الأربعاء، 30 أغسطس 2017

محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا؛ محسن المحمدي.



محاكمة العقل ومأزق الميتافيزيقا

كتب القرنين السابع عشر والثامن عشر الفلسفية عدته غير مؤهل لمعرفة الحقيقة
محسن المحمدي.


يكتشف المتأمل لعناوين الكتب الفلسفية التي هيمنت على القرنين السابع عشر والثامن عشر، أنها، كلها، كانت عبارة عن محاكمة للعقل، وفحص لقدراته، ورسم لحدود إمكاناته في المعرفة. فقبل كتاب ديكارت «مقال في المنهج لحسن قيادة العقل»، كتب فرنسيس بيكون (1561 - 1626)، كتابه «الأرغانون الجديد» أو الآلة الجديدة، التي يجب أن توجه العقل وتزيل أوهامه. وبعد ديكارت، كتب إسبينوزا (1632 - 1677)، كتابًا بعنوان «رسالة في إصلاح العقل وفي أفضل منهج نسلكه لمعرفة الأشياء معرفة صادقة». كما ألف جون لوك (1632 - 1704)، كتابه الذي يعد أول تشريح للعقل البشري بعنوان «محاولة في الفهم البشري». ثم جاء كتاب آخر لفيلسوف استطاع أن يخلف أثرًا كبيرًا على فلسفة كانط ويوقظه من سباته، إنه الفيلسوف ديفيد هيوم (1711 - 1776)، وكان بعنوان «تحقيق في الذهن البشري». وكم لكلمة تحقيق من دلالة هنا. فهذا الكتاب، هو حديث عن الجغرافيا الذهنية، وتحديد لأجزاء العقل وقواه المتمايزة. هو بحث في أصل الأفكار المكدسة في الذهن وعلاقتها بالواقع. وهو محاولة للبرهنة على عجز العقل على الخوض في الموضوعات الميتافيزيقية التي ليس لها جذر في الإحساس. بل هو دعوة لتحطيم كل فلسفة مستغلقة مليئة بالرطانة الميتافيزيقية، لتتوج، في النهاية، هذا المسلسل من التحقيق في العقل، بأشهر محاكمة كان بطلها الحكيم العالمي كانط، بعناوين لكتبه تتضمن كلمة نقد وهي: «نقد العقل الخالص»، و«نقد العقل العملي»، و«نقد ملكة الحكم»، أي نقد للعقل النظري وللعقل الأخلاقي وللعقل الجمالي.
وإذا ما تساءلنا عن السبب الذي أدى إلى الهجوم على العقل، والقول إنه ساقط في الوهم والمزاعم، إلى درجة السذاجة والغفلة، فإن الجواب يكمن في ذلك الزلزال الذي أحدثته الثورة الفلكية الكوبيرنيكية خلال القرن السادس عشر. فبقولها إن الأرض تدور والشمس ثابتة، فهذا يعني مباشرة، أن العالم قد خدع البشرية طوال القرون السابقة. فهو كان يظهر نفسه على شاكلة مضللة ومزيفة، ما خلق أزمة إدراك حسي رهيب، جعل الشك ينتشر في كل شيء، بما فيه حتى العقل وقدراته.
وجراء أزمة الإدراك الحسي، والقول بحقيقة للكون غير مرئية ولا متلائمة مع الحس المشترك، بدأ العمل وبجهد جهيد، على غربلة العقل وتنظيفه. فهو مشحون بالأفكار التي وجب التأكد من مدى حقيقتها. إن هذه العملية ستفضي إلى مأزق خطير، وهو اكتشاف أن العقل يتضمن أفكارًا يمكن الحسم فيها كونيًا، ومعايير صدقها متاحة للعقل. لكن في الوقت نفسه، به أفكار أخرى، ليس للعقل أي سند يسمح له بالقطع بصحتها. فالقضايا الرياضية مثلاً، هي صائبة لدواعٍ عقلية صرف. فخمسة مضروبة في ثلاثة تساوي خمسة عشر. فأنا أعلن صدقها بعملية فكرية، يكفي فيها العقل نفسه بنفسه. كذلك القضايا الفيزيائية، فهي ممكنة الحسم بوضعها في محك التجربة. فعندما أردد فكرة كون الحديد يتمدد بالحرارة، فهي صائبة لدواعٍ تجريبية. إذن عقلنا البشري له معياريان أساسيان للبث في مسألة الحقيقة: معيار عقلي صرف في علوم الهندسة والجبر، ومعيار آخر تجريبي في العلوم الطبيعية. فأن أقول لك: «إن الشمس لن تشرق غدًا»، فإنك لن تتمكن من الطعن في كلامي، ولا أن تضعه في تناقض. فالخيار الوحيد المتبقي لك، هو انتظار التجربة قصد التكذيب. لكن ما القول في الأفكار التي لا تخضع لهذين المعيارين، وهي القضايا الغير محسوسة المسماة ميتافيزيقية (كالله والنفس والعالم)؟ يقول الفيلسوف ديفيد هيوم بشأنها، كلامًا قاسيًا. فهو، بعد أن ينتهي من تشريح العقل وإبراز حدوده، سيكتب، في آخر كتابه، عبارة تلخص كل شيء: «عندما ندخل إلى مكتباتنا، وإذا ما كنا أوفياء لمبادئنا، فأي الرزايا يجب الابتعاد عنها؟ سنسأل أنفسنا إذا ما أمسكنا بأي كتاب في اللاهوت أو الميتافيزيقا المدرسية مثلاً: هل يتضمن استدلالات مجردة حول الكم أو العدد؟ كلا. هل يتضمن استدلالات تجريبية حول الوقائع والوجود العيني؟ كلا. فلتقذف به إذن في النار، لأنه لا يمكن أن يحتوي إلا على السفسطة والوهم».
إذا كان هيوم سيجعل من الميتافيزيقا مضيعة للوقت، وسيعلن عدم جدواها، فإن كانط، وهو المتأثر بهيوم، سيعمل على الخروج من المأزق، بإنقاذ الميتافيزيقا وإيجاد مخرج لها. فكيف ذلك؟
- الحل الكانطي لمفارقة الميتافيزيقا.
إن النقد الهيومي للميتافيزيقا كان في الحقيقة هو العنوان الأكبر لكل القرن الثامن عشر، حيث تم شن هجوم شرس عليها. فها هو الفيلسوف وعالم الرياضة د. لمبرت d.alembert (1717 – 1783)، يقول «إن صفة «الميتافيزيقي» قد أصبحت مهانة أمام العقل السليم». بل إن فولتير (voltaire (1694 - 1778، وبسخريته المعهودة، سيزدري الميتافيزيقا قائلا: «إذا رأيت اثنين يتناقشان في موضوع ما ولا يفهم أحدهما الآخر، فاعلم أنهما يتناقشان في الميتافيزيقا»، سيعيش كانط في ظل هذه الهجمة الشرسة على الميتافيزيقا، وسيقتنع بأنها في ورطة، ليعلن ضرورة إعادة النظر فيها، وسيجند نفسه للبحث عن شرعية لوجودها.
ينطلق كانط بداية، من مقارنة بين العلوم والميتافيزيقا، وذلك بعد النجاح النيوتوني الكبير في الفيزياء، ليؤكد أن الأولى عرفت درب العلم الآمنة، أما الثانية فلم يحالفها الحظ في ذلك، على الرغم من أنها أقدم معرفة عقلية. فالعقل دائم التعثر في القضايا ألمًا فوق حسية (الله، النفس، العالم)، إلى درجة يمكن القول، إن تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ الصراع والمبارزة، تاريخ النزاعات غير المحسومة.
وإجمالاً، أدى البحث في الميتافيزيقا عبر تاريخها إلى نزعتين: نزعة مادية تنكر وجود أشياء خارج المادة، بما فيها الله والكائنات الروحانية، وتعتقد في قدم العالم، وفي الضرورة الشاملة لقوانينها. ونزعة أخرى مثالية مؤمنة، تعتقد في أسبقية الروح على المادة، وفي خلود النفس ووجود الله. وكل نزعة تقدم براهينها المنطقية وحججها التي يصعب الحسم فيها. هنا بالضبط، سيتدخل كانط ليؤكد أن النزعة الأولى التجريبية، تغالي في رفضها للأفكار الميتافيزيقية، على الرغم من أنها تجتاحنا من دون استئذان. فاحتقار الميتافيزيقا عند كانط، أمر مرفوض. فهو يقول في رسالة إلى مندلسون ( 1729 - m.mendelsson (1786: «إنني أبعد ما أكون عن النظر إلى الميتافيزيقا، على أنها شيء تافه يمكن الاستغناء عنه، لدرجة أنني مقتنع بأن الوجود الحق والدائم للجنس البشري، لا يقوم إلا عليها ولا يكون إلا بها». كما أنه يصفها بأنها «ملكة العلوم» و«طفلنا المدلل». وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يحب بلا تنفس، فهو لا يقوى على أن يتخلى عن الميتافيزيقا. لكن في مقابل ذلك، هناك مجازفة ووثوقية مبالغ فيها من طرف النزعة المؤمنة المثالية المقابلة، التي تدعي معرفة عالم ما فوق التجربة. فالله كمثال، ليس له سند موضوعي يحتكم إليه. إنه قضية تتجاوز الزمان والمكان. فنحن أمام مفارقة للميتافيزيقا واضحة، لا يمكن التغاضي عنها من جهة، ولا يمكن الرضا عما تقدمه من جهة أخرى. فلكي يخرج كانط من هذه المعضلة، قام بالتفرقة بين مجال المعرفة ومجال التفكير. فعقلنا يجب أن يحاكم، بحيث يجب ألا يخلط ما بين المجالين. فنحن نعرف عالم الظاهر (الفنومين)، ونفكر في عالم الشيء في ذاته (النومين). فالظواهر الخاضعة للمكان والزمان، يكون فيها العقل مؤهلاً لمعرفتها، وله الإطارات اللازمة لإدراكها، بينما الأشياء في ذاتها. فأقصى ما يمكن أن يقوم به العقل تجاهها، هو أن يفكر فيها، والزيف كل الزيف أن يدعي معرفتها. إذن مع كانط، ليس العيب في أن يتجه العقل نحو التفكير في العالم المفارق للتجربة. فذلك نزوع أصيل فيه. بل العيب في أن يعزو لهذه الأفكار، وجودًا موضوعيًا من دون الاستناد إلى أساس معرفي سليم. لهذا فطموح الميتافيزيقي في معرفة عالم الشيء في ذاته، يوقعه في التناقض. لأنه يستخدم آليات لا تصلح إلا في عالم الظواهر. هذا الخلط هو ما جعل الميتافيزيقا لا تتحرك ولا خطوة واحدة. بل هو ما جعلها تدور في حلقة مفرغة عاقت دربها الأمن نحو العلم، على عكس العلوم الأخرى. بكلمة واحدة، نصل مع كانط إلى النتيجة التالية: إن العقل غير مؤهل لمعرفة الحقيقة، أي: «الشيء في ذاته». فهو يعرف فقط عالم الظواهر، عالم الزمان والمكان، الأمر الذي يجب أن يفضي إلى ضرورة تواضع الميتافيزيقي. وعوضًا عن الحديث عن معرفة القضايا المجاوزة للحس، وجب عليه الاكتفاء بالتفكير فيها. ففي ذلك احترام لحدود العقل وإمكاناته. فخطأ الميتافيزيقيين واللاهوتيين عند كانط، نابع من خلطهم العالم المحسوس بالعالم المعقول المافوق حسي دون مبرر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق