الوعي
واللاوعي
إعداد محمد الحجيري
|
||
ـ خصائص
الوعي:
|
||
ـ الموضوع والمنهج
|
||
ـ علم النفس الحديث
|
|
|
ـ جبل الجليد
ـ إستكشاف اللاوعي:
ـ التنويم المغناطيسي
ـ
الجهاز النفسي: (الهو والأنا الأعلى والأنا)
ـ
الكبت
ـ
اللاوعي بين فرويد وبيار جانيه
ـ
العامل الجنسي
|
||
التحليل النفسي بعد فرويد
|
ـ أدلر
ـ يونغ
ـ الاختبارات الإسقاطية
|
|
ـ خلاصة
|
إعداد محمد الحجيري
الوعي
مقدّمة:
يدعو سقراط الإنسان إلى
معرفة ذاته: "أيها الإنسان إعرف نفسك!"، وهذا يعني بأن معرفة الذات
ممكنة، ولكنها في الوقت ذاته ليست أمراً بدهياً. فلو كان كلّ منا يعرف نفسه لما
كانت هناك حاجة إلى هذه الدعوة: أيها الإنسان إعرف نفسك!
لقد كانت الحياة النفسية قبل
القرن التاسع عشر تنتمي ـ حسب غالبية الفلاسفة والمفكرين، مع استثناءاتٍ قليلة ـ
لقد كانت تنتمي إلى دائرة الوعي..
فالحياة النفسية هي حياة
واعية، ولقد جعلها ديكارت اليقين الأول الذي بنى عليه فلسفته بكاملها. فـ "كل
ما هو نفسي واعٍ، وكل ما هو لاواعٍ جسدي".
لكن ماذا نعني بالوعي؟
إننا نقول عن الذي يستفيق من
حالة التخدير بأنه "يستعيد وعيه".
إنه يستعيد إحساسه بنفسه
وإحساسه بالأشياء الخارجية
(الألوان والأصوات والأشكال...)
إنه يستعيد قدرته على الشعور
والانفعال: الفرح والغضب والحزن... ويستعيد قدرته على الرغبة بأشياء معيّنة
وكذلك قدرته على التذكّر
والتفكير.
إستعادة الوعي إذاً تتضمّن
عودة هذه الأمور كلّها.
وبالتالي نستطيع القول بأن الوعي
هو هذا الحدس
أو المعرفة المباشرة بالذات وبالعالم الخارجي وبالحالات الداخلية: من انفعال ورغبة
وتذكّر وتفكير....
والوعي حسب هيغل هو هذه العلاقة بين الأنا
وبين موضوعاتها، سواء أكانت داخلية أم خارجية.
وإذا
كان الوعي هو هذه المعرفة المباشرة بالذات وبالعالم الخارجي وبالحالات الداخلية،
فإن الآراء حول خصائص هذا الوعي قد تعدّدت لدى الفلاسفة.
خصائص الوعي:
يرى
ديكارت بأن الوعي هو اليقين الأول المؤسس لكل الحقائق الأخرى؛ لقد شك
ديكارت في كل معارفه: نحن نعتقد أن الكثير من الأمور حقيقية ثم لا نلبث أن نكتشف
أنها لم تكن كذلك؛ ونحن في الأحلام نظن أن ما نراه حقيقياً، وعند يقظتنا نكتشف
أنها لم تكن أكثر من أحلام غير واقعية وغير حقيقية... فما الذي يضمن أن ما نظنه
الآن حقيقة ما هو إلا نوع من الحلم الطويل، ولن نكتشف هذه الحقيقة إلا بعد يقظتنا؟
ثم ما
الذي يضمن بأن حياتنا التي نحياها (أو ما نظن بأنه كذلك) ما هي إلا حلم طويل،
وسنعرف ذلك أيضاً بعد اليقظة من هذا الحلم الطويل؟ ....
يتنبّه
ديكارت بأنه مهما كانت إحتمالات الصح والخطأ في كل هذه الشكوك، فهناك حقيقة أكيدة
هو أنه يفكر فيها ويشك فيها (والشك هو نوع من التفكير)، فالفكر موجود أكان مضمونه
صحيحاً أم خاطئاً، وهذه حقيقة أولى أو يقين أول، ومن هنا جاءت عبارته الشهيرة:
"أنا أفكّر إذاً أنا موجود" والتي تسمى بالكوجيتو الديكارتي، والتي
ينطلق منها ليبرهن الحقائق اللاحقة..
مع
الإشارة هنا بأن ما يقصده ديكارت بالأنا هو هذه الفكرة ليس إلا.. هو هذا
الشك والذي هو موجود مهما كانت احتمالات واقعيته..
من
صفات هذا الفكر هو أنه غير متعيّن في مكان، مقابل المادة أو الجسم الموجود
في الحيّز أو المكان، فخاصية المادة وجودها في المكان، وخاصية الفكر أنه من طبيعة
مختلفة ولا يوجد في مكان، وهذه الثنائية تطرح بشكل حاد طبيعة العلاقة بين المادة
والفكر أو الروح..
والحياة
النفسية بكاملها ـ حسب ديكارت ـ هي واعية، فكل ما هو نفسيّ واعٍ، وكل ما هو لا واعٍ
جسدي. وبناءً على هذه العبارة يصبح كل حديثٍ عن اللاوعي النفسي تناقض في
التعبير، أو لا معنى له، إذ لا معنى للحديث عن اللاوعي الخاص بحياة كلها وعي. وهذا
ما سيعارضه الكثير من الفلاسفة، ومن أبرز
من سيعارض هذا الرأي هو فرويد.
لقد
انتقد "غاسّندي" الكوجيتو الديكارتي، معتبراً بأن ديكارت لم يكن بحاجة
إلى كل هذا الجهد لكي يثبت وجوده، فيكفي أن يقول أنا أمشي فإذًاً أنا موجود.
ويبدو
أن غاسّندي قد أخطأ في فهم ما يقصده ديكارت بـ "الأنا" كفكر، لأن الشك
في وجود الأشياء لا يثبت وجودها، بينما الشك في وجود الفكر يثبت وجوده: لأن الشك
في وجود هذه الطاولة قد ينفي وجودها، بينما الشك في أني أفكّر يثبت وجود الفكر لأن
الشك نفسه هو فكر..
يرى
وليم جيمس بأن الوعي مرتبط بشخصية صاحبه لا ينفصل عنها، مرتبط بعمره وبحالته
الصحية ومهنته....
وهو ـ
أي الوعي ـ في حالة تحوّل مستمرّ، فنحن قد نعي موضوعاً ما مرّتين متتاليتين، لكن
وعينا في المرّة الثانية لا يمكن أن يكون مطابقاً للمرة الأولى.. وكذلك إحساساتنا.
وهو
وعي إنتقائي، فأنا لا أدرك كل تفاصيل الأشياء، كما أني لا أحتفظ في ذاكرتي بكل ما
أدركته كما هو..
أما
برغسون فيرى بأن الوعي قدرة على الاختيار، وبأنه نشاط في خدمة الفعل الحاضر وفي
خدمة التكيّف، فأنا أستحضر في وعييَ الحاضر ما أنا بحاجة إليه الآن، وأبرز مثال
على ذلك هو عمل الذاكرة: فنحن نستحضر في
وعينا من الذاكرة ما نحن بحاجة إليه الآن. (خلال مسابقة التاريخ أستحضر في وعيي ما
له علاقة بالأسئلة المطروحة، منحياً كل ما لا يفيدني الآن من معارف سابقة مما لا
علاقة به بالموضوع.)
ثم هو
يميّز بين نوعين من الوعي: ـ الوعي الواقعي الذي يتميّز بالانتباه والتركيز.
ـ الوعي الذي نلاحظه في حالات الأحلام أو
الشرود، والذي يتميّز بابتعاده عن الواقع.
الوعي
يعني قبل كل شيئ الذاكرة. قد تفتقر الذاكرة إلى الاتساع؛ وقد لا تشمل إلا قسماً من
الماضي. وقد لا تحفظ إلا ما حصل من قريب. ولكن الذاكرة تكون موجودة وإلا لا يكون
الوعي موجوداً فيها.
فالوعي الذي لا يحفظ شيئاً من ماضيه والذي ينسى ذاته باستمرار يُتلَف ثم يولد في كل لحظة [هو اللاوعي ذاته]: وإلا كيف يمكن تعريف اللاوعي بغير هذا؟
عندما قال ليبنز أن المادة "هي روحٌ آنيّة"؛ ألم يصرّح بقوله هذا، عن قصدٍ أم عن غير قصد، إنها غير حساسة وإنها لا تعي؟
كل وعي هو ذاكرةٌ إذاً: احتفاظُ وتراكمُ الماضي في الحاضر.
ولكن كل وعي هو استباقٌ للمستقبل. أنظر إلى توجّه فكرك في أية لحظة: تجد أنه يهتم بما هو قائم، إنما من أجل ما سوف يكون. إن الانتباه هو انتظار، ولا يوجد وعي بدون انتباه للحياة. المستقبل، هناك، إنه يدعونا، بل إنه يجرنا إليه: وهذا الجرّ الذي لا ينقطع، والذي يجعلنا نتقدم فوق طريق الزمن هو أيضاً دافع يدفعنا إلى التحرك باستمرار، وكل عمل هو تطاول على المستقبل.
الإمساك بالشيئ الذي لم يعد موجوداًن واستباقُ ما لم ينوجد بعد، هذا هو الدور الأول للوعي. والوعي ليس له حاضر إذا اقتصر الحاضر على اللحظة الحسابية. فهذه اللحظة ليست إلا الحد النظري الخالص الذي يفصل الماضي عن المستقبل.
هذه اللحظة يمكن عند الضرورة تصوّرها، إنما لا يمكن إدراكها أبداً؛ وعندما نظن أننا فاجأناها، تكون قد ابتعدت عنا. إن ما ندركه في الواقع هو نوعٌ من تكثيف المدّة التي تتألّف من قسمين: ماضينا القريب المباشر ومستقبلنا الداهم. إلى هذا الماضي استندنا، وإلى هذا المستقبل تطلعنا؛ والاستناد والتطلع هما من خصوصيات الكائن الواعي. فلنقل إذاً إذا شئت أن الوعي هو همزة وصلٍ بين ما كان وما سيكون. إنه جسر بين الماضي والمستقبل.
فالوعي الذي لا يحفظ شيئاً من ماضيه والذي ينسى ذاته باستمرار يُتلَف ثم يولد في كل لحظة [هو اللاوعي ذاته]: وإلا كيف يمكن تعريف اللاوعي بغير هذا؟
عندما قال ليبنز أن المادة "هي روحٌ آنيّة"؛ ألم يصرّح بقوله هذا، عن قصدٍ أم عن غير قصد، إنها غير حساسة وإنها لا تعي؟
كل وعي هو ذاكرةٌ إذاً: احتفاظُ وتراكمُ الماضي في الحاضر.
ولكن كل وعي هو استباقٌ للمستقبل. أنظر إلى توجّه فكرك في أية لحظة: تجد أنه يهتم بما هو قائم، إنما من أجل ما سوف يكون. إن الانتباه هو انتظار، ولا يوجد وعي بدون انتباه للحياة. المستقبل، هناك، إنه يدعونا، بل إنه يجرنا إليه: وهذا الجرّ الذي لا ينقطع، والذي يجعلنا نتقدم فوق طريق الزمن هو أيضاً دافع يدفعنا إلى التحرك باستمرار، وكل عمل هو تطاول على المستقبل.
الإمساك بالشيئ الذي لم يعد موجوداًن واستباقُ ما لم ينوجد بعد، هذا هو الدور الأول للوعي. والوعي ليس له حاضر إذا اقتصر الحاضر على اللحظة الحسابية. فهذه اللحظة ليست إلا الحد النظري الخالص الذي يفصل الماضي عن المستقبل.
هذه اللحظة يمكن عند الضرورة تصوّرها، إنما لا يمكن إدراكها أبداً؛ وعندما نظن أننا فاجأناها، تكون قد ابتعدت عنا. إن ما ندركه في الواقع هو نوعٌ من تكثيف المدّة التي تتألّف من قسمين: ماضينا القريب المباشر ومستقبلنا الداهم. إلى هذا الماضي استندنا، وإلى هذا المستقبل تطلعنا؛ والاستناد والتطلع هما من خصوصيات الكائن الواعي. فلنقل إذاً إذا شئت أن الوعي هو همزة وصلٍ بين ما كان وما سيكون. إنه جسر بين الماضي والمستقبل.
(برغسون؛
الطاقة الروحية؛ ص ص: 8، 9)
الوعي
عند بيار جانيه هو قدرة على التوليف Synthèse .
ففي
حالات التركيز أستطيع أن أستمع وأستوعب وأن أتذكّر وأقارن وأبدي موقفاً ورأياً..
هو وعي
نستطيع القول عنه أنه من درجات متعدّدة، أو بالأحرى له روافد ومكوّنات متعدّدة.
مع
التعب أبدأ بفقدان هذه القدرات بالتدريج.. يغيب التوليف ويضعف الوعي وأنزلق
تدريجاً نحو اللاوعي.. أبدأ بفقدان القدرة على المقارنة وإبداء موقف، ثم التذكّر
ثم الإستيعاب ثم أخيراً أنزلق نحو النوم أو اللاوعي شبه الكلّي.
هذا
اللاوعي إذاً ناتج عن ضعف التوتر أو الجهد الذهني والطاقة النفسية (وهذا ما
سيعارضه فرويد بشدّة).
وبنفس الطريقة يفسّر جانيه الحالات
المرضيّة.
فهو
يفسّر لنا بعض حالات الأعراض الهستيريّة من خلال ضعف الطاقة الذهنيّة (المتعدّدة
في الأساس).
فالمريض
الذي يعي الحوار الذي يتمّ معه خلال مقابلة، هو في المقابل يقوم بكتابة ما يُقال،
ولكن بطريقةٍ غير واعية، لأنه لم يعد يمتلك ما يكفي من الطاقة الذهنيّة للمحافظة
على وعيه بالأنشطة الأخرى.
كذلك فإن أفكاراً ووساوس تستحوذ على
المريض (على شكل إعراضٍ هستيريّة)، لأن الطاقة الذهنيّة غيرُ كافيةٍ لفرض رقابتها
على الوعي، فتفرض بالتالي هذه الأشكال من الوعي الهستيري نفسها على المريض.
أما
في الحالات السليمة أو السويّة فإن القدرة التوليفيّة (المركّبة) للوعي، تكون
قويّة بما يكفي للإحاطة أو لاحتواء كامل أنشطتنا المتنوّعة. (عن Huisman)
لكنّ جانيه هنا لا يخبرنا عن سبب ضعف الطاقة الذهنيّة،
(بينما يفسّرها فرويد كنتيجة للصراع النفسي الداخلي)
مستويات
الوعي هذه تشبه ما يقول به دولاي
Delay حول مستويات الوعي
المتدرّجة من التركيز التام والتيقّظ
وصولاً إلى أدنى درجات الوعي في حالات الغيبوبة، وهو يقسّمها إلى سبعة
مستويات ..
الوعي
عند هوسّرل هو فعالية ذهنية تستهدف موضوعاً معيّناً، إنه يتميّز بالقصديّة،
فكل وعي هو وعي لشيئ ما؛ ليس هناك شيئ في الوعي، هناك فعل وعي يتجه
نحو موضوعه، أو هو طريقة في التوجّه نحو العالم.
عند هوسّرل لا انفصال بين الوعي وموضوعه، ولا
وجود لوعي في المطلق ومكتفٍ بذاته.
والإختلافات
بين أشكال الوعي عند هوسّرل هي اختلافات نوعيّة، (وليست كمّية كما يرى البعض)، فالوعي
الناتج عن الإدراك الحسّي: كالسمع والإبصار.. هو طريقة في التوجّه نحو العالم
بطريقة مختلفة نوعيّاً عن طريقة الوعي من خلال التذكّر أو التخيّل. هناك إذاً
الوعي الإدراكي والوعي التخيّلي والوعي التذكّري... (طرائق مختلفة نوعيّاً في
التوجّه نحو العالم)
بالعودة
إلى ديكارت فإن حياتنا النفسية بكاملها واعية، هو يقول بأن كل ما هو نفسيّ واعٍ،وكل ما هو لاواعٍ جسدي
....
لا
مكان للاوعي في الحياة النفسية. كل ما هو لا واعٍ ينتمي إلى الجسد: الأظافر تنمو،
والشعر ينمو والغدد تقوم بوظائفها وخلايا الجلد تتبدل والدورة الدموية تجري في أجسامنا،
كل ذلك وغيره يحصل دون وعي منا..
أما
الحياة النفسية فتنتمي بكاملها إلى دائرة الوعي، وبالتالي فإن كل دراسة للحياة
النفسية هي بالضرورة دراسة للوعي. ومن هنا فإن علم النفس التقليدي كان يكتفي
بالوعي كموضوع له.
لكن
كيف تتم دراسة هذا الوعي؟
إن
المنهجية المتّبعة في دراسة الوعي هي "الاستبطان": والاستبطان هو طريقة
في البحث تقوم على دراسة الأنا للأنا؛ وذلك لأنه بما أن الحياة النفسية واعية
بكاملها، فإن دراسة هذه الحياة النفسية هي دراسة الوعي ذاته، وأفضل من يعرف وعيي
هو أنا نفسي. لذلك فإن أفضل دراسة أو معرفة بحياتي النفسية هي تلك المعرفة التي
أكوّنها عن ذاتي، فلا أحد يعرف ذاتي أكثر مني..
هذا
هو الاستبطان: أن يدرس كل واحدٍ منا ذاته. رأس الصفحة
لا
شك بأن كل واحد منا يكوّن معرفةً أو رأياً ما عن ذاته وذلك بشكل تلقائي أو مقصود..
لكن
هل يمكن الركون إلى هذه المعرفة وما هي درجة موضوعيتها أو علميتها؟
ألا
يمكن أن نسيئ تقدير الذات فنصاب بالغرور حين نبالغ، وبضعف الثقة بالنفس حين لا
نقدّر نفسنا حقّ قدرها؟
ولماذا
يدعونا فيلسوف مثل سقراط إلى معرفة ذواتنا: "أيها الإنسان: إعرف نفسك!"
لو أن هذه المعرفة حاصلة ويمكن الوثوق بها؟
في
الواقع لقد تعرّض الاستبطان إلى جملة من الانتقادات التي تنفي عن هذه المنهجية صفة
المنهجية العلمية وذلك للأسباب التالية:
ـ
هي منهجية غير علمية لأنها غير موضوعية، لأن الموضوعية تفترض وجود مسافة ما بين
الباحث وموضوع البحث الذي يقوم به، ولا يمكن بالتالي أن يكون المرء محايداً تجاه
نفسه.. هناك دائماً انحياز لصالح الذات
وفي
هذا المجال يعلّق أوغست كونت متهكماً: "أنت لا تستطيع أن تراقب نفسك من
الشرفة سائراً في الشارع!" .
ويقصد
بذلك أن هذه المنهجيّة لا يمكن أن تؤمّن الموضوعية والحيادية المطلوبة.
ـ
هي مستحيلة التطبيق في بعض الحالات النفسية: كحالات الانفعال الشديد، كالهلع
والغضب الشديد، فأنا في هذه الحالات لا أملك وعياً واضحاً عن نفسي أو عن تصرفاتي
ويقوم الآخرون بإخباري عن ذلك في وقت لاحق..
ـ
هي طريقة قاصرة وتستبعد العديد من ميادين علم النفس، وربما هي الميادين الأهم،
فالطفل لا يستطيع أن يقوم بدراسة نفسه بسبب قصور الوعي لديه..
والمريض
العقلي أيضاً لا يستطيع دراسة ذاته، بل هو بحاجة إلى فهم الآخرين له وإلى
مساعدته..
والحيوانات
أيضاً لا تستطيع القيام بهذه الدراسة .
وبذلك
فإننا نرى بأن هذه المنهجية تستبعد بالتأكيد علم نفس الطفل وعلم النفس المرضي وعلم
نفس الحيوان من مجال دراستها، ونحن نعرف الأهمية القصوى لهذه الميادين، وإذا سلمنا
بإمكانية قيام هذا العلم على أساس هذه المنهجية فهي في أحسن الأحوال مقتصرة على
الأسوياء العقلاء أو على علماء النفس أنفسهم..
لكل
تلك الأسباب فقد تخلّى علم النفس الحديث عن الاستبطان كمنهجية علمية وعن الوعي
كموضوع وحيد لعلم النفس.
من الوعي إلى اللاوعي
لكن
ما هي البدائل المقترحة كبدائل عن علم نفس الوعي؟
إن
أهم الموضوعات المقترحة في هذا المجال هما: ـ السلوك
ـ اللاوعي
السلوكية:
لقد
اعتبرت المدرسة السلوكية بزعامة "واطسون" بأن ما يمكن إخضاعه للمراقبة
الموضوعية المحايدة هو السلوك، هذا السلوك الناتج كاستجابة على مثير معيّن..
يمكن
الاكتفاء هنا بذكر الاعتراض على هذه المدرسة بتبسيطها للسلوك البشري باعتباره
نوعاً من ردّة الفعل الحتمية على مثير ما. فليس هناك إجماع من قبل علماء النفس على
هذه المدرسة ولا على غيرها، لكن يمكن القول أيضاً بأن هذه المدارس المتعارضة قد
ساهمت في تحسين فهم الإنسان لنفسه وفي تحسين ظروفه النفسية كما تم توظيفها في
حالات العلاج النفسي والتربية وطرائق التعليم ...
أما
مدرسة التحليل النفسي فقد رفضت اعتبار الوعي كموضوع وحيد لعلم النفس، واعتبرت على
لسان مؤسسها فرويد Freud بأن الحياة النفسية تشبه جبل الجليد الذي يطفو
على وجه الماء: لا يظهر منه إلى العيان إلا قمته، أما الجزء الأعظم فهو مغمور تحت
السطح ولا يبدو للعيان، كذلك الحياة النفسية فإن الحياة الواعية لا تمثل إلا قمة
جبل الجليد، أما معظم حياتنا النفسية فهي لاواعية..
اللاوعي قبل فرويد:
إننا
نظن بأننا نعرف الدوافع الحقيقية لسكوكنا، لكن غالبية الدوافع هي دوافع لا واعية،
وهذا أمر كان قد أشار إليه العديد من الفلاسفة أمثال شوبنهاور ونيتشه الذي اعتبر
بأن الإنسان هو الكائن الأبعد عن ذاته (أي آخر من يعرف حقيقة نفسه) وليس الكائن
الأقرب منها كما يُظَنّ، ولاروشفوكو القائل بأن الدافع الحقيقي وراء سلوكنا هو
الأنانية وحب الذات، هذه الأنانية ا لتي تحجب نفسها وراء أقنعة متعددة ومزيّفة من
حب الآخرين والصداقة ونكران الذات.
لكن
مع فرويد اتخذ اللاوعي أبعاداً جديدة لتصبح أكثر تنظيماً وتكاملاً، أي لتصبح نظرية
متكاملة وأداة معتمدة في العلاج النفسي.
إن
الأدلة على صحة الفرضية القائلة بوجود اللاوعي النفسي هي قدرتها على تفسير العديد
من الحالات النفسية والسلوك ونجاحها في علاج العديد من الحالات المرضية انطلاقاً
من هذه الفرضية.
إن
نجاح تقنيات العلاج التي كان يعتمدها فرويد انطلاقاً من فرضية وجود اللاوعي
ومسؤولية الخبرات المؤلمة المكبوتة في اللاوعي عن التسبب في المرض هي من العوامل
التي كانت تعزّز صحة هذه الفرضية، أي فرضية وجود اللاوعي.
لقد
بدأ فرويد حياته المهنية كطبيب أعصاب، لكن حالاتٍ مرضيّةً كانت تصادفه لا يجد لها
أسباباً عضوية، فبدأ بالبحث عن أسباب نفسية لهذه الحالات.
عمل
فرويد مع شاركو Charcot طبيب الأعصاب الفرنسي (والذي عمل تحت إشرافه أيضاً بيار جانيه، الذي درس الفلسفة والطب)، معتمدَين تقنية التنويم
المغناطيسي في العلاج، إنطلاقاً من فرضية أن المرض إنما يتأتى من تأثيرات وإيحاءات لاواعية عند المريض، وكان العلاج يتم
من خلال إيحاءات مضادّة يتم خلقها لدى المريض خلال فترة التنويم، وكانت تلك
الإيحاءات المضادة تؤدي إلى تحسن حالة المريض أو شفائه.
(يمكن
معالجة حالات مثل عقدة الدونية)
إن
نجاح هذه التقنية في العلاج كانت الدليل الأول لدى فرويد على وجود ما يسمى
باللاوعي النفسي المسبّب للمرض.
هذه
النتيجة عزّزت ما كان قد توصّل إليه فرويد بمشاركة بروير Breuer خلال معالجتهما فتاة في الواحدة والعشرين من
عمرها كانت ـ بعد وفاة والدها ـ تعاني من
اضطرابات هستيرية وألم واضطراب في حركة العنينين دون سبب عضوي لذلك، وخلال إحدى
جلسات التنويم المغناطيسي روت تلك الفتاة أحداثاً سابقة خلال اعتنائها بوالدها
أثناء مرضه: كانت لديها رغبةٌ شديدة في البكاء، لكنها، وحرصاً منها على عدم تأثر
الوالد أو إزعاجه, حبست دموعها وامتنعت عن البكاء. كما أنها، وللسبب ذاته، امتنعت
عن أن تنهر كلباً يشرب من الإناء أمام ناظريها..
بعد أن
تمّ إيقاظها من حالة التنويم كانت الفتاة قد تخلصت من حالتها المرضية.
لقد
اعتبر فرويد بأن المسبّب للمرض هو هذه الخبرة المؤلمة السابقة المكبوتة في
اللاوعي، وبأن الشفاء قد تم من خلال التخلص أو التطهّر من هذا المسبِّب، وذلك
بمجرد معرفته، ولذلك سُمّيت هذه الطريقة بالطريقة "التطهرية". رأس
الصفحة
بعد
ذلك عدل فرويد عن طريقة التنويم المغناطيسي، مبتكراً طريقته الخاصة وهي طريقة
التحليل النفسي.
الفرضية
(أو النظرية) الثابتة التي لازمت فرويد بقية حياته هي مسؤولية الخبرات المؤلمة
المكبوتة في اللاوعي عن التسبّب بالمرض النفسي.
وبأن
العلاج يكون بنقل هذه الخبرات اللاواعية إلى حيّز الوعي.
وكل
التقنيات التي استخدمها فرويد في استكشاف اللاوعي من أجل فهم أفضل لشخصية الفرد أو
من أجل العلاج كانت تعزّز لديه هذه الفرضية وتمتلك القدرة على التفسير، وبالتالي فإن
نجاح العلاج انطلاقاً من هذه الفرضية هي أدلة تعزّز القول باللاوعي النفسي ومسؤوليته عن الحالات المرضية، ومن
أهم التقنيات التي اعتمدها فرويد في استكشاف اللاوعي النفسي هي :
ـ
طريقة التداعي الحر
ـ زلات
اللسان
ـ
الأفعال الناقصة
ـ
تأويل الأحلام
التداعي
الحر هي طريقة في استكشاف اللاوعي ابتكرها فرويد تعتمد على جعل المريض يسترجع
بذاته، ودون تنويم، مكبوتاته وهواجسه اللاواعية، وذلك بالطلب من المريض بالتمدّد
على أريكة مريحة، والاسترخاء الكامل والتخلص قدر الإمكان من الرقابة
الذاتية ثم الاسترسال في الكلام بتلقائية وعفوية وعدم أهمال أي كلمة أو فكرة حتى
لو لم يكن لها علاقة بالسياق أو لو كانت تبدو خالية من المعنى..
يراقب المحلّلُ
كلام المريض، وحين تلفت انتباهه كلمة ما، يقوم باعتمادها كنقطة ارتكاز، ويطلب من المريض أن يستسلم إلى تداعٍ للأفكار
التلقائية انطلاقاً من هذه الكلمة دون تفكير أو رقابة إرادية، متوقعاً انزلاق كلمة
ما لها علاقة بموضوع الكبت ومحاولاً تشكيل سيناريواً متكاملاً عن الخبرة المكبوتة
في لاوعي المريض.
خلال
هذه العملية يواجه المحلّل حالات لدى مرضاه منها:
ـ حالة
ما يسمى بالمقاومة، أي المقاومة التي يبديها المريض في مواجهة كشف حالات
اللاوعي، ويتبدّى ذلك من خلال مقاطعته لجلسات العلاج، أو نسيان
موعد الجلسة، أو من خلال التوقّف المفاجئ عن الكلام. وهذا بحدّ ذاته مؤشّر على أننا قد
اقتربنا من الموضوعات الحساسة التي لها علاقة بموضوع الكبت.
ـ
النقلة أو التحويل، وهي أن ينقل المريض ميله العدائي المكبوت في لاوعيه من موضوعه
الأصلي إلى المحلّل ذاته، وهذا ما يسمّى بالتحويل السلبي، كأن يخبر المحلّلُ
المريضَ بأنه يكره والده أو أنه يتمنى موته.. أو يخاف منه .. والكثير من الحالات
المشابهة والتي يرفض المريض الاعتراف بها أو قبول تفسير المحلّل لسبب المشكلة
النفسية ويتخّذ موقفاً عدائياً من الطبيب النفسي ذاته.
ويسمّى هذا التحويل إيجابياً حين يتم نقل
الميل الإيجابي إلى المحلّل، كتعلّق بعض المريضات بالمحلّل النفسي، وفي كلتا
الحالتين أيضاَ فهذا مؤشّر على الاقتراب من الموضوع المكبوت.
ومن
الواضح أن الأهمية في هذه الطريقة مرتبط بالدرجة الأولى بنباهة المعالِج.
زلة
اللسان هي خطأ لا إرادي نقع فيه من خلال التلفظ بكلمة بدلاً من كلمة أخرى، كأن
نتقدّم من شخص بعبارات العزاء بدل التهنئة.. ثم نعتذر لنصحح العبارة الملائمة
بالمناسبة.
لا
يقبل فرويد بتجاهل هذا الخطأ غير المقصود أو التقليل من أهميته، بل يعتبره مليئاً
بالدلالة، فالكلمة التي تم التلفّظ بها بشكل خاطئ تعبر عن موقفنا الحقيقي
بطريقة لاواعية.
من
الأمثلة المذكورة في المراجع عن هذا الموضوع هي حالة رئيس إحدى الجلسات السياسية
حيث يصعد إلى المنصّة ليعلن: أيها السادة، إني أعلن اختتام الجلسة .. عفواً ..
إفتتاح الجلسة.
ليتبيّن
من خلال التقصي أن الخطيب الأول هو من ألد الخصوم السياسيين للمتحدّث، وبأنه في
حقيقة أمره يرغب في عدم انعقاد الجلسة أصلاً، وهو ما عبّر عنه بطريقة لاواعية.
أو
التلفظ بعبارات العزاء في مناسبات خاصة بالفرح...
الأفعال
الناقصة هي تلك الهفوات التي نرتكبها أو حالات النسيان التي نقع فيها، والتي
يفسرها البعض بأنها ناتجة عن الإرهاق أو الشرود وبالتالي فهي حالات بريئة وليس لها
أية أبعاد.
لكن
فرويد يعتبر بأنها، على العكس من ذلك، هي تصرفات ذات معنى تكشف عن مشاعر لاواعية عند
الأفراد.
وهناك
أمثلة عديدة عن هذه الأفعال الناقصة التي نشاهدها في حياتنا اليومية مثل تقديم
غرضٍ إلى شخصٍ ما بدلاً من الشخص المعني.
نسيان
كتابٍ معيّن في المنزل من قِبل الطالب، أو التأخر في الإستيقاظ في يوم مدرسيّ، أو
البقاء في المنزل ظناً بأنه يوم العطلة دون أن يكون كذلك.. كل هذه الأمثلة تكشف
موقفاً سلبياً تجاه المدرسة أو تجاه أستاذ أو مادة معيّنة بطريقة لاواعية أيضاً.
نسيان
الذهاب إلى موعد تم تحديده سابقاً
نسيان
إسم أحد المعارف خلال توزيع الدعوات إلى حضور مناسبة معيّنة.
كذلك
فإن فقدان محبس الزواج أو نسيان تقديم هدية عيد الزواج فهي حسب مدرسة التحليل
النفسي تكشف عن انشغال الزوج (أو الزوجة) بعلاقة جديدة أو فقدان الحظوة أو المكانة
التي كان يحتلها الشريك لدى الشريك الآخر.
يتلقى
أحد الأزواج كتاباً كهدية من زوجته، وعبثاً يحاول الزوج العثور عليه لاحقاً لكنه
لم يجده.
برود
الزوجة وعدم قدرتها على التعبير عن مشاعرها الحقيقية جعلت الزوج يفسّر ذلك على أنه
قلّة اكتراث به ..
تمرض
والدة الزوج فتبدي الزوجة اهتماماً وعناية فائقين بها مما يجعله يكتشف مكانته
لديها..وفجأة يجد الكتاب الذي كان قد بحث عنه سابقاً دون جدوى.
فقدان الكتاب
إذاً ثم إيجاده لاحقاً كان مرتبطاً بموقفٍ لاواعٍ تجاه الزوجة.. هذا على الأقل
تفسير مدرسة التحليل النفسي.
تشكّل
الأحلام عند فرويد الطريق الملكي لاستكشاف اللاوعي..
بينما
كانت الأحلام قبل فرويد تخضع لنمطين اثنين من التفسير:
1 ـ
التفسير الميتافيزيقي: الذي يعتبر بأن الحلم هو عبارة عن اتصال النائم بالقوى
الغيبية أو عالم ما فوق الطبيعة. إنه نوع من التنبؤ بطريقة رمزية ويحتاج ألى تفسير
أو تأويل لمعرفة الرسالة المتلقاة خلال النوم. من أشهر هذه الأحلام في التاريخ هو
حلم يوسف وحلم فرعون (الذي رأى سبع بقرات سمان يتبعها سبع بقرات عجاف ...)
2 ـ
التفسير الفيزيولوجي الجسدي: الذي يعتبر بأن حالات الوعي اليومية تبقى محفوظة في
الدماغ والخلايا العصبية، وخلال النوم فإن الصور المحفوظة في الدماغ تفقد حضورها
المنظّم بسبب غياب الرقابة التي كانت اليقظة تفرضها فتتداعى تلك الصور بشكل
عشوائيّ، وهذا ما يفسّر طبيعتها الغامضة، وبالتالي فليس لها أي دلالة.
يرفض
فرويد هذين التفسيرين لأنهما ينفيان عن الأحلام بعدها الإنساني، إما بنسبتها إلى
الجسد أو بنسبتها إلى عالم فوق بشري خاص بالأرواح والآلهة.
بالنسبة
إلى فرويد فإن الحلم ذو بعد نفسي يخص صاحبه ويعبّر عن هواجسه وله دور بالغ الأهمية
في حياة الأفراد ويؤدي أكثر من وظيفة:
أولى
هذه الوظائف أنه يحافظ على استمرارية النوم، فهو كما يقول فرويد حارس النوم
الأمين: فحين نشعر بالعطش مثلاً خلال النوم فإننا وبدل أن نستيقظ ونشرب الماء
فإننا نحلم بأننا نشرب، وفي ذلك نوع من الإشباع الرمزي وظيفته الحفاظ على
استمرارية النوم.
إضافة
إلى أن الكثير من الرغبات المكبوتة في اللاوعي أو الرغبات المقموعة إجتماعياً
وبالتالي لا تستطيع الحصول على الإشباع، يتم إشباعها بطريقة رمزية خلال الحلم حين
تضعف الرقابة، وبما أن الرغبة تضعف خلال النوم ولا تغيب كلياً، فإن الخبرات
والميول المكبوتة في اللاوعي تعبّر عن نفسها بطريقة رمزية، ولذلك فهي بحاجة إلى
نوع من التفسير أو التأويل لمعرفة مضمونها الحقيقي، وهذا ما تصدى فرويد ومدرسة
التحليل النفسي إلى القيام به.
يروي
"فرانك" Frinck المحلل النفسي الأميركي حالة امرأة شابة تحلم أنها
تتنزّه مع صديقتها في الشارع، ثم تدخل أحد المتاجر لشراء قبّعة أنيقة سوداء غالية
الثمن..
لا
يبدو في الحلم ما يثير الانتباه.
لكن
خلال حوارها مع المحلل النفسي بدأت الصورة تتوضّح شيئاً فشيئاً لتنتهي بكشف حقيقة
لم نكن نتوقعها..
تتذكر
المرأة أنها فعلاً كانت قد قامت بنزهة في ذلك الشارع برفقة صديقتها في اليوم
السابق.
لقد
كانت تهتم بزوجها المريض وكانت قلقة ومتخوفّة على صحته، وكان هو الذي أشار عليها
القيام بهذه النزهة للترويح عن نفسها.
تذكرت
بأنها تأملت واجهة أحد المحلات وشاهدت القبّعات المعروضة لكنها لم تشترِ أية قبعة
بسبب غلاء ثمنها.
ثم
تتذكّر بأنها تحدّثت خلال النزهة عن شاب كانت قد عرفته قبل الزواج وكانت معجبة به،
وعندما سألها الطبيب عن سبب عدم زواجها به أخبرته بأنها لم تفكّر في ذلك لانتمائه
إلى طبقة ثرية لا تتناسب مع وضعها.
لقد
كانت هذه القبّعة السوداء مشبعة بالدلالات حسب ما توصل إليه المحلل النفسي، فإن
هذه القبعة الأنيقة كانت تعني الحاجة إلى الأناقة من أجل إغواء من تحب، أما ثمنها
الباهظ فيكشف الرغبة في الثراء، ثم إن اللون الأسود للقبعة يكشف الرغبة اللاواعية
في التخلص (موت) من الزوج الذي كان يشكل عائقاً أمام تحقيق رغبتها اللاواعية.
راسل
واللاوعي:
كل هذه
النماذج السابقة كانت تعزّز فرضية اللاوعي النفسي.
كما أن
البعض يرى في بعض حالات الإلهام والابتكار أن هناك مرحلة مهمة حيث تنضج الأفكار في
اللاوعي. ففي بعض الاكتشافات الرياضية يعود الفضل إلى عمل اللاوعي المثمر أكثر من
عمل الوعي الذي سبقه، فالحلول التي تم البحث عنها طويلاً دون نتيجة، تظهر فجأة
بينما يكون الذهن منشغلاً في أمرٍ آخر..
يقول
برتراند راسل Russel (وهو عالم رياضيات وفيلسوف الوضعيّة المنطقيّة) :"لقد
لاحظت أني إذا كان عليّ أن أكتب في موضوعٍ شائك، فإن الطريقة الفُضلى هي في
التفكير فيه بتركيز شديد قدر الإمكان، خلال ساعات أو حتى أيام، ثم أعهد بمتابعة
المهمة إلى عمل اللاوعي..
وبعد
أشهر أعود إلى العمل الواعي على نفس الموضوع لأجد أني قادر على إنجازه بشكل جيّد.
الجهاز النفسي: (الهو ـ الأنا الأعلى ـ الأنا) (آليّة الكبت في
اللاوعي):
لكن
كيف يفسّر فرويد عملية الكبت في اللاوعي؟
يقسّم فرويد الجهاز النفسي إلى ثلاث طبقات مكوّنة
للشخصية أو الجهاز النفسي عند الفرد :
ـ الهو ـ الأنا
الأعلى ـ والأنا.
الهو: حين
يولد الطفل يسعى بشكل فطري إلى إشباع ميوله إلى الطعام والأمن للتخلص من التوتر أو
الألم الناشئ عن عدم إشباع تلك الميول.
فهو إذاً يسعى إلى الحصول على اللذة والتخلّص من الألم
ليس إلا.
الرضاعة والنظافة والتخلص من الفضلات تؤمن له حاجاته
الجسدية، وحنان الأم ودفؤها يؤمنان له الإحساس بالأمن.
يهدأ الطفل إذا تأمنت له هذه الاحتياجات، ويبكي إذا لم
تتأمن إحداها.
هذا السعي إلى الاشباع هو ما يسميه فرويد بـ
"الهو" والقائم على مبدأ اللذة والسعي للحصول عليها.
ـ
الأنا الأعلى:
مع نمو
الطفل تزداد تطلباته ويزداد نشاطه وفي المقابل تزداد الضغوطات عليه: لم يعد الأن
يكتفي بالطعام، تبرز ميوله المعرفية وحشريته ومحاولته استكشاف المحيط حوله في
مقابل محاولة محيطه الاجتماعي تنظيم أنشطته وسلوكه كالنظافة والترتيب وارتداء
الثياب واحترام ملكية الآخرين.. وغير ذلك، باختصار تصبح هناك قواعد وقوانين عليه
مراعاتها والالتزام بها: العيب والحرام والمسموح والممنوع، وهو يلتزم بذلك إما
قسراً وإما حرصاً منه على الاحتفاظ بحنان الأم، بينما لا يهم الـ"الهو"
إلا الحصول على ما يريد.
هذه
الرقابة الاجتماعية المفروضة على الطفل تتحول لاحقاً إلى نوع من الرقابة الذاتية
لتصبح ما يسميه فرويد بالأنا الأعلى.
الأنا:
الأنا
هو الجزء الواعي من الشخصية والذي يحاول التوفيق ما بين متطلبات الهو وبين منظومة
القيم الاجتماعية، سامحاً ببعض الاشباعات المقبولة إجتماعياً ومانعاً البعض الآخر
ومؤجّلاً البعض الثالث.
وحسب
فرويد فإن الكبت في اللاوعي يتم بسبب هذا الصراع بين الهو والأنا الأعلى (مثال:
عقدة أو ديب).
اللاوعي بين فرويد وجانيه:
بناءً
على نظريته في "الجهاز النفسي" فإن فرويد يعتبر بأن اللاوعي يتأتى من
خلال الصراع القائم بين الهو والأنا الأعلى فيتم نقل الخبرات المؤلمة والميول
"اللاأخلاقية" إلى اللاوعي.
في
المقابل فإن بيار جانيه يعتبر بأن اللاوعي هو نتيجة هذا الانخفاض في مستوى التوتر
أو الجهد الذهني بسبب الإرهاق والتعب، مشبّهاً ذلك بقطار يتوقف عن السير بسبب نفاد
الوقود.. بينما يشبه فرويد الأمر بتوقف قطارٍ بسبب اصطدامه بقطارٍ يسير في الاتجاه
المقابل وليس بسبب نفاد الوقود، أي بسبب هذا الصراع القائم بين نزوات اللاوعي وبين
رقابة الأنا الأعلى.
رأي:
يبدو
أن نظرية جانيه تستطيع تفسير حالات غياب الوعي السوية (غير المرضية) بسبب الإعياء
والتعب، فالوعي يضعف فعلاً في حالات الإعياء (كالحرمان من النوم لفترة طويلة)
وصولاً إلى الغياب شبه الكامل..
لكن
هذا ليس إلا جزءاً من الصورة وهو غير اللاوعي بالمعنى الفرويدي: أي اللاوعي المرضي
والذي لا يعرف به صاحبه حتى حين يكون في حالة راحة تامة وغير مرهق.
إن
التجربة المستعارة من المدرسة السلوكية، والتي أخضعت كلباً لتشريط إيجابي من خلال
تقديم الطعام لهذا الكلب متزامناً مع عرض إشارةٍ ضوئية على شكل دائرة؛ ثم إخضاعه
لتشريط سلبي من خلال تعريضه لصدمة كهربائية بالتزامن مع عرض شارة ضوئية على شكلٍ
بيضاوي (قطع ناقص)، ثم تم تعريض هذا الكلب إلى رؤية شارة ضوئية ملتبسة: لا هي
بالقطع الناقص ولا هي بالدائرة، هي بين بين: فيها شيئ من الدائرة وشيئ من القطع
الناقص.
النتيجة
كانت ظهور أعراض العصاب عند الكلب وهذا يؤكد دور الصراع النفسي في ظهور الحالات
المرضيّة.
المثال
الآخر الذي يؤكد وجهة نظر فرويد هو حالة الجندي في المعركة الذي يصاب بالشلل
الهستيري بسبب الصراع ما بين خوفه من الموت في المعركة (الهو) وبين خوفه من اتهامه
بالجبن إن هو فرّ من المعركة، أي المتطلبات الاجتماعية (الأنا الأعلى)، وهو يصاب
بالشلل نتيجة هذا الصراع. وبذلك فهو يبتعد عن المعركة دون وصمه بالجبن.
وبذلك
فإن ما لا يستطيع تفسيره بيار جانيه تستطيع نظرية فرويد تفسيره في الحالات
المرضية.
ويشكل
العامل الجنسي السبب الرئيس لهذا الصراع حسب فرويد، وذلك لأن الموضوع الجنسي هو من
أكثر الموضوعات إلحاحاً من قبل الهو، في الوقت الذي يشكل أكثر الموضوعات خضوعاً
لرقابة الثقافة الاجتماعية والمجتمع وبالتالي لرقابة الأنا الأعلى.
تجدر
الإشارة هنا إلى أن لمفهوم الجنس عند فرويد معنىً شاملاً وفضفاضاً ويتطور مع العمر
ماراً بمراحل متعدّدة.
مراحل تطوّر الحياة الجنسيّة:
ـ
المرحلة الفمية: حيث تتركز اللذة في منطقة الفم من خلال الرضاعة ومص
الأصابع أو أي شيئ يقع بين يديّ الطفل.
ـ
المرحلة الشرجية السادية: حيث يشعر الطفل باللذة من خلال إخراج الفضلات
(التبوّل والتغوط)، وتترافق مع هذه المرحلة ميول عدوانية واضحة لدى الطفل فهو يسعى
إلى تحطيم وتمزيق مايصادفه. (ربما تعود العدوانيّة إلى ردّة الفعل على القمع الذي
يتعرض له الطفل..)
ـ
المرحلة القضيبية: حيث تصبح منطقة الأعضاء الجنسية هي مركز اللذة، ويتم
ذلك في سن الثالثة تقريباً، وهي ما يسمى بالمرحلة الأوديبية والتي يقول فرويد بأن
الصبي يتعلق خلالها بالأم (والبنت بالأب) ويسعى لإزاحة الأب كمنافس له، ولما كان
الطفل أضعف من أن يزيح الأب من طريقه فإنه يشعر بالرغبة في موت الوالد، ولما كانت
هذه الرغبة غير أخلاقية فإن الطفل يعيش نوعا ًمن الصراع بين رغبته الحقيقية (موت
الأب = الهو) وبين وعيه بأن هذه الرغبة غير أخلاقية (الأنا الأعلى)، وهذا ما يؤدي
إلى كبت هذه الرغبة في اللاوعي، والتي قد تظهر
لاحقاً على شكل أعراض مرَضِيّة
(عقدة أوديب) في حال لم يتم تجاوز هذه المرحلة بطريقة سويـّة.
ـ
مرحلة الكمون: لا تعود خلالها منطقة الأعضاء الجنسية، وبشكل مؤقت، كمنطقة للّذّة،
ثم تعود كذلك (منطقة للّذّة) في المرحلة اللاحقة أي المرحلة التناسلية أو مرحلة
المراهقة.
لقد
تعرضت هذه النظري لانتقادات عديدة حتى من قِبَل تلامذة فرويد وأتباع مدرسة التحليل
النفسي، أمثال ألفرد آدلر ويونغ..
آدلر: (نقد أهميّة العامل
الجنسي):
يرفض
آدلر اعتبار أن العامل الجنسي هو العامل الأهم الكامن خلف السلوك، بل يعتبر بأن
العامل الأساس هو عقدة الدونيّة، ومحاولة تخطّيها من خلال التعويض وتأكيد الذات.
فالمقعد،
وكنوعٍ من التعويض، يصبح رساماً، وتملأ لوحاته صورُ الفتيات الرشيقات أو راقصات
الباليه أو لاعبو السيرك..
ذميم
الشكل قد يتحول شخصاً ظريفاً ومحبباً ولطيفاً.
ومن
أبرز الأمثلة مثال دون جوان الذي يتحول بدافع من الإعاقة في القدم التي تلازمه إلى
زير نساء: إنه يحاول أن يعوّض عن إعاقته بغواية الكثير من النساء.
وإذا
كان آدلر قد فسّر حالة دون جوان من خلال نظريته في التعويض وتأكيد الذات، فإن
النظرية الفرويدية تحاول تفسيرها من خلال عقدة أوديب: إن "دون جوان"
يقيم علاقاته المتعددة مع النساء، باحثاً دون جدوى عن صورة الأم من خلال تلك
العلاقات العديدة.
(مناقشة وإبداء رأي
من قبل الطلاب)
يونغ:
الشخصية
بين الانطوائية والانفتاح:
يرى
يونغ بأن نظرية فرويد وآدلر تكشفان عن نمطين من الشخصية: الشخصية الانطوائية
المنكفئة على ذاتها، وهذا النمط من الشخصية تصح عليه نظرية آدلر.
والشخصية
المنفتحة المتوجهة نحو الخارج والتي يصح عليها ما قاله فرويد.
اللاوعي
الجمعي:
يتبنى
يونغ فكرة اللاوعي، لكنه يعتبر أن اللاوعي هو لاوعي جماعي له علاقة بخبرات الأجداد
القدماء للبشرية وليس الخبرات الفردية للشخص. وبذلك نستطيع تفسير ما يستحوذ علينا
من موضوعات كالشياطين والجن وغيرها.. والتي كانت ملازمة للأساطير القديمة التي
عرفتها كل الشعوب القديمة.
إننا
لا نستطيع تفسير خوف الطفل المعاصر من الظلمة، ليس لذلك أيُّ معنىً، لقد ورث
الإنسان المعاصر هذا الخوف من أسلافه القدماء الذين كانوا يعيشون في الغابة، لقد
كان الخوف من الظلام مبرّراً ويؤدي وظيفة في الحفاظ على الحياة لأن الظلام كان
يعني وضعية محفوفة بالخطر بسبب وجود الحيوانات المفترسة، أما اليوم فلا معنى لأن
نخاف من الظلام في غرفة مغلقة، هذا الخوف من الظلام قد ورثناه كنوعٍ من اللاوعي
الجمعي الذي كانت له وظيفة في الماضي..
الاختبارات الإسقاطية:
إنطلاقاً
من فرضية اللاوعي، وسعياً نحو استكشاف هذا اللاوعي وفهم أفضل للشخصية هناك العديد
من التقنيات الحديثة المعتمدة، من هذه التقنيات ما يسمى بالتقنيات الإسقاطية:
إختبار
موراي: ويعتمد على تقديم مجموعة من اللوحات تمثّل شخصيات مختلفة في وضعيات مختلفة،
يُطلب من الشخص الخاضع للاختبار تأليف قصة متماسكة انطلاقاً من تلك اللوحات، وهو
بذلك يقوم بنوع من الإسقاطات التي لها علاقة بهواجسه وميوله المكبوتة خلال تلك
العملية مما يسمح بفهم أفضل لشخصية الفرد الخاضع للاختبار
إختبار
روزينونغ:
حيث يُقَدّم للشخص الخاضع للاختبار مشهداً
لشخصيتين في موقف معيّن، نعرف ما يقوله الشخص الأول ويُطلب من الشخص الخاضع
للاختبار جواب الشخصية الثانية: كتقديم مشهد فيه خادمة وقد كسرت إناءً ثميناً وهي
تقوم بالاعتذار من سيدتها: آسفة على فعل ذلك، لم أكن أقصد ذلك..
ثم
يُطلب إكمال الحوار أو الجواب المتوَقَّع من قِبَل سيدة المنزل.
(أجوبة
مقترحة من قِبَل الطلاب)
إختبار
رورشاخ:
حيث
يطلب من الخاضع للاختبار تأويل بقعة من الحبر على ورقة تم صنعها من خلال نقطة من
الحبر يتم وضعها على وسط الورقة ثم نقوم بثنيها لتحدث شكلين متطابقين متقابلين على
جانبي الثنية.
بقعة
الحبر بحد ذاتها لا تعني شيئاً، لكن كل واحد يرى فيها أشياء مختلفة عن الآخر حسب
شخصية كل فرد وهواجسه ومكبوتاته..
إختبارات
المسرح:
حيث
يُطلب فيه من الشخص أن يختار دوراً بمحض إرادته ثم يقوم بتمثيله على المسرح، وهذه
الطريقة تسمح باستكشاف لاوعي المريض من خلال الدور الذي اختاره وطريقة عرضه، إضافة
إلى أن لها قيمة علاجية لأنها تسمح للشخص بالتعبير عن نفسه بحرية متجاوزاً الرقابة
والأعراف الاجتماعية كما تسمح له بتفريغ الشحنة الانفعالية المسببة لمشاكله
النفسية.
ألا
يعني هذا أن العديد من مظاهر التراث الشعبي والفولكلور (مثل الرقص والدبكة) لها
وظيفة علاجية تسمح للأفراد بالتعبير الحر عن أنفسهم ضمن طقوس مبرّرة ومقبولة
إجتماعياً؟
خلاصة:
لقد
استمر الإنسان لفترة طويلة يعتقد بأن الحياة النفسية هي حياة واعية، والوعي هو
المقدمة الأولى للاختيار، أو هو الشرط الأول للحرية، فأنا أختار سلوكي عن وعي
وبمحض إرادتي..
لكن
إذا كان الدافع الحقيقي لسلوكي هو دافع لاواعٍ، فهذا يعني أن ظني أني أختار أفعالي
هو ظن خاطئ، لأن السبب الحقيقي لهذا الفعل هو سبب لاواعٍ ولا أعرفه وبالتالي فإن
فكرة الاختيار والحرية ما هي إلا وهم من الأوهام.
لقد
أثبتت مدرسة التحليل النفسي وجود اللاوعي النفسي بقوّة: منهم من اعتبر أن الدافع
الأساس وراء السلوك هو الدافع الجنسي، ومنهم من اعتبره الميل إلى التعويض وتأكيد
الذات ومنهم من اعتبره الأنانية وحب الذات أو التعلق بالحياة ومحاولة الحفاظ عليها
بأي ثمن..
لقد
ركّز كل منهم على أحد هذه العوامل مهملاً العوامل الأخرى. لكن يبدو أن هذه الدوافع
كلها وغيرُها أيضاً يلعب دوره في تكوين السلوك.
اللاوعي
يؤثّر في سلوكنا دون أن ندري.
والوعي
أيضاً يؤثّر في سلوكنا .. وندري.
لكن
السؤال هو هل يؤثّر اللاوعي في طريقة وعينا؟
ألا
يكون الوعي بذلك خاضعاً للاوعي وأداةً له وفي خدمته؟ وبذلك تكون بقعة الضوء خاضعة
لمساحة الظلام الكبيرة. (أي ما نظنّه فعلاً حرّاً خاضعاً للوعي، ما هو إلا وهم
وبأن اللاوعي أو الدوافع اللاواعية هي الأسباب الحقيقيّة المنتِجة لسلوكنا بشكلٍ
حتميّ، وبالتالي فليست الحرّية إلا نوعاً من الوهم.)
تلك
هي الطعنة الكبيرة التي وجّهها فرويد لكبرياء الإنسان في تاريخه المعاصر.
نصوص:
الوعي واللاوعي؛ نصوص.
ها
إن الناس جميعا أو يكادون، يتفقون على إكساب كل ما هو نفسي سمة عامة تعبر عن جوهره
ذاته، وهذا أمر غريب. هذه السمة الفريدة، التي يتعذر وصفها، بل هي لا تحتاج إلى
وصف، هي الوعي. فكل ما هو واع نفسي، وعلى عكس ذلك فكل ما هو نفسي واع. وهل ينكر
أمر على هذا القدر من البداهة ؟ ومع ذلك فلنقر بأن هذا الأسلوب في النظر قلما وصّح
لنا ماهية الحياة النفسية إذ أن التقصي العلمي يقف ههنا حسيرا، ولا يجد للخروج من
هذا المأزق سبيلا. (...) فكيف ننكر أن الظواهر النفسية خاضعة خضوعا كبيرا للظواهر
الجسديُة، وأنها على عكس ذلك تؤثر فيها تأثيرا قويا ؟ إن أرتج الأمر على الفكر
البشري، فقد أرتج عليه يقينا في هذه المسألة، وقد وجد الفلاسفة أنفسهم مضطرين
لإيجاد مخرج، إلى الإقرار على الأقل بوجود مسارات عضوية موازية للمسارات النفسيّة
ومرتبطة بها ارتباطا يعسر تفسيره (...) وقد وجد التحليل النفسي مخرجا من هذه
المصاعب إذ رفض رفضا قاطعا إن يدمج النفسي في الواعي . كلا، فليس الوعي ماهية
الحياة النفسية، وإنما هو صفة من صفاتها، وهي صفة غير ثابتة، غيابُها أكثر بكثير
من حضورها.
(...) ولكن يقي علينا أيضا أن ندحض اعتراضا. فرغم ما ذكرناه من
أمور يزعم فريق من الناس أنه لا بجدر بنا أن نعدل عن الرأي القائل بالتماهي بين
النفسي والواعي، إذ أن المسارات النفسيّة الني تسمى لا واعية قد لا تكون سوى
مسارات عضوية موازية للمسارات النفسية. ومن ثمّ فكأنّ القضية التي نروم حلها لم
تعد إلا مسألة تعريف لا طائل تحتها (...) فهل من باب الصدفة المحض أننا لم
نصل إلى إعطاء الحياة النفسية نظرية جامعة متماسكة إلا بعد أن غيّرنا تعريفها ؟
وفوق
هذا علينا أن نتجنّب الاعتقاد بأن التحليل النفسي هو الذي جدد نظرية الحياة
النفسية هذه .(...) فقد كان مفهوم اللاشعور يطرق منذ أمد طويل باب علم النفس،
وكانت الفلسفة كما كان الأدب يغازلانه، ولكن العلم لم يكن يعرف كيف يستخدمه. لقد
تبنى التحليل النفسي هذه الفكرة، وأولاها كل عنايته وأفعمها بمضمون جديد. ولقد
عثرت البحوث التحليليّة النفسيّة على خصائص للحياة النفسيّة اللاواعية لم تكن قبل
ذلك متوقعة، وكشفت بعض القوانين التي تتحكم فيها. ولسنا نقصد من ذلك أن سمة الوعي
قد فقدت من قيمتها في نظرنا. فما زال الوعي النور الوحيد الذي يسطع لنا ويهدينا في
ظلمات الحياة النفسية. ولما كانت معرفتنا ذات طبيعة مخصوصة، فان مهمتنا العلمية في
مجال علم النفس ستتمثل في ترجمة المسارات اللاواعية إلى مسارات واعية حتى نسد بذلك
ثغرات إدراكنا الواعي.
فرويد
"
مختصر في التحليل النفسي "
***
مهمة الأنا
ثمة
قول مأثور ينصح الإنسان بألاّ يخدم سيدين في آن واحد. و الأمر أدهى وأسوأ بكثير
بالنسبة إلى الأنا المسكين إذ عليه أن يخدم ثلاثة أسياد قساة، وهو يجهد نفسه
للتوفيق بين مطالبهم . وهذه المطالب متناقضة دوما، وكثيرا ما يبدو التوفيق بينها
مستحيلا، فلا غرابة إذن أن يخفق الأنا غالبا في مهمته . وهؤلاء المستبدون الثلاثة
هم العالم الخارجي والأنا الأعلى و الهو، وحين نعاين ما يبذله الأنا من جهود ليعدل
بين الثلاثة معا، أو بالأحرى ليطيعهم جميعا، لا نندم على أننا جسمنا الأنا وأقررنا
له بوجود مستقل بذاته ، إنه يشعر بأنه واقع تحت الضغط من نواح ثلاث، وأنه عرضة
لثلاثة أخطار متباينة يرد عليها، في حال تضايقه ، بتوليد الحصر. وبما أنه ينشأ
أصلا عن تجارب الإدراك ، فهو مدعوّ إلى تمثيل مطالب العالم الخارجي ، غير أنه يحرص
مع ذلك على أن يبقى خادما وفيّا للهو، وأن يقيم وإياه على تفاهم ووفاق ، وأن ينزل
في نظره منزلة الموضوع ، وأن يجتذب إليه طاقته الليبيدية. وكثيرا ما يرى نفسه
مضطرا ، وهو الذي يتولى تأمين الاتصال بين الهو و الواقع ، إلى التستر على الأوامر
اللاّشعورية الصادرة عن الهو بتبريرات قبل شعورية وإلى التخفيف من حدة المجابهة
بين الهو والواقع ، وإلى سلوك طريق الرّيــّاء
الدبلوماسي
و التظاهر باعتبار الواقع ، حتى وإن أبدى الهو تعنتا وجموحا. ومن جهة أخرى، فان
الأنا الأعلى القاسي ما يفتأ يراقبه ويرصد حركاته، ويفرض عليه قواعد معينة لسلوكه
غير مكترث بالصعاب التي يقيمها في وجهه الهو والعالم الخارجي . وإن اتفق أن عصى
الأنا أوامر الأنا الأعلى عاقبه هذا الأخير بما يفرضه عليه من مشاعر أليمة
بالدونية والذنب . على هذا النحو يكافح الأنا، الواقع تحت ضغط الهو و الرازح تحت
نير اضطهاد الأنا الأعلى والمصدود من قبل الواقع ، يكافح الإنجاز مهمته الاقتصادية
و لإعادة الانسجام بين مختلف القوى الفاعلة فيه والمؤثرات الواقعة عليه . ومن هنا
نفهم لماذا يجد الواحد منا نفسه مكرها في كثير من الأحيان على أن يهتف بينه وبين
نفسه:" آه، ليست الحياة بسهلة".
فرويد
" محاضرات جديدة في التحليل النفسي "
منهج
التحليل النفسي
بدل
الإلحاح على المريض بأن يذكر شيئا عن موضوع بعينه ، أصبحت أحثه على الاستسلام
ل" تداعياته الحرة "، أي ذكر كل ما يخطر بذهنه حين يمتنع عن متابعة أي
تمثل واع وكان لا بد مع ذلك أن يلتزم المريض بذكر كل ما كان يمده به إدراكه
الباطني ، وبعدم الانسياق وراء الاعتراضات النقدية التي تريده على استبعاد بعض
الخواطر بحجة أنها ليست هامة بالقدر الكافي أو أنه لا حاجة إلى مثولها أو كذلك
بحجة أنه لا معنى لها إطلاقا، ولا حاجة إلى الإلحاح في التذكير صراحة بمطلب الصدق
، إذ هو شرط العلاج التحليلي .
قد
يبدو عجيبا أن تكون طريقة التداعي الحر هذه ، المقترنة بتطبيق القاعدة الأساسية في
التحليل النفسي ، قادرة على أن تحقق ما ينّتظر منها، أي على أن ترجع إلى الوعي
القوى المكبوتة والباقية في حالة الكبت بفعل المقاومات . ومع ذلك ، لا بد من
اعتبار أن التداعي الحر ليس في حقيقة الأمر حرا، فالمريض يبقى تحت تأثير الوضع
التحليلي ، حتى عندما لا يوجه نشاطه الذهني نحو موضوع معيّن . ويحق لنا أن نفترض
أنه ما من شيء يعرض للمريض إلا وله صلة بهذا الوضع ، وتظهر مقاومته ضد عودة
المكبوت على نحوين . تظهر أولا في تلك الاعتراضات النقدية التي تتصدى لها القاعدة
الأساسية في التحليل النفسي ، ولا يتغلب على هذه العوائق بفضل مراعاة هذه القاعدة
إلا وتجد المقاومة عندئذ تعبيرة أخرى، فتمنع المكبوت من أن يخطر أبدا ببال المحلل
، ولكن يحل مكانه ، على سبيل التلميح ، شيء له صلة بالمكبوت ، وكلما عظمت
المقاومة، بعدت الشقة بين الفكرة البديلة القابلة للتبليغ و بين ما نبحث عنه
بالذات. فالمحلل النفسي الذي يصغي في هدوء و تأمل ، دون إجهاد، والذي له من الخبرة
ما يعده للآتي ، يستطيع أن يستخدم المعطيات التي كشف عنها المريض، وذلك في إحدى
وجهتين ممكنتين : فإما أن يستدل من التلميحات على المكبوت إن كانت المقاومة ضعيفة؛
أما إن كانت المقاومة اشد: فإنه يقدر على تبيّن نوعها عبر التداعيات التي تبدو
متباعدة عن الموضوع ، وإذ ذاك يفسر تلك المقاومة للمريض. إلا أن الكشف عن المقاومة
هو الخطوة الأولى في سبيل التغلب عليها، وهكذا، وفي إطار العمل التحليلي ، هنالك
تقنية في التأويل لا بد للنجاح في استخدامها من فطنة ومران ، ومع ذلك ليس من
العسير اكتساب هذه التقنية، إن طريقة التداعي الحر لها من المزايا الهامة ما تفضل
به على الطريقة التي سبقتها، ولا تقتصر على مزية الاقتصاد في الجهد، فهي تتجنب كل
ضغط على المريض ، بأكثر قدر ممكن ، ولا تفقد أبدا الصلة بالواقع الحاضر، وتوفر إذن
أكبر الضمانات لكي لا يفلت أي عامل يدخل في بنية العصاب ولا يقحم فيها ( المحلل )
أي شيء من انتظاراته الخاصة. وباستخدام هذه الطريقة، نرجع بالأساس إلى المريض
لتحديد سير التحليل وتنظيم المعطيات ، الأمر الذي يجعل من المستحيل في التحليل
الاهتمام بشكل منظم ومطرد بكل واحد من الأعراض والعقد المعزولة. وعلى العكس تماما
مما يجري قي الطرق التنويمية و" التحضيضية "، فإننا نكتشف مختلف القطع
المكوّنة للمجموعات في أوقات وأمكنة مختلفة أثناء العلاج .
فرويد
"
حياتي و التحليل النفسي "
***
المحتوى
الظّاهر للحلم ومحتواه الكامن
إن
الأحلام كلها غير غريبة عن الحالم ، ولا هي مفهومة لديه ولا واضحة. فلو انكببتم
على النظر في أحلام الأطفال الصغار - منذ أن يبلغوا من العمر عاما ونصف العام -
لوجدتموها بسيطة جدا، سهلة التفسير، فالطفل الصغير يحلم دائما بتحقيق رغبات أنشأها
في نفسه اليوم السابق دون إشباعها. ولا نحتاج إلى كبير تخمين لنتوصل إلى هذا الحلّ
البسيط ، بل يكفي أن نعلم ما مر بالطفل في اليوم السابق .
[
وقد يعترض بعضهم فيقول :] إن أحلام الكهول لا تفهم في الغالب ولا تشبه إلا قليلا
تحقيق الرغبة. فنجيب : ذلك أنها تغيرت ملامحها وتنكرت . والفرق في أن منشأها
النفسي مختلف شديد الاختلاف عن الصورة التي تبدو عليها. ولهذا وجب أن نميز بين
أمرين : الحلم كما يبدو لنا وكما نستحضره في الصباح غامضا إلى حد أننا نجد غالبا
بعض العناء في روايته وترجمته إلى كلمات . وهذا ما سنسميه المحتوى الظاهر للحلم ،
هذا من جهة، ثم إن لنا مجموعة التصورات الكامنة للحلم ، التي نفترض أنها تتحكم في
الحلم في قرار اللاشعور نفسه ، من جهة أخرى. وعملية التشويه هذه هي نفسها التي
تتحكم في نشأة الأعراض الهستيريّة. فتكون الأحلام ينتج إذن عن نفس التقابل الذي
بقع بين القوى النفسية عند تكون الأعراض .
"
المحتوى الظاهر " للحلم هو بديل محرّف من التصوّرات الكامنة للحلم ، وهذا
التحريف هو من عمل " الأنا " المدافع عن نفسه . ويتولد التحريف عن
عمليات مقاومة تحبر على الرغبات اللاّشعورية تحجيرا مطلقا الدخول إلى حيّز الشعور
في حالة اليقظة. لكن هذه القوى - رغم أن النوم يضعفها - ما يزال لها من القدرة ما
يجعلها تفرض ، على الأقل على الرغبات ، قناعا يخفيها. وليس الحالم أقدر على فك
معنى أحلامه من الهستيري على التعمّق في دلالة أعراضه .
فرويد
"خمسة
دروس في التحليل النفسي "
***
الرجة
إن
اللقاء بالتحليل النفسي يرج رجة هائلة من تكون في الفينومينولوجيا والفلسفة
الوجودية وفي سياق التجديد في الدراسات الهيغلية وفي البحوث ذات المنحى اللغوي .
إذ لا يتعلق الأمر بالمساس بهذا الموضوع أو ذاك من مواضيع التفكير الفلسفي وإعادة
النظر فيها، بل إن كل المشروع الفلسفي هو المستهدف في ذلك . فالفيلسوف المعاصر
يلتقي بفرويد غير بعيد عن نيتشه ولا عن ماركس ، فيقف ثلاثتهم أمامه أقطاب الظنة
وكاشفي الأقنعة. وينشأ مشكل جديد وهو مشكل زيف الوعي ومشكل الوعي باعتباره زيفا.
ولا يمكن أن يظل هذا المشكل مشكلا مخصوصا من بين مشاكل أخرى إذ أن ما ينبغي إعادة
النظر فيه بوجه عام وجذري إنما هو ما يبدو لنا، نحن معشر فلاسفة الفينومينولوجيا،
مجال كل دلالة، وأساسها، بل أصلها، وأعني الوعي . وينبغي أن يبدو لنا ما كان
أساسا، في معنى ما، حكما مسبقا، في معنى آخر، هو الحكم المسبق للوعي . وهذا الوضع
شبيه بوضع أفلاطون في كتابه : (السفسطائي )، فقد بدأ برمينيديا ، مدافعا عن ثبات
الوجود، غير أنه اضطر، بعد ذلك ، بسبب لغز الخطأ والظن الخاطئ ، لا فقط إلى
الإقرار باللاوجود باعتباره واحدا من " الأجناس الكبرى " فحسب بل وخاصة
إلى التصريح بأن " مسألة الوجود غامضة غموض مسألة اللاّوجود " ؛ إن
المرء ليضطر إلى الاكتفاء بمثل هذا الإقرار فيقول : " إن مسألة الوعي غامضة
غموض مسألة اللاوعي ".
إنما
هذا النفس المشوب بالظّنة إزاء ادعاء الوعي معرفة ذاته منذ البدء هو باب الفيلسوف
، يدخل منه ، لينضم إلى الأطباء النفسيين والمحللين النفسيين . فإذا كان لزاما
علينا، آخر الأمر، أن نسلم بتلازم الوعي واللاوعي ، وجب قبل ذلك اجتياز صحراء
الإقرار المزدوج : " لا أفهم اللاوعي انطلاقا مما أعرف عن الوعي ، و لآب حتى
مما قبل الوعي " . ثم مباشرة : " ما عدت قادرا حتى على فهم الوعي "
تلك هي المزية الكبرى لما هو الأبعد في مناهضة الفلسفة وما هو الأبعد في مناهضة
الفينومينولوجيا لدى فرويد، وأعني وجهة النظر الموضعية و الاقتصادية مطبقة على
مجموع نشاط الجهاز النفسي ، كما يبدو لنا في مقاله الشهير المتعلق
بالميتابسيكولوجيا وقد خصصه للحديث عن اللاوعي . و لا يمكن أن نتبين مسائل تغدو
فينومينولوجية من نوع : كيف علي أن أعيد التفكير في مفهوم الوعي وأعيد صياغته حتى
يغدو اللاوعي الأخر بالنسبة إليه ، وحتى يكون الوعي متسعا للأخر الذي ندعوه هنا
اللاوعي ، إلا انطلاقا من هذه الحيرة الفينومينولوجية المقضة.
أما
السؤال الثاني فهو : كيف يمكن ، من جهة أخرى، أن ننقد - نقدا بالمعنى
الكانطي -أي التفكير في شروط الصلاحية وفي حدود ها أيضا - ما يتعلق "
بالنماذج " التي على المحلل النفسي أن بقيمها وجوبا إذا ما رام البرهنة على
اللاوعي ؟ وهذا ما يجعل إنشاء إيبستمولوجيا التحليل النفسي مهمة متأكدة إذ ليس
بوسعنا الاكتفاء بالتمييز بين المنهج والمذهب ، كما كان عليه الأمر منذ عشرين سنة،
فنحن نعلم اليوم أن " النظرية " في العلوم الإنسانية، ليست إضافة عارضة
لأنها " جزء من تركيب " الموضوع نفسه ، بل هي " مكونه الأساسي
". فلا ينفصل اللاوعي بما هو واقع عن النموذج الموضعي و النموذج الطاقي و
النموذج الاقتصادي ، وهي النماذج التي تحكم النظرية. " فما وراء علم النفس
"، إذا ما استعرنا عبارة فرويد نفسه ، هو المذهب ، إن شئنا، غير أنه المذهب
بما هو قادر على أن يجعل إنشاء الموضوع ممكنا. فالمذهب هنا هو المنهج .
و
السؤال الثالث ، بعد مراجعة مفهوم الوعي التي فرضها علم اللاوعي ، وبعد نقد
"نماذج " اللاوعي ، يدور على النظر في إمكانية قيام أنثروبولوجيا فلسفية
قادرة على الاضطلاع بجدلية الوعي و اللاوعي . وفي إطار أية رؤية للعالم و للإنسان
يمكن تصور هذا الأمر ؟ وما عصى الإنسان حتى يكون مسؤولا عن التفكير تفكيرا سليما
وقادرا على الجنون في آن واحد ؟ وحتى يكون مجبرا، بما فيه من إنسانية، على مزيد
الوعي وقادرا على أن يندرج في سياق موضعي وفي سياق اقتصادي، من حيث أن " شيئا
ما يحركه " فأية نظرة جديدة لهشاشة الإنسان - بل للمفارقة القائمة بين
المسؤولية و الهشاشة - يقتضيها فكر ارتضى أن ينزاح عن مركزية الوعي بالتفكير في
اللاوعي ؟
بول
ريكور
"
سجال التأويلات"
إن
الأطروحة الفرويدية عن أسبقية الرغبة أساسية من أجل إعادة صياغة
الكوجيتو: فقبل أن تتحدد الذات شعوريا وإراديا كانت أصلا محددة في الكائن على
المستوى الغرائزي وتعني أسبقية الغريزة هذه بالنسبة للوعي والإرادة أولوية الـ (
أنا موجود) على الـ (الأنا أفكر) وينتج عن ذلك تفسيرا للكوجيتو أقل مثالية وأوثق
صلة بالوجود: إن فعل الكوجيتو المحض بوصفه يطرح نفسه بصفة مطلقة هو حقيقة مجردة و
خاوية بقدر ما هي دامغة.
وهكذا
يجب الاضطلاع بيقينية الكوجيتو و بطابعه الارتيابي غير المحدود معا فالكوجيتو هو
في آن واحد اليقين القاطع بأنني موجود و سؤال مفتوح بالنسبة لوجودي.
إن
الوظيفة الفلسفية للفرويدية هي إقامة مسافة بين يقينية الكوجيتو المجردة وإعادة
اكتشاف حقيقة الذات العينية وفي هذه المسافة ينزلق نقد الكوجيتو المزيف وتفكيك
أوثان الأنا التي تقيم حاجزا بين الأنا وبين أنا ذاتي.
بول
ريكور
***
الإنسان
وعي بالذات.إنه وعي بذاته وعي بحقيقته وبكرامته الإنسانية.وبهذا فهو يختلف جوهريا
عن الحيوان ،الذي لا يتجاوز مستوى "الإحساس" البسيط بذاته.ولكي يحصل
الوعي بالذات فإن على الرغبة أن تتعلق بموضوع غير طبيعي، بشيء يتجاوز الواقع
المعطى.
إن
الرغبة الإنسانية المولدة للإنسان والمكونة لفرد حر وتاريخي وواع بفرديته وحريته
وتاريخه تختلف إذن عن الرغبة الحيوانية[المكونة لكائن طبيعي يحيا فحسب ولا يملك
سوى الإحساس بحياته] باعتبارها تتعلّق برغبة أخرى وليس بموضوع واقعي
و"ايجابي" ومعطى..
وحتى
يكون الإنسان حقيقة إنسانية،ولكي يتميز جوهريا وواقعيا عن الحيوان فإنه ينبغي أن
تقضي رغبته الإنسانية فعليا على رغبته الحيوانية .بيد أن كل رغبة هي رغبة في قيمة
ما.فالقيمة العليا للحيوان هي حياته الحيوانية.وكل رغباته في آخر التحليل هي حصيلة
رغبته في البقاء.وبعبارة أخرى، الإنسان لا "يؤكد"إنسانيته إلا إذا خاطر
بحياته [الحيوانية] في سبيل رغبته الإنسانية، من خلال هذه المخاطرة وبواسطتها
تتأكد أي تنكشف وتتبين ويتم اختبارها وتثبت أدلتها بما هي مختلفة جوهريا عن
الحقيقة الحيوانية الطبيعية...
ألكسندر
كوجيف: مقدمة لقراءة هبغل.
***
الأنا
لا
أعرف بعد ما أنا إياه ، أنا المتيقن من كوني أوجد... لذلك سأنظر في ما اعتقدت أني
إياه فما الذي اعتقدت من قبل أني إياه, لقد اعتقدت دون صعوبة أني إنسان و لكن ما
معني إنسان ؟ ... سأعتبر أولا أن لي وجها و يدين و ذراعين وكل هذه الآلة المركبة
من العظام واللحم مثلما تظهر ضمن جثة وهي الآلة التي أطلق عليها اسم الجسم. و
سأعتبر إضافة إلي ذلك أني أتغذى وأمشي وأحس وأفكر و سأرجع كل هذه الأفعال إلى
النفس ولكني لا أتوقف مطلقا عن التفكير في ما يمكن أن تكونه النفس... أما بخصوص
الجسم فإني ما كنت مطلقا أشك في طبيعته لأني كنت أعتقد في معرفة طبيعته بتمييز قوي
إذا شئت أن أعبر عنها... أمكنني وصفها على النحو التالي: أعني بكلمة جسم كل ما
يقبل أن يتحدد ضمن شكل ما وكل ما يقبل أن يتضمن في مقر ما وأن يملأ فضاء على نحو
يقصي كل جسم آخر, وما يقبل أن يحس إما لمسا و إما إبصارا و إما سماعا و إما تذوقا
و إما رائحة, و ما يقبل أن يتحرك و في وجوه عديدة لا بذاته و إنما بواسطة شيء غريب
عنه يلمسه أو ينطبع به... و لكن أي كائن أنا... ؟ هل أستطيع أن أكون متأكدا من أن
لي هذه الصفات التي أسندتها منذ حين إلي الطبيعة الجسمانية ؟ لقد توقفت للتفكير في
ذلك بانتباه و راجعت كل تلك الصفات في ذهني وأعدت مراجعتها ولكني لم أجد أية صفة
أستطيع القول أنها أنا... فلنمر الآن إلي صفات النفس و لنر إن كانت بعض الصفات
تقبل أن تكون من الصفات الأولى. ذكرت أني أتغذي وأني أمشي ولكن إذا صح أن لا
جسم لي فإنه يكون من الصحيح أيضا أنه لا يمكنني أن أمشي وأن أتغذى ثم ذكرت فعل
الإحساس و لكننا لا نستطيع أيضا أن نحس من دون الجسم... و ذكرت كذلك صفة أخرى هي
التفكير وأني لا أجد هاهنا أن التفكير صفة تنتمي إليه: فالتفكير وحده هو ما لا
يمكن فصله عني... لست إذا على وجه الدقة غير شيء يفكر أي فكر أو ذهن أو عقل... لست
إذا هذا التجمع من الأعضاء الذي نسميه الجسم الإنساني... و لكن ما هذا الكائن الذي
أنا إياه ؟ إنني شيء يفــــــــكر.
رونى
ديكارت: التأملات الميتافيزيقية
***
لقد
عودنا التصور الديكارتي على أن ننفصل عن الموضوع. فالموقف التأملي يظهر في
الآن نفسه, الفكرة السائدة عن كل من الجسد والنفس, و ذلك بتحديده الجسد على أنه
مجموع أجزاء دون عالم داخلي, والنفس على أنها كائن ماثل لدى ذاته المثول كله,
دونما بين. إن هذين التحديدين المتلازمين, إذ يرسيان الوضوح داخلنا و خارجنا,
يضعاننا أمام شفافية موضوع دون ثنايا, أمام شفافية ذات ليست إلا ما تتصور نفسها
عليه. فالموضوع يكون موضوعا والوعي وعيا من جميع الجهات ذلك لأن لكلمة وجود
معنيين ليس إلا وهو أن يوجد الشيء باعتباره شيئا أو باعتباره وعيا و على عكس ذلك
فإن تجربة الجسد الخاص تكشف لنا نمطا من الوجود المفارق ذلك أني إن حاولت أن أفكر
فيه باعتباره جملة من السيرورات منسوبة إلى ضمير الغائب "إبصارا" أو
"حركية " أو" جنسانية" اتضح لي أن هذه "الوظائف "
لا يمكن أن ترتبط ببعضها ارتباطا سببيا, و إنما هي تتردد على نحو مبهم في مأساة
واحدة قد أقحمت فيها إقحاما. فليس الجسد إذا موضوعا, و للسبب نفسه ليس الوعي الذي
أحمله عنه فكرا أي أني لا أقدر على تفكيكه وإعادة تركيبه من أجل تكوين فكرة واضحة
عنه، ذلك أن وحدته هي دوما وحدة ضمنية ومبهمة. فهو دائما شيئا آخر غير ما هو عليه
أو هو دائما جنسانية و في آن حرية, و هو متجذر في الطبيعة في ذات الوقت الذي يتغير
فيه بفعل الثقافة, وهو ليس منغلقا أبدا على ذاته ولا متجاوزا. و سواء تعلق الأمر
بجسد الغير أم بجسدي الخاص فما من وسيلة لمعرفة الجسد البشري سوي أن أعيشه, أي أن
أضطلع بالمأساة التي تتخلله, و أن أمتزج به. فأنا إذا جسدي, على الأقل من حيث أنه
لدي مكسب و بالمقابل فإن جسدي هو بمثابة الذات الطبيعية, أو الخطوط العريضة
المؤقتة لكياني الشامل هكذا تتعارض تجربة الجسد الخاص مع الحركة التأملية التي
تفصل الموضوع عن الذات و تفصل الذات عن الموضوع و التي لا تمنحنا سوي تفكير في
الجسد, أو الجسد فكرة, لا تجربة الجسد, أو الجسد واقعا.
موريس
ميرلوبنتي فينومينولوجيا الإدراك : قاليمار 1945 ص 230 / 231
***
ليس
جسدي موضوعا بين الموضوعات وأشدها قربا. فكيف يقترن بتجربتي كذات ؟ في الواقع
التجربتان ليستا منفصلتين : أوجد ذاتيا وأوجد جسديا يمثلان نفس التجربة فأنا لا
أفكر من دون أن أوجد , و لا أوجد من دون جسدي , فأنا به أكون معروضا على نفسي
والعالم والآخر , و به أنجو من عزلة فكر لا يكون سوى تفكير في الفكر فهو برفضه أن
يتركني شفافا بصورة تامة مع نفسي , يرمي بي بلا انقطاع في إشكالية العالم و صراعات
الإنسان , و يقذف بي إلى المكان بواسطة إلحاح الحواس و يعلمني الديمومة بواسطة
شيخوخته , و يواجهني بالخلود بواسطة موته , فهو يثقل بعبوديته و لكنه في نفس الآن
جذر كل وعي و كل حياة روحية , فهو الوسيط الدائم لحياة الفكر .
إمانويل
مونييه: الشخصانية ص 19 /20
***
لا
أعرف بعد ما أنا إياه ، أنا المتيقن من كوني أوجد... لذلك سأنظر في ما اعتقدت أني
إياه فما الذي اعتقدت من قبل أني إياه, لقد اعتقدت دون صعوبة أني إنسان و لكن ما
معني إنسان ؟ ... سأعتبر أولا أن لي وجها و يدين و ذراعين وكل هذه الآلة المركبة
من العظام واللحم مثلما تظهر ضمن جثة وهي الآلة التي أطلق عليها اسم الجسم. و
سأعتبر إضافة إلي ذلك أني أتغذى وأمشي وأحس وأفكر و سأرجع كل هذه الأفعال إلى
النفس ولكني لا أتوقف مطلقا عن التفكير في ما يمكن أن تكونه النفس... أما بخصوص
الجسم فإني ما كنت مطلقا أشك في طبيعته لأني كنت أعتقد في معرفة طبيعته بتمييز قوي
إذا شئت أن أعبر عنها... أمكنني وصفها على النحو التالي: أعني بكلمة جسم كل ما
يقبل أن يتحدد ضمن شكل ما وكل ما يقبل أن يتضمن في مقر ما وأن يملأ فضاء على نحو
يقصي كل جسم آخر, وما يقبل أن يحس إما لمسا و إما إبصارا و إما سماعا و إما تذوقا
و إما رائحة, و ما يقبل أن يتحرك و في وجوه عديدة لا بذاته و إنما بواسطة شيء غريب
عنه يلمسه أو ينطبع به... و لكن أي كائن أنا... ؟ هل أستطيع أن أكون متأكدا من أن
لي هذه الصفات التي أسندتها منذ حين إلي الطبيعة الجسمانية ؟ لقد توقفت للتفكير في
ذلك بانتباه و راجعت كل تلك الصفات في ذهني وأعدت مراجعتها ولكني لم أجد أية صفة أستطيع
القول أنها أنا... فلنمر الآن إلي صفات النفس و لنر إن كانت بعض الصفات تقبل أن
تكون من الصفات الأولى. ذكرت أني أتغذي وأني أمشي ولكن إذا صح أن لا جسم لي
فإنه يكون من الصحيح أيضا أنه لا يمكنني أن أمشي وأن أتغذى ثم ذكرت فعل الإحساس و
لكننا لا نستطيع أيضا أن نحس من دون الجسم... و ذكرت كذلك صفة أخرى هي التفكير
وأني لا أجد هاهنا أن التفكير صفة تنتمي إليه: فالتفكير وحده هو ما لا يمكن فصله
عني... لست إذا على وجه الدقة غير شيء يفكر أي فكر أو ذهن أو عقل... لست إذا هذا
التجمع من الأعضاء الذي نسميه الجسم الإنساني... و لكن ما هذا الكائن الذي أنا
إياه ؟ إنني شيء يفــــــــكر.
رونى
ديكارت: التأملات الميتافيزيقية
***
ليس الفكر الذي يصبح واعيا إلا جزءا طفيفا : لنقل إنه الجزء الأكثر سطحية و رداءة
ذلك أن هذا الفكر الواعي فقط ينشأ في شكل كلام أي في شكل علامات تواصل... إن نمو
الوعي واللغة متوازيان. و لنضف إلى هذا أن ليست اللغة فقط هي التي تمد جسرا من
إنسان إلى آخر ولكن كذلك النظرة و الإيماءة و الحركة.
إن
الإنسان الذي اخترع العلامات هو ذاته الذي يحصل له شيئا فشيئا وعي حاد بذاته و إنه
لم يتعلم فعل ذلك إلا من جهة ما هو كائن اجتماعي...يبدو لي في ما أرى أن الوعي لا
ينتسب في الواقع إلى الوجود الفردي في الإنسان ولكنه ينتسب بالأحرى إلي ما
يصنع منه طبيعة اجتماعية و قطيعية: وتبعا لذلك إن الوعي لم ينم بدقة إلا بالنظر
إلى النفع الذي يقدمه للمجتمع وإن كلامنا بالضرورة وبصرف النظر عن صدق إرادته في
أن يفهم نفسه على نحو فردي قدر الإمكان وأن يعرف ذاته رغم ذلك لم يفعل شيئا آخر
عدا حمل ما ليس فرديا إلى وعيه... و في الواقع إن أفعالنا بأسرها شخصية و فريدة في
معني ضيق فهذا أمر لا مجال للشك فيه ولكن يكفي أن نعيد ترجمتها إلى الوعي حتى تكف عن
أن تكون كذلك...إن طبيعة الوعي... تفيد بأن العالم الذي يمكن أن نكون واعين به ليس
إلا عالما سطحيا ومصغرا عالم علامات معمما و مبتذلا وأن كل وعي في الوقت ذاته يكون
مسطحا ومصغرا ومختزلا إلى بلاهة السلوك المكرور للقطيع.
تبعا
لذلك فإن كل وعي يرتد إلي عملية تعميم و تسطيح و مغالطة أي عملية هدامة بالأساس.
نيـــــــــتشه:
العلم المرح
***
إن
هذه الآراء ( الفلسفية المتنازعة ) جميعها تشترك في شيء واحد: إنها تفهم الوجود
على أنه شيء ما يواجهني بوصفه موضوعا يقف بمعزل عني أثناء تفكيري فيه هذه الظاهرة
الأساسية في وعينا هي بالنسبة إلينا واضحة بذاتها لدرجة أننا لا نكاد نرتاب في
اللغز الذي تمثله لأننا لا نحاول أن نتفحصه. إن الشيء الذي نفكر فيه و نتحدث
عنه دائما شيء مختلف عنا إنه الموضوع الذي نتجه إليه باعتبارنا ذاتا.
فإذا
جعلنا أنفسنا داخل موضوع تفكيرنا فإننا نصبح نحن أنفسنا "الآخر", و مع
ذلك نظل في الوقت نفسه "أنا " مفكرة تفكر في نفسها, و لكنها لا تستطيع
أن تفكر كما ينبغي باعتبارها موضوعا لأنها هي التي تحدد موضوعية الموضوعات جميعا,
و نحن نطلق على هذا الشرط الأساسي بالقسمة الثنائية إلي ذات وموضوع, وما دمنا متيقظين
واعين فإننا نواجهها دائما. و سواء التوينا أو احتلنا ما شاء لنا الالتواء
والاحتيال فإننا واقعون دائما في هذه الثنائية, متجهون دائما نحو موضوع سواء أكان
هذا الموضوع هو واقع إدراكنا الحسي أو تصور للموضوعات المثالية, مثل الأعداد
والأشكال الهندسية, أو كان توهما, أو حتى تخيلا محالا, إذ تواجهنا الأشياء دائما
من الداخل والخارج على السواء تلك الأشياء التي هي مضمون وعينا. فليس ثمة موضوعا
بلا ذات أو ذات بلا موضوع كما قال شوبنهاور.
كارل يسبرس: سبيل إلي الحكمة
***
البحث
عن المصدر لا يؤسس: إنه يربك ما ندركه ثابتا و يجزئ ما نراه حدا أية قناعة قد تصمد
بعد هذا... ؟ نستطيع أن نقول أن المصدر مشدود إلي الجسد و مندرج في منظومته
العصبية و في مزاجه و جهازه الهضمي... و ضمن الجسم و خوره أمور موروثة عن أسلاف
اقترفوا أخطاء فعندما يحملون النتائج محمل الأسباب و يعتقدون بعالم آخر غير هذا العالم
أو يصطنعون قيمة الخلود, أجساد أبنائهم هي التي تدفع الثمن. إن الجبن والنفاق
كلاهما نتيجة من نتائج الخطأ لا بالمعنى السقراطي القائل بأن الشر ثمرة الجهل و لا
بمعنى ما يقال من انحراف عن الحقيقة الأصلية, بل إن الجسم يحمل في حياته و مماته,
في لحظات قوته وضعفه الجزاء الذي يترتب عن كل حقيقة أو خطأ مثلما يحمل بالمقابل
مصدره. لماذا أبدع الناس الحياة التأملية؟ و لماذا أولوا هذا النوع من الوجود قيمة
علياء ؟ و لماذا عزوا إلي التخيلات المستقاة منه حقيقة مطلقة ؟ يمكن أن نقول عندما
تخور قوى الفرد و يحس أنه مريض أو متعب أو محزون أو مظلوم وعاطل بصورة مؤقتة عن كل
رغبة سرعان ما يتحول إلى رجل أفضل يصبح أقل خطرا و يمكن لأفكاره المتشائمة ألا
تصاغ في قوالب من التأملات يتحول بعدها إلي مفكر و سيعمل خياله في تطوير معتقده
الخرافي. قد نعثر فوق الجسد على آثار الحوادث الماضية, لأن الرغبات والإخفاقات منه
تتولد و فيه تتعقد عراها ثم تختفي بغتة, بل فيه أيضا تنحل لتدخل في صراع تتلاشى
بعده في أثر بعضها, الجسد ساحة لتسجيل الحوادث وتبديدها: إنه المكان الذي تفكك فيه
الأنا التي تحاول أن تمنحه شعورا زائفا بوحدة جوهرية إنه حجم يخضع دائما لتفتت مستديم
و الجينيالوجيا باعتبارها تحليلا للمصدر تجد نفسها في حال تلاحم مع الجسد و
التاريخ. عليها أن تبين أن الجسد ينقشه التاريخ و يخربه التاريــــــــخ.
مـيشال
فــوكــو: جينيالوجيا المعرفة
مهما
يكن فبصفتنا باحثين عن المعرفة, يحسن بنا أن لا نكون جاحدين تجاه مثل هذه
المحاولات التي تقلب آفاق النظر عاليها سافلها, فضلا عن قلبها للتقديرات الشائعة
التي طالما جعلت الفكر يغتاظ من نفسه, دون فائدة تذكر و بصورة مستنكرة: لكن رؤية
الأمور بصورة مغايرة إرادة المرء في أن يرى الأمور على نحو آخر ليست علما بسيطا
ساذجا, أو إعدادا ناقصا يهيأ الذهن لـ" موضوعيته " العتيدة ـ على أن
تفهم هذه الموضوعية لا بمعنى " التأمل المجرد " ( فهذا لا معنى له إنه
سخافة) بل بما هي ملكة تمكن الذهن من إبقاء ما له و ما عليه ضمن نطاق صلاحياته
وتجعله يتصرف عند الحاجة على نحو يمكنه من استخدام هذا التنوع خدمة للمعرفة بما في
ذلك آفاق النظر والتأويلات التي تشوبها الميول والأهواء.
فلنلتزم
من الآن فصاعدا جانب اليقظة والحذر, حضرات الفلاسفة, حيال تخريف بعض المفاهيم
القديمة الخطيرة, هذا التخريف الذي ابتدع " ذاتا عارفة، ذاتا محضا، لا إرادة
لها، ولا ألم، ولا تخضع لزمان " ولنحترس من أن تمسنا مجسات بعض المقولات
المتناقضة, من نوع " العقل المحض " و " الروحانية
المطلقة " و " المعرفة بذاتها ": فهنا يطالب البعض منا دائما أن
نفكر بعين لا يمكن تخيلها على الإطلاق بعين ينبغي بأي ثمن أن لا يكون لنظرتها أي
اتجاه بعين تكون وظائفها العملية والتفسيرية مقيدة أو غائبة والحال أنه ليس ثمة ما
يوفر لفعل النظر موضوعه إلا هي. يطلب منا البعض أن تكون العين شيئا أخرق سخيفا بيد
أنه ليس ثمة وجود إلا لرؤية من زاوية معينة لمعرفة من منظور معين و ذلك هو كمال
الموضوعية.
نيتشه
: جينيالوجيا الأخلاق
المقالة
الثالثة الفقرة 12
هناك
انطباع سائد أنه بمجرد أن قام الإنسان كتشكيل وضعي في حيز المعرفة, كان لابد وأن
يزول امتياز الفكر الذي يفكر في ذاته, و كان أن تمكن, ثمة, فكر موضوعي من أن يغطي
الإنسان بأكمله وأن يكشف فيه ما لم يكن ليصل إليه فكره أو حتى وعيه, أوليات غامضة,
مساحات مظلمة... أطلق عليها مباشرة أو مواربة اسم اللاوعي. أو ليس اللاوعي ما يقع
حتما تحت الفكر العلمي الذي يحمله الإنسان في ذاته عندما يكف عن تذكر ذاته ؟
في
الواقع لم يكن الوعي, وبنوع عام كل أشكال اللامفكر المكافأة المعطاة لمعرفة وضعية
للإنسان. فالإنسان واللامفكر هما على المستوى الأركيلوجي متعامدان. لم يستطع
الإنسان أن يكون موضوعا في الإبستمية دون أن يكشف الفكر في الوقت نفسه في داخله و
خارجه معا. في هوامشه و صميم نسيجه بالذات جانب مظلم وعمقا يبدو جامدا يغرق فيه,
ولا مفكرا يحتويه الفكر بكامله, و لكنه مع ذلك يقع في الوقت نفسه في شراكه. لا
يسكن اللامفكر تحت أي اسم كان بل هو بالنسبة للإنسان هو الآخر: الآخر الأخوي أو
التوأم, المولود لا منه و لا فيه بل هو إلى جانبه في الوقت ذاته هو في تجدد ممثل
لذاته في ازدواجية لا تنقض إن تلك النسخة المظلمة التي يحلو اعتبارها منطقة لجية
من طبيعة الإنسان أو قلعة محصنة من تاريخه ترتبط بطريقة مختلفة تماما فهي خارجية و
ضرورية في آن بالنسبة إليه. و على أية حال قام اللامفكر بالنسبة للإنسان مقام
اللحن المصاحب له الصامت و غير المنقطع, وبما أنه ليس سوى نظير ملحاح, لم يفكر به
يوما بشكل مستقل.
ميشال
فوكو: الكلمات و الأشياء
***
إن اللوغوس الوحيد الذي يسبق وجوده أي شيء آخر هو العالم نفسه و الفلسفة التي
تخرجه إلى الوجود الظاهر لا بدأ بأن تكون ممكنة فهي فعلية أو واقعية كالعالم الذي
هي جزء منه و ما من افتراض تفسيري يمكن أن يكون أوضح من ذات العقل الذي به تأخذ من
جديد هذا العالم غير المكتمل لكي تحاول إضفاء الطابع الكلي عليه والتفكير فيه... و
ليس العالم العقلي مشكلة فلنقل إذا شئنا أنهما يتسمان بالسر بيد أن هذا السر
يعرفهما و لا سبيل إلى تشتيتهما بواسطة حل ما لأنهما خارج الحلول جميعا و بهذا المعنى
يمكن أن تكون قصة مروية دالة على العالم بعمق لا يقل عن العمق الذي يتصف به بحث في
الفلسفة حينئذ نمسك مصيرنا بأيدينا و نصبح مسؤولين عن تاريخنا بتأملنا و كذلك
بالقرار الذي نلزم به حياتنا و في الحالتين يتعلق الأمر بفعل عنيف يختبر صدقه
بالممارسة.
موريس
ميرلوبنتي: تقريض الفلسفة
***
أجمل
أو أثمن موضوع في المنظور الشامل للاستهلاك، الموضوع المفجر والأكثر امتلاء
بالدلالة هو الجسم... هناك دعاية مستمرة تذكرنا بأنه ليس لنا إلا جسم واحد وأنه
يتعين المحافظة عليه و إنقاذه, خلال عهود بذل جهد كبير في إقناع الناس بأنه ليس
لديهم جسم أما اليوم فتبذل جهود أخرى لإقناعهم بأهمية جسمهم. هناك شيء غريب في ذلك
أليس الجسم هو نفسه ؟ يبدو الأمر ليس كذلك: فمكانة الجسم واقعة تنتمي إلى الثقافة
و الحال أنه في أية ثقافة من الثقافات نرى أن نمط العلاقة مع الجسم يعكس نمط تنظيم
العلاقة مع الأشياء و مع العلاقات الاجتماعية ذاتها ففي المجتمع الرأسمالي تسري
المكانة العامة للملكية الخاصة على الجسم كذلك. وعلى الممارسات الاجتماعية
المتعلقة به وعلى التصورات الذهنية التي نكونها عنه. أما في المجتمع التقليدي لدى
الفلاح مثلا فلا وجود لاستثمار نرجسي ولا وجود لإدراك حسي تضخيمي للجسم بل هناك
فقط رؤية أداتية سحرية للجسم مستخلفة من العمل اليدوي والعلاقة المباشرة مع
الطبيعة.
جان
بودريار: مجتمع الاستهلاك
***
إن
الرائي إذ يغوص في المرئي بواسطة جسده الذي هو نفسه مرئي, لا يستولي على ما يرى:
إنه يقربه فقط بواسطة النظرة و يطل على العالم, الذي يكون الرائي جزءا منه و من
ناحيته ليس عالما في ذاته أو مادة. و حركتي ليست قرارا من الروح أو فعلا مطلقا
يصدر أمره من أعماق العزلة الذاتية, بتغيير ما للموضع يتم بأعجوبة في الامتداد.
إنها النتيجة الطبيعية للرؤية و لنضجها الخاص. فأنا أقول عن شيء إنه متحرك. أما
جسدي نفسه فيتحرك و حركتي تنتشر, فهي ليست مجهولة لذاتها, و ليست عبئا عن ذاتها,
إنها تشع من ذات... واللغز ينحصر في أن جسدي هو في الوقت ذاته رائي و مرئي. إن هذا
الجسد الذي ينظر إلى الأشياء كلها, يمكنه أيضا أن ينظر إلى نفسه و أن يتعرف في ما
يرى على الجانب الآخر من قدراته الرائية. إنه يرى نفسه رائيا و يلمس نفسه لامسا,
فهو مرئي و محسوس بالنسبة إلى نفسه. إنه ذات لا عن طريق الشفافية مثل الفكر الذي
لا يفكر في شيء أيا كان دون أن يتمثله وأن يشيده و أن يحوله إلى فكرة. و إنما ذات
بواسطة الاختلاط و النرجسية و ملازمة من يرى لما يراه, و من يلمس لما يلمسه, ومن
يحس للمحسوس ذات واقعة إذا بين الأشياء, لها وجه وظهر, لها ماض و مستقبل.
ميرلوبنتي:
العين و العقل
***
تعترض
مفهوم اللاوعي جملة من الصعوبات. تتمثل الأولى في أن نفهم كيف يتمثله علم النفس.
واضح أن نسق الغرائز يفلت عن الوعي و يوفر له نتائج دون أسباب, مثلا " أنني
خائف " بهذا المعنى الطبيعة الإنسانية لا واعية تماما مثل الغرائز الحيوانية
و لنفس الأسباب. نحن لا نقول أن الغرائز هي اللاوعي, لماذا ؟ لأنه النتائج.عي
حيواني توفر له الغالنتائج. من النتائج . اللاوعي هو نتاج مفارقة في الوعي... ينظر
الرجل إن كان يرتعش ليعرف إن كان خائفا... يقول أجاكس AJAX)(
لنفسه في الإلياذة " هي ذي قدمي تدفعني, هناك دون شك إله يقودني إذ لم أعد
أعتقد في مثل هذا الإله فلا بد وأن أعتقد في وجود وحش مختلف بداخلي ". الواقع
أن الإنسان يتعود على أن يكون له جسد و غرائز, و يعارض علم النفس التحليلي ذلك,
إنه يبدع الوحش ويكشفه لمن يسكنه... الفرويدية الذائعة الصيت هي بالضبط فن إبداع
الحيوان المخيف في كل إنسان عبر علامات عادية كالأحلام التي يحلو لفرويد أن يرى
فيها مجرد تعبير غير مباشر. حياتنا الجنسية لا تخضع بالطبع للإرادة و تمتنع عن
التوقع, إننا أمام جرائم ذاتية, و نستنتج من ذلك أن مثل هذه الغرائز توفر مجالا
خصبا للتأويل.
آلان:
عناصر فلسفية
دروس
في
الفلسفة العامة
السنة الثانوية الثالثة
فروع
الاقتصاد والاجتماع
العلوم العامة و علوم الحياة
إعداد
مصطفى حمزة و حسين مراد
الوعي واللاوعي
1- تعاريف:
الوعي حسب معجم "لاروس"ادراك من شأنه تعريفنا
بذاتنا".وقد يكون هذا التعريف ناقصا الا انه يؤكد على ان الوعي هو بالدرجة
الاولى معرفة موضوعها ذاتنا .وكان هذا هو الاتجاه العام في علم النفس التقليدي.
اما معجم" لالند"فيقدم تعريفا مؤداه" ان
الوعي هو حدس النفس احوالها وافعالها على تراوح في درجات الكمال والوضوح".
الا ان هذا التعريف يبقى تقريبيا اذ أن الوعي
هو معطى اساسي للفكر لا نستطيع ان نرده الى عناصر ابسط .فلا يمكن ان يحصر الوعي في
تعريف والسبب في ذلك هو ان الوعي موجود في اساس كل معرفه فمنه واليه تعود.
ان الاشتقاق اللغوي يردها الى ما سبق اي انها تترافق مع
معنى المعرفة ،فأكون واعيا يعني ان افعل واحس وافكر واعي ذلك كله.
ان الوعي هو حدث مميز يمنع الانسان ان يكون غارقا في قلب
الاشياء؛بل انه يضعه امام الاشياء ذاتا مشرفه على موضوع مختلف عنها ولا تدرك ذاتها
وعيا الا في المجال الفاصل بينها وبين الموضوع .الا ان وعي الانسان ذاته وافعاله
ومشاعره وافكاره لا يوفر له مفهومية كاملة لها.
ان الوعي خاصة الانسان بل هوموضوع عظمته وشرفه ولكنه
يشكل ايضا سبب شقائه لذلك يتراوح وضعه بين اتجاهين:
اما ان يحاول المصالحة مع الطبيعة ،واما ان يتسامى على
الكون الطبيعي .هذا الموقف الجدلي بين الانسان الواعي وبين الطبيعة غني بالمعاني ،فإن
خاصية الوعي هي الزام على الانسان بأن يفكر في ذاته وفي الكون.هكذا يكون الوعي
الشرط الاساسي لنشاط الفكر قبل ان يكون موضوع دراسة نفسية
2- الوعي في المنظور الديكارتي
تظهر ابعاد الوعي المعرفية الكاملة مع ديكارت ،فلقد كان
وعيا اصيلا للذات في "الكوجيتو" وصار مدخلا الى معرفة الله ومعرفة
العالم الخارجي وقد خرجت هذه الحقائق من متون الشك ،لم يكن الشك عنده انكارا
للحقيقة بل كان شكا منهجيا للوصول الى الحقيقة اليقينية التي يبنى عليها كل مضمون
المعرفة ،كان شكا نابعا من ارادة الوصول الى المعرفة اليقينية ، التي تمثلت في
حقيقة الفكر الواعي لذاته "انا افكر اذا انا موجود". اي انا ذات مفكرة
واعية لذاتها وهنا يتساوى الموضوع مع الذات ويكون الوعي فكر الفكر.
وقد اعتبر غاسندي انه كان بامكان ديكارت ان يقول
"ان امشي اذا انا موجود"،لكن ديكارت رد عليه قائلا انني استطيع ان افكر
انني امشي او اتكلم دون ان افعل هذه الافعال بالفعل! وهب ا نني شككت في فكري يكون
الشك فكرا يؤكد ذاته بذاته ويعي ذاته بالضرورة . منهج ديكارت يدعونا للتركيز على
الذات المفكرة الواعية او الحقيقية الاولى التي لا شك فيها .
واستقر تفكير ديكارت عند ثنائية النفس والجسد معتبرا ان
معرفة النفس اسبق واسهل من معرفة الجسد. وان كل ما هو واع هو نفسي وكل ماهو لا واع
هو جسدي او عضوي ولا شيء في الوعي يمكن ان يكون لاواعيا اما في الجسد فهناك وظائف
عدة لاعضاء مختلفة تعمل من غير وعينا.
ان علم النفس التقليدي رفض وجود لا وعي نفسي واعتبر ذلك
بمثابة تناقض في العبارة فاللاوعي جسدي فقط ؛اما النفسي فلا يمكن ان يكون ا لا
واعيا او هو الوعي بذاته .ولكن كيف تتم دراسة هذا الوعي النفسي؟
كل علم من العلوم يتميز عن غيره من العلوم بموضوعه الخاص
وبمنهجه وعلم النفس التقليدي موضوعه الوعي ومنهجه الاستبطان.والاستبطان منهج في
البحث النفسي يقوم على التأمل في الذات ، انه دراسة الانا للانا.
هل يمكن دراسة الوعي النفسي بصورة موضوعية اعتمادا على
منهج الاستبطان؟
الاستبطان لايمكن ان يشكل دراسة سيكولوجية موضوعية
للذات ولا دراسة علمية لها لللاسباب
التالية :
-طريقة الاستبطان لا تؤمن مراقبة موضوعية لحياتنا
الداخلية اذ ان الدارس (الانا) هو نفسه موضوع الدراسة (الانا)
-انها طريقة مستحيلة التطبيق في حالات نفسية عدة وخاصة
في دراسة الحالات الانفعالية إذان المنفعل لا يمكن ان يكون في الوقت نفسه دارسا
هاديء الاعصاب لنفسه!
- انها غير ممكنة التطبيق في ميادين عدة من ميادين علم
النفس :في علم نفس الطفل ،في علم النفس المرضي وعلم نفس الحيوان...اذ ان مثل هؤلاء
لايمكنهم القيام بعملية الاستبطان .
- في الاستبطان إنحياز لذاتنا وفيه تبرير لاخطائنا ونقاط
ضعفنا .فضلا عن عدم إمكانية تناول الحالات النفسية اللاواعية بالدراسة.
لقد تأثر علم النفس الحديث بالانجازات التي حققتها علوم
الطبيعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
واعتمادها المراقبة والتجربة في
دراساتها فتخلوا عن الاستبطان وعن
فكرة ان الوعي هو موضوع علم
النفس فبرز اللاوعي والسلوك كموضوعان
جديدان لعلم النفس.مما ادى الى بروز وسائل جديدة للدراسة النفسية .لكن الاستبطان
ظل مصدرا لمعلومات نفسانية لا غنى عنها في ميادين علم النفس المعا صر الى جانب
المراقبة والاختبار،كذلك موضوع الوعي
لكن من غير ان يبقى الموضوع الاوحد
لعلم النفس .
3- خصائص الوعي
ان الوعي وظيفة خيار تعمل لصالح التكيف البيولوجي فطالما
ان افعالنا الآلية توفر لنا التكيف فإنه يبقى في سباته لكن يبرز امام الصعوبات
لإيجاد تكيف مناسب للوضع المستجد وهذا معنى قول "برغسون" "الوعى
يعني الخيار".
ويعرف "جانيه" الوعي بانه عملية تركيب
واللاوعي هو هبوط في مستوى الطاقة النفسية.
4- شكوك على باطن الوعي
قابلت الفلسفة الظاهرية الموقف الديكارتي المنغلق بداية
على الذات بموقف منفتح اساسا على العالم الخارجي فهي تضعنا امام حقيقة الوعي
المنفتح منذ البداية على العالم الخارجي "ان كل وعي هو وعي لشيء ما "اما
وعي الذات فليس حقيقة اولى اصيلة،فإن ادراكي لذاتي ليس ادراكا لوعي وراء الوعي بل
هو ادراكا لوعي في فعل الوعي ذاته .كما ان الوعي فعل حضور في قلب الوجود يتضمن
نظرة الى الاشياء ومشروع تعامل معها يضفي عليها معانيها .فالوعي هو في الاصل واهب
المعاني،فالوعي هو هدفية اي توجه الوعي الى الخارج فإن ما يسمى حالات واعية في علم
النفس التقليدي مثل الادراك والتذكر والانفعالات لم تعد في منظور الظاهرية سوى
افعال الوعي المتوجه الى موضوع في الواقع الخارجي.
وهناك ايضا من يثير الشكوك في الوعي ذاته فقد راى فيه
"ماركس"و"نيتشه"و"فرويد" منبعا للاوهام المتعلقة
بالحرية واستقلالية الذات فإن الوعي لا يستوعب في ذاته معاني افكاره وافعاله بل ان
معناها يجب ان يلتمس خارج الذات.
5 - بحث عما وراء الوعي
لقد جانب ديكارت الحقيقة عندما ساوى بين الفكر والوعي
وفصل فصلا تاما بين النفس والجسد فعنده ان الانسان ثنائي التكوين وكل ما كان
لاواعيا لا مدخل له في الفكر بل يرتبط كليا بالجسد وكلمة لاوعي لا يمكن ان تعني
سوى آليات عصبية فيزيولوجية.
والتزم" آلان " بالعقلانية الديكارتيه ،فإن
الفكر كله وعي ومن الخطأ الاعتقاد بوجود ذات لاواعية متخفية وراء الذات الواعية.
ورأى "سارتر"ان موضوع علم النفس هو دراسة
الكائن في وضع والكائن في وضع هو كائن واع فليس اذا وراء الوجود الواعي
وجود.واعتبر ان اللاوعي هو عملية كذب على الذات (وعي مزدوج) لكن الدراسات المعمقة
اكدت حقيقة اللاوعي واثره البالغ في مسار الحياة النفسية .
ان مفهوم اللاوعي يمكن ان يكون مقبولا من دون تناقض في
إطار التعريف الحديث لعلم النفس السلوكي ،فإن السلوك يحتفظ بخاصيته النفسية اكان
واعيا ام غير واع؛كما ان مفهوم الحياة الداخلية الواعية فقد معناه كموضوع لعلم
النفس عند الظاهريين فالوعي حسب
"هوسرل" هدفيه اي توجه الى الخارج.فإن ما يسمى حالات واعية في علم النفس
التقليدي مثل الادراك والتذكر والانفعالات لم تعد في منظور الظاهرية سوى افعال
الوعي المتوجه الى موضوع في الواقع الخارجي.
والى ذلك فإذا كان الوعي هدفيه فليس من الضروري ان يكون
كل توجه الى الخارج واعيا فإن الفلسفة الظاهرية تحتمل وجود الهدفية اللاواعية وليس
الذات اللاواعية.اما "فرويد فقد راى في اللاوعي الحاوي الاساسي للحياة
النفسية الواعية وعرفه بانه "آلية لانعرف عنها شيئا لكننا مضطرون للتسليم
بوجودها لاننا نستخلص وجودها من نتائجها ".
6 ماهي الادلة على وجود اللاوعي؟
نبدا اولا بالعادات ،فإن الدراج يحافظ على توازنه وراء
المقود بواسطة حركات غير شعورية ، فهذه عملية آلية لا واعية واي تدخل للوعي قد
يؤدي الى إفسادها.
وهناك حالة اخرى ممكنة فإنه من الممكن ان اكون واعيا
لافعالي التي اقوم بها ولكن غالبا ما اجهل معناها
العميق .هذه حال ذلك الانسان الذي يبالغ في تصرفاته المهذبة مع سيدة مؤكدا
ان اعماله من باب التهذيب ،لكن محيطه كان يعرف المعنى الغرامي لهذه التصرفات ،وكان
هو آخر من اعترف به .
-حالات ليست واعية الا في بداياتها ونهاياتها كصوت
الطاحونة.
وكان "لارشفوكو"من اشهر الذين بينوا اثر
اللاوعي في حياتنا الاخلاقية والاجتماعية فالانسان يظن انه يتصرف بغيرية في حين
يكون مدفوعا الى تصرفاته بالانانية اللاواعية.
-
حالات الهستيريا (اضطرابات نفسية وجسدية).
-
تداعي الافكار العفوي.
-
زلات اللسان –النسيان – الافعال المغلوطة او الناقصة-
الاحلام- .
-
وقد توقف "ماركس" عند بعض الاعمال السياسية
التي يدعي اصحابها سلامة نواياهم في حين ان ما وراءها هو شيء آخر.مثل رجال ثورة
1789.
التحليل
النفسي(منهج ونظرية)
1- بدايات التحليل النفسي
في القرن التاسع عشر نجد انفسنا امام محاولات جديدة لفهم
حقيقة الامراض النفسية ومعالجتها بطرق علمية وإنسانية في الوقت نفسه.
فكانت حالة الهستيريا المرضية الموضوع الذي اهتم به
الطبيبان "شاركو" و"برنهايم"وكانت هذه الحالة المرضية النفسية
تظهر على شكل شلل جزئي غير مرتبط بأي عطل في الجهاز العصبي.كان شاركو يرد الظواهر
الهستيرية الى حالة إيحاء ذاتي ناتج عن افكار لاواعية فكان لا بد اذا من معالجة
هذا الايحاء الذاتي بإيحاء علاجي .فكانت
النتائج تبدو مدهشة احيانا الاانها لاتدوم لانها تتجاهل البحث في اصل المرض.
وقد اهتم "جانيه"و"فرويد" وهما
تلميذا شاركو بتفسير الظواهر المرضية فتوصلا الى موقفين متباينين :
-
يرى "جانيه"(_1859-1947)ان هذه الحالات
الهستيرية ناتجة عن هبوط في مستوى الطاقة النفسية والذهنية.
-
اما "فرويد"(1856-1939) فقد وضع اسس منهج
التحليل النفسي ونظرياته وكان له تعاون في هذا المجال ايضا مع
"بروير".وكان ابرز نقاط تحوله الى منهجه في التحليل النفسي حالة مرضية
إشترك مع بروير في معالجتها :صبيةعلى قدر من الذكاء اصيبت بعوارض هستيرية اثر وفاة
والدها ،تشنجات في اطراف جسدها وفي عضلات عينيها وحركات راسها وسعال شديد وفقدان
الشهية اخضعت للتنويم المغناطيسي فإنكشفت امور هامة ؛كانت الفتاة تهتم بوالدها
المحتضر والذي كانت تحبه كثيرا.فكانت تحبس دموعها بتقليص جفنيها بقوة لكي لا
يتأثروالدها ، كما انها رات كلب مربيتها يلعق الماء من وعاء فغضبت لكنها كتمت
غضبها ،فلما إستيقظت من نومها زالت جميع العوارض الهستيرية وتفسير ذلك انها عندما وجدت خلال خضوعها
للتنويم اسباب هذه العوارض
تخلصت منها .
هكذا توصل فرويد
وبروير الى طريقة لتنقية اللاوعي سمياها الطربقة التطهيرية(la methode cathartique) ) واساسها ان إنكشاف الحالة اللاواعية، سبب المرض النفسي ،
وظهورها على مسرح الوعي يؤدي رأسا الى الشفاء.تابع فرويد طريقه فأكمل بناء منهج
التحليل النفسي حيث تركز اهتمامه على:
-
وضع منهج استقصاء علمي لاعماق الذات بقصد كشف المشاغل
اللاواعية المنطوية في ذاتنا.
-
تطبيق منهج علاجي للاضطرابات النفسية.
-
تجاوز سلبيات الطريقة التطهيرية حيث ان هذه الطريقة :
1-
تسحق شخصية المريض امام شخصية طبيبه .
2-
نتائجها مؤقتة ولا تخلو من الذهنية السحرية القائمة عل
فكرة السيطرة.
3-
اخيرافي التنويم المغناطيسي يتكلم المريض عن العوارض فقط
لا عن السبب.
2 المنهج
المعالجة
بالتحليل ا لنفسي طويلة ومكلفة يدعى
المريض للاستلقاء براحة تامة على اريكة والمبادرة بالكلام بحرية كاملة دون اهمال
اي شيء يرد الى خاطره...وينتقل المريض عفويا وبالتدريج من الحديث في العموميات الى
خصوصياته التي لا تخلو من الضيق والحرج. (La regle de non-omission .)
في هذه
الاثناء يكو ن الطبيب في غاية الانتباه يسجل ما يسمعه ملتفتا الى كلمات تبدو مهمة
للغوص في نفسية المريض فيدعوه الى الانطلاق منها في عملية التداعي الحر(l,association des idees )حيث يمكن ان تنزلق في
المسار الآلي لعملية التداعي فكرة او مشكلة لا واعية فتبرز الى مجال الوعي.وقد
يتوقف المريض فجأة في مسيرة التداعي كأن قوة باطنة تقطع الطريق على مواضيع لا
واعية وتمنعها من الظهور الى مسرح الوعي .فهذه الوقفات المفاجئة بالاضافة الى
حالات الصمت الطويل والتغيب عن جلسات المعالجة والكلام غير اللائق الموجه الى
الطبيب تشكل حواجز مانعة امام ظهورها هذا
ما اطلق عليه فرويد "المقاومة"(la resistance )التي تعني استمرار الكبت.
تستوجب
حكمة الطبيب من اجل التغلب على هذه العوائق اطلاق عملية التداعي الحر من جديد في
اتجاه المواضيع التي يحاول المريض تحاشيها ،وإكتشاف المعاني الحساسة التي تتمحور حولها مقاومته .فيقوم الطبيب بتحليل ما
يظهر عند مريضه من زلات لسان وافعال تائهة ومواقع عناد الذاكرة واحلام النوم. بعد
ذلك يضع الطبيب المريض امام النتائج التي توصل اليها.
وقد
اهتم فرويد اهتماما بالغا بظاهرة زلات اللسان / زلات الكتابة وتوقف عند معانيها
الباطنية الدقيقة لنأخذ مثلا استاذ جامعي
وقف يثني على سلفه فإذا به يقول :"لايسعني الا ان اهنئه على جموده في البحث عوضا عن جهوده"ومن زلات
القلم ما كتبه رجل الى زميله : اشكر الله على ما انت فيه من نقمه بدلا من نعمه.وقد تعبر زلة اللسان عن
رغبة في التسلط.
-النسيان
:كذلك النسيان فإنه يرتد احيانا الى اللاوعي فإن نسيان موعد ليس فعلا بريئا بل قد
يخفي وراءه عدوانية لا واعية.
-الافعال
التائهة :شاء فرويد ان يجعل وراءها دوافع لا واعية كمن تضيع منه رابطة ثمينة كخاتم زواج (عدم حرص
لا واع) اويكسرهدية ثمينة (عدوانية لا واعية) .
هذه
الحالات شائعة عند الجميع اسوياء وغير اسوياء وعندة هذه الفئة الاخيرة تظهر
إضطرابات نفسية (nevrose) وهي امور لها علاقة باحوال جسدية معينة وتشكل امثلة على ما اسماه فرويد باللاوعي المرضي .
-الاحلام
كانت الاحلام قبل ظهور مدرسة التحليل النفسي خاضعة اما
لتفسير ما ورائي يردها الى قوى غير منظورة واما الى اصول فيزيولوجية .لكن فرويد
تجاوزهذين التفسيرين واعطى للاحلام تفسيرا نفسيا فردها الى جذور الحياة النفسية
اللاواعية السوية وغير السوية فصارت تعبر عن ذات الشخص . ان الحلم يعبر حسب فرويد
عن رغبات فهو ذو معنى انساني وشخصي واولى
هذه الرغبات رغبة النوم فالحلم هو حارس عملية النوم.
ان هذا
المفهوم للاحلام يؤكد فائدتها النفسية فإن تجارب اجريت على اشخاص نقطع عليهم
احلامهم بايقاظهم كل مرة تظهر في حركاتهم
بوادر احلام .فتاكد انهم اصيبوا بإنهيارات عصبية لان اكثر الاحلام تعبر عن رغبات
مكبوتة من الافضل ان تتابع مجراها اللاواعي .
-الاحلام
هي الطريق الملوكي لارتياد اللاوعي
فهي موضوعا لتاويل يكشف لنا خفايا النفس واعماقها اللاواعية ،علما بأن
الاحلام لا تحمل كلها علامات مرضية .فإنها قد تكون تحقيقا لرغبات عادية .
وعندما
تكون الاحلام معبرة عن غيرة فانها تاخذ اشكالا اكثر تعقيدا مثل السيدة التي حلمت
انها اولمت لاصدقائها وصديقاتها ،لقد كان الغاء الوليمة تعبيرا عن رغبتها
اللاواعية في ابعاد زوجها عن صديقة بين
المدعوات ترتاب من اعجاب زوجها بها .
الحلم
تعبير عن رغبة او رغبات يخرحها اللاوعي بطريقة رمزية المثل الذي ذكره العالم
"فرينيك"عن احدى مريضاته التي حلمت انها اشترت من مخزن كبير فخم قبعة جميلة سوداء غالية الثمن.
ويظهر ان
مضمون الاحلام مستعار دائما من مشاهدات
اليقظه وهو في الغالب عبارة عن صورمرئية اكثر من سائر الصور الحسية الاخرى.كما ان
المؤثرات العضوية والموضوعية اي الاحاسيس الداخلية والخارجية هى ايضا في اصل
الاحلام.
كيف
تتكون الاحلام؟ لا تتوفر في ظاهرة الاحلام اي تركيبة منطقية، وتغيب عنها قواعد
الزمان والمكان ولا نتمكن من تجاوز ظاهرة الاحلام للوصول مفهوميتها الا من خلال
عملية تحليل نفسي . ويبدو ان مضمون الاحلام هو حصيلة صراع داخل ذات مكبوتة تدافع
عن نفسها .
النتيجة:
بعد فك
رموز آليات الاحلام وبعد عمل تحليلي طويل لهذه الاحلام والافعال التائهة وزلات
اللسان يضع الطبيب مريضه امام النتائج التي توصل اليها،يقول للمريض مثلا ان خوفك
يعود الى فترة طفولتك يوم كنت خاضعا لسلطة والدك القاسي وهذا الخوف ما زال يرهقك
بطريقة لاواعية بحيث انك تكره والدك وتشعر لذلك ايضا بالملامة .لايتقبل المريض هذه
النتائج ويمكن ان يرد عليها بثلاث طرق :
-
اما بعدم اهتمام ومن دون ردة فعل فيكون على الطبيب في
هذه الحالة معاودة البحث من جديد.
-
اما ان ياخذ من طبيبه موقفا عدائيا يكون إسقاطا على شخص
الطبيب لمشاعره ضد والده
-
او انه يتقبل الاستنتاجات عل مضض.
وفي الحالتين الاخيرتين يكرر المريض بطريقة لا واعية على
شخص الطبيب موقفه من والده. هذا الانتقال العاطفي يسميه "فرويد "
"التحول"؛ على الطبيب ان يحرر مريضته من
ارتباطها العاطفي المستجد ليعيد اليها اصالتها
العاطفية فتدرك موضوعها الاساسي اي والدها
.فالمهم ان يحصل التحول الذي يشكل بداية الطريق المؤدي الى وعي المشكلة
؛فيكون مسار التحليل النفسي كله خروجا من
حالة الكبت اللاواعي الى حالة الوعي.
·
مكتسبات علم التحليل النفسي
1-دور الصراعات /
والبناء النفسي : لما كانت الصراعات تتم في عمق الحياةالنفسية فإن فرويد افترض
وجود قوى متصارعة تصورها كما لو كانت مناطق للآلية النفسية .فهناك في الحقبقة صراع
بين الزامات اخلاقية ذات اصول اجتماعية وبين رغبات مرفوضة من الوعي ومكبوتة في
اللاوعي فتكون الذات الانسانية اشبه ببناء مكون من ثلاث طبقات :الاول هو عمق
الحياة النفسية المكونة من القوى الغريزية اللاواعية ( le ça الهو
)المكبوتة التي تضغط من اعماق النفس محاولة الظهور الى مسرح الذات الواعية.
-في الوسط تكون الذات الواعية بين ضغط الغرائز من
جهة و"الانا العليا" الاخلاقية من جهة اخرى
.وتفرض الانا العليا رقابة صارمة على الذات المتوسطة وتملي عليها اوامر رادعة
بصورة عامة تهدد بالعقاب معبرة بذلك عن دور السلطة العائلية في تكوين شخصية الطفل
.هذا الضغط يؤدي الى كبت الغرائز.وينبه فرويد الى ان الانا العليا مردودة ايضا الى
غريزة اساسية عند الطفل تتمثل في حاجته الى المحبة والحماية.وتصبح روادع الانا
العليا الزامات داخلية لا واعية تشكل الجانب الاخلاقي من شخصيته.
والانا العليا ليست متساوية مع الضمير
الاخلاقي .واكد فرويد على اثر الانا العليا في الاضطرابات السلوكية والعاطفية
والامراض النفسية .فإن الانا العليا عندما تضغط في الحالات غير السوية تكون اكثر
الحاحا فحيث انها لاتستطيع ان تصل الى قناعة واعية لكبح الغرائز ،فإنها تدفع بها
الى منطقة اللاوعي (الكبت) لكن هذه الغرائز المكبوتة لا تختفي بل تنتقم وتظهر على
شكل إضطرابات نفسية مرضية في كثير من الاحيان،هكذا تنشأ العقد وتتكون.
2 - معاني السلوك:إكتشف علم
التحليل النفسي وراء ظواهر كانت تعتبر عديمة المعنى ومحض صدفة مثل الاحلام وزلات اللسان والاعال التائهة معاني متخفية
واهدافا لاواعية.هكذا تخطى فرويد المفاهيم العقلانية لفهم الذات الانسانية واكد
على ان العقل في روابطه العقلية المنطقية لا يشكل ماهية الانسان النفسية الاصلية
وانما اللاوعي.
3- اهمية الطفولة :
"تتكون الشخصية في ما قبل السنة السادسة"،فإن معرفة حوادث الطفولة هي
المدخل الامثل لفك رموز وتعقيدات الشخصية ، وان الصدمات النفسية في فترة الطفولة
وعلاقة الطفل بعائلته هي العوامل الاساسية لفهم سلوكه في المراحل اللاحقة.فان
شخصية الفرد تتساوى مع ظروف طفولته وتاريخه .فالمريض هوماضيه باعتباره اسير هذا
الماضي الذي يجهله باعتباره مطوي في لا وعيه ،وان الهدف الرئيسي للتحليل النفسي هو
تحريرنا من اسر الماضي اللاواعي ورده الى مجال الوعي.
4- دور الغريزة الجنسية:ان
اكثر المواضيع المكبوتة تتعلق بالحياة الجنسية ،فحيث ان الغريزة الجنسية نادرا ما
تجد اشباعا كافيا وتبقى في حكم العرف مرذولة وسيئة ،فانها تصطدم بسرعة بالذات
العليا ،وتعود هذه الغريزة على راي فرويد الى مراحل الطفولة، الى الشهوانية
الجنسية المنتشرة في عموم الجسد (la libido ) ثم تتركز بالتدريج في اماكن معينةمن الجسد
وتاخذ معاني واغراض متنوعة .وقد تصور فرويد تطور الحيا ة الجنسية على الشكل التالي
:
- المرحلة الفمية : تكون لذة الطفل
الرضيع في الارتضاع ؛ثم تتجه هذه الشهوانية الى التهام اي شيْء؛وابرز مظاهرها
ارتضاع الاصبع والعض فتكون شهوانية الجسد
مركزة فقط في الفم.
- المرحلة الشرجية (في السنة الثانية)
وفيها يكون مصدر اللذة في المنطقة الشرجية،وتتركز
هذه الشهوانية في اهتمام الطفل
باعضائه الجنسية وملامستها وفي فعل البراز والتبول وفي الميل الى التعري.ان
التدريب على الاخراج في هذه المرحلة يؤدي الى بروز العدوانية عند الطفل التي تدفعه
الى تمزيق الاشياء وكسرها واتلافها.
- المرحلة الاوديبية(بين الثالثة
والسادسة) وفيها تسيطرعلى الصبي حالة غيرة من والده اذ يرغب بالاستئثار بعاطفة امه
وعنايتها .ويكون الوالد ندا للصبي في المجال العاطفي فتتنازع الصبي
رغبتان:-الاستئثار بحب والدته وتلبس شخصية
والده ،فيكون مثله الاعلى الذي يقلد
شخصيته ويتمسك باقواله واومره.وقد لخص فرويد هذه الروابط المتناقضة بعقدة اوديب .
-المرحلة التناسلية (11-13) بعد سلسلة من
التحولات الجسدية والنفسية تظهر في طور المراهقة الشهوانية الجنسية .فينتقل الى
مرحلة البلوغ وما يرافقها من ازمات.
5-علم التحليل النفسي ولغة الرموز: ان اساس منهج التحليل النفسي هو لغة
المريض والتي تعبر عن رمزية اللاوعي في مضمونها الغرائزي المكبوت .كما ان المحلل
النفسي مستمع يفك رموزا ويؤولها .ليحولها الى لغة واضحة مفسرة .واساليب اللاوعي في
التخفي والتورية والايجاز والتلميح
والرمزية شبيهة كلها باساليب اللغة ،فالمحلل هو اذا لغوي الحياة النفسية اللاواعية.
*ما بعد فرويد
آدلر –عقدة النقص:يؤكد آدلرعلى الحاجة الى اثبات الذات والسيطرة وان اصل الامراض النفسية هوإحساس
بالنقص وخصوصا العضوي فيكون السلوك الجنسي
وسيلة تعويض وسيطرة .فالشعور بالدونية او النقص يؤدي الى بروز عقدة التفوق.
يونغ:يقبل يونغ بشرحي فرويد وآدلر فهما يعبرات عن صنفين من الامزجة فإن صنف الناس الذين يسميهم يونغ
"المنفتحين"extraveriالذين ُتستوفى لذتهم بتملك موضوع وتنطبق عليهم طريقة فرويد.
اما الصنف الثاني فيخص المنطوين على انفسهم؛فهؤلاء لايطلبون الموضوع لذاته
بل تحقيقا لسيطرتهم فهم يحبون ذاتهم introverti وتنطبق عليهم طريقة آدلر.
اللاوعي العام :اكتشف يونغ ان لا وعينا محكوم بمواضيع خرافية عن الآلهة
والعمالقة والوحوش والسحرة والذئاب الكاسرة .فإن لاوعينا الفردي المتكون من
تجاربنا الشخصية يغوص ايضا في تاريخ النفس البشرية ويحمل ايضا همومها .ان الكوارث
التي نزلت بالبشرية تنعكس في لا وعينا الفردي من حيث اننا ننتمي دائما الى ثقافة
وعرق ثم الى البشرية عامة ويبقى اللاوعي العام غارقا في اللاوعي الفردي.
*اساليب التحليل النفسي المعاصر: انها اختبارات اسقاطية (projectif)؛فاننا كما
يقول فرويد نسقط من خلال إدراكنا لعالم الخارجي مشاعرنا وافكارنا بطريقة لا واعية
على الاشياء وقد طور علماء النفس تقنيات اسقاطية منها:
- اختبار رورشا حيث يطلب من الممتحن تأويل الاشكال المكتوبة التي يراها في
صورة بقعة حبر على ورقة وتتكررهذه الاختبارات على عشرة نماذج وتتم في هذة
الاختبارات حالات اسقاط تكشف خفايا الشخصية وطبائعها.
- إختبار "ميراي" انها مكونة من ثلاثين لوحة عليها اوضاع شخصيات
متنوعة ومعبرة ،يطلب من المختبر تصورقصة عما يراه.
-إختبار"سوندي" هو عباره عن عشرة مجموعات من الصورفي كل مجموعة
صنف من الطباع ،يطلب من المختبر ان يختار من
كل مجموعة ما يسر وما ينفره.
-_البسيكودراما عند "مورينو"يطلب من المرضى لعب دور حسب خياراتهم
.ولهذا الاسلوب قيمة علاجية اذ يعكس فيه المريض ما يعاني منه من مشاكل نفسية.
-إختبار روزنبرغ" يوضع المريض امام مشهد يحتمل حوارا بين بين شخصين
يقول الاول كلاما ويطلب من المريض تصور جواب الشخص الثاني الذي يعكس شخصيته.
- تقنيات الالعاب (اختبار خاص بالاطفال )حيث يسقط الطفل مشاعره في العابه
ورسومه.
تقويم عام: انه منهج ثوري لقي ردات فعل بين مؤيد ومعارض لكنه اكد
فعاليته فصحح واكمل كثيرا من المفاهيم النفسية .لكن الخطأ هو في تحويل هذا المنهج
الى نظرية عقدية تغلق الباب على ذاتها وتدعي تفسير جميع مظاهر الثقافة الانسانية
(علوم ،فنون،مذاهب وفلسفات،وتقنيات وجميع حقائق السلوك وقيمه...)
- لحقت بهذه النظرية تهمة المادية
لجهة انها ردت عالم القيم كله الى عقد نفسية مرتبطة بالغرائز المكبوتة وخصوصا
الجنسية وهذا معنى قول "اوغست كونت "انها منهج يفسرالاعلى بما هو ادنى
.وقد يكون هذا النوع من التفسير يناسب اشخاصا في ازمان وظروف خاصة بهم لكنه لا
يستوعب الحقيقة الفنية والعلمية والدينية للنفس الانسانية.كما ان التفسير النفسي
للافعال البشرية الراقية الفنية والاخلاقية لا يوضح اصولها الحقيقية .فعلينا الرجوع
الى الميول الروحية عند الانسان لهذا
الغرض.
- كما ان تفسير القاعدة المادية للسلوك يشكو من تجاهل لعناصر كثيرة تؤثر في
الشخصية كالعناصر الاجتماعية والعرقية والتاريخية والثقافية ...
فإذا صح هذا المنهج لمعالجة الحالات المرضية فلن يكون نظرية كافية لشرح
الشخصية وفهم الانسان.هكذا تظهر مشكلة فرويد اذ انكر استقلالية الحياة العقلية
الواعية في وظائفها العليا وانكر حرية الوعي عندما قيده بالاسباب اللاواعية.كما
انه نجح في شرح اللاوعي وما يرتبط به من
سلوك لكنه َقصر في تفسير الوظائف المعرفية التي تقوم عليها العلوم والفلسفات عندما
اعتبرها مجرد تعويض وتسام ناشيء عن حالات الكبت.
الوعي يعني قبل كل شيئ الذاكرة.
قد تفتقر الذاكرة إلى الاتساع؛ وقد لا تشمل إلا قسماً من الماضي. وقد لا تحفظ إلا
ما حصل من قريب. ولكن الذاكرة تكون موجودة وإلا لا يكون الوعي موجوداً فيها.
فالوعي الذي لا يحفظ شيئاً من ماضيه والذي ينسى ذاته باستمرار يُتلَف ثم يولد في كل لحظة [هو اللاوعي ذاته]: وإلا كيف يمكن تعريف اللاوعي بغير هذا؟
عندما قال ليبنز أن المادة "هي روحٌ آنيّة"؛ ألم يصرّح بقوله هذا، عن قصدٍ أم عن غير قصد، إنها غير حساسة وإنها لا تعي؟
كل وعي هو ذاكرةٌ إذاً: احتفاظُ وتراكمُ الماضي في الحاضر.
ولكن كل وعي هو استباقٌ للمستقبل. أنظر إلى توجّه فكرك في أية لحظة: تجد أنه يهتم بما هو قائم، إنما من أجل ما سوف يكون. إن الانتباه هو انتظار، ولا يوجد وعي بدون انتباه للحياة. المستقبل، هناك، إنه يدعونا، بل إنه يجرنا إليه: وهذا الجرّ الذي لا ينقطع، والذي يجعلنا نتقدم فوق طريق الزمن هو أيضاً دافع يدفعنا إلى التحرك باستمرار، وكل عمل هو تطاول على المستقبل.
الإمساك بالشيئ الذي لم يعد موجوداًن واستباقُ ما لم ينوجد بعد، هذا هو الدور الأول للوعي. والوعي ليس له حاضر إذا اقتصر الحاضر على اللحظة الحسابية. فهذه اللحظة ليست إلا الحد النظري الخالص الذي يفصل الماضي عن المستقبل.
هذه اللحظة يمكن عند الضرورة تصوّرها، إنما لا يمكن إدراكها أبداً؛ وعندما نظن أننا فاجأناها، تكون قد ابتعدت عنا. إن ما ندركه في الواقع هو نوعٌ من تكثيف المدّة التي تتألّف من قسمين: ماضينا القريب المباشر ومستقبلنا الداهم. إلى هذا الماضي استندنا، وإلى هذا المستقبل تطلعنا؛ والاستناد والتطلع هما من خصوصيات الكائن الواعي. فلنقل إذاً إذا شئت أن الوعي هو همزة وصلٍ بين ما كان وما سيكون. إنه جسر بين الماضي والمستقبل.
فالوعي الذي لا يحفظ شيئاً من ماضيه والذي ينسى ذاته باستمرار يُتلَف ثم يولد في كل لحظة [هو اللاوعي ذاته]: وإلا كيف يمكن تعريف اللاوعي بغير هذا؟
عندما قال ليبنز أن المادة "هي روحٌ آنيّة"؛ ألم يصرّح بقوله هذا، عن قصدٍ أم عن غير قصد، إنها غير حساسة وإنها لا تعي؟
كل وعي هو ذاكرةٌ إذاً: احتفاظُ وتراكمُ الماضي في الحاضر.
ولكن كل وعي هو استباقٌ للمستقبل. أنظر إلى توجّه فكرك في أية لحظة: تجد أنه يهتم بما هو قائم، إنما من أجل ما سوف يكون. إن الانتباه هو انتظار، ولا يوجد وعي بدون انتباه للحياة. المستقبل، هناك، إنه يدعونا، بل إنه يجرنا إليه: وهذا الجرّ الذي لا ينقطع، والذي يجعلنا نتقدم فوق طريق الزمن هو أيضاً دافع يدفعنا إلى التحرك باستمرار، وكل عمل هو تطاول على المستقبل.
الإمساك بالشيئ الذي لم يعد موجوداًن واستباقُ ما لم ينوجد بعد، هذا هو الدور الأول للوعي. والوعي ليس له حاضر إذا اقتصر الحاضر على اللحظة الحسابية. فهذه اللحظة ليست إلا الحد النظري الخالص الذي يفصل الماضي عن المستقبل.
هذه اللحظة يمكن عند الضرورة تصوّرها، إنما لا يمكن إدراكها أبداً؛ وعندما نظن أننا فاجأناها، تكون قد ابتعدت عنا. إن ما ندركه في الواقع هو نوعٌ من تكثيف المدّة التي تتألّف من قسمين: ماضينا القريب المباشر ومستقبلنا الداهم. إلى هذا الماضي استندنا، وإلى هذا المستقبل تطلعنا؛ والاستناد والتطلع هما من خصوصيات الكائن الواعي. فلنقل إذاً إذا شئت أن الوعي هو همزة وصلٍ بين ما كان وما سيكون. إنه جسر بين الماضي والمستقبل.
(برغسون؛ الطاقة
الروحية؛ ص ص: 8، 9)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق