الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

الذاكرة







الذاكرة
                                                                                  







إعداد محمد الحجيري







الذاكرة







الصفحة
1 ـ مقدّمة


1
2 ـ العوامل المؤثّرة في تثبيت الذكريات

ـ العوامل الموضوعية
ـ العوامل الذاتية


2
3 ـ تخزين الذكريات

أ ـ النظرية التجريبية (ريبو)
ب ـ نقد نظرية ريبو (برغسون)
ج ـ الذاكرة|العادة (برغسون)
د ـ نظرية برغسون في الذاكرة.
هـ ـ مناقشة: ـ ميرلو بونتي
و ـ العامل الاجتماعي

5
5
6
6
7
8

4 ـ أمانة (دقّة) الذكريات

أ ـ تطوّر الذكريات
ب ـ الذاكرة العاطفيّة
ج ـ ملاحظات نقديّة


9
9
10
5 ـ مشكلة النسيان


10

6 ـ الوهم أو التعرّف الخاطئ


12


















الذاكرة

1 ـمقدّمة:
الإنسان هو الكائن ذو الأبعاد ـ كما يرى هيدغر ـ فهو كما يعي الحاضر من خلال الإدراك الحسي، فإنه يعيش قلق المستقبل من خلال المخيّلة التي تجعل من الفقر والموت والمرض في قادم الأيام همّاً حاضراً؛ وكما يتّجه نحو المستقبل من خلال المخيّلة، فإن الإنسان يتّجه بواسطة الذاكرة نحو الماضي.
فهذا العالم المتغيّر لا يجد بعض الثبات إلا من خلال ذاكرتنا التي تحفظ أحداث الماضي وتملك القدرة على استعادة الوعي بها، وبذلك يصح القول بأننا "لا نملك بشكل أبديٍّ إلا ما فقدناه نهائياّ"، أي حين يصبح جزءا ً من الماضي! ونملكه لأننا نستحضره في وعينا بواسطة الذاكرة التي يقال عنها بأنها "ثأر الإنسان من فرار الأيام".
فالذاكرة هي وظيفة نفسّية تعيد إنتاج حالات وعي ماضية مع المعرفة بأنها تنتمي إلى الماضي.
وهي بذلك تختلف عن الهلوسة التي تؤدي أحياناً إلى استعادة حالات وعي ماضية، لكنها لا تنسبها إلى الماضي، بل تظنها واقعاً حاضراً..
إنها تلك القدرة على التمثّل الانتقائي للمعلومات، والاحتفاظ بها بطريقة منظّمة، وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في المستقبل؛ وذلك تحت شروط أو ظروف محدّدة. (سيكولوجيا الذاكرة، ص 17).
إن اللحظة الحاضرة إذاً ليست نقطة تفصل الماضي عن المستقبل ـ الماضي الذي انعدم وتلاشى إلى الأبد (لأن الوقت لا ينتظر)، والمستقبل الذي لم يحن أوانه بعد ـ بل الحاضر هو لحظة تجمع الماضي والمستقبل في وعي الإنسان.
إننا حين نتّجه نحو حافة الحاضر ـ التي هي المستقبل الوشيك ـ نشعر أننا نملك الإرادة الحرّة في اختيار سلوكنا القادم، ولا نستطيع إلا أن نقرّر.
لكن بمجرّد إنجاز الفعل، مهما يكن هذا الفعل، فإنه ينتمي فوراً إلى الماضي، ويتعذّر بالتالي القيام به بشكل آخر: لقد تمّ وانتهى…
ويدخلنا تأنيب الضمير في صراع مع أمر لم يعد موجوداً، وكأنه صراع مع أشباح، فهذا الماضي قد فَقَدَ وجودَه بشكل أبديّ ولم يعد موجوداً إلا من خلال الذاكرة التي تدخلنا في صراع عبثي من خلال تأنيب الضمير، صراع مع ماضٍ يتعذّر إصلاحه، أو من خلال التأسف والحنين مع ماضٍ لا يمكن أن يعود. (سلوم)
لا يبقى لدينا إلا هذا الوعي بالماضي، فالماضي نفسه لا يمكن أن يعود، وهذا ما دفع بالقديس أوغسطين لنفي وجود الماضي كما لنفي وجود المستقبل: في الواقع ليس هناك إلا ثلاثة أشكال للحاضر: حاضر مرتبط بالماضي وهو الذاكرة؛ وحاضر مرتبط بالمستقبل وهو الخيال؛ وحاضر مرتبط باللحظة الراهنة من خلال الإدراك الحسّي.
وهكذا فإن الوعي يتعالى على الزمان من خلال الذاكرة والخيال كما يرى برغسون، (كما أنه يتعالى على المكان من خلال الإدراك الحسّي في إدراكه للبعد الثالث)
الأيام تمضي أما أنا فأبقى، وذاكرتي تثأر من ذهاب الأيام بأن تحفظ خبراتي الماضية.
لكن السؤال هو: ما هي الأحداث التي تحفظها لنا الذاكرة؟ وما هي العوامل المؤثرة في ذلك؟
ـ كيف تحفظ الذكريات وأين؟
وهل تحفظ لنا الذاكرة أحداث الماضي كما هي، أم هناك تحريف ما أو تعديلات لتلك الأحداث؟

2 ـ العوامل المؤثّرة في تثبيت الذكريات: ـ العوامل الموضوعية.
                                                       ـ العوامل الذاتيّة.
لقد اختلفت المدارس الفلسفية حول تحديد حفظ الذكريات ومكانها، وحول الخبرات التي تحتفظ بها الذاكرة، أهي كامل الخبرات الماضية أم بعضها؟ وإذا كانت الذاكرة تحتفظ بجزء من الخبرات الماضية، فعلى أي أساس يتم اختيار تلك الخبرات المحفوظة؟
بالرغم من أن بعض المدارس الفلسفية ترى بأنه لا شيء من خبرات الماضي يتلاشى، إلا أنه يبدو أن حفظ الذكريات يتم بشكل جزئي، وهذا ما تعزّزه الخبرة اليومية، فنحن لا يمكن لنا أن نحتفظ بكامل ماضينا، ولا مصلحة لنا بذلك، لأن الكثير من تلك الخبرات غير ذي فائدة.
فعلى أي أساس يتم الاختيار في تثبيت الذكريات؟
          أ ـ العوامل الموضوعية:
ترى مدرسة الجشطالت (مدرسة علم نفس الشكل) والتي تؤكد دوماً على أهمية الموضوع، بأن البنية أو الشكل الإجمالي هو الذي يحدّد ما نحتفظ به في ذاكرتنا:
إن أصواتاً عشوائيّة (أصوات يصدرها طفل على آلة موسيقية بشكل عشوائي مثلاً) أو أشكالاً عشوائية تتطلب جهداً كبيراً لتثبيتها في الذاكرة، على عكس المقطوعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية اللتين يسهل حفظهما.
من السهل على التلامذة حفظ الدرس أو الدعاية التلفزيونية على شكل أغنية.
ومن السهل حفظ رقم هاتف مميّز (333111) (قانون التشابه..)
إن حفظ بيت من الشعر أو سطرٍ من السجع أسهل من حفظ سطر نثريّ أو كلمات مبهمة لا معنى لها..

          ب ـ العوامل الذاتية:

لكن من الواضح بأن المدرسة الجشطالتية لا ترى إلا نصف الحقيقة بتأكيدها على العامل الموضوعي الخارجي، لأنها تهمل  أهمية العوامل الذاتية في انتقاء الخبرات التي يمكن أن نحتفظ بها، تلك العوامل  المرتبطة باهتماماتنا ومصالحنا وميولنا وحاجاتنا..
إن الطالب يتذكّر معادلات رياضية أو فيزيائية ليس بسبب شكلها الجيّد وإنما بسبب حاجته إليها في حل المسائل العلمية.
والمريض يحفظ رقم هاتف طبيبه، والصديق رقم هاتف صديقه لأسباب ذاتية لا دخل فيها لقانون الشكل الجيد أو غيره..
ونحن نتذكّر المقطوعة الموسيقية التي يمكن أن تؤثّر فينا أكثر من سواها.
كما أن الشاب لا ينسى مكان لقائه العاطفي الأول، ليس بسبب تميّز هذا المكان، بل لأنه يعني له الكثير على المستوى الشخصي: العاشق الذي يذكره بلزاك يتذكّر لقاءه الأول: الفتاة والطبيعة والعمال وشجرة اللوز التي وقفا في ظلّها.. والعبارة الودّية الأولى التي قالتها له.. وغير ذلك من التفاصيل المرتبطة بالموضوع.
إننا بعد استماعنا نشرة الأخبار المتلفزة، لو طلبنا من مستمعين مختلفين عن الأشياء التي يتذكرونها منها، لوجدنا  الطالب يتذكّر تاريخ العطلة أو الإضراب أو الامتحانات.. والمزارع يتذكّر حالة الطقس ونسبة الأمطار.. والتاجر ما له علاقة بالاقتصاد والعملات..وهكذا..
فكل واحد يتذكّر ما يعنيه شخصيا.ً
في بعض المقاطعات الفرنسية، حين ترسيم الحدود بين أجزاء الأرض التابعة للورثة، كان يتم إحضارهم  إلى المكان والقيام بصفعهم بقوّة! ما يؤدّي إلى ترسيخ تلك الحدود في ذاكرتهم: لأن الدهشة والثورة على عقوبة غير مبرّرة التي رافقت تلك الصفعة ـ حين ترسيم الحدود ـ ترسّخ في الذاكرة كل تلك التفاصيل المرافقة بشكل دائم.
بعد هذا الكلام عن الانتقائية في تثبيت الذكريات، وعن العوامل المؤثّرة في ذلك، يصبح بالإمكان عن عملية استرجاع هذه الذكريات إلى الوعي، إما بشكل إرادي أو بشكل عفوي.
لقد ميّز وليم جيمس بين ذاكرة إرادية وأخرى عفوية أو تلقائية:
ـ فالذاكرة الإرادية تتطلب جهداً ذهنياً وتركيزاً، وغالباً ما تخوننا هذه الذاكرة، فكم نبذل من جهد كبير لنستحضر رقم هاتف أو معلومة أو إسماً فنعجز عن ذلك، وهذا ما يسميه جيمس بـ "ذكرى على طرف اللسان".
ـ أما التذكّر العفوي فيتم تلقائياً بدون جهد ودون أن نرغب في ذلك، كمنظر حادث مؤلم..
إن التذكّر العفوي والإرادي يتمّان على مستوى الحفظ والتخزين كما على مستوى الاستعادة والتذكّر.
لكن السؤال هو: كيف وأين يمكن لهذه الذكريات أن تبقى تحت تصرّفنا؟ وعلى أيّ شكل؟ وما هو وضعها حين لا تكون حاضرة في الوعي؟

3 ـ حفظ الذكريات: ـ النظرية التجريبية (ريبو)
                             ـ برغسون
ـ النظرية التجريبية (ريبو):
بالنسبة لريبو تبقى الذكريات تحت تصرّفنا، لأنها محفوظة في الدماغ على شكل آثار مادية، قابلة لإعادة إحيائها من جديد من خلال التحريض الناجم عن الانطباعات الحاضرة؛ ويتم استرجاع هذه الذكريات بنفس الطريقة التي يتم بها استرجاع الأصوات المحفوظة في أثلام أسطوانة موسيقيّة.
التكرار هو الذي ينشّط ويقوّي حفر الثلم ويعزّز الأثر: من الصعب أن أتذكّر رقم هاتف لم أطلبه إلا مرّة واحدة، ومع التكرار يصبح تذكّره آلياً وسهلاً. (أما في الذاكرة الإنفعالية فلا حاجة للتكرار، لأننا نتذكّر حسب دوافعنا وانفعالاتنا)
وما عزّز هذه النظرية الملاحظاتُ العياديةُ التي أثبتت أن نزيفاً أو تلفاً في منطقة معيّنة من الدماغ يصاحبه فقدان للذكريات المحفوظة في تلك المنطقة المتضرّرة، وبالتالي فهناك تموضع للذكريات وتخصّص للفصوص الدماغية: هذه للحس وتلك للكلام وثالثة للإبصار، وكل تلف في منطقة من الدماغ يرافقه فقدان للذكريات المحفوظة في هذه المنطقة، كما يحصل عندما تتضرّر منطقة "بروكا" BROCA  المتعلّقة بالكلام.
يورد الدكتور "ديلاي" DELAY  قصّة فتاة أصيبت بطلق ناري أدى إلى تلف دماغي عندها: هي تصف ما تلمسه، إنه قليل السماكة. ناعم الملمس.. متقطع من إحدى جهتيه ومدبب ومستمر من الجهة المقابلة..
إنها لا تستطيع أن تتوصّل إلى معرفة أن ما تتلمّسه هو مشط لتسريح الشعر... يبدو هنا أن الذكريات اللمسية قد فُقِدَت.
الذكريات إذاً تُحفظ على شكل آثار مادية في الدماغ كما تحفظ الأصوات في أسطوانة..
هذا الرأي له أصوله في الفلسفات القديمة، بدءاً  من جالينوس وأبقراط عند اليونان..
أما في الفلسفة العربية فنجد ابن سينا يحدّد التجويف المقدّم من الدماغ كخزانة لحفظ الصور، ويحدّد التجويف المؤخّر من الدماغ كمكان لحفظ معاني الصور: كمعنى العداوة في الذئب؛ أما المعاني الكلّية (معنى العداوة كمفهوم عام) فهي لا تحفظ في الدماغ لأنها من طبيعة روحيّة، ولا يمكن أن تُحفظ في مادة (الدماغ).

نقد برغسون لنظرية ريبو:
ينتقد برغسون النظرية المادية عند ريبو، فهو يرى بأن الذكريات هي أفكار، وبالتالي لا يمكن لها أن تُحفظ في مادة (الدماغ)، وهذا رأي شبيه بموقف إبن سينا في حفظ المعاني العامة.
ماذا يحصل إذاً عند حصول تلفٍ في الدماغ؟
يقول برغسون إن تلفاً في الدماغ يلغي إمكانية الاسترجاع الإرادي للذكريات، لكنه لا يلغي الذكريات ذاتها.
لكن ما الفرق بين القول بأن هناك ذكريات لا يمكن استرجاعها وبين القول بعدم وجود هذه الذكريات أو تلفها؟
حسب برغسون، الدماغ ليس مكاناً لحفظ الذكريات، إنه أداة تساعد في استرجاع هذه الذكريات، وحين حصول تلف في منطقة دماغية، فإن ما يحصل هو صعوبة الاستعادة الإراديّة للذكريات الخاضعة لهذه المنطقة الدماغية.
ونحن نرى أننا في الحالات الانفعالية نستعيد بعض المفردات المنسيّة، مثل ذاك الذي يبحث عبثاً عن كلمة "كلا"، محاولاً دون جدوى أن يتذكّرها، لكن حين استفزازه يستشيط غضباً قائلاً: "كلا! هذا غير معقول".
وهذا المثال يثبت أن هذه الكلمة كانت ما تزال موجودة، والتلف الدماغي جعل فقط إمكانية استرجاعها إرادياً غير ممكن.
ويوافق الدكتور "ديلاي" DELAY  على هذا الرأي بالقول بأن الحالة الانفعالية تعيد إحياء الإشارة المنسيّة (إشارة الصليب).
كما أن بعض الأطباء يؤكدون بأن إجراء عملية زرع جزءٍ من الدماغ لشخص مصاب بفقدان الذاكرة تجعله يستعيد ذكرياته هو وليس ذكريات الشخص المتبرّع.
وهذا دليل على عدم تلاشي الذكريات، ودليل على عدم وجودها بشكل مادي في الدماغ..

ـ الذاكرة |العادة:
ويتّهم برغسون ريبو بأنه لا يميّز ما بين الذاكرة والعادة، فمن المعروف بأن العادة يتم اكتسابها بفعل التكرار؛ هذا التكرار هو الذي يترك أثراً ما في الدماغ؛ وإن ما يتحدّث عنه ريبو ظنّاً منه بأنه الذاكرة، ما هو في الواقع إلا نوعاً من العادة؛ فأنا حين أحفظ قصيدة عن ظهر قلب بفعل التكرار، فأنا إنما أكتسب عادة جديدة وليس ذاكرة حقيقيّة.
هذا الانتظام الإجمالي لسياق مفردات القصيدة، والذي تستدعي كلُّ كلمة منها الكلمة التالية، (حين نتوقّف عند كلمة معيّنة نعاود القراءة من البداية)، هي في الحقيقة عادة مكتسبة، يصحّ عليها ما يصحّ على تعلّم حركات رقصة معيّنة أو تعلّم السباحة أو قيادة الدرّاجة الهوائية.. (كل حركة تستدعي الحركة التالية).
الجسد في هذه الحالات جميعها يختزل كل حالات التكرار الماضية المتدرّجة نحو الإتقان النهائي، إنه يقوم بعمله كما توصّل إليه في آخر مرّة، دون أن يتذكّر ما قام به في المرّة الأولى.
إن الاستعادة هنا لا تتضمّن الوعي بأن هذا الأمر ينتمي إلى الماضي (وهو من شروط التذكر كما رأينا في تعريف التذكّر).
إن الماضي هنا يتم إحياؤه كحاضر (في الرقص أتقن ما أقوم به الآن دون أن أسترجع تمريني الأوّل. "التاريخ يُنسى وتبقى النتيجة".
إن استظهار قصيدة غيباً بفعل التكرار هو عادة، بينما تذكّر القراءة الأولى والمكان الذي تمّت فيه والأشخاص الذين صادفتهم والمشاعر التي أحسست بها، كلّ هذه الأمور تنتمي إلى الذاكرة الحقيقيّة.
في الحالة الأولى (الحفظ عن ظهر قلب) يصحّ ما قاله ريبو (أي الحفظ على شكل آثار مادّية في الدماغ)، أما في حالات التذكّر الحقيقيّة، فإنها أفكار ولا يصحّ عليها القول أنها موجودة في الدماغ على شكل آثار مادّية.

ـ نظرّية برغسون في الذاكرة:
الذاكرة حسب برغسون هي الفكر ذاته، والذكريات كأفكار هي من طبيعة روحّية، وهي ليست شيئاً مرصوفة في مكان ما في الدماغ المادّي.
الأفكار ليست أشياء مكانيّة، بل هي استمرارية وديمومة. فأنا حين أنطق جملةً معيّنة، فالمستمع يتذكرها منذ بدايتها بشكل فيه استمراريّة، وإلا فلو كان يعيش كل لحظة باستقلاليّة عن اللحظة التالية لما استطاع أن يفكر في ما أقول:  (أنا وسعيد ذهبنا البارحة إلى المدرسة والتقينا كريماً..).
في مقابل المادة، الذاكرة هي الفكر نفسه كحياة وديمومة.
وبما أن الفكر هو ديمومة، فإن كل ما أحسسناه أو فكّرنا به أو أردناه منذ يقظة وعينا الأولى هو هنا (لا شيء يُفقَد) وإنما المشكلة في النسيان، كيف ولماذا لا يكون كل ما ماضيَّ حاضراً في الوعي الحالي؟
يجيب برغسون عن هذا السؤال بان الوعي هو وظيفة بيولوجيّة تهدف إلى تأمين التكيّف لنا مع الفعل الحاضر.
في الفعل الحاضر، ليس لنا مصلحة في استحضار كل ماضينا في وعينا الحالي.
إن الوعي الحاضر لا يسلّط الضوء على ذكرياتنا إلا ما كان له فائدة لنا في فعلنا الآن، (من مصلحتنا أن نستحضر من خبراتنا الماضية ما هو مفيد لنا الآن، أما أن يكون كل ماضينا حاضراً كل لحظة فإنه عبء كبير أكثر منه وسيلة أو أداة في خدمتنا).
لذلك فإن الدماغ لا يقوم بحفظ الذكريات (التي تُحفظ في اللاوعي النفسي)، (ص 35) بل هو الأداة التي تستحضر من الذكريات ما نحن بحاجة إليه الآن في فعلنا الحاضر.

ـ الأحلام:
 وبما أن هذه الحاجة للفعل الحاضر تغيب خلال النوم، فتغيب بسبب ذلك الانتقائية في استحضار الذكريات. لذلك نجد هذه الذكريات تحضر بشكل عشوائي وغير منظّم، وذلك بسبب غياب الحاجة إلى التنظيم لهذا الاستحضار للذكريات. (وتصبح الذكريات كسربٍ كبيرٍ من الطيور فوجئ على حين غِرّة فتطاير في كل الاتجاهات..).
وهذه النظرية في الأحلام عند برغسون تعزّز نظريته بأن لا شيئ من الذكريات يفنى، فالصوَر الغريبة التي تراودنا في الأحلام ما هي إلا بعض ذكرياتنا القديمة جداً التي كنا نظن أنها قد فُقِدت إلى الأبد.
الدماغ إذاً ليس مستودعاً للذكريات كما قال ريبو، إنه الأداة المنظِّمة لاستحضار الذكريات، ويشبِّه برغسون عمل الدماغ بعمل مصفاة تحتوي كلَّ ذكرياتنا القديمة بكاملها،
لكنها لا تسمح بالعبور إلا لما له علاقة بالحاضر المعيوش الآن،                  
لذلك  ففي الحالات التي يصاب فيها هذا الدماغ بالإرهاق  أو
في حالات الإصابة بتلفٍ ما، فإن قدرته على التحكّم
بهذا العبور تصبح ضعيفة، وفي حدّها الأقصى تصبح مستحيلة،         فعل الوعي          الحاضر
لكن الذكريات ذاتها موجودة، إنها فقط غير قادرة على
الحضور راهناً لأن فساداً أصاب العضو المسؤول عن                     
تنظيم حضورها...
يلاحظ برغسون بأن غالبية حالات فقدان الذاكرة تبدأ بنسيان أسماء العلم أولاً، تليها أسماء الأجناس وأخيراً صِيَغ الأفعال.
ويفسّر ذلك بأن حركات الجسم المواكبة أو المساعدة على تذكّر صِيَغ الأفعال هي الأكثر بساطة وسهولة وبالتالي فهي تتطلب أقلّ قدرٍ من الجهد في نشاط الدماغ، تليها الحركات الجسديّة المرافِقة لتذكر أسماء الأجناس، وأكثرها صعوبة وتعقيداً تلك الحركات المواكبة لتذكّر أسماء العلم، وبالتالي فهي تتطلب نشاطاً أكبر في عمل الدماغ.
وحين يتعرّض الدماغ لإصابة أو لإرهاقٍ، فإن أول ما نجد صعوبة أو استحالة في استحضاره هي الذكريات المرتبطة بأسماء العلم لأنه تتطلب مواكبة حركات جسديّة معقّدة وبالتالي كفاءة عالية في عمل الدماغ يصعب توفيرها..
(حاول أن تتصوّر وتقارن الحركات الجسديّة المواكبة لتذكّر: تطير؛  العصافير ؛   البلبل).
وفي كل مرّة علينا أن نتذكّر بأنه حسب برغسون، الذكريات لا تفنى، وبأن فناء الذكريات يرتبط بالنظر إليها كمادّة.
خلاصة:
يرى ريبو بأن الذكريات تُحفظ على شكل آثار مادّية في الدماغ، وبأن أي تلف في منطقة دماغيّة يؤدي إلى ضياع الذكريات المخزّنة في تلك المنطقة.
ـ بينما يرى برغسون بأن الذكريات هي أفكار لامادّية وبالتالي لا يمكن أن تُحفظ في الدماغ، فهو ليس أكثر من أداةٍ تنظّم حضور هذه الذكريات حسب حاجة اللحظة الحاضرة، وحين تغيب هذه الحاجة (خلال النوم مثلاً) تغيب الرقابة على هذا الحضور للذكريات، ولذلك يكون حضورها عشوائيّاً. (هذا تفسير برغسون للأحلام. قارن مع تفسير فرويد للأحلام)

4 ـ مناقشة نظريّة برغسون:
إن نظرية برغسون في الذاكرة تستطيع تفسير أمراض الذاكرة أكثر من نظريّة ريبو.
يقول الدكتور "ديلاي" بأنه إذا كان علينا أن نُطلِق فرضيّة حول علاقة الذاكرة بالدماغ، لاستطعنا القول بأن الذكريات يمكن أن تكون موجودة دون أن تظهر إلى العلن، لكنها لا تستطيع دون مساعدة الدماغ، إن الدماغ لا يحفظ الذكريات بل ينظّم حضورها."  (crdp)
 وهذا رأي يشبه كثيراً رأي برغسون.
لكن نظرية برغسون تواجه صعوبات من طبيعة أخرى، فلسفية بشكل خاص: فكيف يستطيع الدماغ كأداة مادّية أن تستحضر الذكريات اللامادّية وغير الموجودة في المكان؟
وهذا سؤال قديم في تاريخ الفلسفة عن علاقة المادة بالفكر، ويبرز بشكل واضح في فلسفة ديكارت.
ثم لماذا يرفض برغسون أن تُحفظ الأفكار في الدماغ ثم نراه يقبل بأن ينظّم هذا الدماغ حضور تلك الأفكار؟


ـ ميرلوبونتي:
يقول ميرلوبونتي بأن برغسون كما ريبو يعتبران الذكريات كأشياء ناجزة تتمّ استعادتها كما هي بعد أن حُفِظت على شكل آثار مادّية في الدماغ (كما يرى ريبو)، أو على شكل أفكار مفارقة كما يرى برغسون.
لكن الإدراك الحسّي المحفوظ على هذا الشكل ـ كما يقول ميرلوبونتي ـ يبقى إدراكاً حسّياً، يبقى وكأنه ينتمي إلى الحاضر.
من منظور المدرسة الظاهراتية التي ينتمي إليها ميرلوبونتي، لا يصح القول بأن الذكريات موجودة في الوعي (كحالات جاهزة تتم استعادتها)، إن الذكريات هي حالات وعي، هي بالأحرى فعل وعي يعيد بناء الذكريات كخبرات ماضية مع نسبتها إلى الماضي، أو المعرفة بأنها تنتمي إلى الماضي.
وبذلك لا يعود هناك من معنى للحديث عن حفظ للذكريات، ليس هناك إلا فعل تذكّر يعتمد على وضع الماضي في إطاره الصحيح، أي باعتباره ماضياً.
إن فعل التذكّر يعتمد على إعادة بناء الحدث بطريقة تحفظ المعنى العام له كما تمّ فهمه، فنحن نتذكّر الخبرة ليس كما حصلت، بل كما تمثّلناها (فهمناها)، ثم إننا نتذكّر الجزء الجوهريّ (أو ما نظنّه جوهرياً: أي الجوهريّ بالنسبة إلينا) من الخبرة بدقّة أكبر. (سيكولوجيا الذاكرة)
لكن إذا كان فعل التذكّر يحيلنا على أحداثٍ حصلت في الماضي، فيجب أن يكون هناك شيء ما موجوداً ـ أي محفوظاً ـ يسمح بتلك الإحالة إلى أحداث الماضي.
إذاً، ليست الذكريات نفسها هي المحفوظة، إنها بالأحرى مساعدات ـ ذاكرة Aide mémoire
ومساعدات الذاكرة هذه لها أكثر من مستوى:
أ ـ المستوى العضوي: من خلال الدروب المألوفة التي تسلكها السوائل العصبية.
ب ـ المستوى الاجتماعي: الذي تحدّث عنه موريس هالبواش Halbwaches  عالم الاجتماع الفرنسي.
إن التعرّف على أحداث الماضي ونسبتها إلى الماضي يعتمد على نقاط ارتكاز إجتماعيّة، تجعل من تنظيم الذكريات أمراً ممكناً: يكفي أن نقول قبل الحرب أو بعد الحرب؛ حين كنت في الصفّ الأول الثانوي؛ خلال احتفالنا بعيد ميلاد صديق؛ حفل زواج قريب؛ أثناء الانتخابات... حتى نستحضر الكثير من الذكريات المرتبطة بتلك التواريخ. أو بالأصحّ نقوم بفعل التذكّر في أمور ترتبط بها.
يبدو إذاً أن هناك أنواعاً من الذاكرة غير معروفة لدى برغسون؛ إضافة إلى أن الذكريات التي تحدّث عنها، والتي تحضر بشكلٍ فوضويٍّ خلال الأحلام أو في حالات الهذيان هي أفعال تذكّر غير حقيقيّة، لأن من شروط فعل التذكّر استعادة حالات وعي بالأحداث الماضية مع المعرفة بأنها تنتمي إلى الماضي، بينما الذي يحلم أو الذي يهلوس يظن نفسه أنه يعيش الأحداث الآن وليس أنها تنتمي إلى الماضي.
إضافة إلى أن نظريّة فرويد في الأحلام، والتي تقول بأن الأحلام الليليّة مليئة بالمعاني والدلالات تبدو أكثر إقناعاً من نظرية برغسون الذي ينفي عنها هذه الدلالات ويعتبرها عشوائيّة وخالية من المعنى.
ـ ديلاي:
 لذلك نرى الدكتور ديلاي (معالج نفسي فرنسي) يميّز بين ثلاثة أنواع من الذاكرة:
أ ـ الذاكرة الحسّية الحركيّة: وهي التي يسمّيها برغسون بالذاكرة|العادة، والتي تتشكّل بفعل التكرار، كحفظ قصيدة أو تعلّم رقصة معيّنة....
ب ـ الذاكرة الذاتيّة أو الانطوائيّة: وترتبط بأحداثٍ شخصيّة تعود للظهور في الأحلام وحالات الهذيان.
ج ـ الذاكرة الاجتماعيّة:
وهي وحدها الذاكرة الحقيقيّة والتي يسمّيها بيار جانيه بالذاكرة السرديّة والمرتبطة حسب رأيه في أصولها بمتطلّبات إجتماعيّة. فالحارس الليلي في التاريخ القديم للإنسان كان ملزماً أن يروي لزعيم القبيلة تفاصيل أحداث الليلة المنصرمة: كل الأصوات المشبوهة وحركات الأعداء.. لأن استمرار القبيلة ذاته متعلّق بحصول الزعيم على تلك التفاصيل في سياقها الزمني، أو في زمنها السردي: قبل|بعد (بعد غروب نجم معيّن..) وبالتالي فإن فعل التذكّر يعود في أصوله إلى حاجة ووظيفة إجتماعيّتين..
الذاكرة الوحيدة الحقيقيّة إذاً هي الذاكرة الاجتماعيّة التي تنظّم الأحداث في الزمن الماضي. بينما الذاكرة|العادة (حفظ قصيدة) والذاكرة الاجتراريّة أو الانطوائيّة (الأحلام والهلوسة) لا تعيدان الأحداث إلى الماضي.
رأي:
إذا كان القول بالعامل الاجتماعي كإطار ضروري لتنظيم الذكريات وفهمها في الزمان (قبل|بعد) يبدو مقبولاً، وهذا يعني أن غياب هذا العامل يؤدّي إلى عدم القدرة على ترتيب هذه الذكريات في الزمان، فيمكن والحالة هذه أن نتذكّر أحداثاً معيّنة دون القدرة على ترتيبها الزمني (قبل|بعد).
ماذا يعني هذا؟
إنه يعني أن العامل الاجتماعي يساعد على ترتيب أحداث الماضي في الوعي الحاضر، لكنه لا يفسّر هذا الحضور (أي التذكّر) ذاته، وبالتالي تبقى الإجابة عن إشكاليّة التذكّر كتذكّر معلّقة بدون جواب..

5 ـ أمانة الذكريات:   ـ تطوّر الذكريات.
                             ـ الذاكرة العاطفيّة.
                             ـ ملاحظات نقديّة.
ـ تطوّر الذكريات:
إن عمليّة التذكّر ترتبط بشكل كبير بالظروف الحاليّة المرافقة لاستحضار الذكريات الماضية، وبالتالي فإن الذكريات تخضع لتعديلات مرتبطة بظروف الاستحضار تلك، وهو ما بمكن أن نطلق عليه تطوير أو تعديل الذكريات.
إذا طلبنا من أحد الأشخاص أن يرسم تصميماً معمارياً استناداً إلى نموذج جاهز مسبقاً، ثم أعدنا الطلب من نفس الشخص بعد عدّة شهور القيام بنفس العمل استناداً إلى الذاكرة، سنجد أن تعديلااتٍ جوهريةً قد طرأت على عملها لجديد.
إن عملية التذكّر قد خضعت لعمليّة إعادة بناء جديدة: إضافات وحذف وإضفاء تناسق وبساطة على العمل الجديد. إنه أكثر عقلنةً وانسجاماً من العمل السابق.
 أما الذكريات التي تمسّ قيَم الفرد وحالاته الانفعاليّة، فهو أقلّ حياديّة تجاهها، وبالتالي فإن التحويرات التي تطرأ عليها ستكون أكثر أهميّة وتتأثّر بكل الأحداث التالية التي يعيشها الفرد، وبشخصيّته وقِيَمِه واهتماماته الحاليّة.
إن "روسّو" في كتابه "الاعترافات" يسهب في الحديث عن ذكريات طفولته السعيدة: الطبيعة الجميلة في الريف، وتنزّهاته الليليّة سيراً على الأقدام..
إنه يكتب هذه المذكّرات بعد أن حقّق قسطاً وفيراً من الشهرة والنجاح، وقد أصبح الآن هرماً، يعد حياة في المدينة، اكتشف فيها مساوئ تعقيدات الحياة المعاصرة، واختبر خلالها حنيناً إلى حياة الطبيعة وزيف اللذات العابرة...
ماذا لو بقي روسّو طوال حياته فقيراً في الريف يعاني قسوة الحياة والفقر؟
هل كان سيتذكّر تلك الأحداث بهذا الحنين الكبير؟ أم تراها كانت ستُطمَس في رتابة أحداث مشابهة يعيشها طوال عمره؟
على الأرجح إن حياة روسّو وظروفه اللاحقة في المدينة هي التي أضاءت ذلك الماضي المتمايز فيحنّ إليه ويستعيده بهذه الطريقة المشرقة...
إن الوعي أو فعل التذكّر لا يعكس الماضي إلا من خلال منظار الحالة النفسيّة الحاضرة والخبرات المتراكمة التي تلت الفعل الأصلي الذي نقوم الآن بتذكّره.

لكن البعض ينتقد هذه النظريّة مؤكّداً بأن هناك أنواعاً من التذكّر نستعيد من خلالها الأحداث الماضية بشموليّة ودقّة وشفافيّة..
إنها تلك الأحداث المرتبطة بخبراتنا العاطفيّة والانفعاليّة المميّزة، والتي نستعيدها الآن كما عشناها في المرّة الأولى.

ـ الذاكرة العاطفيّة:
يرى أصحاب هذه النظريّة بأن الذاكرة العاطفيّة تسترجع حالاتٍ إنفعاليّةً ماضية على شكل ذكريات، إنها تجعلنا نعيش تلك الخبرات الانفعاليّة الماضية من جديد كما عشناها في الحالة الأصليّة.
وهذا النوع من التذكّر يرتبط بمنبّه أو مثير حسّي يوقظ تلك الذكريات القديمة: قد يكون هذا المنبّه بصريّاً كمنظرٍ طبيعيّ أو كرسم فوتوغرافي ينبّه فينا خبرات عاطفيّة ماضية، أو قد يكون سمعيّاً: صوت شخصٍ معيّن أو أغنية ما، أو حتى طقطقة جمرات قد تعيدنا إلى ذكريات خلال رحلة في الطبيعة أو إلى أيام الطفولة. لكن يبقى الأهم هو منبّه الرائحة التي يسمّيها "شوبنهاور"   "حاسّة الذاكرة"، كرائحة عبير أو عطر ٍ معيّن أو رائحة فطائر الحلوى...
والأعمال الأدبيّة غنيّة بمثل هذه الأمثلة، وكيف أن مثيراً حسّياً يرجع بنا إلى ذكريات موغلة في الزمن.
يقول "بروست" PROUST : كنت أتناول فطيرة الحلوى مع كوب من الشاي، وفجأة تملّكني إحساس غريب ولذّة عارمة: إنها لذّة مألوفة جداً وغامضة جداً في آن..
وفجأة أتذكّر...  : إنها ذكرى تعود إلى أيام الطفولة، حيث قدّمت لي عمتي قطعة من فطيرة حلوى منقوعة بالشاي...
إنها نفس النكهة ونفس الرائحة ونفس الشعور في المرّتين..

ملاحظات نقديّة:
ما الذي يضمن لنا بأننا في استعادتنا أحداثاً رافقتها حالات إنفعاليّة، بأن انفعالاتنا الحاليّة مشابهة لانفعالاتنا السابقة؟
ألا يمكن أن نسترجع حالات غضب سابقة مع شعورنا الحالي بالأسف؟ (الأهل الذين يعاقبون أبناءهم في حالات غضب، أو الأبناء الذين يسيئون التصرّف مع ذويهم أو زملائهم.. ألا يمكن أن يتذكّر مثل هؤلاء تلك الأحداث التي قاموا بها في حالات غضب مع شعور حالي ليس بالغضب إنما بالأسف؟
أو أن نتذكّر أحداثاً لم تكن مترافقة أصلاً بأيّ انفعال، لكن قد نشعر بانفعالات قويّة حين نتذكّرها؟
حين أتذكّر تهديداً حصل لي قديماً فإني قد أشعر الآن بالغضب، في حين أني كنت أشعر حينها بالخوف.
ألا نتذكّر بحزن حالات فرحٍ ماضية؟
ألا تحجب الانفعالات الحاليّةُ الانفعالاتِ الماضية أكثر مما تكشف عنها؟
ألا يمكن القول بأننا بقدر ما نعيش الآن نفس حالاتنا الانفعاليّة السابقة بقدر ما نكون قد ابتعدنا عن التذكّر الحقيقي؟ لأننا نقترب من الانعزال عن اللحظة الحاضرة والانفصال عن الواقع والاقتراب من وهم أننا نعيش الماضي؟ (وفي ذلك اقتراب من الهلوسة)، لأن من شروط التذكّر الوعي بأن ما نتذكّره ينتمي إلى الماضي.
باختصار، يمكن القول بأننا حين نتذكّر خبراتٍ إنفعاليّةً ماضية فإننا نعيش انفعالاتٍ حاضرةً ترافق عمليّة التذكّر، لكن هذه الانفعالات ليست بالضرورة مشابهة لانفعالات الماضي...
إن أحد أدوار العلاج للتحليل النفسي هو في أن يحرّرنا من ملازمة ماضينا الانفعالي في الحاضر، ليتحوّل بذلك ماضينا إلى ذكريات حقيقيّة متحرّرة من انفعالات الماضي.
يقول "لاشيلييهLACHELIER   بأن تذكّر الألم ليس مؤلماً..
 إن التذكّر الحقيقي ليس في أن نعيش ماضينا في حاضر دائم، بل في التعرّف إلى هذا الماضي كماضٍ، وهذا هو الفارق بين الحالات المَرَضيّة والحالات السويّة: أن نكون ماضينا (المرض) أو أن نمتلك هذا الماضي (الحالات السويّة).

6 ـ النسيان:
إن الحديث عن الذاكرة أو التذكّر يستدعي مباشرةً التفكير في النسيان؛ إنه الوجه الآخر للتذكّر أو هو الجزء المكمّل للتذكّر.
وموضوع النسيان يطرح أسئلة كثيرةً أهمها:
ماذا ننسى؟  ما هي أسباب النسيان؟   وماذا يترتّب على هذا النسيان، أو ما هي وظيفته؟
إننا حين نقول بأننا لا نثبت في وعينا من الخبرات الماضية إلا خبرات انتقائيّة تبعاً لعوامل موضوعيّة أو ذاتيّة، فهذا يعني أن كمّاً هائلاً مما تدركه حواسّنا لا يصل إلى مرحلة الحفظ والتخزين، "فالذاكرة التي لا تنسى لا تحفظ"، نحن لا نحتفظ بتفاصيل غير ذات معنىً حتى لا نرهق ذاكرتنا دون جدوى: كأن نحفظ كل أرقام السيارات التي نشاهدها أو الأسماء..
أما الذكريات التي تصل إلى مرحلة الحفظ ولا تكون حاضرة في وعينا الآن، فيمكن التمييز بين حالتين: الأولى وهي الحالة السويّة: حين تغيب عن وعينا خبرات ماضية لا نفكّر فيها الآن، وفي ذلك مصلحة لنا أيضاً؛ فما معنى أن يكون كل ماضينا حاضراً في وعينا في كل لحظة؟
إننا نتذكّر ما له علاقة باللحظة الحاضرة، أما بقيّة الذكريات فهي في طور النسيان، وذلك لعدم وجود محرّض يستدعيها الآن كما يرى ريبو، أو لأنها غير مفيدة لوعينا أو لفعلنا الحاضر، ونحن بالتالي لا نستدعي إلا ما يفيدنا الآن ويساعدنا على التكيّف، كما يرى برغسون.
وفي كل الأحوال فإن تلك الذكريات، وإن لم تكن حاضرة في وعينا الآن، إلا أنها تحت تصرّفنا ونستطيع استدعاءها حين نشاء.
ولكن ما هو الموقف إذا حاولنا أن نتذكّر خبرة ماضية واستحال علينا ذلك؟
بما أن الذكريات محفوظة على شكل آثار مادّية في الدماغ، كما يرى ريبو، فإن عدم القدرة على استحضار ذكريات ماضية يعود إما إلى ضعف أثرها في الدماغ بسبب الزمن وندرة أو عدم استرجاعها في أوقات لاحقة (لحصولها) فيتلاشى بالتالي هذا الأثر، أو بسبب تلف يصيب الدماغ وتضيع الآثار المحفوظة في المنطقة التالفة.
أما برغسون فلا يوافق ريبو القول بفقدان الذكريات بسبب التلف الدماغي، لأنها ـ أي الذكريات ـ من طبيعة روحيّة، لكن الدماغ ينظّم حضورها الإرادي إلى الوعي، لذلك يمكن لتلك الذكريات أن تحضر إلى الوعي بشكل تلقائي، وبخاصة في الحالات الانفعاليّة.
إن ما هو مشتركاً لدى ريبو وبرغسون هو أن الضرر الذي يصيب الدماغ يؤدي إلى عدم القدرة على الاستعادة (الإراديّة على الأقل) للذكريات، إما لأنها قد أصابها التلف (ريبو)، أو لأن الدماغ لم يعد باستطاعته تنظيم حضورها (بالرغم من أنها ما زالت موجودة) (حسب برغسون).
وسبب تلفها أو استحالة استحضارها ناجم في الحالتين عن خلل أصيب به الدماغ.
ولكن هل تستطيع "النظرية الدماغيّة" (ريبو وبرغسون) أن تفسّر لنا كل حالات النسيان؟
هل نسيان حضور موعد أو اجتماع ما، ناجم عن خلل في الدماغ أم هو ناجم عن موقف عدائي على مستوى اللاوعي كما يرى فرويد؟
إذا كان الضرر اللاحق بالدماغ يمكن أن يؤثّر على أداء الذاكرة، فلا يبدو أنه قادر على تفسير كل حالات النسيان، وذلك ما تداركه فرويد ومدرسة التحليل النفسي بتأكيدها على العامل النفسي في النسيان بدءاً من كبت الخبرات المؤلمة (أو غير الأخلاقيّة) منذ الطفولة في اللاوعي، لعدم قدرة الوعي على احتمالها؛ ومن الأمثلة على ذلك رغبة الطفل في موت الأب؛ ولأنها رغبة غير مقبولة أخلاقياً يتمّ كبتها وانتقالها إلى مستوى اللاوعي، لكن هذه الخبرات المكبوتة في اللاوعي تعود لتظهر من جديد على شكل أعراض مَرَضِيّة.
إن المبدأ العلاجي الذي قامت عليه مدرسة التحليل النفسي هو في مساعدة المريض على نقل تلك الخبرات المسبّبة للمرض من مستوى اللاوعي على مستوى الوعي.
لذلك يمكن القول بأن ليس هناك نظريّة بمفردها ـ حتى اليوم ـ تستطيع أن تفسّر لنا كل ظواهر النسيان والتذكّر، وإن الأبحاث المعاصرة حول آليّة عمل الدماغ قد تجيب عن الكثير من الأسئلة التي كانت قائمة سابقاً، لكن هل هذا يعني أن يصبح البحث في الذاكرة هو من اختصاص علماء البيولوجيا حصراً؟
لا أظن ذلك، لكن بالتأكيد فإن الأجوبة التي يقدمها علم البيولوجيا ستؤثّر على طبيعة الأسئلة الفلسفية المطروحة والتي ستُطرَح في المستقبل.
إذا كانت بعض حالات النسيان تُعتبر مَرَضِيّة، فإن النسيان بشكل عام يُعتبر ضروريّاً ويساعدنا على التكيّف، فنحن كما قيل: "نستطيع أن نعيش بدون ذاكرة لكننا لا نستطيع أن نعيش بدون نسيان".
فالذي يفقد ثروته أو يفقد أفراد أسرته أو يصاب في جسده، عليه أن ينسى، فالتذكّر الدائم في هذه الحالات لا يأتي إلا بالألم المجّاني دون فائدة.
إن مسيرة حياتنا تتطلّب منا التكيّف، والتكيّف يفترض منا التذكّر كما يفترض النسيان، فالذي لا ينسى يعاني من الحضور المؤلم للماضي، والذي ينسى كل شيء لا يتعلّم من الماضي.
لا بدّ إذاً من جدليّة التذكّر والنسيان في قانون الحياة.

7 ـ الوهم أو التذكّر الوهمي:
يحدث لنا في بعض الأحيان، حين تأمّل منظرٍ طبيعيٍّ، أو حين استماعنا موسيقى معيّنة، حتى لو كان ذلك يحدث لنا للمرّة الأولى، يبدو وكأنه يحدث لنا للمرّة الثانية! أي كأننا عشناه بتفاصيله سابقاً في الماضي، وكأن "كل ما أقوم به الآن، أتصوّر أني قمت به منذ زمن طويل، أو في حياة سابقة، أو في الحلم" (ص46)
وهذا ما يسمّيه الدكتور "ديلاي"  "هلوسة الحاضر" في مقابل هلوسة الماضي، التي تجعلنا نتذكّر أحداث الماضي وكأننا نعيشها الآن.
يفسّر جانيه هذه الحالة بالإرهاق والهبوط في الطاقة النفسيّة.
فالمرهَق، بسبب من ضعفه، لا يعود يستطيع الاستجابة لمتطلّبات الحاضر، فيعيش الحاضر بشكلٍ آليّ وتلقائي وكأنه في حلم.
أما برغسون فيرى بأن اللحظة الحاضرة تندفع عادة إما نحو المستقبل أو نحو الماضي.
إننا في الحالات العاديّة، حالات الجهوزيّة للفعل، نعيش الحاضر في اندفاعه نحو المستقبل، أما في حالات الانحطاط، فإننا نحلم حياتنا بدل أن نحياها، وتبدو لنا الأحداث كأنها تنتمي إلى الماضي.
فرويد:
يروي فرويد قصّة إحدى مريضاته: إنها في زيارتها الأولى لمنزل إحدى صديقاتها.
تبدو لها الزيارة وكأنها قد حصلت سابقاً.
أما تفسير فرويد للمسألة فهي تختلف عن برغسون وديلاي.
حسب فرويد، إن لدى صديقتها أخاً مصاباً بمرضٍ خطير؛ وهي أيضاً لديها أخ مريض، وهي كانت تتمنّى موته، لكن هذه الأمنية تم كبتها في اللاوعي.
وهي خلال زيارتها هذه، قد نبّهت تلك الأمنية المكبوتة التي بدأت تتأرجح ما بين العبور أو اللاعبور إلى الوعي الصريح.
والمريضة بذلك تظن أنها تعيش هذه الزيارة للمرّة الثانية، بينما هي في الواقع لا تتعرّف إلا على ذاتها بشكلٍ لاواعٍ.
هنا أيضاً نجد أن التفسيرات تتعارض وتتكامل في محاولة لتفسير حالات ترتبط بكامل شخصيّة الفرد، ماذا ينسى وماذا يتذكّر وكيف يتذكّر. ولا يمكن لنظريّة واحدة أن تقدّم الأجوبة المقنعة عن كلّ حياتنا النفسية الغنيّة والمعقّدة...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق