الخميس، 3 أغسطس 2017

الحقيقة والواقع عند [بعض] الفلاسفة.




الحقيقة والواقع عند [بعض] الفلاسفة.



الفيلسوف الفرنسي لالاند Lalande. يحدد هذا الفيلسوف المعنى الفلسفي لمفهوم الحقيقة في خمس دلالات هي : ·
الحقيقة هي خاصية كل ما هو حق. ·
الحقيقة هي القضية الصادقة. ·
الحقيقة هي ما تمت البرهنة عليه. ·
الحقيقة هي شهادة الشاهد الذي يتكلم عما رآه أو ما سمعه … ·
الحقيقة هي الواقع.
 من خلال ما قدمه لالاند يتبين أن مفهوم الحقيقة في دلالته الفلسفية العامة يتأرجح بين عدة مدلولات. وهذا ما يتيح لنا فرصة طرح الإشكالية الفلسفية لهذا الدرس، والتي يمكن التعبير عنها بواسطة التساؤلات التالية :
ما هي علاقة الحقيقة بالواقع؟ ما هي أنواع الحقيقة؟ فيم تكمن قيمة الحقيقة؟

2.الحقيقة والواقع: قبل استعراض بعض من النماذج الفلسفية التي تعالج هذه الإشكالية، نتوقف عند مفهوم الواقع لشرح دلالته الفلسفية. إن مفهوم الواقع يتحدد فلسفيا في عدة معان :
فقد يقصد به كل ما هو تجريبي عيني وقابل للإدراك الحسي المباشر.
وقد يفيد وجودا أنطولوجيا معقولا يفرض نفسه على الذهن…
هكذا يتأرجح مفهوم الواقع في دلالته الفلسفية بين ما هو عقلي وما هو مادي حسي، ومن ثمة نستطيع القول بأن الواقع فلسفيا يفيد كل معطىً موضوعي يوجد خارج الذات، ويتميز باستقلاله عنها. إن هذا التحديد لمفهوم الواقع سيسهل علينا معالجة العلاقة بين الحقيقة والواقع. ومن أجل بلوغ هذا الهدف فإننا سنقارب هذه الإشكالية من خلال محورين :
الحقيقة بما هي واقع،
 والحقيقة بما هي مطابقة الفكر للواقع.
1.2 الحقيقة بما هي واقع لما كانت الحقيقة عند بعض الفلاسفة مرادفا لما هو ثابت ومستقر ؛ فإننا نصادف عدة طروحات حول الحقيقة بما هي واقع.
** عند افلاطون:
 أفلاطون يميز أنطولوجيا بين عالمين: عالم المحسوسات، وعالم المثل.
أما الأول فهو عالم مادي محسوس متغير، زائف، وناقص. وموجوداته هي بمثابة ظلال وأشباح لموجودات عالم المثل. وهذا الأخير، عالم معقول، ثابت كامل، وفيه توجد النماذج العليا لكل الموجودات. والعلاقة بين العالمين هي علاقة حقيقة بخيال (أو شبح). فالحقيقة يجسدها عالم المثل، ومن هنا تكون المعرفة الحق –في نظر أفلاطون – هي إدراك عالم المثل في صورته المطلقة بواسطة الجدل الصاعد أي ذلك المجهود الفكري الذي ينتقل بنا من الأدنى إلى الأعلى، من الحسي إلى المجرد، ويخلصه من أوهام المعرفة الحسية.
أما أرسطو::
فيختلف مع أستاذه أفلاطون في الاعتقاد بوجود حقيقة ثابتة مفارقة لهذا العالم. فكل شيء – في نظر أرسطو – في هذا العالم عبارة عن جوهر (ماهية) وصورة. والجوهر هو الحقيقة الثابتة التي على المفكر أن يصل إليها وأن يدركها في شكلها المطلق. لكن ذلك لن يتم إلا من خلال التمثل الحسي للصور. فمعرفة الصورة تساعد على معرفة الجوهر، لأن الحسي هو الطريق إلى المجرد والمعقول، شرط أن نعرف أن الحقيقة لا تتاح كاملة إلا بتجاوز الحسي.
إن هذا الهاجس هو الذي جعل ديكارت لا يعترف بقيمة المعرفة الحسية؛ فجعل من الشك الطريق الأساسي لبلوغ الحقيقة. هكذا شك ديكارت في كل المعارف الموروثة، وفي المعرفة الحسية. واعتبر أن الحقيقة من إنشاء العقل نفسه. فالحقيقة هي ما ينتهي إليه الشك. وعلى هذا الأساس، لا يكون الحقيقي إلا ما هو واضح وبديهي ومتميز. [لكن هل البرهان على وجود الله عند ديكارت يعتمد على البداهة والتميّز؟] أو بتعبير آخر، إن معايير الحقيقة تتلخص في البداهة والوضوح والتميز.
وديكارت ::
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم الكوجتو الديكارتي : “أنا أفكر أنا إذن موجود “. فخاصية التفكير هي حقيقة الوجود البشري وإذا توقف الإنسان عن التفكير توقف عن الوجود.
من خلال المقارنة بين الأطروحات الثلاث نستطيع أن نخلص إلى ما يلي: هناك أطروحات تؤكد أن الحقيقة هي واقع أنطولوجي معقول يوجد خلف المدارك الحسية (أفلاطون وأرسطو)، إلا أن هذا الواقع في اعتقاد أفلاطون مفارق للعالم الحسي، وهو في اعتقاد أرسطو محايث له (= متصل به). أما ديكارت فيختلف عن الفيلسوفين، لأن الحقيقة، في نظره، غير موجودة في الواقع لأنها بناء عقلي يتم من خلال عملية الشك. [؟] هكذا يكون الفكر هو الذي يحتضن الحقيقة، ولا وجود لحقيقة خارج الفكر.
2.2 الحقيقة بما هي مطابقة الفكر للواقع
إذا اعتبرنا الحقيقة بناء عقليا مجردا وتمثلات ذهنية متجاوزة للإدراك الحسي ؛ فإننا نجد الأطروحتين، الأفلاطونية والأرسطية، تعتبران الحقيقة بناء فكريا يتجلى في تمثل واقع موضوعي مفارق للواقع المادي الحسي (أفلاطون) أم محايث له (أرسطو) … إلا أن الأمر مختلف مع ديكارت، فدعوة هذا الفيلسوف إلى تجاوز المعرفة الحسية لا تعني بالضرورة تجاوز العالم المادي إلى واقع غيبي ميتافزيقي. وهنا تتوالى عدة تساؤلات : كيف يمكن التحقق من مطابقة الفكر للواقع، رغم غياب الاعتماد على التجربة الحسية؟ ما الذي يضمن صدق البداهات العقلية؟ للإجابة على هذه الأسئلة لجأ ديكارت إلى فكرة الضمان الإلهي، مؤكدا أن طيبوبة الله واتصافه بالكمال يحولان دون وقوع العقل في الخطأ. ومن ثمة ما يبدو للعقل أنه يقيني، فهو كذلك.
وقد أتت الأطروحة الكانطية كأطروحة نقدية لمثل هذه التصورات.
فاعتبرت الحقيقة بناء عقليا يتم بتضافر العقل والحواس، فالحواس تمد العقل بمادة المعرفة، والعقل يوظف مقولاته القبلية لإعطاء هذه المادة صورا إبستيمية. وهكذا يبين كانط أن الحقيقة ليست على نحو جاهز لا في الواقع ولا في الفكر، وإنما الحقيقة تفاعل دياليكتيكي بين معطيات التجربة والمفاهيم العقلية. ومهما بلغت درجة معرفتنا، فإنها ستظل نسبية ما دمنا نجهل حقيقة النومين والأمور الميتافزيقية.
أما مارتن هيدجر M. Heidegger ،
فقد حاول أن يتجاوز أطروحات الفلسفة التقليدية حول المطابقة بأن تساءل حول الكيفية التي يمكن أن تكون بها الحقيقة استنساخا للواقع وترجمة أمينة له!؟! فالتطابق لا يمكن أن يكون إلا بين شيئين متماثلين في الشكل والطبيعة، فكيف يمكن أن يكون الفكر مطابقا للواقع وهما مختلفان؟!! لذا يرى هيدجر أن المقر الفعلي للحقيقة ليس هو الفكر (أو المنطوق) لأن الحقيقة انكشاف وحرية. أو بتعبير آخر: الحقيقة هي انفتاح على الواقع واستعداد لاستقباله في الصورة التي ينكشف بها أمام الذات، وهي كذلك تعبير حر للذات في تعاملها مع الواقع، أو كما قال هيدغر: “الحقيقة هي الحرية”. من خلال المقارنة بين التمثلات الفلسفية المعروضة،
يتضح أن الفلاسفة يؤسسون خطابات متعددة حول الحقيقة. وهذا ما يدعو إلى طرح التساؤل الآتي :
ألا يمكن الحديث عن حقائق (بدل الحقيقة الواحدة)؟!!
3. أنواع الحقيقة:
 لعل الاختلاف حول تحديد مفهوم الحقيقة، والتنوع الحاصل في تمثلها بصورة واحدة، هو ما جعل الشكاك المذهبيين يشكون في إمكانية وجود حقيقة. وما غاب عن هؤلاء هو أن الحقيقة لا تنكشف من ذاتها لأنها خطاب يبنى ويتأسس حول منطلقات تختلف باختلاف الظرفية التاريخية والضرورة العقلية التي تفرضها … فمنذ أرسطو ظهرت الحقيقة كضرورة لإقناع الخصم وإفحامه ؛ لهذا تأسست على البرهان. ومن ثمة يكون الحكم الذي يقدم نفسه كحكم صادق، يقدم نفسه في ذات الوقت على أنه حكم أقيم عليه البرهان باعتباره نتيجة استقراء [تام]. فالبرهان هو القوة التي تدعم الحقيقة من الداخل . أما الحقيقة التي تحمل برهانها في ذاتها فإنها تسمى بديهية
غير أن ابن رشد ::
يرى أن الحقيقة الدينية واحدة إلا أنها تتمظهر في صور متعددة نظرا لاختلاف طبائع الناس وتباين فطرهم في التصديق: فهناك من يصدق بالقياس الخطابي، وهناك من يصدق بالقياس الجدلي، وأخيرا هناك من يصدق بالبرهان. ولما كانت الحقيقة الدينية استهدفت كافة الناس فإنها استعملت أشكالا ثلاثة من القياس. وهذا لا يفيد تعدد الحقائق، لأن ذلك يعني فقط تعدد أشكال الخطاب التي يمكن أن تعبر عن نفس الحقيقة. وهذا يفترض أن تتمظهر الحقيقة في صورة الخطاب الذي يؤسسها، ومن ثم يدافع كل واحد على خطابه باعتباره الحقيقة المطلقة.
ولعل تفسير ذلك يوجد عند ميشيل فوكو M. Foucault،
الذي يرى، أن الحقيقة لا توجد خارج السلطة، بل إنها ذاتها هي السلطة لأنها نتيجة إكراهات متعددة. فالسياسة العامة للحقيقة تفرض أن يحدد المجتمع نوع (أو أنواع) الخطابات التي يعتبرها حقيقة. فالحقيقة في المجتمعات المعاصرة – مثلا – تنحصر في الخطاب العلمي .. ومن هذا المنطلق ينتج المجتمع ويحدد الأشخاص والآليات والهيئات التي تسند إليها مهمة الاهتمام بالحقيقة. وهذا ما يفيد أن الطابع المؤسساتي هو الذي أصبح يطغى اليوم على مفهوم الحقيقة: لأن الحقيقة نابعة من مؤسسات وتروّجها وتحميها مؤسسات، تلك المؤسسات التي قسمها ألتوسير Althusser إلى نوعين :
*المؤسسات الأيديولوجية، *والمؤسسات القمعية. إن الطابع المؤسساتي للحقيقة هو الذي يؤدي إلى وجود الصراع حول الحقيقة. مع العلم أن الصراع لا يكون من أجل الحد من سلطوية الحقيقة، وإنما يكون من أجل إبعاد الحقيقة عن أشكال الهيمنة التي يمكن أن تؤسسها خطابات حول الحقيقة. إلا أن استقراء تاريخ الفكر البشري، يؤكد بأن الحقيقة لم تستطع أن تتواجد في معزل عن اللاحقيقة ؛ ونقصد بذلك أضداد الحقيقة التي يمكن تلخيصها في نوعين أساسين : الخطأ والوهم. فالحقيقة العلمية التي تعتبر النموذج الأعلى لليقين لم تستطع أن تعيش في معزل عن الأخطاء. فقد ظلت فكرة مركزية الأرض – مثلا – مهيمنة على العقول إلى أن تم اكتشاف خطئها. ولا تكتشف مثل هذه الأخطاء داخل العلم إلا حينما تصبح عوائق إبستيمولوجية.
لذا قال غاستون باشلار Bachelard :
تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم”. فالحقيقة العلمية، تتقدم بتجاوز العوائق الإبستيمولوجية التي تحملها في ذاتها. أما الوهم فهو أخطر من الخطأ لأنه يصعب اكتشافه بسهولة نظرا لما يحققه من الرغبات الوجدانية والنفعية للإنسان.
وقد أكد فردريك نيتشه*
أن الوهم يتولد عن حاجة الإنسان في أن يوفر لنفسه حياة سلمية وأمينة، لأن أساس الوجود البشري يقوم على الصراع من أجل البقاء (أو كما قال هوبس “حرب الكل ضد الكل”). إلا أن حب البقاء يدفع بالإنسان إلى استخدام العقل من أجل إنتاج الوهم لأن الحقيقة قاتلة. وتعتبر اللغة الأداة الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان في صناعة الوهم لأنه من طبيعة استعارية ومجازية. هكذا يكون الوهم لصيقا بالحياة البشرية لأنه يضمن للإنسان الاستمرار والبقاء. وبناء عليه، يرى نيتشه أن ما يعتقده الناس حقائق (المساواة، التعاون ..إلخ) ويقدسونها، ما هي إلا أوهام تم نسيانها.
4. الحقيقة بما هي قيمة:
 إن المقارنة بين الحقيقة واللاحقيقة (=أضداد الحقيقة) تدعو إلى إقامة التفاضل بينهما، وبالتالي سنجد أن الفكر أميل منطقيا إلى القول بأهمية الحقيقة، ولا أحد يجادل في أن كل الفلاسفة يجمعون على أن السعي وراء الحقيقة فضيلة … وهذا ما يؤكد أن للحقيقة قيمةً تجعل الناس يرومونها. ففيم تكمن ـ إذن ـ قيمة الحقيقة؟ إذا استقصينا تاريخ الفلسفة يتأكد أنه أعطيت للحقيقة قيم متعددة تتأرجح بين قيم فكرية ونظرية، وقيم نفعية وعملية، وقيم أكسيولوجية أخلاقية. وقد تميزت الفلسفة التقليدية في اعتبار الحقيقة غاية في ذاتها وكان الفيلسوف يطلب الحقيقة لذاتها.
وقد حاولت الفلسفة البرجماتية تجاوز هذا التصور التقليدي للحقيقة بتأكيدها أن قيمة الحقيقة تتجلى في كل ما هو نفعي، عملي، ومفيد في تغيير الفكر والواقع معا. يقول وليام جيمس W. James :
يقوم الصادق بكل بساطة في كل ما هو مفيد لفكرنا، والصائب في ما هو مفيد لسلوكنا”. إن الطرح البرجمائي لقيمة الحقيقة تقف أمامه عدة اعتراضات أهمها اعتراضات فلسفية أخلاقية، وأخرى إبستيمولوجية علمية:  (ا) يلاحظ، فلسفيا، أن الإقرار بالقيمة النفعية للحقيقة معناه فسح المجال لاعتبارات لا أخلاقية كالأنانية، والظلم، والتآمر ..إلخ  (ب) يلاحظ أن تاريخ العلم يقصي المنفعة العملية. فلو كان يضعها قيد الاعتبار لما ظهرت النظريات العلمية المعاصرة. ففي الرياضيات، مثلا، لا تظهر المنفعة العملية المباشرة التي تستفاد من النظرية الهندسية للوباشفسكي  Lobatchevski
، لكن لا أحد يستطيع أن يشك في قيمتها العلمية. كنتيجة لذلك، يلاحظ أن الفلسفة البرجماتية (رغم إيجابيتها) لا تستطيع أن تصمد أمام النقد (شأنها شأن أية فلسفة). فقد تأكد منذ سقراط أن الحقيقة غاية في ذاتها، وهذا ما جعل الفيلسوف الألماني كانط يعتبر الكذب رذيلة ولو كان لحماية صديق من مجرمين يودون قتله. فمن يكذب مرة واحدة لمصلحته أو لمصلحة غيره يعتبر مخلا بالواجب الأخلاقي الذي يمكن أن نعتبره واجبا من أجل الواجب. وهذا ما يؤكد أن الحقيقة غاية في ذاتها لذا لا يمكن أن نتعامل معها كملكية فردية
أما الفيلسوف برغسون  Bergson
فإنه يرى أن القيمة الفعلية للحقيقة تتجلى في تجاوز التصور التقليدي لقيمة الحقيقة والذي يحددها في مطابقتها لما كان أو لما هو كائن … فالحقيقة ليست استنساخا لأي شيء، وإنما الحقيقة إعلان لما سوف يكون. فالحقيقة استعداد للمستقبل وتوجه نحوه، وقيمة الحقيقة تكمن في كونها تهيئ لمعرفتنا لاستباق ما سوف يكون. وكتخريج عام لهذا الدرس، يتضح الاختلاف الحاصل في تحديد مفهوم الحقيقة ومدى مطابقتها للواقع، وبالتالي الاختلاف في حصر القيمة الأخلاقية والنظرية للحقيقة. وذلك فعلا ما يؤكد نسبية الحقيقة. ولكننا لا نقصد بذلك ما ذهب إليه كانط في وجود حدود ميتافزيقية للحقيقة؛ وإنما نطرح المسألة في منظورها عند ميشيل فوكو الذي يؤكد أن الحقيقة نتاج اجتماعي. أي أن المجتمع هو الذي ينتج الخطاب الذي يعتبره حقيقة. وبما أن الفلسفة وليدة عصرها، فإن ذلك ما يفسر تعدد الخطابات الفلسفية حول الحقيقة، وغالبا ما تضطر الفلسفة، من أجل تأسيس مفهوم جديد للحقيقة، أن تدخل في صراع مع السلطة المؤسسية للحقيقة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق