الأربعاء، 13 سبتمبر 2017

الميول

الميول


الميول




1ـ تعريفات:                                                                                2
                ـ الميل ـ الحاجة ـ الغريزة ـ الرغبة ـ الدافع.

2ـ الميول بين الكمون والظهور.                                                               

3ـ تفسيرات (أصول الميول):                                                                   4                                                                                
         
                   ـ الأساس العضوي. (كانُن)
                    ـ الحركة. (ريبو)
                    ـ العادة.
                    ـ الخبرة السابقة. (كوندياك  Condillac )
                    ـ الاستجابة لمثير. (السلوكية)

4ـ تصنيف الميول:                                                                                          6
             
5ـ مرونة الميول.                                                                                    7

6ـ الميل الأساس.                                                                                   8

7ـ قيمة الميول.                                                                                      11  



إعداد محمد الحجيري








            

الميول
مدخل تمهيدي:
لقد تطورت اهتمامات علم النفس وتنوعت بدءاً من الوعي إلى اللاوعي والسلوك وكذلك دوافع السلوك والرغبات والحاجات.
وإذا كان الفهم الشائع لهذه المفردات يعتبرها مترادفات فيتم استعمال أيٍّ منها كيفما اتفق: غريزة أو رغبة أو ميل ....
فإن علماء النفس والفلاسفة قد أعطوا لكل مفردة من هذه المفردات معنىً خاصاً ومتمايزاً عن غيره حتى لا تختلط المفاهيم، وحتى يكون الحديث عن موضوعٍ واحدٍ أمراً ممكناً.
فما هي الفروقات بين هذه المفاهيم: رغبة ـ حاجة ـ ميل.... ؟ وما هي أصولها؟ هل هي متعدّدة متكاثرة إلى ما لا نهاية؟ أم أنها محدودة العدد؟ أم أنها تعود إلى أصلٍ واحد؟  وما هي قيمتها؟..

1 ـ تعريفات:

إن الميل هو المفهوم النفسي الأولي والأكثر بساطة والأكثر شمولاً، وكل المفاهيم الأخرى هي حالات خاصة من الميول.
فالميل هو قوّة نفسية أو طاقة نفسية داخلية تتجه نحو موضوع محدّد، أو إنه توتّر أو جهد أو نزوع داخلي يتجّه نحو هدف محدّد، للحصول على الإشباع والتخلص من الألم واستعادة التوازن النفسي المفقود.
          أو الميول هي انشداد نحو أشياء تشبع حاجتها. (حكمت خوري)
ـ الغريزة: هي ميل يمتلك آليةً أو سلوكاً وأدواتٍ للإشباع بشكلٍ فطري ومتقن: مثل غريزة الرضاعة وغريزة بناء الأعشاش عند الطيور أو بناء القفير وصناعة العسل عند النحل...
مع الملاحظة بأننا بناءً على هذا التعريف يمكننا القول بأن الغريزة الوحيدة الموجودة عند الإنسان هي غريزة الرضاعة خلال الطفولة، لأنها الميل الوحيد الذي يتم إشباعه بشكل فطري ومتقن. كل المهارات الأخرى المستخدمة في إشباع الحاجات هي مهارات مكتسبة، حتى غريزة الرضاعة يتخلّى عنها الطفل بعد فترة من نموّه ليصبح قادراً على إشباع حاجته إلى الطعام (الحليب) بطرق متنوّعة مكتسبة (كأن يشرب الطفل كأساً من الحليب)..
لذلك يمكن استخدام كلمة "دوافع " بدلاً من الغريزة حين نتحدّث عن الإنسان.

ـ الحاجة: هي ذلك الميل العضوي الخاص بالجسد، كالحاجة إلى الطعام والشراب والجنس....
أو هي نقص يعتري الجسد، أو اختلال في التوازن تتم استعادته من خلال الإشباع، كالحاجة إلى الطعام والشراب والجنس، ففي حالة الجوع يختل التوازن الجسدي، ويتبدّى ذلك من خلال حالة عاطفية شعورية مؤلمة: هي الجوع، وتتم إعادة التوازن إلى الجسد من خلال تناول الطعام والحصول على الإشباع.
ويتحدّث هيغل عن الحاجة إلى الغذاء بالقول بأن إشباعها يشترط إلغاء موضوعها: أي استهلاك الطعام ثم الحصول على الإشباع.
مع الإشارة مسبقاً بأنه ليست كل الميول قابلة للإشباع كما يتم مع الميول الجسدية، مثل الميول المعرفية والمثالية...

ـ الرغبة: هي ميل واعٍ بذاته وبموضوعه. وهذا التعريف يعود لسبينوزا.
لكن هل هذا يعني أن بقيّة الميول غير واعية بذاتها؟
حسب تعريف اسبينوزا قد تكون الميول كذلك وقد لا تكون، وحين تتمتع بهذه الخاصية (أي الوعي) تصبح رغبةً، والتي ليست إلا نوعاً خاصاً من الميول.
ولتوضيح الأمر يمكن القول بأن الميول قد تكون بحالة كمون، أي غير ظاهرة إلى العلن، كما يمكن أن تكون بحالة ظهور. ووجودها بحالة الكمون لا يعني أنها غير موجودة.
فالميل إلى الطعام يكون واعياً في حالة الجوع، ويتحول إلى رغبةٍ في تناول طعام معيّن. لكننا في حالة الشبع لا نشعر بتلك الرغبة في تناول الطعام، وبالتالي فإن الميل يكون في حالة كمون أي خارج إطار الوعي، لكن ذلك لا يعني انتفاء وجوده.
إن التجربة الحسّية توجّه الميل وتثبّته على موضوعٍ محدّد. (كإشباع الميل إلى الطعام من خلال تناول وجبةٍ معيّنة تذوّقناها سابقاً).
ويرى هيغل بأن رغباتنا تمرّ دائماً من خلال تأثير ثقافة المجتمع فينا، فنحن إن كانت  لدينا الحاجة إلى الطعام، فإن رغبتنا في إشباع هذه الحاجة تأخذ شكلها من خلال تأثير المجتمع الذي عوّدنا على تناول أنواعٍ معيّنة من الأطعمة ومحضّرة بطريقة محدّدة.
إن تناولنا السابق لهذه الأنواع من الأطباق وتذوّقنا لها هو الذي يجعلنا نرغب بها ثانيةً لإشباع حاجتنا إلى الطعام. أي إن خبراتنا الماضية تؤثّر في رغباتنا وفي طريقة إشباع حاجاتنا.
الرغبة إذاً تغيب حين الإشباع ثم هي لا تأخذ شكلها إلا بناءً على خبرات لاذّة ماضية نريد استرجاعها. فنحن لا يمكن أن نرغب بما نجهله تماماً.  (بينما الميول موجودة دائماً).

إضافة:
 ـ  وهذا ما أوضحه أفلاطون في حوار "المأدبة" من خلال استعانته بأسطورة خلق "إيروس" Eros   والذي يرمز إلى الرغبة والشهوة، فهو إبن لـ "بوروس" Poros   من مجمع الآلهة، والذي يرمز إلى الجمال والغنى والقوّة والاكتفاء، وهو أيضاً إبن لـ "بينيا"   Pénia المتسوّلة، رمز العَوَز والفاقة والاحتياج الدائم والحرمان الكلّي.

وتتأتى مأساته من هذا الانتماء المتناقض: فالآلهة لا تتفلسف، أي هي لا تبحث عن المعرفة، لأنها تمتلكها، ثم هي لا ترغب في شيء لأنها تمتلك كل شيء أيضاً، ونحن لا نرغب إلا بما لا نمتلكه.
في المقابل فإن "بينيا"  Pénia  لا تتفلسف لأن جهلها مطلق، ولذلك فهي تظن أن معرفتها كاملة (!)، ثم هي لا ترغب في شيء أيضاً لأن حرمانها مطلق. ولا يمكن لنا أن نرغب في ما لا نعرفه، فالرغبة هي نزوع لتكرار خبرة سابقة لذيذة.
أما مأساة "إيروس"  فهي أنه كائن بين الآلهة التي لا ينقصها شيء وبين الحرمان الكلّي المطلق.
إنه يكتشف جهله فيتفلسف، أي يبحث عن الحقيقة، ويعرف نقص احتياجاته، ومن هنا مأساة الرغبة...
الإنسان إذاً محكوم بالرغبات والميول.

لكن ما هو أصل هذه الميول؟  وهل عددها ثابت أم أنها متكاثرة إلى ما لا نهاية؟
بداية يجب التنبيه إلى أن علماء النفس يُجمعون تقريباً على القول بثبات عدد الميول، فلا يمكن إلغاء ميلٍ كما لا يمكن أيضاً إضافة أو خلق ميل جديد من لا شيء.

2ـ الميول بين الكمون والظهور:
إن الميول لا يمكن مراقبتها بذاتها، بل هي تتبدّى من خلال مظهرين اثنين:
          1 ـ على شكل حالة عاطفية شعورية (مؤلمة) تدفع الكائن الحيّ إلى البحث عن الإشباع لإعادة التوازن المفقود إلى الجسم (كحالة الشعور بالجوع مثلاً التي تدفع إلى البحث عن الإشباع من خلال تناول الطعام لاسترجاع التوازن المفقود إلى الجسم.
          2 ـ على شكل حركة أو سلوك، وفي المثال السابق هي تناول الطعام ذاته.
مع الملاحظة بأننا في حالة الشبع لا يعني انعدام الميل إلى الطعام، بل تعني أن هذا الميل موجود بشكل كامن ـ كاستعداد ـ يظهر من جديد من خلال اختلال التوازن، وتجدد الرغبة في تناول الطعام.



ولكن من أين تأتي الميول؟
أهي فطرية توجد مع الكائن الحي منذ الولادة؟ أم أنها مرتبطة بشروط وظروف معيّنة؟ وما هي هذه الشروط أو الأصول التي نجمت الميول عنها؟
تعدّدت الإجابات عن هذه الأسئلة، فمنهم من أرجعها إلى أصول فيزيولوجية، ومنهم من أرجعها إلى الحركة أو العادات المكتسبة أو الخبرات اللاذة السابقة التي تدعونا إلى استعادة تلك الخبرات والحصول على اللذة من جديد.
تلك هي أهم التفسيرات:

3 أصول الميول:
ـ الأساس العضوي للميول: (كانُن  Cannon )
إن التفسير الفيزيولوجي (الجسدي) لظهور الميول يقوم على القول بأن الميل هو آلية وظيفتها استعادة التوازن المفقود إلى الجسد: ففي حالة الإشباع يكون التوازن موجوداً، أما في حالة عدم الإشباع فيختل هذا التوازن الجسدي، فتظهر الحاجة إلى الطعام مثلاً كانعكاس لانقباضات عضلات المعدة.
هذا التفسير للميول قدّمه الفيزيولوجي الأميركي كانُن، فكما أن الحاجة إلى الطعام تبرز بسبب انقباضات المعدة، كذلك يرجع العطش إلى جفاف في الأغشية المخاطية؛ وبناء الطير لعشّه هو نوع من الجهد لمواجهة انخفاض حرارة جسمه. وهذا البحث عن توازن جديد يسمّيه كانُن أيضاً بـ " الميل الطبيعي للتكيّف".

نقد:  إن انتقال الميل من حالة الكمون إلى الظهور يترافق مع حالة من الشعور بعدم الرضى (الكدر أو الانزعاج) (الشعور بالجوع) كما يترافق مع تعبيرات فيزيولوجية (انقباض عضلات المعدة)، هذا أمر لا خلاف عليه. أما القول بأن هذه الحالات المرافقة لانتقال الميل من الكمون إلى الظهور هو الذي أوجد الميل، فيبدو كأنه يعتبر النتيجة سبباً.
فهل حقاً أن انخفاض درجة حرارة جسم الطائر هو الذي يخلق لديه الميل إلى بناء الأعشاش؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تبني الطيور أعشاشها في فصل الشتاء؟ ثم هل من المؤكد أننا إذا قمنا بتخفيض درجة حرارة الطائر فإنه سيعمد تلقائياً إلى المباشرة في بناء عشه؟  لا يبدو الأمر كذلك..
وإذا سلّمنا بأن انخفاض حرارة جسم الطائر تدفعه لبناء عشّه، فهل يستطيع ذلك أن يفسّر لنا لماذا تصنع بعض الطيور أعشاشها من القشّ بينما يصنعها البعض الآخر من الطين؟
إن هذا التفسير المبسّط لا يستطيع أن يفسّر لنا سلوكاً معقّداً ومتقناً مثل السلوك الغريزي عند الحيوان...

ـ الحركة عند "ريبو":
ينتقد "ريبو" القول بالأساس العاطفي للميول: أي الشعور باللذة والألم، فالميل  ـ حسب ريبو ـ ليس إلا حركةً ناشئة أو إيقافاً لهذه الحركة. والحياة العاطفية تعود بجذورها إلى الحركة ذاتها. فاللذة ترافق الحركة في حالة الإشباع، بينما الألم يرافقها في حالة الإعاقة وعدم الحصول على الإشباع.
الحركة (أو السلوك) هي الأساس عند ريبو.
الحركة تخلق الانفعال: في تفسيره لنشوء الانفعال، يلجأ ريبو إلى مثال الشعور بالخطر والهروب منه، فيقول بأن الرأي الشائع لدى العامة هو أننا نلحظ الخطر (رؤية حيوان مفترس مثلاً)، فنشعر بالخوف بعد ذلك، ثم يأتي السلوك أو الحركة أخيراً (الهروب).
يقول ريبو بأن هذا الاعتقاد مخادع وغير حقيقي، فإننا في الحقيقة نرى الخطر فنهرب منه ثم نشعر بالخوف بعد ذلك. وما ينطبق على الانفعال ينطبق أيضاً على الميول: الحركة هي التي تخلق الميل مثلما هي تخلق الانفعال.
أما إذا ألغينا كل أشكال الحركة الداخلية (تمدد الأوعية الدموية، تقلص العضلات، تغير ملامح الوجه، تسارع دقات القلب وسرعة التنفس..) والخارجية (الصراخ بصوتٍ عال، القيام بأعمال عدائية كالاعتداء بالضرب..)، فلن يكون هناك ما يسمى ميلاً عدوانياً.
إن الممثل الذي يقوم بتمثيل دوره في العمل الفني، سيشعر بما يؤديه بسبب الموقف الذي يتصنعه.
كذلك فإن التمازح بين الأصدقاء، سرعان ما يتحول إلى تصارع حقيقي وعدوانية ظاهرة.
الجلوس على طاولة الطعام وتناول السكين والشوكة .. يشعرنا بالجوع..
والحركة على عدّة مستويات، فهي في حالتها القصوى، حين يقوم الحيوان المفترس بالتهام فريسته لإشباع حاجته إلى الطعام، بينما تتمظهر على شكل توتّر عضليّ وتأهّب حين يكون على وشك الانقضاض.
أما حين يكون الحيوان المفترس في عرينه لحظة الاسترخاء بعد الشبع، فهي  (أي الحركة) تكون في أدنى تعبيراتها، ولا تعدو أن تكون صورة عابرة لطريدة قادمة..
ـ السلوكية:
من المهم الإشارة إلى أن المدرسة السلوكية ترفض الحديث عن الميول أصلاً.
فما يمكن مراقبته وقياسه بشكل علمي هو السلوك. والسلوك هو ردّة فعل أو استجابة لمثير معيّن. فالسلوك هو استجابة أكيدة للمثير. وبالتالي فإن المثير هو الذي يخلق ردّة الفعل أو الاستجابة أو السلوك.
ويمكن باختصار الرد على السلوكيين بأن الاستجابة تكشف عن وجود الميل بقدر ما هي ردة فعل على المثير. فقطعة اللحمة تثير استجابة لدى الكلب بينما هي لا تثير تلك الاستجابة لدى الأرنب مثلاً.
المثير، إذاً، يكشف عن وجود الميل، وذلك من خلال السلوك؛ فالاستجابة تتم بسبب الوجود المسبق للميل، وليس لأنها استجابة آلية للمثير ومستقلّة عن ميول وحاجات الكائن الحيّ.

ـ رأي:
إذا قيل بأن الميول، في تمظهرها وفي حالات الحصول على الإشباع، لا بدّ من أن تتبدّى على شكل حركات، أو أن تترافق مع حركات معيّنة، فهذا رأي يبدو مقبولاً. أما إرجاع الميول إلى حركات فقط، والقول بأن كل حركة تخلق ميلاً، فهو رأي لا يمكن قبوله، وإلا لأصبح الكثير من الحركات التي لا معنى لها، ميولاً.
أما في ما يذكره ريبو عن الهروب المؤدي إلى الشعور بالخوف، فربما كان من المفيد التمييز بين نوعين أو شكلين من الحركة: الحركات المنعكسة العفوية، والتي يبدو أنها تسبق الانفعال، مثل تهريب اليد حين نكتشف فجأة أن ما بداخل الكيس هو عقرب أو أفعى، أو حين نهرب يدنا تلقائياً بسبب الألم أو ملامستها النار، وهذه آلية تلقائية للتخلص من الخطر والحفاظ على البقاء. أما السلوك الإرادي الذي يسبقه قرار بالحركة فلا يمكن أن يسبق الانفعال. أعلم بأن شخصاً يأتي لأذيتي، فأخاف وأقرر الابتعاد..

حتى الحركات المكرّرة لا تشكّل ميلاً جديداً، فالتلميذ الذي يذهب كل صباح إلى مدرسته لا يشعر بميل للذهاب أيام العطلة، ولا الطابعة على الآلة الكاتبة تشعر بميل إلى تحريك أصابعها إن لم تكن تعمل على طباعة نصٍّ معيّن.
يمكن القول بأن الحركة تساهم في الكشف عن ميلٍ موجود أصلاً، لكنها لا تخلق ميلاً جديداً.
وحول هذا الموضوع يميّز "برادين"  Pradines  بين نوعين من الميول:
          ـ الميل نحو  Vers،    والميل عن à
"الميل عن" ليس ميلاً حقيقياً، كونه لا يهدف إلى موضوع مجدد، بل يكتفي بإزاحة عائق ما، أو الهروب من خطرٍ معيّن، مثل تحاشي الوقوع، أو إبعاد اليد عن النار بشكل تلقائي...وهذه بالتالي حركات لكنها لا تعبّر عن ميول حقيقية.
"الميل نحو" هو وحده الحقيقي لأنه ميل نحو موضوع خارجي ومحاولة الاستحواذ عليه.
فقط الموضوع الخارجي يستطيع إلغاء هذا النقص الذي يعتري الكائن الحي.
لذلك فالميل ـ حسب برادين ـ هو هذا التوجّه التلقائي نحو موضوعات محدّدة تؤمّن الإشباع لتلك الحاجة، مثل الميول الغذائية والجنسية والاجتماعية التي تُعتبر ميولاً حقيقية وأساسية.

ـ العادة :
لكن الحركة (أو السلوك) تؤدي أحياناً إلى تكوّن ما يسمّى بـ "العادة"، والتي يمكن لها أن تكون متحكّمة بالأفراد، فيجدون أنفسهم مدفوعين بقوّة إلى تكرارها، كعادة التدخين أو الإدمان على الكحول. ألا يبدو أن هذه العادات تخلق ميولاً جديدة؟ خاصة وأن التجربة الأولى تكون عادةً غير مستحَبّة، ومع التكرار تصبح متأصّلة ومتحكّمة في سلوك الفرد. ألا يتوجّب علينا أن نعتبرها ميلاً جديداً؟
على الرغم من أنها تبدو كذلك، إلا أنها في الحقيقة أشكالٌ جديدة اتخذتها ميولٌ قديمة موجودة مسبقاً.
إنها أشكال جديدة لإشباع ميولٍ سبق القول بأنه لا يمكن إلغاء أحدها أو خلق ميلٍ جديدٍ من عدم.
على عكس ما يبدو للوهلة الأولى من أن العادة تخلق ميلاً جديداً، فإنها في الحقيقة تقوم بإشباع ميول متعدّدة موجودة أصلاً.
إن سبب تأصّل العادة وصعوبة التخلّي عنها إذاً، هو أنها مرتبطة بإشباع أكثر من ميلٍ واحد.
فلفّافة التبغ، إضافة إلى أنها تشبع حاجةً إلى منبّه محدّد، موجود في التبغ، فإنها أيضاً ترتبط ـ من خلال التشريط ـ بإشباع ميول أخرى: فنجان القهوة ـ فترة الراحة ـ تبادل الحديث مع الزملاء ـ...
لذلك ينصح علماء النفس السلوكيون باعتماد التشريط السلبي أو المعاكس للتخلص من عادة ننوي الإقلاع عنها، وذلك بأن يتم إرفاق السلوك (العادة) المنوي التخلي عنه بمثيرات غير مستحبّة: أشكال أو أصوات أو روائح ... مثيرة للإشمئزاز (ترافق تدخين لفافة التبغ في كل مرّة).
العادة إذاً لا تخلق ميلاً، إنها شكل محدّد من أشكال إشباع ميلٍ موجود. أي أن العادة هي شكل جديد لإشباع الميل الموجود.


ـ الميل كتكرار لخبرة لاذّة سابقة: (كوندياك  Condillac)
يورد الفيلسوف التجريبي الفرنسي كوندياك مثاله الشهير عن التمثال، ليشرح لنا كيف أن خبراتنا السابقة هي التي تخلق رغباتنا: فلنتخيّل تمثالاً دبّت فيه الحياة فجأة من خلال معجزةٍ ما!
ماذا يستطيع هذا التمثال أن يرغب؟  لا شيء على الإطلاق.  (وهذا يذكّرنا بأفلاطون في حديثه عن خلق إيروس).
يتّصل هذا التمثال بالعالم الخارجي من خلال الحواس، ولنتصوّر الآن أن خبرته الأولى كانت من خلال تنشّق عبير زهرة: إنه يستحسن رائحة هذا العطر، وبعد إبعاد الزهرة، تبقى ذكرى عطرها في لذاكرة، ثم هو يرغب في تكرار هذه الخبرة، أي يصبح لديه ميل جديد، وهذا الميل أو الرغبة ما كان ليوجد لولا الخبرة المستحسنة التي سبقته.
وما يصحّ على حاسة الشمّ يصح على بقية الحواس.
حين تغيب الخبرة اللاذة عن الحواس، تبقى ذكراها وذاك الشوق أو الرغبة في تكرارها. وهو ميل أو رغبة جديدة لم تكن موجودة قبل الخبرة. ولا يمكن لنا أن نرغب في شيء نجهله تماماً.

نقد:
لو دقّقنا في حجّة كوندياك لوجدنا أن الخبرة السابقة هي فعلاً سبب "رغبتنا" في تكرارها. وصحيح أيضاً بأنه لا يمكن لنا أن نرغب أو نشتهي ما نجهله كلّيةً.
لكن هنا تجب العودة إلى التمييز ما بين الميل بشكلٍ عام وبين "الرغبة" التي هي شكل خاص من أشكال الميول: إنها ميل واعٍ بذاته وبموضوعه، وهذا هو تعريف الرغبة أساساً.
الميل إلى الطعام موجود بشكل فطري لدى الإنسان، لكن الخبرات الماضية وتذوّق أنواع محدّدة من الأطعمة هي التي تجعلنا نرغب بطعام محدّد بعينه: أي أن الخبرات الماضية تحدّد لنا شكل إشباع ميولنا.
الخبرات الماضية تضفي على ميولنا المبهمة وضوحاً، فتتحوّل من ميول مبهمة إلى رغبات واضحة تعرف ما تريد.
على عكس ما يقول "كوندياك"، ليست الخبرة اللاذة هي التي خلقت ميلاً جديداً، بل إن الوجود المسبق للميل جعل استحسان الخبرة الماضية ممكناً.
الخبرة كشفت عن وجود الميل، إنها شرط ضروريّ لانتقال الميل إلى حيّز الوعي.
إن ما يقوله كوندياك صحيح إذا طبّقناه على الرغبة كحالة خاصة من الميل الواعي.
الخبرة تعرّفنا بما نرغب، لكن لم يكن  بالإمكان أن نرغب لولا الوجود المسبق للميل.


4ـ تصنيف الميول:

الإنسان كائن متعدّد الأبعاد، فهو في آن كائن عضوي ـ إجتماعي | ثقافي ـ ثم هو كائن روحي ونفسي، لذلك تعدّدت مستويات الحاجات والميول، كما تعدّدت أشكال تصنيف هذه الميول، ولا يمكن القول بوجود تصنيف علمي واحد للميول.
فالميول ـ حسب برادين ـ تعود إلى ثلاثة أشكال:
          1 ـ الميل الغذائي.
          2 ـ الميل الجنسي.
          3 ـ الميل الاجتماعي.
كما توجد تصنيفات أخرى للميول:
          1ـ الميول الذاتية الأنانية: الطعام والجنس، وهي ذات أصول بيولوجية.
          2ـ الميول الغيريّة الاجتماعية:  إن الميل الاجتماعي وحاجة الفرد للآخرين شديدة الوضوح لدرجة أننا نجد الطفل يفضّل حرمانه من قطعة الحلوى (اللذيذة على قلبه) على حرمانه من البقاء مع الآخرين واللعب مع أقرانه.
كذلك فإن السجناء يعانون من العزل الإنفرادي أكثر من المعاناة من سوء التغذية.
وهذه الأمثلة تُبرز أهمية الميول الاجتماعية للإنسان.
من هذه الأشكال الاجتماعية التي تتخذها الميول كموضوعات لها:
          ـ الشكل الأسري: التعاطف داخل الأسرة الواحدة بين الزوجين والأبناء.
          ـ المهنة الواحدة: فنحن نلاحظ الميل لدى أصحاب المهنة الواحدة إلى التجمع وبناء علاقات التعارف والصداقة، إضافة إلى تشكيل الروابط والنقابات.
          ـ العدوى التعاطفية:  التي نلاحظ مظاهرها في انتقال عدوى التثاؤب أو روح المرح والضحك.. من فرد إلى بقيّة الأفراد.
          ـ المحاكاة والتقليد: كمحاولة لتكرار سلوك أو كلام الآخرين..
          3ـ الميول المثالية: الجمال (الفنون) ـ الخير (الأخلاق) ـ الإيمان (الدين) ـ الحق ( الفضول المعرفي).

  5ـ مرونة الميول:

إن الميول الاجتماعية والمثالية تثبت تجاوز الإنسان حدود الحاجات البيولوجية، وانطلاقه نحو الآخرين ونحو البحث عن المعرفة وعن الخلق الجمالي، لذلك فهو الوحيد الذي يملك تاريخاً ولغة وحضارة..
لكن لماذا نرى أن هذه الميول تتمظهر بأشكال مختلفة لدى الأفراد؟ أو أن الميول التي تستحوذ على القدْر الأكبر من الطاقة والجهد تختلف من فرد إلى آخر؟
لماذا يكون هاجس أحدهم إشباع لذّاته الجسدية بينما يكون هاجس الآخر معرفيّاً يتركّز على البحث والتنقيب عن المعرفة؟ ولدى ثالث على جمْع الثروة أو الحصول على الجاه والمركز الاجتماعي؟ ....
وهل هي دائماً ميول متعدّدة أم أنه من الممكن أن يتّخذ ميلٌ واحدٌ أحياناً أشكالاً عديدة للتعبير والظهور؟
فهل يمكن القول بأن الصوفي المتعبّد والمستوحد بحثاً عن المحبّة الإلهية يوجّه طاقته النفسية هذا الاتجاه إثر تجربة حبٍّ فاشلة؟
من المعروف أن خبراتنا الماضية تؤثّر في ثقافتنا وفي طريقة إشباع ميولنا وفي تذوّقنا للأشياء، فنحن، لإرواء عطشنا، قادرون على استهلاك أنواعٍ متعدّدة من السوائل.
وثقافتنا الموسيقيّة تؤثّر في تذوّقنا للموسيقى، وكذلك بقيّة أشكال ثقافتنا الفنّية ومطالعاتنا.  هذه الإضافات تصبح جزءاً من ثقافتنا ومن شخصيتنا ومن ذوقنا، وهي بالتالي تؤثّر في الشكل الجديد المفضّل لدينا لإشباع ميولنا وحاجاتنا. (إشباع الميل إلى تأكيد الذات: ـ في بيئة تجارية من خلال جني المال. وفي بيئة ثقافية من خلال التحصيل المعرفي...)
وهذا ما يسمّيه "بورلو"  Burloud  بـ "التمثّل الوظيفي":  أي هذه الإضافات على الشخصية التي تؤثّر في الموضوعات الجديدة لإشباع الميول.
لقد ساعدنا علم النفس، وبخاصة التحليل النفسي، على إضاءة وتوضيح هذه المسائل للتعرّف على المرونة التي تتمتّع بها الميول. هذه المرونة التي تسمح لها بتعديل ذاتها للحصول على الإشباع، مباشرة أو مواربة، ودون وعي منّا في كثير من الأحيان.
من الذين تحدّثوا وفسّروا لنا مرونة الميول وتحوّلاتها، شارل بودوان  Baudouin ، الذي يوضح أن كل ميل يتضمّن "موضوعاً" يتجه هذا الميل نحوه، و"فعلاً" يقوم بإشباع هذا الميل.
إن الظروف الموضوعية والفرديّة قد تؤدّي إلى تحوّلات على مستوى الفعل أو على مستوى موضوع الميل، أو على المستويين معاً. وسنرى بعض النماذج التي توضّح تلك التحوّلات التي تحدّث عنها "بودوان".
إنه يذكر لنا مثال الصيّاد الذي كان يصطاد الطرائد الكبيرة (الغزلان)، فـ "الفعل" هنا هو الصيد، و"الموضوع" هو الغزلان.
بسبب ظروف الصحة أو العمر التي لم تعد تسمح له بممارسة هوايته السابقة، يتحوّل إلى صيد الطيور: التحول هنا يتم  على مستوى الموضوع، بينما يستمرّ الفعل دون تغيّر، وهو "فعل" الصيد.
أما إذا كانت الظروف أكثر فسوةً وتمنعه من ممارسة الصيد كلّياً، فيتحوّل إلى جامعٍ للكتب عن الحيوانات التي كان يصطادها، (أو أن يتحوّل إلى محنِّط لتلك الحيوانات).
هنا نجد أن الموضوع لم يتغيّر، الذي تغيّر هو "الفعل": من فعل الصيد إلى جمع الكتب أو إلى التحنيط.
من الممكن أيضاً أن يتحوّل الصياد إلى جمع  كتب الصيد في المرحلة الأولى، ثم في مرحلة لاحقة إلى جمع الكتب بشكل عام، وهنا، التحوّل قد تم على مستوى الفعل: من الصيد إلى جمع الكتب، وكذلك على مستوى الموضوع: الذي لم يعد كما كان سابقاً، حيوانات الصيد، إنما موضوعات أخرى: كالتاريخ أو الفلسفة..
والأمثلة على هذه التحولات عديدة:
          ـ "رينان" Renan  ، الفيلسوف الفرنسي المعروف، حين فقد إيمانه، تحول إلى مؤرّخ للأديان. (تحول على مستوى الفعل).
          ـ الأديب غير الناجح قد يتحوّل إلى النقد الأدبي. (الفعل).
          ـ مدخّن السجائر قد يتحوّل إلى الغليون أو النارجيلة.
          ـ الحرمان من الأمومة قد يحوّل المرأة إلى متفانية في العمل الاجتماعي أو السياسي أو الإنساني. (العمل في ميتم أو في مستشفى)، وهذا التحوّل على مستوى الفعل والموضوع.
كما يزوّدنا التحليل النفسي بالعديد من الأمثلة، منها:
ـ التحويل  Déplacement : وهو انتقال مشاعر تجاه شخص معيّن إلى أشخاص آخرين: التعاطف مع الأشخاص الذين يشبهون من نحبّهم. أو انتقال المشاعر إلى الأشياء الخاصة بهذا الشخص: الأطلال ـ الثياب ...
إنتقال المشاعر العدائية المكبوتة إلى المعالج النفسي خلال بعض مراحل العلاج. (الموضوع).
ـ التسامي  Sublimation : كالتسامي بالطاقة الجنسية المكبوتة نحو الإبداع الفني أو الأدبي. أو التسامي بالحب البشري المقموع نحو الحب الصوفي الإلهي..
ـ الانعكاس  Inversion : تحوّل الميل إلى اتجاه معاكس: كتحوّل العدائية تجاه الأهل إلى عدائيّة وتعذيب للذات. (يتم ذلك بشكلٍ لا واعٍ ) مثل عقدة أوديب.
ـ الإسقاط  Projection : وهو آليّة لا واعية، تحوّل الإحساس بالذنب وبالمسؤوليّة إلى اتهام للآخرين. (دائماً الآخرون هم المسؤولون).
ـ النكوص  Regression : وهو العودة ـ بسبب الإحباط أو الحرمان ـ إلى أشكال سلوك ترتبط بمراحل عمرية سابقة: مثل عودة الطفل إثر ولادة أخ له إلى سلوك خاص بمرحلة عمرية سابقة: كالتبوّل في ثيابه أو العودة إلى الرضاعة من القنّينة..

6ـ الميل الأساس:
إن العديد من الأمثلة ترجّح أن ما نظنّه ميولاً جديدة، ما هي إلا ميول قديمة تتخّذ أشكالاً متعدّدة ووجوهاً جديدة بسبب الظروف المؤثّرة فيها، وهذا ما يعزّز الرأي القائل بأننا لا يمكن لنا أن نخلق ميلاً جديداً، ولا أن نلغي ميلاً قديماً.
لكن هذا يطرح في الوقت ذاته إشكاليّة جديدة: ألا يمكن أن تكون كل هذه الميول المتعدّدة ما هي إلا أشكال متعدّدة لميل أساس واحد، أو لبضعة ميول أساسية فقط؟
ـ الحب الخالص:
بالنسبة إلى "لاروشفوكوLa Rochefoucauld  كل مظاهر الميول لدينا، ما هي إلا أقنعة لما يسمّيه "الحب الخالص": حب الذات وكل شيء من أجل الذات.
يشكّك "لاروشفوكو" في الكثير من الادّعاءات ومظاهر التفاني من أجل الآخرين، ليقول بأن الأسباب الحقيقية لكل تلك الادّعاءات هي الأنانية وحب الذات.
          ـ فالصداقة الأكثر إخلاصاً وتفانياً في ظاهرها، ما هي في حقيقتها إلا نوع من أنواع حسابات الربح والخسارة والتوقّع في الحصول على منفعة ما. دائماً هناك شيء ما نأمل في كسبه..
          ـ إن رفض تلقّي الإطراء والمديح هو رغبة مزدوجة بذلك المديح: (مرّة لأننا نرغب في تلقّي المديح، ومرّة ثانية أننا نرغب أن نوصف بالتواضع: وذاك مديح أيضاً..)
          ـ الشفقة ما هي إلا تبصّر مسبق للسوء الذي قد يحيق بنا..
          ـ الاعتراف بالجميل ما هو إلا رغبة مستترة في تلقّي منافع أكبر..

مواقف من نظرية "لاروشفوكو":
والعديد من الأمثلة التي يوردها لاروشفوكو. وكأنه يضع الفرد أمام حقيقته العارية التي كانت مقنّعة بالكثير من الادّعاءات البرّاقة..
لقد واجهت نظرية لاروشفوكو انتقادات من اتجاهات متناقضة: فمنهم من يعتبره مغرقاً في التشاؤم، بينما يعتبره آخرون مغرقاً في التفاؤل!..
فهو ـ حسب البعض ـ مغرق في التفاؤل حين يعتبر بأن الأنانية وحب الذات هي الميل الأساس الكامن خلف سلوكنا والذي يسعى في حقيقته نحو المنفعة الذاتية.  لأننا ـ حسب هذا البعض دائماً ـ نسعى أحياناً إلى إيذاء الآخرين دون أيّة منفعة نجنيها من ذلك. (يقول الحوار في إحدى الروايات: "أنت حين تحبّني فإنما أنت تفكر في نفسك، بينما إذا كنت تكرهني، فأنت تفكّر فيَّ أنا"). (كسر مصباح كهربائي في الشارع ...) العدوانيّة المجّانيّة..
 ـ هذه النظرية تلقى معارضة من "فرويد" Freud الذي يعتبر بأن النزعة العدوانية ليست أصيلة لدى الفرد، إنما هي تأتي كردّة فعل على العوائق الموضوعة أمامه، والتي تمنعه من إشباع حاجاته ورغباته بسبب الأعراف الاجتماعية.
من جهة ثانية نجد اتهامات توجّه إلى لاروشفوكو بسبب "مبالغته في التشاؤم" كما يرى آخرون:
ليست غايتنا من سلوكنا دائماً هي المنفعة والأنانية. إن أفعالنا بتلقائيتها هي أفعال طيّبة كما يرى "سارتر".
إن التفكير في تلك الأفعال وحسابات الربح والخسارة هي التي "تسمّم" تلك الأفعال.
هناك إذاً تفانٍ وإخلاص عفوي بعيداً عن حسابات الربح والخسارة.
ويتفق مع هذا الرأي الفيلسوف الفرنسي "روسّو" الذي يعتبر أن الإنسان طيّب بطبيعته وبفطرته، لكن المجتمع هو من يفسد تلك الطيبة لديه.
"برادين"  Pradines  يعتبر أن كل الميول هي بطبيعتها "غيريّة"، هي دائماً تتجه نحو موضوع خارجي، وبالتالي فهو لا يوافق على القول بالأنانية كميل أساس.
نقد:
إن لاروشفوكو يقدم لنا مساهمة غنيّة لمعرفة أنفسنا ودوافعنا الحقيقية، إنه يجعلنا نعيد النظر في الفكرة الشائعة القائلة بأننا نفهم بوضوح أنفسنا ودوافع سلوكنا، ويكشف لنا عن الأقنعة التي تختبيء خلفها دوافعُنا الحقيقية، وهو بذلك سبق الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس بهذا الكشف. فليس من السهل علينا فهم دوافعنا الحقيقية، فالإنسان هو "الكائن الأبعد عن ذاته" كما يرى "نيتشه". والوعي لا يشكّل إلا الجزء البسيط العائم من جبل الجليد ـ كما يرى "فرويد" ـ بينما الجزء الأعظم هو ما يشكّله اللاوعي، والذي عمل فرويد ومدرسة التحليل النفسي على استكشافه.
إننا ـ كما قيل ـ ولكثرة ما تعوّدنا على إخفاء حقيقتنا عن الآخرين، فإننا لم نعد نعرف ـ حتى نحن ـ أنفسنا على حقيقتها.
إذا كان ما يودّ قوله "لاروشفوكو" هو أن العديد من دوافع سلوكنا الحقيقية، والتي تبدو في الظاهر بعيدة عن المنفعة والأنانية، هي في حقيقتها أنانية، ولكنها مقنّعة بأقنعة إجتماعية وأخلاقية عديدة، فإنه محقّ في ذلك. أما إذا كان المقصود بأن كل ميولنا تعود إلى هذا السبب وحده، وبأننا لا نملك أية دوافع أو غايات مخلصة بعيدة عن الأنانية والمنفعة الشخصية، فلا نظنه مصيباً في ذلك.
ألا يمكن أن يتبرّع أحدُهم ببعض أعضائه (بعد الموت) لمرضى آخرين؟  أو بجثته لتستفيد منها الأبحاث الطبّية؟ إنه لن يأمل بأيّة منفعة قد تعود عليه..
ألا يُلاحظ بأننا نرغب في من يشاركنا اكتشاف وتذوّق عمل فني رفيع؟ أو الاستماع إلى مقطوعة موسيقية جميلة أعجبتنا؟ وبأن سعادتنا بتذوّق تلك الأعمال تكون أكبر مع مشاركة الآخرين لنا؟  أين الأنانية في ذلك؟
ألا ترانا نساعد طائراً مجروحاً  أو الاعتناء بنبتة جميلة برّية.. وغير ذلك من الأعمال المشابهة؟ هل من الضروري أن نكون ننتظر مردوداً ما؟
إن "لاروشفوكو" ينبّهنا إلى غموض دوافعنا الحقيقية في كثير من الأحيان، وإلى الأقنعة التي تحجبها عن وعينا، لكنه يختزل الصورة إلى مشهد واحد حين يقول بأن دافعنا الوحيد هو الأنانية.

إضافة إلى لاروشفوكو، هناك العديد من الفلاسفة وعلماء النفس قدّموا لنا إجابات مختلفة حول الميول الأساسية الكامنة وراء سلوكنا. يمكن الاطلاع على آراء أهمهم باختصار، من أمثال:  فرويد؛ بنتام؛ نيتشه؛ وشوبنهاور ...

ـ بنتام:
بالنسبة لـ بنتام، الهدف النهائي للميول هو اللذة. فالشرير كما الفاضل يسعيان بدافع زيادة اللذة. وهو بذلك لا يعالج مسألة الميل الأساس، بل ما تسعى إليه الميول. فاللذة هي الشعور الذي يترافق مع إشباع ميلٍ ما. مثل اللذة خلال تناول الطعام، لكنها ليست هي الميل نفسه.
فرويد:
يرى فرويد بأن هناك غريزتين أساسيتين لدى الإنسان: غريزة الموت وغريزة الحياة، الهدم والبناء.
من مظاهر الأولى كل النزعات العدوانية والقتل والتدمير والحروب.. ومن مظاهر الثانية المحبة والود والتعاطف.
كما يعطي أهمية خاصة للغريزة الجنسية، وهي الطاقة الأساسية (الليبيدو). والتي يمكن أن توظّف في كافة الأشكال: بدءاً من السلوك الجنسي المباشر، وصولاً إلى الإنجازات الإبداعية وبناء الحضارة. (من خلال التسامي).
نيتشه:
الميل الأساس عند نيتشه هو السعي نحو التفوّق. (إرادة القوّة)، وصولاً نحو الإنسان الأسمى. وما الإنسان كما نعرفه اليوم إلا جسر العبور نحو الإنسان المتفوّق الذي تسعى البشرية نحوه.
شوبنهاور:
غاية الحياة عند شوبنهاور هي الحياة نفسها. الحياة من أجل الحياة. ليست هناك غاية ثانية. ولذلك فالحياة عبث تتأرجح بين الألم (عدم الإشباع)، وبين الملل (الإشباع).
ومن أجل استمرارية هذه الحياة، قد يفعل الإنسان أيّ شيء، وعلى حساب الجميع.
لكنه حين يراقب مأساة الآخرين، يتولّد لديه نوع من التعاطف معهم، وهذا التعاطف المشترك يخفّف من مأساوية الحياة، ويلطّف من حدّة الأنانيات الجامحة.

رأي:
لقد تعدّدت الآراء حول تحديد الميل الأساس. وإذا كان لنا أن نتّفق مع بنتام بأن الهدف النهائي لأي ميل هو الحصول على اللذة، فإن الخبرة تجعلنا نستبعد أن تكون السبيل الموصلة إلى تلك اللذة والرضى (بمعناها الشامل)، مقتصرة على إشباع ميل واحد.
فالميول متعدّدة الأبعاد، لا يمكن اختزالها ببعد واحد. فكما نجد ميولاً مرتبطة بحاجات الجسد ولا يمكن الاستغناء عنها، فإن إشباعها لا يمكن أن يكون بديلاً عن الميول الأخرى المرتبطة أكثر بطبيعة الإنسان كإنسان، مثل الميول الاجتماعية والمعرفية والفنّية.
وإذا كانت حاجات الجسد قابلة للإشباع في لحظة معيّنة، فإن الميول المثالية والمعرفيّة تبدو غير قابلة للإشباع، فهي تنحو نحو المطلق: كلما ازداد وعينا بما نعرف، ازددنا وعياً بوجود أشياء لا نعرفها، وازددنا فضولاً في معرفة المزيد.
وكلما أنجزنا عملاً جميلاً أو تذوّقنا عملاً فنّياً، اقتنعنا بأن هناك إمكانية للأفضل. وبذلك نجد أنفسنا في مسارٍ لا ينتهي، يسعى نحو المطلق لكنه لا يصل. ولذلك يبقى ذلك السعي أبديّاً، ومن خلاله قطعت الحضارة البشرية ما قطعت من أشواط، وهي تضيف كل يوم إنجازات جديدة وبصورة متسارعة، لكن ما يحدّد رحلتها هو المسار نفسه، وليس هدفاً يمكن أن تبلغه في يوم من الأيام.

7ـ قيمة الميول:
لولا وجود الميول لما استمرّت الحياة. فهي التي تدفع الكائن الحيّ للحفاظ على نفسه كفرد، من خلال اللذة التي يجدها في إشباع الميل إلى الطعام. كما تدفعه للحفاظ على النوع من خلال اللذة التي يجدها في إشباع ميوله الجنسية.
هي إذاً تقوم بوظيفة الحفاظ على الأفراد والأنواع، بوعي أو بدون وعي.
ولكن ما قيمة ذلك؟ وهل استمرارية الحياة مطلوبة بذاتها دون أية أهداف أخرى؟
وإذا كانت الميول تقوم بتلك الوظيفة ـ أكان للحياة معنى أم لم يكن ـ فهل باستطاعتنا نحن أن نضفي عليها قيمة ومعنى؟
من الممكن القول بأن الميول تدفع للحصول على الإشباعات وتعطيها مذاقاً فتبعدنا عن اللامبالاة، ولكننا نحن من يعطي لهذه الحياة معناها. وبذلك يمكن توظيف الميول في خدمة مشروع للحياة البشرية تكون أكثر إنسانية ورقيّاً.
إذا اقتصرت وظيفة الميول على دفعنا للحصول على الإشباعات الجسدية فقط، فهذا هو البعد الحيواني عند الإنسان: الحصول على اللذة الجسدية لِذاتها فقط، كما كان يحصل عند بعض مترفي الرومان في مرحلة من تاريخهم: تناول الطعام ثم التقيّؤ، لتناول الطعام والتلذّذ من جديد...
أما إذا كان إشباع احتياجات الجسد من أجل أن يكون أداةً لتنفيذ مشروع أكثر إنسانية، ومعنىً نضيفه نحن على هذه الحياة، أي أن يكون الجسد أداة لمحاولة إشباع ميولنا المثالية في الحق والخير والجمال، هذه الأهداف التي حدّدتها الفلسفة منذ القديم، فإنها تكون حياة حَرِيّة (جديرة) بأن نحياها، وتكون الميول التي تدفعنا للسير في طريق البحث عن الحقيقة والجمال والخير ميولاً جديرة بإعطائها الأولوية، ولا أقول جديرة بالإشباع، لأن هذه الميول غير قابلة للإشباع أصلاً كما سبق القول. إنها تسعى نحو أفق لا نهاية له. تسعى بنا نحو مستقبل خليق بأن يكون تاريخاً للبشرية...


ريبو  Théodule Ribot     (1839 ـ 1916)
أحد مؤسسي علم النفس التجريبي.
له: ـ " أمراض الذاكرة"  ـ " أمراض الشخصية".

بافلوف  Pavlov    (1849 ـ 1936)
أعماله حول الدماغ  fonction cérébrale    ساهمت بشكل أساسي في تطوير علم النفس التجريبي.


واطسون    John Broadus Watson  (1878 ـ 1958)







ريبو: عن كتاب سيكولوجيا المشاعر.

إن الملاحظة الداخلية، مهما كانت حاذقة، لا تستطيع إلا وصف الواقعة الداخلية وأن تسجل تبايناتها؛ بينما هي تبقى صامتةً في ما يخص شرروط وأصل الانفعال. إنها لا تدرك إلا ميلاً دون جسد، أي تجريداً.
ليس هناك أي ظاهرة للحياة النفسية، دون أن نستثني الإدراك الحسي، ترتبط عن قرب بالشروط البيولوجية أكثر من الانفعالات.
إن جدارة جيمس ولانج الكبرى هي في إثباتهما، في وقت واحد وبشكل مستقل أحدهما عن الآخر، الأهمّية الكبيرة للعوامل الفيزيولوجية في عمليّة الانفعال.
ليس في نيّتي أن أعرض مطوّلاً فكرة هذين المؤلّفين رغم أنها المساهمة الأكثر أهمّية في سيكولوجيا الانفعالات منذ زمن طويل.
لقد بدأت هذه الفكرة تصبح معروفةً بقوّة، وهي في كل الأحوال يمكن لها أن تُقبَل بيُسر.
وباختزالها إلى ما هو جوهريّ، يمكن أن تُختَصَر بفرضيّتين أساسيّتين:
إن الانفعال ليس إلا الوعي لكل الظواهر العضويّة (الخارجية والداخلية) التي ترافقه (أي ترافق الوعي) والتي تُعتبَرُ على العموم كنتائج له. وبتعبيرٍ آخر فإن ما يعتبره الحسُّ المشترك كنتائجَ  للانفعال، هو سببٌ لهذا الانفعال.
2ـ يختلف انفعالٌ عن انفعال آخر حسب كمّية ونوعيّة هذه الحالات العضويّة، وحسب تكويناتها المختلفة، وهي ليست إلا التعبير الذاتي لهذه الأشكال المختلفة من التركيب.
يقول لانج بأننا لكي نعالج موضوعاً بشكلٍ علميّ، يجب أن نهتمّ بإشارات موضوعيّة: إن دراسة الضوء لم تصبح علمية إلا حين اكتشف نيوتن خاصيّةً موضوعيّةً، هي خاصّية انكسار أطياف الضوء. فلنقُم بنفس الشيء في ما يتعلق بالانفعال، وهذا أمرٌ ممكن.
كل واحد من الانفعالات يمكن ترجمته إلى إشارات ومواقف وظاهرات عضويّة نخطئ إذا اعتبرناها ثانويّةً وتابعة تأتي لاحقاً: فلندرس هذه الانفعالات، وهكذا سنستبدل بالاستبطان (أي المعرفة الداخلية) سياقاً موضوعياً في البحث.
وكما أنه من المناسب أن نبدأ بالبسيط، فإن المؤلِّف اهتم بـ "بعض الانفعالات الأكثر وضوحاً  والأكثر تمايزاً، كالفرح والخوف والحزن والغضب والخجل والتوقّع (الانتظار)"، ويتحاشى النظر في "تلك الانفعالات حيث الوقائع الجسديّة قليلة البروز وقليلة القبول".
اتباعاً لوصفٍ دقيق للانفعالات المذكورة أعلاه وأعراضها الجسديّة، أحيل إلى المرجع المذكور.
من خلال التعميم، نرى بأن الظاهرات الموصوفة يمكن إرجاعها إلى مجموعتين:
1ـ تبدلات في التعصيبات العضليّة: فهي تضعف في حالتيّ الخوف والحزن، وتقوى في حالات الفرح والغضب والإلحاح.    
2ـ تبدلات في الأوعية الدموية الحركيّة: انقباض في حالتيّ الخوف والحزن، وتمدّد في حالتيّ الفرح والغضب.
هل لهاتين المجموعتين نفس الأهميّة؟ هل هما أوّليتان بنفس المستوى، أم أن إحداهما تابعةٌ للأخرى؟
يقول لانج أنه بقدر ما يسمح الوضع الحالي لمعارفنا لنا بالإجابة، فإن تبدلات الأوعية الدمويّة يجب أن تكون هي الأولى، وأدنى تغيرات في تدفّق الدم يعدّل بعمق وظائف الدماغ والنخاع الشوكي.
ما دلالة كل هذا بالنسبة للانفعالات؟
حسب السيكولوجيا الشائعة..





ريبو:

الانفعال لا تسبق الحركة.
الانفعال يأتي لاحقاً كوعي لحالة الاضطراب العضوية والحركيّة.
إن الملاحظة الداخلية، مهما كانت حاذقة، لا تستطيع إلا وصف الواقعة الداخلية وأن تسجل تبايناتها؛ بينما هي تبقى صامتةً في ما يخص شرروط وأصل الانفعال. إنها لا تدرك إلا ميلاً دون جسد، أي تجريداً.
ليس هناك أي ظاهرة للحياة النفسية، دون أن نستثني الإدراك الحسي، ترتبط عن قرب بالشروط البيولوجية أكثر من الانفعالات.
إن جدارة جيمس ولانج الكبرى هي في إثباتهما، في وقت واحد وبشكل مستقل أحدهما عن الآخر، الأهمّية الكبيرة للعوامل الفيزيولوجية في عمليّة الانفعال.
ليس في نيّتي أن أعرض مطوّلاً فكرة هذين المؤلّفين رغم أنها المساهمة الأكثر أهمّية في سيكولوجيا الانفعالات منذ زمن طويل.
لقد بدأت هذه الفكرة تصبح معروفةً بقوّة، وهي في كل الأحوال يمكن لها أن تُقبَل بيُسر.
وباختزالها إلى ما هو جوهريّ، يمكن أن تُختَصَر بفرضيّتين أساسيّتين:
1ـ إن الانفعال ليس إلا الوعي لكل الظواهر العضويّة (الخارجية والداخلية) التي ترافقه (أي ترافق الوعي) والتي تُعتبَرُ على العموم كنتائج له. وبتعبيرٍ آخر فإن ما يعتبره الحسُّ المشترك كنتائجَ  للانفعال، هو سببٌ لهذا الانفعال.
2ـ يختلف انفعالٌ عن انفعال آخر حسب كمّية ونوعيّة هذه الحالات العضويّة، وحسب تكويناتها المختلفة، وهي ليست إلا التعبير الذاتي لهذه الأشكال المختلفة من التركيب.
يقول لانج بأننا لكي نعالج موضوعاً بشكلٍ علميّ، يجب أن نهتمّ بإشارات موضوعيّة: إن دراسة الضوء لم تصبح علمية إلا حين اكتشف نيوتن خاصيّةً موضوعيّةً، هي خاصّية انكسار أطياف الضوء. فلنقُم بنفس الشيء في ما يتعلق بالانفعال، وهذا أمرٌ ممكن.
كل واحد من الانفعالات يمكن ترجمته إلى إشارات ومواقف وظاهرات عضويّة نخطئ إذا اعتبرناها ثانويّةً وتابعة تأتي لاحقاً: فلندرس هذه الانفعالات، وهكذا سنستبدل بالاستبطان (أي المعرفة الداخلية) سياقاً موضوعياً في البحث.
وكما أنه من المناسب أن نبدأ بالبسيط، فإن المؤلِّف اهتم بـ "بعض الانفعالات الأكثر وضوحاً  والأكثر تمايزاً، كالفرح والخوف والحزن والغضب والخجل والتوقّع (الانتظار)"، ويتحاشى النظر في "تلك الانفعالات حيث الوقائع الجسديّة قليلة البروز وقليلة القبول".
اتباعاً لوصفٍ دقيق للانفعالات المذكورة أعلاه وأعراضها الجسديّة، أحيل إلى المرجع المذكور.
من خلال التعميم، نرى بأن الظاهرات الموصوفة يمكن إرجاعها إلى مجموعتين:
1ـ تبدلات في التعصيبات العضليّة: فهي تضعف في حالتيّ الخوف والحزن، وتقوى في حالات الفرح والغضب والإلحاح.    
2ـ تبدلات في الأوعية الدموية الحركيّة: انقباض في حالتيّ الخوف والحزن، وتمدّد في حالتيّ الفرح والغضب.
هل لهاتين المجموعتين نفس الأهميّة؟ هل هما أوّليتان بنفس المستوى، أم أن إحداهما تابعةٌ للأخرى؟
يقول لانج أنه بقدر ما يسمح الوضع الحالي لمعارفنا لنا بالإجابة، فإن تبدلات الأوعية الدمويّة يجب أن تكون هي الأولى، وأدنى تغيرات في تدفّق الدم يعدّل بعمق وظائف الدماغ والنخاع الشوكي.
ما دلالة كل هذا بالنسبة للانفعالات؟


بالنسبة لعلم النفس الشائع، إن حالة انفعالية خاضعة للتحليل يتم تفكيكها كالآتي:
أولاً، توجد الحالة الذهنية: فكرة أو إدراك حسي كنقطة انطلاق (خبر سيّء أو ظهور أمرٍ مخيف، أو تلقي إهانة).
يليها ثانياً، حالةٌ عاطفية، أي الانفعال: الحزن أو الغضب أو الخوف.
ثالثاً، يلي ذلك الحالات العضوية والحركات الناتجة عن هذا الانفعال.
لكن الانفعال مفهوماً على هذا النحو ليس إلا جوهراً وفرضيّة محضة.
والحال هذه، فإن الفرضيّة لتكون مقبولةً مطلوبٌ منها أن تفسّر كل الظواهر وأن تكون ضرورية لذلك [أي أنه لا يمكن تفسير هذه الظواهر دون اللجوء إلى هذه الفرضيّة]. وليس هذا هو واقع الحال. 
في الحياة العادية كما في الحالات المرضية، توجد انفعالات لا تصدرعن أية فكرة، بل على العكس من ذلك فهي التي تخلق هذه الأفكار: الخمرة تخلق البهجة، والكحول تخلق الشجاعة، وبعض الجذور تسبب انحطاطاً يشبه ذلك الناجم عن الخوف، وحشيشة الكيف تنتج الحماسة، والاستحمام يجلب الهدوء..
إن المصحات العقلية مليئة بالمرضى الذين يعانون من السوداوية والقلق والسخط "من دون سبب". أي هي غير ناتجة عن أيّ إدراك حسيّ أو صورة. وهنا نصل إلى السبب الحقيقي لذلك: إنه التأثير الفيزيائي.
فلنتخلص إذاً من الفرضية غير المفيدة التي تقول بالجوهر النفسي والتي تعتبر بأن الانفعال يأتي ليتموضع بين الإدراك الحسي أو الفكرة وبين الأحداث الفيزيولوجية.
ولنقلب الترتيب المقبول من قبل العامّة ولنقل: تأتي الحالة الذهنية أولاً، ثم تحدث الاضطرابات العضوية والحركية، ثم يأتي وعي هذه الاضطرابات الذي يشكل الحالة النفسية التي نسميها الانفعال.

(ترجمة عن كتاب ريبو "سيكولوجيا الأحاسيس" ص: 95ـ 96.)


وبطريقة مختلفة وحججٍ مختلفة، فإن وليم جيمس يدافع عن نفس الفكرة: "إن الانفعال هو هذه التبدلات الجسديّة التي تلي الإدراك الحسّي مباشرةً، يضاف إليها وعينا لهذه التبدّلات، كما يتم حصولها".
على الضد من الحس المشترك، يجب القول: لأننا نبكي فإننا حزينون. ولأننا نضرِب فإننا نشعر بالغضب. ولأننا نرتجف فإننا نخاف.
فلنُلغِ في حالة الخوف خفقان القلب، والتنفس اللاهث، والارتجاف والضعف العضلي والحالة الخاصة للأحشاء..
ولنُلغِ في حالة الغضب غليانَ الصدر، واحتقان الوجه، وتوسّع فتحات الأنف  وصرير الأسنان والصوت المرتج  والميول الاندفاعيّة.
ولنلغِ في حالة الحزن البكاءَ والتنهدات والنحيب والاختناق والقلق.. فماذا سيتبقى؟ حالةٌ ذهنيّةٌ صرف، باهتة وباردة ودون لون.
إن انفعالاً مجرّداً من جسديّته هو لا وجود.



الانفعالات عند ريبو: بين العاملين النفسي والجسدي.
"من الواضح أن كاتبينا [جيمس و لانج] يضعان نفسيهما، بوعي أو بلاوعي داخل وجهة النظر الثنائية [فكر/مادة]، تماماً مثل الرأي السائد الذي يحاربانه [في إشارة إلى الثنائية بين الفكر والمادة التي أحياها ديكارت بقوّة]. والفارق الوحيد هو في هذا التداخل ما بين السبب والنتيجة.
فالانفعال هو السبب، والتمظهرات الجسديّة هي النتيجة حسب البعض.. 
بينما يرى الآخرون بأن التمظهرات الجسديّة هي السبب، والانفعال هو النتيجة.
بالنسبة لي، هناك فائدة كبيرة في أن نستبعد من المسألة كل مفهوم للسبب والنتيجة، وكل علاقة سببيّة، وأن نستبدل بهذه الثنائية مفهوماً واحديّاً..
إن الصيغة الأرسطية عن المادّة والصورة تبدو لي ملائمة بشكلٍ أفضل. ونقصد بـ "المادة" الوقائع الجسديّة، وبـ "الصورة" الحالة السيكولوجية المناظرة.
إن الطرفين بالمقابل [المادة والصورة، أو الانفعال وتمظهراته الجسديّة]، لا يتواجد واحدهما إلا من خلال الآخر ولا يمكن الفصل بينهما إلا على شكل تصوّرٍ تجريدي."
(عن كتاب "la psychologie des sentiments" ص: 113)


الميول والسلوك (نظرية ريبو)
في كتابه “علم نفس الأحاسيس”، يعتبر ريبو أن الميل إما أن يكون حركة وإما أن يكون إيقافًا لحركة ناشئة. ويقرر ريبو أن الميول هي ظواهر أولية تتأسس عليها الحياة العاطفية. بالتالي فإن كلمة ميل ليس لها أي محمول غيبي أو غامض بل هي تعبر بوضوح تام عن السبب المنتج للمجال العاطفي عند الإنسان.
وفي محاولته إعطاء الميل مزيدًا من الوضوح يعمل ريبو إلى ردّه إلى آلية فيزيولوجية ترتسم على ملامح الوجه وأطراف الجسد. فالميل هو حالة تَوثُّب وتهيؤ للحركة قبل حصولها بالفعل. فالحيوان المفترس الذي يُمزق فريسته بأنيابه ينفذ ميلاً. كما أن هذا الحيوان عندما يستعد للهجوم على فريسته يرسم حركة الهجوم في جسده قبل التنفيذ.
ومن خلال هذا المنظور نفسه فإن مجموع الحركات المتكررة التي تشكل عادة من العادات يمكن أن تنقلب إلى ميل. فالمحاولات الأولى الفاشلة التي يقوم بها المدمن على التدخين أو المدمن على شرب الكحول، هي التي تؤدي بفعل التكرار إلى ولادة بعض الميول العضوية والحاجات الجديدة.
تقويم هذه النظرية: الحاجات والميول.
لو كانت الميول مجرد حركات، فستكون حركاتنا كلها ميولاً، وهذا مرفوض. فهناك حركات نفعلها اضطراراً. لذلك فإن الحركات المكررة لا تكفي لتوليد ميول. فالمعلوم لدى الجميع أن العادات ليست ميولاً. فالتلميذ لا يكتسب ميلاً لسلوك طريق المدرسة خلال عطلته الصيفية وخلال أيام الآحاد.
إذًا من الخطأ الاعتقاد بأن العادة تزيد من قوة الميل؛ وجُل ما في الأمر أن العادة تسهل الأفعال وتجعلها آلية من دون أن تزيد في قوة الميل ذاته.
إن تكرار الأفعال لا يولد ميولاً، كما أن هناك أفعالاً لا ترتبط بميول، فقد ميّز “برادين Pradines” بين نمطين من الميول: الميل إلى والميل نحو، فالنمط الأول ليس ميلاً في الحقيقة، لأنه لا يحمل هدفًا إلى موضوع، بل هو مجرد انعكاس آلي كمن يسحب يده لتلافي جسم حارق.
فلا وجود للميول إلاّ عندما نهدف إلى الحصول على غرض معين. وبذلك فإن الميل حسب تعبير “برادين” يعبّر عن نقص في الكائن لا يمكن سدّه إلاّ بالحصول على غرض خارجي هو الإشباع.
ومن هذا المنطلق يعتبر “برادين” أن الميول الغذائية والجنسية والاجتماعية هي الميول الأساسية.
(منقول)

 عن صفحة مداولات 14 تموز

درس الميول
تمثال كوندياك
عن قصة الحضارة لـ ول ديورانت
لقد وضح كوندياك هذه الدعوى بمقارنة مشهورة ربما نقلها عن بوفون، ولكنه نسب
الفضل فيها إلى "مصدر وحيه" المتوفاة، وهي الآنسة فيران التي أوصت له بميراث طوقت به عنقه. فصور لنا تمثالا من الرخام" نظم باطنه على غرارنا، لكن يحركه عقل تجرد من جميع الأفكار"(133). وهو لا يملك غير حاسة واحدة هي حاسة الشم، وفي استطاعته التمييز بين اللذة والألم. ثم عمد إلى أن يبين كيف يمكن أن تستقى جميع ألوان التفكير من أحاسيس هذا التمثال. فالحكم، والتأمل، والرغبات، والانفعالات، الخ ليست غير أحاسيس تغيرت على أشكاله مختلفة(134). فالانتباه يولد مع الإحساس الأول، ويأتي الحكم مع الثاني، مما يولد المقارنة مع الأول. والتذكر إحساس ماض أحياه إحساس حاضر أو تذكر آخر. والخيال ذكرى تتصور أو تربط. والرغبة في الشيء أو النفور منه هي التذكر النشيط لإحساس لذيذ أو كريه. والتأمل هو تناوب الذكريات والرغبات. والإرادة رغبة قوية يرافقها فرض بأن الهدف ممكن بلوغه. والشخصية، أو الأنا، أو التنفس، لا وجود لها أول الأمر؛ فهي تتخذ لها شكلا بوصفها جماع ذكريات الفرد ورغباته(135). وهكذا، من حاسة الشم وحدها-أو من أي حاسة أخرى غيرها- يمكن أن تستنبط جميع عمليات الذهن تقريباً. فإذا أضفنا أربع حواس أخرى، كون التمثال له ذهناً معقداً.
كل هذا كان جهداً ضخماً طريفاً، أثار ضجة كبرى بين رجال الفكر في باريس. ولكن النقاد لم يعسر عليهم أن يثبتوا أن طريقة كوندياك كان فيها من الاستنباط والفروض ما في غيرها من مذاهب الفلسفة، وأنه تجاهل مشكلة الوعي تجاهلا تاماً؛ وأنه لم يبين لنا كيف نشأت الحساسية الأصلية. فالتمثال الحساس وإن اقتصرت حواسه على الشم، ليس بتمثال، إلا أن يكون ذلك الوجيه الذي قال ترجنيف في وصفه إنه يقف في كبرياء كأنه أثر لذكراه أقيم بالاكتتاب العام.
وفي 1767 عين كوندياك مدرساً خاصاً للطفل الذي أصبح فيما بعد دوق بارما. فأنفق السنين التسع التالية في إيطاليا وألف لتلميذه سبعة عشر مجلداً نشرت في 1769-73 باسم "خطط دراسية". وهي رفيعة المستوى،


كوندياك حياته ومذهبه
المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا
الفصل الأول: كوندياك "1715-1780"
79-
حياته ومصنفاته:
قسيس لم يزاول مهام الكهنوت قط، وإنما قرأ الفلاسفة المحدثين، وخالط معاصريه منهم، واعتنق مذهب لوك، فكان زعيم الحسية في وطنه. عرض هذه الحسية في كتابه "محاولة في أصل المعارف الإنسانية" "1746" وأتبعه بآخر عنوانه "كتاب المذاهب" "1749" نقد فيه مذاهب ديكارت ومالبرانش وسبينوزا وليبنتز وغيرهم من المعتمدين على العقل وحده، فلا يهتدون إلى الحق، بل لا يتفقون فيما بينهم، فالامتداد عند ديكارت جوهر، وعند سبينوزا عرض، وعند ليبنتز معنى متناقض، ثم نشر كتابه المعروف "في الإحساسات" "1754" يفصل فيه الكتاب الأول. وألحق به كتاب "الحيوان" "1755" يبين فيه نشوء قوى الحيوان والفرق بينه وبين الإنسان. وفي 1768 انتخب عضوًا بالأكاديمية الفرنسية خلفًا لقسيس آخر، والواقع أن أسلوبه رشيق واضح. وبعد وفاته نشر له كتاب في "المنطق" لا على الطريقة المدرسية، ولكنه عبارة عن ملاحظات ونصائح في تدبير الفكر، وكتاب في "لغة الحساب" لم يتمكن من إتمامه، وكان يقصد به إلى بيان الطريقة التي يمكن بها صوغ جميع العلوم، ومنها الأخلاق والميتافيزيقا، بمثل ما للرياضيات من دقة.
80-
مذهبه:
أ- يذهب كوندياك في الحسية إلى أبعد من لوك، فإنه يقصر التجربة
على الإحساس الظاهري، ويستغني عن "التفكير" كمصدر أصيل للمعرفة، فيدعي أن أي إحساس ظاهري يكفي لتوليد جميع القوى النفسية. ولبيان ذلك يفترض "في كتاب الإحساس" تمثالًا حيًّا داخل تمثال من رخام، ويقول: إذا كسرنا الرخام في موضع الأنف أتحنا للتمثال الحي القدرة على استخدام حاسة الشم، وهي الحاسة المعتبرة أدنى الحواس، فعند أول إحساس يوجد شيء واحد في شعور التمثال، هو رائحة وردة مثلًا، ويكون شعوره كله هذه الرائحة، أو أية رائحة أخرى تعرض له. ومتى كان له إحساس واحد ليس غير، كان هذا هو الانتباه. ولا ينقطع الإحساس بالرائحة بانقطاع التأثير، ولكنه يبقى, وبقاؤه هذا مع حدوث رائحة جديدة هو الذاكرة. وإذا وجه التمثال انتباهه إلى الإحساس الحاضر والإحساس الماضي جميعًا، كان هذا الانتباه المزدوج المقارنة أو المضاهاة. وإذا أدرك بهذه المضاهاة المشابهات والفوارق، كان الحكم الموجب والحكم السالب. وإذا تكررت المضاهاة وتكرر الحكم، كان الاستدلال. وإذا أحس التمثال إحساسًا مؤلمًا فتذكر إحساسًا لاذًّا، كان لهذه الذكرى قوة أعظم وكانت المخيلة, وتلك هي القوى العقلية. أما القوى الإرادية فتتولد من الإحساس باللذة والألم, ذلك بأنه إذا تذكر التمثال رائحة لذيذة وهو منفعل بإحساس مؤلم، كان هذا التذكر حاجة، ونشأ عنه ميل هو الاشتهاء, وإذا تسلط الاشتهاء كان الهوى. وهكذا يتولد الحب والبغض والرجاء والخوف, ومتى حصل التمثال على موضوع شهوته كان الرضا. وإذا ما ولدت فيه تجربة الرضا عادة الحكم بأنه لن يصادف عقبة في سبيل شهوته تولدت الإرادة، فما الإرادة إلا شهوة مصحوبة بفكرة أن الموضوع المشتهى هو في مقدورنا.
ب- على أن التمثال، وقد حصل على جميع قواه، لا يعلم أن العالم الخارجي موجود، بل لا يعلم أن جسمه موجود، من حيث إن إحساساته انفعالات ذاتية ليس غير. فكيف يصل إلى إدراك المقادير والمسافات؟ وكيف يدرك أن شيئًا موجودًا خارج عنه؟ هاتان مسألتان يجب التمييز بينهما، والفحص عن كل واحدة على حدة، وهما موضوع القسم الثاني والقسم الثالث من كتاب الإحساسات. فعن المسألة الأولى يقر كوندياك رأي لوك أن الأكمه الذي
يستعيد البصر لا يميز لفوره بين كرة وبين مكعب كان يعرفهما باللمس، إذ إن اللمس هو الذي يدرك الأشكال أولًا، ويدركها البصر بفضل علاقاته باللمس، ثم لا تعود به حاجة إلى تذكر الإحساسات اللمسية التي كانت مساعدة له، خلافًا لما يذهب إليه باركلي. وعن المسألة الثانية قال كوندياك في الطبعة الأولى لكتاب الإحساسات: إن معرفة "الخارجية" ترجع إلى تقارن الإحساسات اللمسية، مثل أن يحس التمثال في آن واحد حرارة في إحدى الذراعين وبرودة في الأخرى وألمًا في الرأس. وعاد فقال في الطبعة الثانية "1778": إن إحساسات لمسية بمثل هذا الغموض يمكن أن تتقارن دون أن تتخارج، وإن فكرة الخارجية تنشأ من المقاومة التي نصادفها في حركتنا, وبذلك نضيف جسمنا إلى أنفسنا ونميز بينه وبين سائر الأجسام. ولما كان اللمس يدرك القرب والبعد، فإن اختلاف إحساسات الروائح والأصوات والألوان في القوة يوحي إلى التمثال بأن هذه الإحساسات ليست مجرد أحوال باطنة، ولكنها صادرة عن أشياء خارجية؛ وبذلك نرجع أحكام الخارجية إلى إحساسات ليس غير.
ج- وللتمثال المقصور على الشم -كما تقدم- القدرة على تجريد المعاني وتعميمها؛ فإنه إذ يميز بين الحالات التي يمر بها يحصل على معنى العدد؛ وإذ يعلم أنه يستطيع ألا يبقي الرائحة التي هو إياها وأن يعود ما كان، يحصل على معنى الممكن؛ وإذ يدرك تعاقب الإحساسات يحصل على معنى الزمان؛ وإذ يتذكر جملة الإحساسات التي ينفعل بها يحصل على معنى الشخصية, وأما المعنى الكلي فهو جزء من المعنى الجزئي، ولا حقيقة له إلا في الذهن، وما هذه الحقيقة إلا لفظ أو اسم. ليس في الطبيعة ماهيات وأنواع وأجناس، وإنما تعبر الألفاظ الكلية عن وجهات نظر الذهن حين يدرك ما بين الأشياء من مشابهات وفوارق. ومتى لم يكن في الطبيعة ماهيات كان الحد لغوًا ووجب الاستعاضة عنه بالتحليل: "معانينا إما بسيطة أو مركبة؛ البسيطة لا تحد ولكن التحليل يكشف لنا عن أصلها وطريقة اكتسابها. والمعاني المركبة لا تعلم إلا بالتحليل؛ لأنه هو وحده الذي يبين لنا عناصرها". ومتى لم تكن المعاني المجردة إلا ألفاظًا, لم يكن هناك سوى وسيلة واحدة لتخيلها. تلك هي إجادة وضع اللغة؛ فإنه إذا لم يكن لدينا أسماء لم يكن لدينا معانٍ مجردة، فلم يكن
لدينا معاني أجناس وأنواع، فلم نستطع الاستدلال. ففن الاستدلال يرجع كله إلى أحكام الكلام, وليس الاستدلال تأديًا من الكلي إلى الجزئي ولكنه "حساب" يتأدى من الشيء إلى الشيء نفسه بتغير الإشارات الدالة, ومثله الأعلى استدلال الجبر الذي ترجع إليه سائر أنواع الاستدلال. "وهذا معناه رد القضية إلى معادلة، وتتصل هذه المحاولة بمحاولات ريمون لول وليبنتز وأصحاب المنطق الرياضي فيما بعد".
د- وهكذا بدل أن يفسر كوندياك الأفعال بالقوى والانفعالات بالميول، يجعل الميول تصدر عن الانفعالات، ويجعل القوى عادات الأفعال، وما يسمى غريزة ثمرة التجربة الشخصية، أو عادة ولدها التفكير، أو "عادة خلت من التفكير الذي ولدها". ولما كان أفراد النوع الواحد تحس نفس الحاجة فتعمل لنفس الغاية بنفس الأعضاء، كانت للنوع نفس العادات أو الغرائز، وكانت جميع المعاني وجميع قوى النفس "إحساسات محولة".
هـ- بيد أن كوندياك لم يكن ماديًّا، فإنه إذ يعتبر الإحساس ظاهرة أصيلة, يرى في الظواهر الجسمية التي يجعلها الماديون علة له مجرد "مناسبات" لظهوره. وهو يعارض لوك معارضة صريحة في افتراضه أن مادة معينة قد تكون حاصلة على قوة التفكير، فيقول: إن المفكر يجب أن يكون واحدًا، وليس للمادة وحدة ولكنها كثرة. ويعترف للإنسان بنفس روحية عاقلة خالدة، ويضعه فوق الحيوان لأنه يميز الحق، ويحس الجمال، ويخلق الفنون والعلوم، ويدرك مبادئ الأخلاق، ويصعد إلى الله. ولكن كوندياك يذهب مذهب بعض مفكري العصر الوسيط ويقول: إن الحسية حال الإنسان بعد خطيئة آدم، وإن آدم كان قبل خطيئته يعقل بدون وساطة الحواس؛ لأن النفس الإنسانية عاقلة بذاتها، وستعود إلى التعقل في الحياة الآجلة. وهو يدلل على خلود النفس بأنها خلقية, وأنها لا تلقى في الحياة العاجلة ما يناسب أفعالها من ثواب وعقاب. ويدلل على وجود الله بدليل العلة الفاعلية، ودليل العلة الغائية. وسواء أكان مخلصًا في هذا القسم من أقواله أم لم يكن، فقد كان أثره الخاص إذاعة المذهب الحسي في وقت اشتدت فيه الحملة على الدين والفلسفة السلفية، كما سنرى فيما يلي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق