملي ظلت على الرغم من ذلك عاجزةً عن استيفاء شرط ما يسمى بالموضوعية والحتمية والقدرة على التنبؤ، ويمكن إرجاع ذلك  لأسبابٍ مبدئيةٍ تتصل بطبيعة الظواهر الانسانية المبحوثة ذاتِها، لأن الظاهرة الانسانية ظاهرةٌ مركبة أو معقدة إن صح القول، حيث إن الظواهر والأفعال الانسانية هي ظواهر واعية إرادية لا تتكرر ولا تخضع للإطراد أو التكرار.
 وهذا ما أدى إلى انتقاد استعمال المنهج التفسيري في علوم الإنسان لأنه لا يلائم خصوصية الظاهرة الواعية الحرة المتغيرة...
 نجد هذا النقد بشكل جليّ في تصور الفيلسوف الألماني فلهلم ديلتاي الذي يقيم تمييزاً بين علوم الطبيعة من جهة، وما يسميه علوم الروح من جهة أخرى: فالأولى موضوعها الطبيعة الخارجية المعزولة عن الذات، والثانية موضوعها الذات الإنسانية الواعية الحية. واختلاف الموضوع يفرض اختلاف المنهج. لذلك يقول دلتاي: "إننا نفسر الطبيعة، ونفهم الإنسان". أي إن منهج التفسير إذا كان مناسباً لدراسة الظاهرة الطبيعية، فهو ليس مناسباً لدراسة الظاهرة الإنسانية التي ينبغي أن تخضع لمنهج الفهم والتأويل.
يقوم المنهج التفهمي-التأويلي على إدراك المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل والتي تتحدد بالقيم التي توجهه. ويتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة التأويل. وهنا تحضر الذات بقوة في عملية الفهم والتأويل كذات عارفة، لكنها في نفس الوقت كذات متعاطفة ومتوحدة ومشاركة ومتفهمة لموضوعها.
ماكس فيبر:
هو ماكسيميليان كارل إميل فيبر (1864 ـ 1920)
ماكس فيبر هو واحد من أشهر علماء علم الاجتماع الألمان  وأحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث.
كان ماكس فيبر يحب تجاوز حدود التخصص العلمي الواحد. وقد شملت أبحاثه مجالات التاريخ والثقافة والاقتصاد وعلم الاجتماع.. 
 وهو من أتى بتعريف البيروقراطية، وعمله الأكثر شهرة هو كتاب الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية  فهو من أعماله المؤسسة في علم الاجتماع الديني، وقد أشار فيه إلى أن الدين هو عامل غير حصري في تطوّر الثقافة في المجتمعات الغربية والشرقية.
ويُجمِع المؤرخون على أن دراسات عالم الاجتماع الألماني تتمحور حول نشوء المجتمعات الصناعية وظهور الرأسمالية كأسلوب إنتاج جديد. ففي حين ركّز مواطنُه كارل ماركس على العوامل الاقتصادية في ظهور الرأسمالية، أعطى فيبر أهمية كبيرة للمعتقدات الدينية والقيم في نشوء وظهور هذا النظام الاقتصادي.
وكان فيبر يرى أن الأخلاق البروستنتانتية أخلاقٌ مثالية ومنها استقى النموذج المثالي للبيروقراطية والذي يتميز بالعقلانية والرشادة

يُعتَبر ماكس فيبر من أكبر العلماء الألمان الذين أسهموا في إنشاء علم الاجتماع من خلال دراسته للأفعال والسلوكات الإنسانية بشكل يختلف عن دراسة الظواهر الطبيعية، وهنا يأخذ فيبر بعين الاعتبار موقع الذات العارفة في دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها ظواهر غائية ومحدودة بهدف مقصود وبحوافز ممكنة وتقبل أن تكون موضوع تأويل تفهمي. وماكس فيبر في هذه السوسيولوجيا التفهمية يفترض أنه بإمكاننا أن نجد في ذواتنا دوافعَ كلِ فردٍ إنسانيّ، وبالتالي فمهمّة السوسيولوجيا هي الفهم بواسطة تأويل الفعل الاجتماعي لتتمكن بعد ذلك من تفسير وتفهم المعنى الذي يعطيه الإنسان لسلوكه.
إن موقف الفهم الذاتي التأويلي الذي يقر به ماكس فيبر، يعتبر أن الظاهرة الانسانية ظاهرةٌ جدُّ معقدة وبالتالي فتطبيق المنهج التجريبي إزاء هذه الظاهرة صعب المنال.
وإذا كانت الظاهرة الفيزيائية تعتمد في دراستها على التفسير والتنبؤ فإن الفعل الإنساني عكس ذلك، يخضع للتأويل والفهم الذي يساعدنا على فهم مقاصد ودلالات وغايات الفعل الإنساني التي تحددها الذات..
ويطرح لوسيان غولدمان إشكالية الفهم الموضوعي للواقع في العلوم الانسانية، حيث يقر بعجز العلوم الانسانية عن التحرر من قيود الإرث الفلسفي التأملي نظراً لعدم استيفائها شرط الموضوعية. ومرد هذا أن الباحث في مجال العلوم الانسانية أثناء معالجته لظاهرة إنسانية يعجز عن التخلص من مواقفه المضمرة وأحكامه القبلية، أي المسبقة ثم نوازعه اللاواعية، أي استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية من املاءات اللاوعي، والانحيازات المسبقة للبيئة الثقافية التي ينتمي إليها.
كذلك فإن فيلسوف العلم كارل بوبر يرى بأن النظريات العلمية لا يمكن التحقق من صحتها تجريبياً، وينتقد الحتمية التاريخية كما تتجلى في العلوم الاجتماعية.
إن الظاهرة الاجتماعية تختلف عن الظاهرة الطبيعية التي تتميّز بالثبات وبالوجود الخارجي المستقل عن الإنسان، فالظاهرة الاجتماعية ظاهرةٌ معقدة يتداخل أكثرُ من عامل في تحديدها، كما أنها ظاهرةٌ واعيةٌ يتدخّل فيها عنصر الوعي البشري ويؤثر فيها، وهذا ما يراه أيضاً كارل بوبر ويعتبره سبباً إضافياً يحُول دون الحتمية والقدرة على التنبؤ الذي تدعيه العلموية والمنهج التفسيري.

الفعل الاجتماعي:
وفقاً لمنظور فيبر وتعريفه للفعل الاجتماعي، لا بدّ من فهم السلوك الاجتماعي أو الظواهر الاجتماعية على مستويين، المستوى الأول أن نفهم الفعل الاجتماعي على مستوى المعنى للأفراد أنفسهم، أما المستوى الثاني فهو أن نفهم هذا الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي.
 ولكي نفهم عمل الفرد وأفعالَه أو سلوكَه الاجتماعي على مستوى المعنى لابد من النظر إلى دوافعِ الفرد ونواياهُ واهتماماتِه والمعاني الذاتية التي يعطيها لأفعاله والتي تكمن خلف سلوكه، أي أنه لابد من فهم معنى الفعل أو السلوك على المستوى الفردي ومن وجهة نظر الفرد نفسه صاحب هذا السلوك وبنفس الطريقة لابد من النظر إلى النوايا والدوافع والأسباب والاهتمامات التي تكمن وراء سلوك الجماعة التي يعتبر الفرد عضواً فيها. أي أنه لابد من فهم الفعل الاجتماعي على المستوى الجمعي ومن وجهة نظر الفرد كعضو في جماعة. إذاً لابد لنا من أخذ هذين المستويين في الاعتبار عند دراستنا وتحليلنا لفهم وتفسير الفعل الاجتماعي الإنساني للفرد سواءٌ من خلال مواجهته للظواهر الاجتماعية بنفسه أو من خلال مشاركته للجماعات الاجتماعية التي ينتمي إليها.
إن الفعل لا يصبح اجتماعيا إلا إذا ارتبط المعنى الذاتي الذي يعطيه الفرد للفعل بسلوك الأفراد الآخرين. وهنا تركز نظرية الفعل الاجتماعي على الأسلوب الذي يتفاعل به الأفراد فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين المجتمع من جهة أخرى وعلى الدور الذي يلعبه الفعل الاجتماعي في تكوين البنى الاجتماعية
إن فيبر يسلم أولاً وصراحة بمدخل ذاتي لنظرية علم الاجتماع وذلك بتركيزه على أن المفهومات النظرية في علم الاجتماع يتعين صوغها في ضوء نموذج محدد للدافعية التي تحرك (الفاعل الفرضى) والذي يمثل بدوره تصوراً مفترضاً، أما الخاصية الثانية فتتعلق بمدلول مصطلح " فيبر" عن " المعنى"

 وهو عندما استخدم هذا المصطلح (أي "المعنى") كان يعني به الإشارة إلى السلوك في ضوء الغرض والمرمى الذي يسعى إلى تحقيقه الفاعل.
تسعى النظرية التفهمية مع ماكس فيبر إلى فهم الظاهرة المجتمعية باستخلاص دلالات أفعال الأفراد ، واستكشاف معانيها ومقاصدها وغاياتها ونواياها. والدليل على ذلك كتابه عن الراسمالية حيث بيّن بأن الأخلاق الكالفينية البروتستانتية هي التي ساهمت في نشأة الرأسمالية، والدليل على ذلك، الأفعال السلوكية: كحب العمل، وحسن التدبير، والادخار، والاهتمام بتراكم الثروات، والابتعاد عن الزهد والتقشف والانطواء السلبي الذي نجده في الديانة الكاثوليكية.

الموقف التوفيقي:
يقول الفيلسوف البلجيكي جان لادريير (Jean Ladrière) باستحالة دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية علمية؛ لأن هذه الدراسة تغفل الجوانب الذاتية، ولا تعنى بدراسة المقاصد والقيم والغايات التي ترتبط بتصرفات الفاعلين وسلوكياتهم داخل المجتمع. ومن ثم، يكون التركيز - هنا- على التفسير في ضوء الحتمية أو الجبرية الاجتماعية، وتهميش دور الفهم في رصد دلالات الفعل الإنساني.
وفي المقابل إذا اعتمدنا التوجه الثاني (المنهج التفهمي) في دراسة السلوك الإنساني، يكون الموقف الذاتي سبباً لفقدان الموضوعية التي تسعى كل دراسة علمية إلى تحقيقها.
 ومن هنا، يصعب على الباحث السوسيولوجي أن يكتفي بمنهج واحد ويستغني عن الآخر. وبالتالي، يستحيل تطبيق التجريب العلمي على الظاهرة الإنسانية. لذا، لابد من البحث عن بديل جديد أو علمية أخرى تتجاوز نطاق العلمية التجريبية، كأن تكون علمية مرنة تتلاءم مع مرونة العلوم الإنسانية. وبالتالي فإن جان لادريير يدعو إلى تدشين صورة مغايرة وبديلة للعلمية، والسعي نحو إيجاد أداة أصيلة جديدة لمقاربة العلوم الإنسانية بصفة عامة، والعلوم الاجتماعية بصفة خاصة.
 لكن لايمكن تبني هذا الطرح حتى يتم استكشاف هذا العلم البديل، والتحقق من هذه العلمية المغايرة، وتبيان خطواتها النظرية والتطبيقية، وإلا سنكون عدميين. ويعني هذا أنه لابد من التوفيق بين المنهجين: التفسيري والتفهمي لدراسة الظواهر الاجتماعية حتى يتحقق لنا بديل علمي إنساني جديد.



محمد الحجيري
10 آذار 2017 

ليست هناك تعليقات: