الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

الإدراك الحسي


الإدراك الحسي


مقدّمة


تعريفات
الحس والإدراك الحسي


إشكالية: الأشياء والوعي بها
مجالات الإدراك
العتبة المطلقة
العتبة النسبية



طبيعة المثير وطبيعة الحس
ديكارت
برغسون
مثيرات مختلفة
مثيرات متشابهة


النظرية التعقليّة
ديكارت
البعد الثالث
الحجم الظاهري
ذبابة آلان

بركلي
المولود الأعمى

نقد


الظاهراتية




الجشطالت
قانون الشكل الجيّد
الشكل والخلفيّة
قانون الحركة ... الشكل الأقوى..
أخطاء الإدراك
ذبابة آلان من منظور جشطالتي

نقد النظريات وخاتمة













مقدّمة:
إن الحواس تشكّل البداية التي لا غنى عنها للحصول على المعرفة، إنها الشرط الضروري لأية معرفة ممكنة، لذلك يقول أرسطو بأن الذي لا يملك حسّاً لا يمكنه أن يعرف أيّ شيء.
فإذا كان المولود الأعمى لا يمكنه أن يمتلك معرفة عن الألوان، والمولود الأصمّ لا يمكنه أن يمتلك معرفة عن الأصوات أو الموسيقى، فإنه يستحيل علينا أن نتصوّر بأن الفاقد لكل أعضاء الحس، والذي يعيش في عزلة تامّة عن المحيط الخارجي، يمكن أن يكتسب أي معرفة من أيّ نوعٍ كان.
لكن هذا لا يعني أن كل معارفنا هي معارف حسّية؛ فالمفاهيم المجرّدة والمعاني الكلّية ليست أشياء يمكن أن ندركها من خلال أعضاء الحسّ: كمفهوم الخير والجمال والمساواة والسعادة والإنسانية والحقيقة... هذه كلّها وغيرها ليست أشياءَ أو موضوعاتٍ للحسّ.
فإذا كان الحسّ هو البداية الضرورية للمعرفة، فليست كل معرفة هي معرفة حسيّة، لأنه بإمكان الفكر الانتقال من الحالات الحسّية العينيّة نحو التجريد والمفاهيم العامة.
لكن كيف يمكن اكتساب المعرفة من خلال الحسّ؟
تؤدي المثيرات المتأتّية من الأشياء الخارجية إلى ردّات فعل العضو الحاس الذي ينقل هذه التأثيرات من خلال الشبكة العصبية إلى الدماغ، الذي يقوم بتحويلها إلى معرفة حسّية، وبهذه الآليّة أنظر الطاولة أمامي فأعرف شكلها ولونها ومسافتها التقريبية عنّي، أو أنظر فأعرف أن ما أراه هو رجل يتحرّك على بعد مئات الأمتار بالرغم من أن الحجم الظاهر لي هو أقلّ بكثير من الحجم الحقيقي للرجل..
لكن إذا كان الحسّ يتم من خلال التغيّرات العضويـّة الحاصلة في الجسد، بدءاً من العضو الحاسّ وصولاً إلى الدماغ، وهي بالتالي تغيّرات داخليّة ذاتيّة، فكيف لي أن أحكم بالوجود الموضوعي للأشياء؟ أي وجود أشياء في الخارج مستقلّة عني؟ أي لا أكتفي بالقول بأن لديّ وعياً ذاتياً معيّناً، بل أحكم بوجود موضوعي لأشياء في الخارج.
لماذا لا أقول بأني أملك وعياً أو حساً ذاتياّ باللون الأبيض واللون الأسود، بل أقول بأني أرى طاولة لها وجود مستقلّ وخارجي، وهي على بُعد ثلاثة أمتارٍ منّي؟
إن هذا الوعي أو الحس الناتج عن تكيّف أعضاء الحس يتواكب مع فهم وتأويل وحكمٍ بالوجود الخارجي والموضوعي لأشياءَ كانت سبباً لهذا الوعي.
ويميّز الفلاسفة وعلماء النفس في عمليّة الوعي الحسّي هذه بين مفهومين هما: الحس والإدراك الحسي؛ وهو تمييز منهجيّ غالباً، وذلك في محاولتهم تفسير ظاهرة الوعي بالأشياء الخارجية.

تعريفات:
حسب هذا التمييز، فإن الحسّ هو معطىً أوليٌّ للوعي، لم يصبح معرفة بعد. إنه هذا الاتصال المباشر بين الأعضاء الحاسّة وبين المحيط الخارجي، مثل: الحارـ البارد ـ الأحمر ـ الأصفر ـ المالح ـ الحلو..
أو هو هذا التبدّل في الوعي الناتج عن التغيّر في المثيرات الخارجية.
إنه معطىً أوليّ لدرجة أن في إطلاق مثل هذه التسميات (حارّ ـ بارد ..) نوعاً من التناقض، لأنها تفترض نوعاً من المعرفة المسبقة..
أما الإدراك الحسي فيتمثّل في إدراك معنى هذه المعطيات الأوليّة للحس، في فهمها وتأويلها وإعطائها معنى، في وضع الوعي الناتج عن هذه الانطباعات في إطارها الموضوعي الخارجي: فهذه الطاولة لها وجودها المستقل على بُعد أمتارٍ مني وليست شكلاً وألواناً في وعيي الخاص فقط: أنا لا أقول أني "أحس" باللون الأزرق، بل أقول أني أرى السماء.
إن رؤية ثعبان قربي على الوسادة يجعلني أنتفض من الهلع، بينما هو لا يمثّل للحس إلا لوناً أصفر وملمساً ناعماً وحرارةً معيّنةً...
إشكاليّة:
إذا كان الحس هو بداية المعرفة، وإذا كان الحس يختلف عن الإدراك الحسي، باعتبار الحس إشارة تجب ترجمتها وتأويلها لتصبح ذات دلالة ومعنى، فإن هذا يطرح جملة أسئلة منها:
1 ـ هل إن وعينا الناتج عن شيء خارجي يشبه هذا الشيء؟
2 ـ هل يمكن الفصل بين الحس والإدراك الحسي؟ وما هي العوامل الحاسمة في عمليّة الإدراك الحسي؟
في ما يتعلّق بالسؤال الأول، ولكي يكون هناك تطابق بين المثير الخارجي والوعي الناتج عنه، يجب توافر أمرين:
أ ـ التواكب: أي أن أيّ تغيّر في المثير الخارجي يجب أن يواكبه تغيّر في الوعي (أو الحس)
ب ـ لا يكفي حصول هذا التواكب بين المثير والحس، بل يجب أن نثبت أنهما من طبيعة واحدة، أي متشابهان فعلاً.
إن الخبرة اليومية تعلمنا بشكل أكيد بأنه ليس هناك تواكب بين المثير والحس:
ونحن سنحاول إثبات عدم التطابق من خلال الحديث عن:
                   أ ـ وجود مؤثرات في الخارج لا تصل إلى وعينا (الإدراكي)
                   ب ـ وجود مؤثرات لا تصل إلى وعينا إلا إذا بلغت قوّة معيّنة.
                   ج ـ وجود مؤثرات تصل بشكل مختلف نوعياً.

مجالات الإدراك  Domaines:
إن أعضاءنا الحاسة لا تشعر بتأثير المثيرات الخارجية إلا ضمن مجالات محدودة جداً.
ضمن الأطياف الضوئية لا يستطيع الإنسان أن يرى إلا سبعة ألوان: أدناها اللون الأحمر وأقصاها البنفسجي، أما الأطياف الضوئية التي تقلّ عن تموّجات اللون الأحمر فلا تمكن رؤيتها، وهي ما ندعوه بالأشعة تحت الحمراء. وكذلك الألوان ذات الترددات التي تتخطى تردّد الأشعة البنفسجية أيضاً فلا تمكن رؤيتها، وهي ما نسمّيه الأشعة فوق البنفسجية.
وكذلك في ما يتعلقّ ببقية أعضاء الحس. وهذا يعني أن هناك ظواهر تحصل في العالم الخارجي لا تصل إلى وعينا مطلقاً، وذلك لأن أعضاء الحس لدينا غير مهيأة لذلك أساساً.
العتبة المطلقة:
وهي الحدّ الأدنى الذي ينبغي أن تبلغه قوّة المؤثّر حتى يكون الإحساس ممكناً.
فلا يكفي أن تكون أعضاؤنا الحاسّة مهيّأة لتلقّي إشارات العالم الخارجي، بل يجب أن تبلغ تلك الإشارات قوّة معيّنة حتى تصل إلى وعينا: فبالرغم من قدرتنا على رؤية الضوء الأصفر، فنحن لا يمكننا (ليلاً) رؤية ضوءٍ أصفر على مسافة ألف متر مثلاً، إلا إذا بلغت قوّته حدّاً معيّناً.
العتبة النسبيّة:
وهي الحدّ الأدنى الذي تنبغي إضافته على مؤثّر خارجي موجود أصلاً لكي يكون الإحساس بالتغيّر ممكناً.
فإذا كنت موجوداً ليلاً في غرفة مضاءة بواسطة مصباح كهربائي، ثم أضأت شمعة إضافيّة، فإني لا أشعر بحصول زيادة في قوّة الإنارة.
ولنفترض بأن الحد الأدنى الذي يجعلني أشعر بهذه الزيادة هو من خلال إضاءة عشر شمعات، فتكون هذه الزيادة هي ما تسمى بالعتبة النسبية.
ولْنلاحظ مباشرة بأن قيمة هذه الزيادة الضرورية التي تشعرني بتغيير الإضاءة مرتبطة بشدّة الإضاءة الأصليّة، فإضاءة شمعة إضافيّة في غرفة مضاءة أصلاً بشمعة واحدة كافية لأن تجعلنا نشعر فوراً بالتغيّر في قوّة الإنارة، بينما هي غير كافية لإحداث الشعور بهذا التغيير في غرفة مضاءة بمصباح كهربائي شديد الإضاءة. وربما تطلّب الأمر زيادة عشرين شمعة إضافيّة أو أكثر لنشعر بالتغيّر.
وفي مجال الوزن  ـ على سبيل المثال ـ فإن قيمة الزيادة التي نشعر بها تشكل 1|20 من الوزن الأصلي..
إن موضوع العتبة النسبية والعتبة المطلقة تثبتان بأن هناك تغيرات تحصل في العالم الخارجي ولا يرافقها تغيّر في الوعي، وهذا يعني بأن وعينا بالأشياء لا يتطابق مع حقيقة هذه الأشياء، من الناحية الكميّة على الأقل.

طبيعة المثير وطبيعة الحس:
لقد أثبتت الأمثلة السابقة بأن التغيّرات التي تحصل في المثيرات الخارجية لا ترافقها تبدّلات في الحس بالشدّة ذاتها. لكن هل يمكن القول بأن وعينا بالأشياء يشبه هذه الأشياء؟ أو هما من طبيعة واحدة مع فروقات كمّية، أم هما من طبيعتين مختلفتين؟
ديكارت:
يرى ديكارت بأن هناك فروقات أساسية بين الإحساس الذي لدينا عن الأشياء وبين الأشياء ذاتها: "فلو كانت حاسة السمع  تحمل إلى فكرنا الصورة الحقيقية لموضوعها، لكان يجب أن تجعلنا، بدل أن ندرك الصوت، أن نتصوّر حركة أجزاء الهواء الذي يرتجف.. بإزاء آذاننا"
ثم يورد مثالاً آخر عن "ريشة تمرّ بتؤدة على شفتيّ ولد نائم فيحسّ بأنه يُدَغدغ: هل تظنون أن فكرة الدغدغة.. تشبه في شيء ما هو كائن في الريشة؟" (ديكارت، العالم، دار المنتخب العربي، ص 50)
والأمثلة كثيرة لتأكيد هذه الفروقات النوعية:
ـ فلو راقبنا مروحة هوائية (من ثلاث شفرات) نستطيع أن نتحكّم بسرعتها، لاستطعنا أن نميّز في بداية الحركة وجود الشفرات الثلاث واتجاه دورانها؛ لكننا عند الوصول إلى سرعة معيّنة تبدو لنا المروحة على شكل قرصٍ دائريّ ثابت لا يتحرّك..
أما برغسون فإنه يقول بأننا لو أردنا أن نرى الضوء الأحمر على حقيقته، (إهتزازات) لتطلّب ذلك منا أن نوزّع الاهتزازات التي تتمّ في ثانية واحدة على مدة زمنية تساوي خمسة وعشرين ألف سنة..
ومن ناحية ثانية فإن الفروقات بين الأطياف الضوئية هي فروقات كميّة: إختلاف في عدد الاهتزازات في الثانية الواحدة؛ بينما هي تبدو لنا من خلال الحس فروقات نوعيّة: أحمر ـ أزرق..
ـ إن مثيرات مختلفة قد تؤدي إلى إحساسات متشابهة:
إن لكمة على العين تنتج وميضاً ضوئياً، كذاك الذي ينتج عن مثير بصري. (وقد تنتج هلوسات بصريّة بسبب تورّمٍ يضغط على المنطقة البصرية في الدماغ).
ـ وقد تؤدي مثيرات متشابهة إلى أحاسيس مختلفة:
فإثارة ميكانيكية تُحدِث إحساساً بالضجيج إذا طُبّقت على عصب سمعيّ، وحساً ضوئياً إذا طُبّقت على عصبٍ بصريّ.
كذلك فإن لكمة على العين تُحدِث وميضاً ضوئياَ، بينما هي تحدِث طنيناً سمعياً إذا كانت على الأذن..
كل الأمثلة الواردة أعلاه تُظهر لنا عدم التطابق ما بين الأشياء المحسوسة وحسّنا بها، بل هي تُظهِر التباين الكبير بين الإثنين.
وهذا يطرح علينا أسئلة بالغة الأهمية، فهل يمكن بعد ذلك أن نركن إلى معارفنا الحسية، أو أن نثق بها؟
وإلى أيّ مدى تشبه معرفتُنا بالأشياء الأشياءَ ذاتَها؟
يرى كنط بأن معرفتنا بالأشياء الخارجية الناتجة عن الحس هي وعيُنا نحن بهذه الأشياء، أما حقيقة تلك الأشياء، أو ما يسمّيه كنط "الأشياء في ذاتها" فلا تمكن معرفتها.

مهما يكن من أمر، فنحن نملك وعياً أو إدراكاً عن الأشياء الخارجية، والسؤال الآن هو: كيف تتم هذه المعرفة أو هذا الإدراك؟ وما هي العوامل الأساسية المساعدة على حصول هذا الإدراك؟
هناك عدّة نظريات قدّمت لنا إجابات عن هذا السؤال، أهمها: المدرسة التعقّليّة والمدرسة الجشطالتية أو مدرسة علم نفس الشكل.




العوامل المؤثّرة في عملية الإدراك الحسي:
لقد اختلفت المدارس الفلسفية في موضوع العوامل المؤثرة في الإدراك الحسي، وأهمها عاملان اثنان:
                             ـ العامل الذاتي : وهذا رأي المدرسة التعقلية والمدرسة التجريبية، بالرغم مما بين المدرستين من تباينات..
                             ـ العامل الموضوعي: مدرسة علم نفس الشكل (الجشطالت).
النظرية التعقّلية:
يعرّف لالاند Lalande   الإدراك الحسي لموضوع ما بأنه الفعل الذي نقوم من خلاله بتنظيم إحساساتنا الحاضرة، وبتأويلها وإكمالها بصوَرٍ وذكريات، ونحكم، من خلال الإدراك الحسي بالوجود الواقعي المستقل عنا للأشياء.
الإدراك الحسي يفترض إذاً بناءً ذهنياً يضع موضوعات الحس الداخلية المعيوشة في إطارها المكاني، ويقوم أيضاً بتأويل تلك الإحساسات وإعطائها معنىً: فأنا أدرك حقولاً وبيوتاً وأطفالاً وليس خطوطاً وألواناً فقط.
يُعتبر ديكارت، صاحب ثنائية الروح والجسد، أهم ممثل للمدرسة التعقليّة، فهو يرى بأن الإدراك الحسي تواصل مع الواقع الخارجي، لكن من خلال حجاب الحس. فالحس إذاً هو مصدرٌ للأخطاء، ويجب أن نتخلّص من الحس حتى نتمكّن من الوصول إلى حقيقة الأشياء، بواسطة الذكاء والفكر فقط. (مر.تر.ف)
إن الأفكار هي حالات نفسية داخلية، بينما الأشياء مادية وتمتاز بوجودها الممتد في المكان (في الخارج). (الحكم بالوجود الموضوعي للأشياء وليس فقط وصف حالات نفسية داخلية.
فإذا كان الحسُّ حالةً ذاتية للنفس، حالة معيوشة مرتبطة بتبدّلات الوعي، فكيف يمكننا من خلال ذلك تفسير الإدراك الحسي لشيء موجود في المكان؟
إن الإدراك الحسي ـ يجيب التعقليون ـ هو إصدار أحكام عقلية على معطيات الحس الأولية، وذلك ينطبق على إدراك المكان أيضاً، الذي هو موضوع للحكم العقلي وليس للحس، إنه فعل ذهنيّ أكثر من أيّ شيء آخر.
إذا كانت أعضاء الحس تقدّم لي حساً بدائرة صفراء بحجم الدينار، كما يقول الغزالي، فإني أدرك بأني أرى الشمس، وبأنها كرة كبيرة الحجم، ملتهبة وبعيدة..
البعد الثالث:
والمقصود بالبعد الثالث هو العمق أو المسافة وكيفية إدراكها..
إني أنظر ذلك البيت، فأعرف أنه على بُعد مئات الأمتار مني، وبأن تلك الأشجار أبعد منه بكثير..
وإدراك المسافة هذا، ليس معطىً أو انطباعاً حسّياً، إنه حكم عقلي وتأويل لمعطيات الحس.
إنه تأويل الحس وإعطاؤه معنىً
إن البصر يقدم لي ألواناً وخطوطاً بمساحات مختلفة، كما يحصل عندما أشاهد التلفزيون مثلاً، لكن العقل هو الذي يوحي لي بالمسافة، وذلك ما يحصل لي أيضاً عند تأملي لوحة على الجدار.. فأرى الأشياء على مسافات متباينة.. بينما ما يقدمه لي البصر هو ألوان على مسافة واحدة.
الحجم الظاهري:
إن الخبرة الماضية والذاكرة تسمحان بتقدير الحجم الحقيقي لموضوعٍ مألوف.
فالحصان الذي يبدو لنا أصغر من حجمه الحقيقي بكثير، نستطيع
 أن نقدّر حجمه الحقيقي وأن نقدّر مسافته أو بُعده عنّا، (إني أرى الحصان البعيد
بحجم الأرنب ومع ذلك فإني أحكم بأنه حصان).
أو الطائرة البعيدة التي تبدو لنا بحجم الذبابة....فنحكم بأنها طائرة بعيدة..
وهي أمور تعود للإدراك الحسي وليس لمعطيات الحس الخالصة والذاتية.
أو هي ـ حسب مصطلحات المدرسة التعقلية ـ : إصدار أحكام عقلية على معطيات
الحس الأولية.
مكعّب آلان  Alain:
  يقول آلان أننا حين ننظر رسماً للمكعّب،
 فبإمكاننا أن نرى ثلاثة سطوح على الأكثر، لكننا نحكم بأنه مكعّب،
 بالرغم من أن للمكعّب ستة سطوح.


إذاً، نحن نعود إلى خبراتنا السابقة، إننا نتذكّر ونحكم على الرسم من خلال التذكر والخبرات الماضية.
أما ديكارت فيقول بأننا نرى معاطف وقبّعاتٍ تتحرك وليس أكثر، ولكننا نحكم بأنهم أناس من لحم ودم..


بركلي:
ترى المدرسة التجريبية بأن العقل يولد صفحًة بيضاء، وبأن كل معارفنا مكتسبة من الخبرات السابقة
يؤكّد بركلي  Berkeley  بأن إدراك المسافة ليس فطرياً، بل مكتسب بالخبرة، وبأن المولود الأعمى، فيما لو تمكّنا من خلال الجراحة أن نجعله مبصراً، فإنه لن يتمكّن من تقدير مسافة الأشياء المرئية فوراً، بل لا بدّ له من التعلم واكتساب مهارة تقدير المسافة.
ويبدو أن الطبّ قد رجّح رأي بركلي بعد عشرين عاماً، حيث تمّ إجراء عملية جراحية لأحد الأشخاص المحرومين من البصر منذ ولادتهم، وأدّت الجراحة إلى إعطائه القدرة على الإبصار: إنه يعلن بعد إجراء العمليّة بأن، الأشياء تلامس عينيه؛ لقد كان بحاجة إلى بضعة أيام ليدرك المسافة، وإلى أسابيع ليستطيع تقديرها بشكل مقبول.
إذاً، فالإدراك الحسي مرتبط بالخبرات والمعارف الماضية. هذا هو رأي المدرسة التجريبية وباركلي.
وبركلي أيضاً لا يرى الخجل على الوجوه، كل ما يراه هو احمرار الوجه، ويستنتج  بأنه ..الخجل، وذلك بناءً على الخبرات السابقة المشابهة.
إن الإدراكات الحسّية ترتبط بشبكة معقّدة من الذكريات ومن الأفكار المترابطة. إنها بمعنى آخر ترتبط بثقافة الفرد: الذي أراه مكتبةً يراه الآخرون مجرّد خزانة ثياب، هناك إذاً عملية إسقاط ثقافي في عملية الإدراك الحسّي: لقد كان الناس في العصور الوسطى يرَوْن الجنّ في كل مكان، لأنهم كانوا يُسقطون خرافاتهم العديدة التي كانوا يعرفونها أو قرأوها..(ويسمان ص21).. (بينما هم يرَوْن الصحون الطائرة في زمنٍ تشغل فيه الناسَ فكرةُ وجود حياة على كواكب أخرى...)
إننا نجد صعوبة في تمييز أخطاء الطباعة، لأننا قبل القراءة نُسقط خبراتنا ومعارفنا وذكرياتنا على الكلمات المقروءة، فنقرأها كما يجب أن تكون لا كما هي مكتوبة بالفعل.
أخطاء الإدراك:
كذلك فإن أوهام الحسّ وأخطاءه تعود لأخطاء إدراكية وليس للمعطيات الحسّية، أي لتأويل المعطيات الحسّية.
فالذي يقوم بألعاب الخفّة على المسرح يجعلنا نتوهّم اقتراب كرةٍ نحونا، بينما هو لا يفعل في الواقع سوى أن يجعلها تكبر بشكل مفاجئ من خلال جعلها تنتفخ، ولكن بطريفة غير مرئيّة..
كذلك إدراك البعد الثالث على شاشة التلفاز، وذلك من خلال التحكّم بالمساحة اللونيّة على شاشة ذات بعدين اثنين (أي مسطّحة)، فزيادة المساحة المعطاة لصورة ما، تعطينا الانطباع بأنها تقترب..
أخطاء الإدراك الحسي:
إن العلاقة بين الحجم والمسافة واضحة في عمليّة الإدراك الحسي، وهذا ما يؤدي بنا أحياناً إلى الوقوع في أخطاءٍ إدراكيّة، كأن نتوهّم لوهلة أننا نرى طائرة بعيدة في الفضاء، لنتبيّن بسرعة أنها ذبابة تطير على بُعد أمتار قليلة منّا.
الانطباع الحسي لم يتغيّر، الذي تغيّر هو تأويل هذا المعطى أو الأحكام العقليّة على هذا الانطباع الحسي.
يروي لنا آلان (من المدرسة التعقليّة) أنه بينما كان يتأمل بشرود منظراً طبيعياً من نافذة القطار، بمروجه وجباله ومراعيه وذاك القطيع من الأبقار... وفجأة يشاهد مخلوقاً مسخاً (مشوّهاً)، هائل الحجم وله ستّ قوائم، قريباً من إحدى البقرات؛ يفرك عينيه ليتبيّن أن ذاك المسخ ليس إلا ذبابة على نافذة العربة على بُعد سنتيمترات قليلة منه..
(هناك إذاً تمييز واضح ما بين الحسّ الخالص والإدراك الحسي الذي هو عبارة عن أحكام عقليّة، لذلك نجد المدرسة الانطباعية في الرسم، وتحت تأثير المدرسة التعقليّة تحاول أن تثير إحساساتنا الأوليّة الخالصة باللون من خلال لوحاتهم الانطباعية.)
النقاط الأساسية لدى المدرسة التعقليّة هي أن هناك انفصالاً ما بين الحس والإدراك الحسي.
فالإدراك الحسي هو عبارة عن إعطاء معنىً لمعطيات الحس الأوليّة، إنه أحكام عقليّة.
ثم إن أخطاء الإدراك الحسي ناجمة عن أخطاء في الأحكام العقليّة على معطيات الحس، وليس بسبب هذه المعطيات نفسها.
إنها تؤكّد على العوامل الذاتية في عمليّة الإدراك: على معارف الفرد وخبراته السابقة، وبالتالي يكون الإدراك الحسي ناتجاً عن شكل من أشكال التعلّم.
لكن السؤال هو: هل هناك انفصال حقاً بين الحس والإدراك الحسي؟
والأخطاء الإدراكية، أهي بسبب خطإٍٍ في الحكم حقاً؟
وما هي قيمة العوامل الذاتيّة والعوامل الموضوعيّة في عملية الإدراك الحسي؟

نقد النظرية التعقّلية:
ـ إن التمييز بين الحس والإدراك الحسي هو تمييز منهجي كما سبق القول، بمعنى أنهما غيرُ منفصلين في الواقع، إنما يتم فصلهما افتراضيا خلال التحليل ومحاولة فهم عملية الإدراك الحسي. ولا يمكننا الحصول على الفصل بين الاثنين إلا في حالتين اثنتين:
1 ـ الأولى في مختبرات علم النفس، حيث يمكن الحصول على انطباعات حسّية خالصة.
2 ـ والثانية في بعض الحالات المَرَضيّة، حيث يعيش المريض الانطباعات الحسّية دون أن يستطيع إعطاءها معنى، كالمريضة التي تتلمس شيئاً فتصفه بأنه مسطّح، مستطيل، مستمر من ناحية ومتقطّع من الناحية الأخرى.. دون أن تتوصّل إلى معرفة أن ما تتلمّسه هو مشط لتسريح الشعر.
مع الإشارة إلى أن هذه الحالات الاستثنائية لا يُعتدّ بها (لا يمكن أن يُعتمَد عليها) ولا يمكن الاستناد إليها للقول بالفصل بين الحسّ والإدراك الحسي.
لقد تلقّت النظرية التعقليّة انتقاداتٍ من أكثر من مدرسة فلسفيّة أهمها المدرسة الظاهراتية والمدرسة الجشطالتية (مدرسة علم نفس الشكل)
المدرسة الظاهراتية:
تدعو المدرسة الظاهراتية إلى وصف الظاهرة كما نعيشها في الواقع، وأن نعلِّق (نؤجّل) الحكم على النظريات والفرضيات المسبقة، وأن نستكشف ما نعيشه من خلال الوعي فقط. (أو أن نضع الظاهرة موضع البحث بين قوسين).
وفي هذا الإطار هي تنتقد الفرضيات التي قالت بها المدرسة التعقلّية حول الفصل ما بين الحس الخالص الأوّليّ والإدراك الحسي، وحول فرضية الأحكام العقلية.
ليس هناك ما يثبت وجود حسّ خالص وذاتي والذي يتطلب عملاً ذهنياً لوضعنة الشيء المدرَك حتى يتحوّل إلى إدراك حسّي. (أيّ تحويله من حس ذاتي إلى إدراك بأنه متمايز عنا وله وجوده الخارجي المستقلّ).
فالحسّ، كما يقول ميرلوبونتي، هو تواصل حيوي مباشر مع العالم، ولا وجود لِحِسٍّ ولإدراك حسّي بشكل مستقلّ، إنهما شيء واحد، وما القول بالحسّ الخالص إلا خرافة.
وحالات فقدان الإدراك المَرَضِيّة ليست عودة إلى الحس الخالص الأصلي بقدْر ما هي تفكيك مَرَضيّ للإدراك؛ إنها بقايا الإدراك المبعثرة والمضطربة والتي لا يمكن لها أن تكون مشابهة للعناصر الأولى للإدراك الحسي.
مدرسة علم نفس الشكل (الجشطالت):
ترفض مدرسة الجشطالت أيضاً التمييز ما بين الحس والإدراك الحسي.
 إن الإدراك الحسي ليس عملية تجميعٍ لمعطيات الحس المتفرّقة، ثم إعادة تأويلها وإعطاؤها معنىً من خلال إصدار الأحكام العقلية عليها.
إنها ليست عمليّة ذهنية تُطَبَّق على معطيات حسّية سابقة ومعزولة، كما أنها ليست إدراكاتٍ حسّية لعناصر الشيء المدرَك، كل عنصر على حِدَة، ثم إعادة بنائها وتجميعها، بل هي عملية إدراك مباشرة وكلّية للبنية الإجمالية الكلّية للشيء.
الإدراك الحسّي يتم دفعة واحدة وبشكل إجماليّ، إنه يتم بسبب ما تفرضه البنية الإجمالية للشكل على وعينا دفعة واحدة. وطريقة الإدراك لا ترتبط بأحكام العقل، بل بهذا التنظيم الذي تتخذه البنية، وبحسب قوانين عديدة أسهب الجشطالتيون في تعدادها، منها :
1ـ قانون الشكل الجيّد
2ـ قانون الشكل الأقوى
3ـ قانون التجاور
4ـ قانون المحاكاة أو التشابه
5ـ قانون الشكل والخلفية .. وغيرها.
6ـ قانون الحركة
7ـ قانون المسافة

قانون الشكل الجيّد:
فالموضوع يفرض نفسه على وعينا بسبب شكله الجيّد مثلاً. فالشكل الهندسي المنتظم والمتناسق هو ما يلفت انتباهنا بين أشياء عديدة لا شكل محدّد لها.
فنحن حين ننظر إلى السماء المليئة بالنجوم، فإن ما يلفت انتباهنا هو مجموعة من النجوم تتّخذ شكلاً هندسياً محدّدا: مربّعاً أو خطاً مستقيماً...
قانون الشكل الأقوى:
والنجم الأكثر سطوعاً أو الشكل الأكثر إضاءة أو الصوت الأقوى هو الذي يفرض نفسه على وعينا أكثر من سواه.
قانون التشابه:
تحدّث الجشطالتيون عن قانون المحاكاة أو التشابه: فالعدد 225544 مثلاً يفرض نفسه على وعينا على شكل ثلاثة أزواج من الأرقام المتشابهة، عكس العدد الذي لا يتضمّن مثل هذا التشابه: 358147.
قانون الشكل والخلفيّة:
كما تحدّث الجشطالتيون عن قانون الشكل والخلفيّة: فالصفحة البيضاء تشكّل خلفيّة بينما تشكل النقطة السوداء شكلاً.
ومن الممكن أن تتناوب الخلفية والشكل الأدوار في بعض النماذج، مثل صورة الكأس المحاط بوجهين متقابلين، فإن الشكل يتغيّر كل مرّة نغيّر فيها طريقة تركيزنا على المشهد.

من الملاحظ حسب المدرسة الجشطالتية بأن تغيّراً يطرأ على بعض عناصر المشهد يمكن أن يؤدي إلى تغيير البنية الإجمالية بالكامل للمشهد.
إن الجزء في كلّ،هو شيء يختلف عن هذا الجزء منعزلاً أو مندمجاً في مكان آخر، وذلك بفضل الخصائص التي يكتسبها الجزء من موقعه ومن وظيفته في كل حالة، فنحن نرى مجموعة من الدوائر على شكل مجموعات ثنائية بينها مسافات فاصلة. (أنظر الشكل)
  
 




فإذا أدرجنا خطاً عامودياً بين كل نقطتين، تتغير البنية الإجمالية للمشهد، ليصبح عبارة عن دوائر ثنائية محدّدة بفواصل عامودية يضاف إليها نقطتان منفصلتان: عن اليمين وعن اليسار. (أنظر الرسم التالي).

 






تفسير أخطاء الإدراك بين التعقليين والجشطالتيين:

كما فسّر التعقليون الإدراك الحسي بأنه إصدار أحكام عقليّة على معطيات الحس؛ فإنهم قد فسّروا أخطاء الإدراك بأنها ناتجة عن أخطاء في الأحكام العقليّة.
أما الجشطالتيون فكما فسّروا الإدراك الحسي (الذي قالوا بأنه ناتج عما تفرضه البنية الإجمالية للشكل على وعينا) فإنهم قد فسّروا الأخطاء الإدراكية بنفس الطريقة، فهذه الأخطاء  ناتجة أيضاً عن البنية الإجمالية للشكل، المدرَكة كمشهديّة إجمالية واحدة. (في ما يتعلّق بأخطاء الإبصار).
ويوضح الجشطالتيون نظريتهم من خلال العديد من الأمثلة منها:
أ ـ فالشكل الإجمالي للمشهد يجعلني أرى في بعض الأحيان خطوطاً منحنية، بينما هي في الحقيقة مستقيمة تماماً.


ب ـ إذا لاحظنا دائرتين متساويتين تماماً، محاطتين بدوائر غير متساوية، لبدت إلينا الدائرة المحاطة بدوائر صغيرة أكبر من تلك المحاطة بدوائر كبيرة، وذلك لأننا ننظر إلى الدائرتين كبنية مشهدية واحدة، أو كبنية إجمالية واحدة وفي وقت واحد.

 











ج ـ السهمان المتساويان:
إني لو نظرت إلى خطين متساويي الطول، أحدهما يتضمّن سهمين يتجهان نحو الداخل، والآخر يتضمّن سهمين يتجّه نحو الخارج، لبدا لي بأن الثاني أطول من الأول رغم أنهما متساويان، وما ذلك إلا لأني أنظر إليهما كبنية واحدة وفي وقت واحد.




ذبابة آلان من منظور جشطالتي:
لقد أرجع آلان الخطأ الإدراكي حين ظنّ لوهلة الذبابة الموجودة على شباك القطار بأنها حيوان ممسوخ موجود في المراعي البعيدة (أو أن نظن حشرة طائرة بأنها طائرة بعيدة ثم نكتشف زيف هذا الإدراك)؛ لقد أرجع ذلك إلى خطأٍ في الحكم العقلي ، فكيف يمكن للمدرسة الجشطالتية أن تفسر هكذا أخطاء؟
يمكن تفسير الخطأ الإدراكي هنا بردّه إلى رؤية الذبابة في بنيتين إجماليتين مختلفتين:
1 ـ البنية الحقيقية: وهي انتماء الذبابة إلى البنية التي تشكلّها نافذة القطار.
2 ـ البنية الثانية: هي حين تم اعتبار الذبابة جزءاً من البنية أو المشهد البعيد حيث المرعى الذي ترعى فيه البقرات..

نقد النظريات:
المولود الأعمى:
لقد تم توجيه النقد إلى مثال المولود الأعمى الذي يقول ـ بعد إجراء العملية الجراحية وتمكّنه من الإبصارـ يقول بأنه يشعر بالأشياء تلامس عينيه، بأنه يقول ذلك لأنها المفردات الوحيدة التي كانت بحوزته.
ثم إن إدراك البعد الثالث له علاقة بالنضج العصبي، وبمطابقة الصورة المقدّمة من العينين اثنتيهما في وقت واحد.
ألا نرى فراخ الطيور تلتقط الحبوب بمهارة، فهي تقف على المسافة المناسبة لتتناول الحبوب بمنقارها، فهل هذا يعني ـ حسب النظرية التعقليّة ـ بأن هذه الفراخ تصدر أحكاماً عقلية تقدّر من خلالها المسافة؟!
رأي برغسون:
يطلق برغسون على الحس تسمية "الإدراك الخالص" أو المحض، ويرى بأنه يجب أن نأخذ في الاعتبار بأن الجسد وجود حيّ يمارس تأثيره أيضاً على العالم (وليس فقط يتأثّر به)
إن الإدراك الحسي ليس أداة معرفةٍ بقدر ما هو أداة فعل وحياة.
أن ندرك شيئاً، حسب برغسون، يعني أن نعرف الإفادة منه، لذلك فإن الوعي يضيف إلى الإدراك الحسي الذكريات المفيدة التي تساعد على الفعل.
لذلك فإن قولنا بأننا ندرك يعني أننا نتذكّر، وبالتالي لا يمكن أن ندرك ما لا نعرفه، أو أن إدراكنا مرتبط دائماً بمعارفنا السابقة؛ لذلك يمكن لنا أن نعتبر فاكهةً غريبة لم نعرفها سابقاً بأنها من الخضار. (مر. تر.ف)
وبرغسون هنا يوسّع كثيراً من مفهوم الإدراك الحسي، ويجعل كل المعارف السابقة في خدمته: فهل يمكن اعتبار معرفتي بأن هذا الكتاب يتضمّن قصيدة للمتنبي لأني قرأتها فعلاً في مرات سابقة، هل يمكن اعتبار هذه المعرفة إدراكاً حسّياً أم أنه نوع آخر من المعرفة؟...

ماذا يمكن لنا أن نقول بعد أن رأينا وجهات نظرٍ متقابلة حول الظواهر ذاتها؟ أي تلك الظواهر المتعلقة بعملية الإدراك الحسي.
إن القول بأن الإدراك الحسي يتم دفعة واحدة، وبأنْ لا وجود لعمليات حس أوليّة مستقلة هو قول يبدو مقنعاً.
وإذا كنا نستطيع التأكيد مع التعقليين  على أهمية التعلّم والخبرات السابقة في تصويب معارفنا عن الموضوعات المدرَكة، وهو أمر يؤكده برغسون أيضاً، لكن هذا لا يجوز أن يؤدي إلى القول بالفصل بين الحس والإدراك الحسي الذي يقول عنه التعقليون بأنه أحكام عقلية تأتي بعد الحس.
إن التعليل العقلي والخبرة الماضية تقلّل من أخطائنا في معرفة الأشياء، لكنها لا تثبت أن الإدراك الحسي نفسه هو حكم عقلي.
إني أرى شكلاً مستطيلاً أمامي وعلى مسافة أمتار مني، يحتوي رسوماً وحروفاً، وعند تفحصّه أجده كتاباً.
وحين أرى شكلاً مشابهاً فإن خبرتي السابقة تجعلني أتوقّع أن يكون كتاباً أيضاً.
فالخبرة الماضية تُفيد معرفتي عن هذا الشيء، إنها خبرة تفيد معرفتي الحاضرة، ولكن هذه المعرفة ليست هي الإدراك الحسي.
حين اعتبرت المدرسة التعقليّة الإدراك الحسي أحكاماً عقلية فقد ركزت على الذات العارفة.
في المقابل فقد ركّزت المدرسة الجشطالتية على أهمية الموضوع، وبذلك تؤكّد على أمر مهم، لكن من غير الجائز إهمال الذات العارفة واهتماماتها ومصالحها.
في غرفة مليئة بالأشياء، إن ما يفرض نفسه على وعي الطفل هي الألعاب، وعلى وعي المثقّف هي الكتب، وعلى وعي الجائع رغيف الخبز...
إن قوانين الشكل مهمّة، وقد وجدت تطبيقاتها في التقنيات الحديثة للتعليم، التي أصبحت تركّز على البنية الإجمالية ثم يأتي الانتقال بعد ذلك للتفاصيل. (البدء بتعلّم الكلمة أولاً ثم تأتي الحروف بعد ذلك).
كما وجدت تطبيقاتها أيضاً في عالم الإعلانات والتسويق. لكن حتى تكون الصورة مكتملة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الأشخاص المعنيين بذلك.
إذا كان التحيّز يفرض تركيزاً على أمورٍ وإهمال أخرى، فإن الموضوعيّة تتطلّب أن ننظر إلى المسألة بكافّة أبعادها، والإفادة من الآراء المقنِعة حتى لو جاءت من مدارس ومذاهب متعارضة.
إن عملية الإدراك الحسي لا يمكن فهمها إلا من خلال الكائن الحيّ بميوله وحاجاته وقيَمِه، ويعبّر عن وجود الإنسان في هذا العالم: إنه إنسان كائن في موقف، كما يقول الوجوديون.
إنه يرى الأشياء كما هي لأن لها نوعاً من الوجود الموضوعي أولاً، وفي ذلك اعتراف بأهمية العالم الخارجي في عملية الإدراك.

ثم إنه يراها كما هو ثانياً، لأنه يراها من خلال ميوله وخبراته الماضية: إنه يُكسِب الأشياء ـ إضافة إلى وجودها هي ـ شيئاً من وجوده هو، وبذلك يكون الإدراك الحسي نوعاً من الاتصال الحيوي بين الذات والموضوع على حدٍّ سواء.

2 - العمليات الذهنية :
يقسم لوك العمليات الذهنية إلى أنواع عديدة تبعاً لنظريته حول الأفكار البسيطة والأفكار المركبة. فهناك عمليات ذهنية مرتبطة بالأفكار البسيطة، أولها الإدراك الحسى، وهو أول مرحلة فى التفكير. وعلى الرغم من أن الإدراك الحسى
perception عملية ذهنية تتضمن التفكير، إلا أنه ليس تفكيراً بالمعنى الحرفى للكلمة، إذ لا ينطوى على الفاعلية والنشاط بل يتضمن السلبية والتلقائية، أى أن الإدراك الحسى هو التفكير السلبى الذى يقتصر على تلقى الإحساسات كما هى دون أن يتعامل معها بالربط بينها ودون أن يكتشف فيها أي علاقات( 25).
وعلى الرغم من أن الإدراك الحسى ملكة سلبية متلقية
، إلا أن لوك يضيف إليه شيئاً من الفاعلية، وبذلك لا تكون سلبية تماماً، فغالباً ما يتم تعديل الإحساس عن طريق فعل تلقائى للذهن.
فالأشياء البعيدة تبدو صغيرة، وعلى الرغم من ذلك يعرف الذهن أنها ليست صغيرة كما تبدو لأنها سوف تظهر بحجمها الحقيقى عندما تقترب. [يشبه التعقلية]
هذا التعديل للإدراك الحسى يتم بتلقائية وبدون وعى كامل من الذهن، ولأنه تعديل تلقائى غير واع فإن لوك لا يلحقه بأى ملكة أعلى من الإدراك الحسى نفسه. وتعديل الإدراك الحسى هذا يسميه لوك حكماً judgment قاصداً منه أن عملية الإدراك تنطوى فى ذاتها على حكم، وهو حكم عقلى، لأن العقل يحكم على الشئ البعيدة الصغير بأنه كبير فى حقيقته على الرغم من الصغر الذى يبدو عليه( 26). وعلى الرغم من أن الحكم فعل عقلى إلا أنه لا يتضمن نشاطاً مقصوداً كملكة الفهم بل هو فعل تلقائى لملكة الإدراك الحسى.
ومعنى هذا أن هناك حكماً يقع فى نطاق الإدراك الحسى السلبى، وهذا النوع من الحكم سابق فى وجوده وأولويته على الحكم بالمعنى المعرفى الإبستمولوجى الذى يقوم به الفهم. والحقيقة أن هذه الفكرة تعد من إنجازات لوك الكبرى، ذلك لأن النظريات السابقة عليه فى المعرفة كانت دائماً ما تنظر إلى الحكم على أنه فعل للفهم والعقل فقط، أما لوك فقد اكتشف وجود الحكم فى مستوى الإدراك الحسى نفسه، وهو يعد حكماً من نوع مختلف عن حكم الفهم والعقل.

(عن مقالة لـ أشرف حسن منصور)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق